قراءة جديدة في كتاب « نهج البلاغة » للإِمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام
الدكتور عبد الكريم الأشتر
منذ 9 أشهرقراءة جديدة في كتاب « نهج البلاغة
للإِمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام
ينبغي أن أُنّبه إلى أنّي أقرأ « نهج البلاغة » من منطلق الوحدة ، لأنّي أقرؤه وحال العرب والمسلمين كما يرى القرّاء ، وكما رأى صاحب الكتاب نفسه في خطبته التي تتخطّى إلينا العصور ، كأنّه لا يريد بها اليوم أحداً غيرنا :
« أيّها الناس المجتمعة أبدانهم ، المختلفة أهواؤهم ... أيّ دار بعد داركم تمنعون ؟! ».
فلهذا قصدتُ الإِنسان في كتاب ( النهج ) ، فشخصت لي أفكار تبلورت من حولها حقائق تدور كلّها من حول محور واحد هو العناية بجوهر الإِنسان ، أعني الإِرادة الإِنسانيّة التي تتفرّع عنها أكثر حقائق الكتاب في كلّ ميدان : في الاجتماع والسياسية والإِدارة وتربية الذات.
وقد سحرتني العودة إلى الكتاب ، فأخذت أستجلي هذه النفس العظيمة التي حملت قدرها الدامي على كتفيها ، ووقفت وحدها تتلفّت في كلّ اتّجاه ، كالصارخ في البرّيّة ، في عالم يرفضها ، لأنّه لم يعد يقبل من يتمسّكون بأخلاق النبوّة وقيمها ، فيلبسون الإِزار المرقوع ، ويخصفون نعالهم بأيديهم ، ويرونها أحبّ إليهم من إمرة الناس إلّا أن يقيموا حقّاً أو يدفعوا باطلاً ( من خطبته عند خروجه لقتال أهل البصرة ) ، كأنّ قضيّة الحقّ والباطل شغلها الشاغل « فلأنقبنّ الباطل حتّى يخرج الحقّ من جنبه » لأنّها قضية العدل الذي هو أساس الاستقرار الاجتماعي في كلّ مجتمع إنسانيّ متحضّر ، تحكمه قيم وأعراف ودساتير.
والعدل ، في آخر الأمر ، إرادة ، لأنّها هي التي تقيمه في سياسة المجتمعات الإِنسانية في الداخل والخارج ، وفي سياسة الاقتصاد والتعليم ، فمن هنا عدت إلى لبّ لباب الكتاب ، فوجدته في العناية بجوهر الإِنسان ، أعني الإِرادة كما قلت ، باعتبارها السبيل إلى تحقيق إنسانيته : بتحريره من الشهوات ، وإقامة العدل الذي يكون به وحده حفظ الحياة وازدهارها.
لقد كان من قدر الإِمام عليّ بن أبي طالب ( وهو القدر الذي تنبني على مثله أقدار خطيرة تتحدّد بها وجهة التاريخ في أعمار الْأُمم ) ، أن يعيش في أصعب مراحل التاريخ ، فالفتن تأخذه من كلّ جانب بعد مقتل عثمان :
1 ـ معاوية والْأُمويّون وفن انحاز إليهم ، وقد اهتبلوا فرصة القتل ، فرفعوا القميص ، ولوّحوا للناس بالدنيا بعد أن انساحت خيرات الفتوح ، وتفتّحت شهوات النفوس بعد انحباس طويل ، وتفتّقت الأطماع التي قرّبها افتقاد معنى الشرع ، فأصبح أقوى الناس أكثرهم قدرة على تجاوز الحقّ ، وأضعفهم أكثرهم تحرّجاً من مساس الحدود.
2 ـ والخوارج ، وهم في الأصل أصحاب عليّ ، الّذين رفضوا التحكيم الذي نهى هو عنه ، فكانوا ، في حساب النتائج السياسية ، عوناً لمعسكر معاوية.
3 ـ والطامعون في الخلافة الّذين أغرتهم بها الفرصة السانحة ، ورأوا أنّ حقّهم فيها أقرب من حقّ معاوية ، وقريب من حقّ عليّ.
4 ـ والانتهازيّون الّذين يركبون موج الأحداث ، ويتصيّدون غنائمها.
ففي هذه المرحلة أدرك الإِمام عليّ أنّ جذور الفتنة تضرب في أعماق النفس ، فتوجّه إليها في خطبه وكتبه ومواعظه على السواء ، ومن يقرأ ما في كتاب النهج منها تنكشف له هذه الحقيقة التي هي أُمّ الحقائق فيه :
« أيّها الناس ! لا تستوحشوا في طريق الهدى لقلّة أهله ، فإنّ الناس قد اجتمعوا عل مائدة شبعها قصير ، وجوعها طويل ».
« لقد بُصّرتم إن أبصرتم ، وأُسمعتم إن سمعتم ، وهُديتم إن اهتديتم ».
« تخفّفوا تلحقوا ».
