الجبر الأشعري
العدل الإلهي
منذ 15 سنةالمصدر : الإلهيات على هدى الكتاب والسنّة والعقل : للشيخ جعفر السبحاني ، ج2، ص 267 ـ 301
(267)
مناهج الجبْر
(1)
الجبر الأشعري
قد عرفتَ الطوائف القائلة بالجبر في العصور الإسلامية الأُولى ،
ولكنها انقرضت و لم يبق منها إلاَّ الفكرة السائدة بين جماعة من أهل السنَّة ،
و هي نظرية الإِمام الأشعري ، وهي عند الشهرستاني جبرية غير خالصة ،
ولكنها عندنا لا تفترق عن الجبرية الخالصة.
إنَّ الاشاعرة و إن كانوا ينزهون أنفسهم عن كونهم مُجبِرة ، لكن
الأصول التي اعتقدوها و اتخذوها أداة للبحث ، لا تنتج إلاَّ القول بالجبر ،
وإليك فيما يلي أصولهم و ما يستندون إليه في تفسير أفعال العباد.
الأصل الأوّل : أفعال العباد مخلوقة للّه سبحانه (1)
قد عرفتَ أنَّ من فروع التوحيد القول بأنَّه لا خالق إلاَّ اللّه سبحانه من
غير فرق بين الذوات و أفعال العباد ، و الآيات الواردة في القرآن الكريم
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) عنون أوائل الأشاعرة هذه المسألة باسم خلق الأعمال. ولكن المتأخرين منهم بحثوا عنها
تحت عنوان أنّ اللّه قادر على كل المقدرات ، أو أنّ أفعال العباد الاختيارية واقعة بقدرة اللّه
سبحانه و تعالى وحدها ، لاحظ (شرح المواقف) ، ج 8، ص 145.
________________________________________
(268)
مطلقة تعمّ الجميع . و إنَّما الاختلاف في تفسير هذا الأصل التوحيدي ،
فالأشاعرة بما أنّهم أنكروا وجود أي تأثير ظلّي لغيره سبحانه قالوا : بوجود علّة
واحدة قائمة مكان جميع العلل و الأسباب ( المنتهية إلى اللّه سبحانه في منهج
العليّة) ، فلا تأثير لأي موجود سوى اللّه سبحانه ، فهو الخالق والموجد لكل
شيء ، و قد عرفتَ كلام الإِمام الأشعري عند بيان معتقدات أهل السنَّة ، وإليك
كلامه في ( الإِبانة ):
قال في الباب الثاني : « إِنَّه لا خالق إلاَّ اللّه ، و إِنَّ أعمال العبد مخلوقة
للّه مقدرة كما قال: { وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ }(1) . و إنَّ العباد لا يقدرون
أن يخلقوا شيئاً و هم يخلقون ، كما قال سبحانه: { هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ
اللَّهِ }(2) » (3).
قال شارح المواقف : « إِنَّ أفعال العباد الاختيارية واقعة بقدرة اللّه
سبحانه وحدها ، و ليس لقدرتهم تأثير فيها ، و اللّه سبحانه أجرى عادته بأنَّ يوجد
في العبد قدرة و اختياراً . فإذا لم يكن هناك مانع أوجد فيه فعله المقدور
مقارناً لهما ، فيكون فعل العبد مخلوقاً للّه إبداعاً و إحداثاً ، و مكسوباً للعبد .
و المراد بكسبه إيَّاه مقارنته لقدرته و إرادته من غير أن يكون هناك منه تأثير
و مدخل في وجوده سوى كونه محلاًّ له . و هذا مذهب الشيخ أبي الحسن
الأشعري » (4).
أقول : يقع الكلام في مقامين:
الأوّل : تفسير عموم قدرته تعالى لعامة الكائنات و منها أفعال البشر ، و أنَّه
لا خالق إلا هو.
الثاني : تفسير حقيقة الكسب الذي تدرعت به الأشاعرة في مقابل
العدلية.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة الصَّافات : الآية 96.
(2) سورة فاطر: الآية 3.
(3) الإبانة : ص 20.
(4) شرح الموئاقف للسيّد الشريف الجرجاني : ج 8 ، ص 146.
