التوحيد في الخالقيّة ـ نظرية العدلية
التوحيد
منذ 15 سنةالمصدر : الإلهيات على هدى الكتاب والسنّة والعقل : للشيخ جعفر السبحاني ، ج2، ص 51 ـ 56
(51)
نظرية العدلية في التوحيد في الخالقية
إنَّ هناك معنى آخر لحصر الخالقية بالله سبحانه ، ونفيها عن غيره
بالمعنى الذي يتناسب شأنه سبحانه ، وما نذكره هو الذي يدعمه العقل ،
ويوافقه القرآن ، وتعضده البحوث العلمية في الحضارات الإِنسانية وإليك
بيانه :
إنَّ الخالقية المستقلة النابعة من الذات ، غير المعتمدة على شيء
منحصرة بالله سبحانه ، ولا يشاركه فيها شيء . وأَمّا غيره سبحانه فإِنّما يقوم بأمر
الخَلْق والإِيجاد بإذن منه وتسبيب ويُعدُّ الكُلُّ جنود الله سبحانه يعملون
بتمكين منه لهم ، ويظهر هذا المعنى من ملاحظة الأُمور التالية :
أ ـ لا يشكّ المتأمل في الذكر الحكيم في أنّه كثيراً ما يسند آثاراً إلى
الموضوعات الخارجية ، والأَشياء الواقعة في دار المادة كالسماء وكواكبها
ونجومها ، والأرض وجبالها وبحارها وبراريها ، وعناصرها ومعادنها ، والسحاب
والرعد والبرق والصواعق ، والماء والأَعشاب والأَشجار ، والحيوان والإِنسان إلى
غير ذلك من الموضوعات الواردة في القرآن الكريم . فمن أَنكر إِسناد القرآن
آثار تلك الأَشياء إلى أنفسها فإنّما أَنكره باللسان ، وقلبه مطمئن بخلافه . وقد
ذكرنا نزراً من الآيات الواردة في هذا المجال.
ب ـ إنَّ القرآن يسند إلى الإِنسان أَفعالاً لا تقوم إلا به ، ولا يصح
إِسنادها إلى الله سبحانه بلا واسطة ، كأَكله وشربه ، ومشيه وقعوده ، ونكاحه
ونموه ، وفهمه وشعوره وسروره ، وصلاته وصيامه . فهذه أَفعال قائمة بالإِنسان
مستندة إليه ، فهو الذي يأكل ويشرب وينمو ويفهم.
ج ـ إِنَّ الله سبحانه أمر الإِنسان بالطاعة أمْرَ إلزام ، ونهاه عن المعصية
نَهْىَ تحريم ، فيجزيه بالطاعة ، ويعاقبه بالمعصية . فلو لم يكن للإِنسان دور
في ذلك المجال ، وتأثير في الطاعة والعصيان ، فما هي الغاية من الأَمر والنهي ،
وما معنى الجزاء والعقوبة؟!
________________________________________
(52)
وهذه الأمور الثلاثة إذا قورنت بقوله سبحانه :{ قُلْ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ
شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}(1) . الذي يدل على بسط فاعلّيته ، وعليته على كل
شيء ، يستنتج أنَّ النظام الامكاني على اختلاف هوياته وأنواعه فعّال ومؤثر
في آثاره ، لكن بتقديره سبحانه ومشيئته وإذنه ، وهو القائل جلّ وعلا :{ الَّذِي
أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى}(2) . وقال تعالى :{وَالَّذِي قَدَّرَ
فَهَدَى }(3) . فتنتهي وجودات هذه الأشياء وأعمالها وآثارها وحركاتها
وسكناتها إلى قضائه وتقديره وهدايته ، وإِجراء الأَسباب في النظام الإِمكاني.
فعلى هذا فالأَشياء في جواهرها وذواتها ، وحدود وجودها وخصوصياتها
تنتهي إلى الخلقة الإِلهية ، كما أنَّ أَفعالها التي تصدر عنها في ظل تلك
الخصوصيات تنتهي إليه أيضاً ، وليس العالمَ ومجموع الكون إلا مجموعة
متوحدة ، يتصل بعضها ببعض ، ويتلاءم بعضها مع بعض ، ويؤثر بعضها في
بعض ، والله سبحانه وراء هذا النظام ومعه وبعده ، لا خالق ولا مدبر ،
حقيقة وبالأصالة ، إلاّ هو ، كما لا حول ولا قوة إلا بالله.
وبهذه النظرية ـ أي نظرية كون العالم مخلوقاً على النظام السببي
والمسببي ، وأنَّ فيه فواعل اضطرارية ، كما أنَّ فيه فواعل اختيارية ـ تتناسق الأمور
الثلاثة وتتوحد نتائجها ، وهذا بخلاف ما قلناه في النظرية الأُولى ، فإِنّها
توجب التضاد بين الأُمور الثلاثة المُسَلَّمة.