« إنّ أخوف ما أخاف عليكم اتّباع الهوى ، وطول الأمل . فأمّا اتّباع الهوى فيصدّ عن الحقّ ، وأمّا طول الأمل فينسي الآخرة ... فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا ، فإنّ كلّ ولد سيلحق بأُمّه يوم القيامة ».
وفي كتبه يقول لابنه الحسن بن عليّ : « أحْي قلبك بالموعظة ، وأمِتْها بالزهادة ، وقوِّه باليقين ، ونوّره بالحكمة ، وذلِّلْه بذكر الموت ... وبصّره فجائع الدنيا ... فأصلِحْ مثواك ، ولا تبع آخرتك بدنياك ... وعوّد نفسك التصبّر ... وإيّاك أن تغترّ بما ترى من إخلاد أهل الدنيا إليها ، وتكالبهم عليها ... ».
وللأشتر النخعي لَمّا ولّاه مصر :
« وأمره أن يكسر نفسه من الشهوات ، ويزعّها عند الجمحات ، فإنّ النفس أمّارة بالسوء إلّا ما رحم الله ».
ويقول لنفسه أيضاً :
« إليك عنّي يا دنيا ، فحبلُك على غاربك ، قد انسللتُ من مخالبك ، وأفْلَتُّ من حبائلك ... اغربي عنى ، فوالله لا أذلّ لك فتستذلّيني ، ولا أسلس لك فتقوديني ».
ولكنّ الإِمام عليّاً كان يقف في وجه الأمواج التي ركبها عبدة الأهواء في هذه المرحلة الحائرة من مراحل التاريخ الإِسلامي. فمن هنا يتّضح روح هذه المرحلة التاريخيّة التي هي أكثر مراحل التاريخ دلالة على امتداد الصراع بين المثال والواقع ، حتى ما تكاد تشبهها مرحلة أُخرى من مراحل هذا التاريخ في قوّة دلالتها عليه.
وقد أدرك معاوية سرّ هذه المرحلة واستكان له ، إذ كان الشاهد عليه في معسكر خصمه أشدّ شخوصاً منه في معسكره هو . ولكنّ الإِمام عليّاً أبى أن يستكين :
« والله لو تظاهرت العرب على قتالي لَما ولَّيت عنها ... وسأجهد في أن أُطهّر الأرض ( أُنظروا إلى عظمة الحلم الإِنساني ) من هذا الشخص المعكوس والجسم المركوس ، حتى تخرج المدرة من حبّ الحصيد ... ».
« ما لي ولقريش ؟! والله لقد قاتلتهم كافرين ، ولْأُقاتلنَّهم مفتونين ، وإنّي لصاحبهم بالأمس ، كما أنا صاحبهم اليوم ».
« إنْ أبوا أعطيتهم حدّ السيف ، وكفى به شافياً من الباطل وناصراً للحقّ ».
« والله لا أكون كالضبع تنام على طول اللدم ... ولكنّي أضرب بالمقبل إلى الحقّ المدبر عنه ، وبالسامع المطيع العاصي المريب أبداً ، حتى يأتي عليَّ يومي ».
والسؤال المطروح : أكان الإِمام عليٌّ قادراً على أن يكون أقلّ التزاماً بنصرة الحقّ الذي يراه ، وهو ، بحكم التكوين النفسي أوّلاً ، ربيب بيت النبوّة وتلميذها ؟
فكيف إذن وهو أمير المؤمنين وفي يديه أمانة التاريخ الإِسلامي كلّه ، وأمانة تراثه الخلقي ؟
فقد كان إذن هذا قدره العظيم : أن يسدّ مجرى الريح ؟
ومن هنا نفهم المعنى الكبير لشيوع الشكوى من ثقل الواقع ومرارته البالغة في كتاب ( النهج ).
« فيا عجباً والله يميت القلب ويجلب الهمّ من اجتماع هؤلاء القوم على باطلهم وتفرّقكم عن حقّكم ! فقبحاً لكم وترحاً ... يا أشباه الرجال ولا رجال ! حلوم الأطفال وعقول ربّات الحجال ! لوددت أنّي لم أركم ولم أعرفكم ... قاتلكم الله ! لقد ملأتم قلبي قيحاً ( أُنظروا مرارة التعبير ) وشحنتم صدري غيظاً ».
« أيّها الناس ! إنّا قد أصبحنا في دهرٍ عنود ، وزمن كنود ، يعدّ المحسن فيه مسيئاً ، ويزداد الظالم فيه عتوّاً ».
« أُفٍّ لكم ! لقد سئمت عتابكم. أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة عوضاً ، وبالذلِّ من العزّ خَلَفاً ... ما أنتم إلّا كإبل ضلّ رعاتها ، فكلّما جمعت من جانب انتشرت من آخر ».
« منيت بمن لا يطيع إذا أمرتُ ، ولا يجيب إذا دعوتُ ، لا أبا لكم ، ما تنظرون بنصركم ربكم ؟! أما دين يجمعكم ولا حميّة تحمشكم ؟! أقوم فيكم مستصرخاً ، وأُناديكم متغوّثاً ، فلا تسمعون لي قولاً ولا تطيعون لي أمراً ... فما يدرك بكم ثأر ، ولا يبلغ بكم مرام ».