النظام الإِمكانى نظام الأَسباب والمُسبَّبات
إنَّ الإِمعان في الآيات الكريمة يدفع الإِنسان إلى القول بأنَّ الكتاب
العزيز يعترف بأنَّ النظام الإِمكاني نظام الأسباب والمُسَبَّبات ، فلأجل ذلك
ينسب الفعل الواحد إلى الله سبحانه ، وفي الوقت نفسه إلى غيره من دون أن
يكون هناك تضادّ في النسبة.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة الرعد: الآية 16.
(2) سورة طه: الآية 50.
(3) سورة الأَعلى: الآية 3.
________________________________________
(53)
1ـ يقول سبحانه :{اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا }(1). فينسب
توفّي الأنفس إلى نفسه ، بينما نجده سبحانه ينسبه إلى رسله وملائكته
ويقول:{ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا }(2).
ولا يجد الإِنسان العارف بالقرآن أي اختلاف في النسبة.
2ـ إِنَّ الذكر الحكيم يصفه سبحانه أنّه الكاتب لأعمال عباده ويقول:
{ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ }(3). ولكن في الوقت نفسه ينسب الكتابة إلى
رسله ويقول : { بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ}(4).
3ـ إنَّهُ سبحانه ينسب تزيين عمل الكافرين إلى نفسه ويقول : {إِنَّ
الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ }(5). وفي الوقت نفسه ينسبها
إلى الشيطان ويقول :{وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمْ
الْيَوْمَ }(6).
وفي آية أُخرى ينسبها إلى قرنائهم ويقول :{ وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا
لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ }(7). ولا تصح هذه النسب المختلفة ظاهراً إلا
بالقول بأنَّ الكون مبني على النظام السببي والمُسبَّبي ، وسببية كل شيء بتسبيب
منه سبحانه ، وينتهى الكل إليه فالفعل مع أنّه فعل السبب فعل المسبِّب ( بالكسر)
أيضاً.
4ـ لا شكّ أنَّ التدبير كالخلقة منحصرٌ في الله سبحانه )كما سيوافيك
بيانه في القسم الآتي من التوحيد) حتى لو سئل بعض المشركين عن المدبِّر
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة الزمر: الآية 42.
(2) سورة الأنعام: الآية 61.
(3) سورة النساء: الآية 81.
(4) سورة الزخرف: الآية 80.
(5) سورة النمل: الآية 4.
(6) سورة الأنفال: الآية 48.
(7) سورة فصلت: الآية 25.
________________________________________
(54)
لأَجاب بأنَّ الله هو المدبر، كما يقول سبحانه: { وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ
اللَّهُ }(1). لكن نرى أنَّ القرآن يعترف بمدبريّة غير الله سبحانه حيث يقول :
{ فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا} (2).
5 ـ إنَّ القرآن يشير إلى كلتا النسبتين (أي نسبة الفعل إلى الله
سبحانه إشارة إلى الجانب التسبيبي ، وإلى الإِنسان إشارة إلى الجانب
المباشِري) بقوله: { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى }(3).
فهو يصف النبي الأَعظم ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ بالرمي وينسبه
إليه حقيقة ويقول: { إِذْ رَمَيْتَ } ، لكنه يصف الله سبحانه بأنّه الرامي
الحقيقي ، وما ذلك إلا لأنّ النبي إنّما قام بما قام بالقدرة التي منحها الله له ،
وكان مفيضاً لها عليه حين الفعل ، فيكون فعله فعلاً لله أيضاً.
وهذه المجموعة من الآيات ترشدك إلى النظرية الحقَّة في تفسير
التوحيد في الخالقية . وفي الحديث القدسي إشارة إليها.
يقول: « يا ابن آدم بمشيئتي كنتَ أنتَ الذي تشاءُ لنفسك ، وبقوتي
أديَّتَ إلي فرائضي ، وبنعمتي قَوِيتَ على معصيتي ، جعلتك سميعاً بصيراً
قوياً » (4).
ثمّ إنَّ هذه النظرية ، على تقاريرها المختلفة من حيث الدقّة والرقّة (5).
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة يونس: الآية 31.
(2) سورة النازعات: الآية 5.
(3) سورة الأنفال: الآية 17.
(4) البحار : ج 5، ص 57.
(5) إنّ تفسير مسألة « الأمر بين الأمرين » ، وأنَّ فعل العبد في حال كونه فعله ، فعلاً لله سبحانه
يختلف حسب اختلاف الأفهام في المقام ، فيفسره المتكلم على نمط يناسب أبحاثه ،
فيصور كونه سبحانه فاعلاً بالتسبيب من حيث أنّه أعطى القدرة والحياة للعبد ، فلولاه لما قدر
العبد على العمل ، وأمّا الحكيم الإِلهي فيرى الموجودات على تباينها في الذوات والصفات
والأفعال ، وترتبها في القرب والبعد من الحق تعالى ، قائمة بذاته سبحانه ، فهو مع بساطته =
.
________________________________________
(55)
ممّا أطبقت على صحته الإِمامية والمعتزلة ، وأيدته النصوص المروية عن أئمة
أهل البيت ـ عليهم السَّلام ـ ، وقد قال به بعض الأشاعرة أيضاً كإِمام الحرمين
(أبي المعالي الجُوَيْني) ، وهو من أعلام القرن الخامس ، والشيخ (الشعراني) ،
وهو من أقطاب الحديث والكلام في القرن العاشر ، والشيخ (محمّد عبده) ،
مفتي الديار المصرية في القرن الرابع عشر . ومن أراد الوقوف على كلماتهم
فليرجع إلى مصادرها(1).