فهكذا إذن بدأ هذا الرجل الذي يحمل على كتفيه ثقل هذه المرحلة التاريخيّة الصعبة ، يدرك أنّه يحارب في معركة خاسرة. وأنّ القدر اختاره ليكون الشاهد عليها وعلى الإِنسانية المغلوبة على أمرها ، الطامحة أبداً إلى تجاوز واقعها وتثبيت ميزان العدل فيه.
وفي ضوء هذا الإِدراك السامي نفهم فهماً ممتازاً مثل قولته في ( النهج ) :
« أما والذي خلق الحبّة وبرأ النسمة ، لولا حضور الحاضر ، وقيام الحجّة بوجود الناصر ، وما أخذ الله على العلماء ألّا يقارّوا على كظّة ظالم ولا سغب مظلوم ، لألقيت حبلها على غاربها ، ولسقيت آخرها بكأس أوّلها ، ولألفيتم دنياكم هذه عندي أهون من عفطة عنز ».
وما العدل ، إن لم يكن ، في معانيه المتّسعة ، لباب الدين والسياسة والاجتماع ؟!
ومن يبيّنه وينهض له إلّا الّذين استعلوا على شهوات أنفسهم ؟! وهل العدل في النفس إلّا تثبيتها على جادّة الحقّ ؟! وهل يقوم للإِنسان معنى بغير العدل والمجاهدة فيه ؟! وهل يكون للحياة وللوجود معنى بغير العدل الذي هو أساس توازنهما ؟! وكيف يقوم العدل إلّا بالإِرادة التي هي لبّ العقل ؟!
فتطهير النفوس ، في آخر الأمر ، يعني تهيئتها ، لتقيم هي مجتمع العدل. ولستُ أجد في كتاب ( النهج ) معنى يتّصل بسياسة الناس في أنفسهم وأموالهم وأهليهم ومن يكرهون ومن يحبّون إلّا والعدل أساسه :
« اعلموا أنّه من لم يعن على نفسه حتى يكون له منها واعظ وزاجر لم يكن له من غيرها زاجر ولا واعظ ».
« والله لو أُعطيت الأقاليم السبعة ، بما تحت أفلاكها ، على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلت ... نعوذ بالله من سبات العقل وقبح الزلل ».
« يا بني عبد المطّلب ! لا ألفينّكم تخوضون دماء المسلمين خوضاً ، تقولون : قُتل أمير المؤمنين. ألا لا تقتلنّ بي إلّا قاتلي ... أُنظروا إذا أنا مُتّ من ضربته ( لاحظوا تقييد الفعل بوقوع ضرر الجرم ) فٱضربوه ضربة بضربة. ولا يمثّل بالرجل ، فإنّي سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول : إيّاكم والمثلة ولو بالكلب العقور » !
فإذا وقع العدل في النفس ، في مثل هذا الموقف ، ففي أيّ المواقف يغيب ؟!
وانظروا إلى العدل في الأموال وتقسيم فَيْءِ المسلمين فيهم ، وفي النفس والأهل ، من كتاب إلى أحد ولاته في فارس :
« ... ألا وإنّ حقّ من قبلك وقبلنا من المسلمين في قسمة هذا الفيء سواء ».
وإلى عامله على البصرة :
« ألا وإنّ لكلّ مأموم إماماً يقتدي به ... ألا وإنّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ، ومن طعمه بقرصيه. ألا وإنّكم لا تقدرون على ذلك ، ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفّة وسداد ... ».
وإلى عمّاله على الخراج :
« أنصفوا الناس من أنفسكم ... فإنّكم خزّان الرعيّة ، ووكلاء الْأُمّة ، وسفراء الأئمّة ».
وإلى الأشتر لَمّا ولاه مصر :
« أنصِف الله ، وأنصِف الناس من نفسك ومن خاصّة أهلك ، ومن لك فيه هوى من رعيّتك ، فإنّك إلّا تفعل تظلم ... وليكن أحب الْأُمور إليك أوسطها في الحقّ ، وأعمّها في العدل ، وأجمعها لرضى الرعيّة ... ولا يكن المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء ، فإنّ في ذلك تزهيداً لأهل الإِحسان ، وتدريباً لأهل الإِساءة على الإِساءة ».
« وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج ، لأنّ ذلك لا يدرك إلّا بالعمارة ، ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد ».
العدل بهذه المعاني كلّها هو القصد ، والإِرادة هي السبيل. والغاية الكبرى حفظ الحياة وازدهارها. فبتحرير النفس من الشهوات الرخيصة ، والارتفاع بها عن درك الأهواء ، تسطع حقيقة الله فيها وفي ما تقيمه من المؤسّسات ، وتتحقّق إرادته في أنفسنا وحياتنا ومجتمعاتنا ، وذلك هو لبّ لباب الكتاب.
مقتبس من مجلّة : تراثنا / العدد : 26 / الصفحة : 170 ـ 176
التعلیقات