ثمّ إِنَّ هنا ضابطة لتمييز الأَفعال التي تُسند إلى الفاعل القريب عن
الأَفعال التي تُسند إلى القريب والبعيد تَفَطّن إليها العلامة )الطباطبائي) في
تفسيره فقال : « إن من الأَفعال ما يكشف بمفهومه عن خصوصيات المباشرة
كالأَكل بمعنى الالتقام ، والبلع والشرب بمعنى المص والتجرع ، والقعود
بمعنى الجلوس ، لم ينسب إلا إلى الفاعل المباشر ، فإذا أمر السيّد خادمه
أن يأكل غذاءً كذا ويشرب شراباً كذا ، ويقعد على كرسي كذا ، قيل :
« أكل الخادم وشرب وقعد ، ولا يقال أكله سيّده وشربه وقعد عليه.
وأم!ا الأَعمال التي لا تعتبر فيها خصوصيات المباشرة ، والحركات المادية
التي تقوم بالفاعل المباشِر للحركة كالقتل والأَسر ، والإحياء والإِماتة ، والإِعطاء
والإِحسان ونظائرها فإِنّها تُنسب إلى الفاعل القريب والبعيد على السوية ، بل
ــــــــــــــــــــــــــــ
= ينفذ نوره في الموجودات الإِمكانية ، عامة. ولا يوجد ذرّة من ذرّات الأَكوان الوجودية ، إلا
ونوره محيط بها ، قاهرٌ عليها ، وهو قائم على كل نفس بما كسبت ، وهو مع كل شيء لا بمقارنة ،
وغير كل شيء لا بمزايلة . فإذاً ، كما أنّه ليس في الوجود شأن إلاّ وهو شأنه كذلك ، ليس في
الوجود فعل إلاّ وهو فعله ، لا بمعنى أنَّ فعل زيد ليس فعلاً له بل بمعنى أنَّ فعل زيد مع كونه
فعله بالحقيقة دون المجاز ، فهو فعله سبحانه كذلك . فهو مع غاية عظمته وعلوه ، ينزل منازل
الأشياء ، ويفعل فعلها، كما أنَّه مع غاية تجرّده وتقدسه لا يخلو منه أرض ولا سماء. فإذاً نسبة
الفعل والإِيجاد إلى العبد صحيحة ، كما أنَّ نسبتها إلى الله تعالى كذلك. وتفصيل ذلك
يأتي عند البحث في الجبر والتفويض
(1) الملل والنحل : ج 1، ص 98 ـ 99 نقل كلمة إمام الحرمين ، واليواقيت والجواهر
للشعراني ، ص 139 ـ 141، ورسالة التوحيد ، ص 59 ـ 62. وقد جاء الأُستاذ دام ظله بنص
كلامهم في كتابه (أبحاث في الملل والنحل) .
________________________________________
(56)
ربما كانت نسبتها إلى الفاعل البعيد أقوى منها إلى الفاعل القريب ، كما إذا
كان الفاعل البعيد أقوى وجوداً وأشد سلطة وإِحاطة ، وبذلك يظهر سر نسبة
التعذيب الذي تباشره أيدي المؤمنين إلى نفسه ويقول:
{قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ
صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ}(1). كما يظهر أنَّ القول بالتوحيد في الخالقية واستناد
الحوادث وانتهائها إلى الله سبحانه لا يستلزم استناد القبائح إليه سبحانه ، بل
الأفعال التي تعتبر فيها خصوصيات المباشرة ، كالنكاح والزنا ، والأكل المُحَرّم
والمحلَّل ، فإِنما تُنْسب إلى الإِنسان فقط ؛ لأنّه و الموضوع المادي الذي
يقوم بهذه الحركات ، وأمّا الذي يوجد هذا المتحرك الذي من جملة آثاره
حركتهُ ـ وليس الله بنفسه متحركاً بهذه الحركات ، وإِنَّما يوجدها إيجاداً إذا تمت
شرائطها وأسبابها ـ فلا يتصف بأنواع هذه الحركات حتى يتصف بفعل النكاح
أو الزنا أو أي فعل قائم بعضو من أعضاء الإِنسان» (2).
وأنت إذا أمعنت في هذه الضابطة تقدر على التفريق بين ما يصح فيه
الإِسناد وما لا يصح ، كما تقف على أنّ القول بالتوحيد في الخالقية على
الوجه الذي فسرناه ، لا يستلزم مضاعفات نظرية الأَشاعرة ؛ فإِنّها مبنية على
إِنكار رابطة العلية والمعلولية بين الإِنسان وفِعله ، وفرض وجوده سبحانه قائماً
مقام جميع العلل ، وسيوافيك ما يزيدك توضيحاً عند البحث عن الجبر
والاختيار.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة التوبة: الآية 14.
(1) لاحظ الميزان : ج 9، ص 193 ـ 197.
التعلیقات