________________________________________
(269)
المقام الأوّل : في عموم القدرة
قد أوضحنا فيما مضى المراد من التّوحيد في الخالقية و قلنا : إنَّ المراد
من أنَّه لا خالق إلاَّ هو ليس هو نفي التأثير عن العلل الطولية المنتهية إليه ،
كيف و قد نصّ القرآن الكريم على تأثير العلل الطبيعة في آثارها كراراً ،
فيكون معنى التوحيد في الخالقية : إنَّ الخالق الأصيل غير المعتمد على
شيء هو اللّه سبحانه ، و إن قيام غيره بالخلق و الإِيجاد ، بقدرته و مشيئته و لطفه
و عنايته . فالكل مستمد في وجوده و فعله منه ، لا غنى لهم عنه في حال من
الحالات ،{ يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}(1).
و نزيد هنا بياناً فلسفياً على إبطال النظرية التي تتبناها الأشاعرة.
الوجود حقيقة واحدة
إنَّ سلب وصف المؤثريّة و العليّة عن كل شيء حتى على نحو التبعية
و الظلية ، مضافاً إلى أنّه مخالف للحكم الفطري الذي يجده كل إنسان في
نفسه حيث يعتقد بأنَّ للأشياء و للعقاقير و النباتات آثاراً ، و لا معنى لخلقه
سبحانه هذا الحكم الخاطئ و الباطل في نفوسنا ، أقول ـ مضافاً إلى ذلك ـ إنَّ
البرهان الفلسفي يرده بوضوح ؛ و ذلك أنَّ حقيقة الوجود حقيقة واحدة في
جميع مراتبها ، من الواجب إلى الممكن ، فالجميع يشترك في حقيقة واحدة
نعبّر عنها بـ « طرد العدم » . و لأجل تلك الوحدة نطلق الوجود على الجميع
بمعنى واحد ، و لو كانت حقيقته في الواجب مباينة لحقيقته في الممكن
لوجب أن يكون لفظ الوجود مشتركاً لفظياً بينهما ، و أن يطلق على الواجب
بملاك آخر.
فإذا كانت حقيقة الوجود بين عامة المراتب حقيقة واحدة ، فإذا ثبت
التأثير لمرتبة عليا منه ، يجب أن يكون ثابتاً للمراتب الدنيا أيضاً لكن حسب
ما يناسب شأنها ؛ فإنَّ حقيقة الوجود ـ حسب الفرض ـ موجودة في جميع
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة فاطر: الآية 15.
________________________________________
(270)
المراتب فإذا كانت مؤثرة في مرتبة كالواجب ، يجب أن تكون مؤثرة في غيرها
أخذاً بوحدة الحقيقة السائدة على المراتب.
نعم ، يمكن أن يقال إنَّ التأثير من آثار شدّة الوجود وقوته ، فلا يصح
تعميم أثر مرتبة إلى أخرى . ولكنه ليس بكلام تام ؛ لأنّ الشدّة ليست شيئاً
زائداً على نفس الحقيقة بل الشدّة شدّة الحقيقة و تأكدها ، فإذا كانت الشدّة
من سنخ الوجود و الحقيقة ، يقتضي ذلك أن يكون الأثر لحقيقة الوجود ، غاية
الأمر كما تختلف المراتب من حيث الشدّة و الضعف ، تختلف آثارها كذلك
أيضاً . فالحقيقة في جميع المراتب واحدة تختلف بالشدّة و الضعف ، و الأثر
المترتب على الحقيقة واحد ، لكنه يختلف بالشدّة و الضعف أيضاً.
ولأجل ذلك نرى أنَّه سبحانه يحكي سريان العلم إلى جميع
الموجودات حتى الجمادات بقوله: { تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ
وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ
كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا}(1).
فاللّه سبحانه عالم ، كما أنَّ غيره عالم ، ولكن يختلف الأثر باختلاف
الموضوع . و بذلك يظهر أنَّ القول بحصر الخالقية باللّه سبحانه ، و نفيها عن
غيره بتاتاً ، حتى بنحو المعنى الحرفي ، يخالف الآيات القرآنية أوّلاً ،
و الفطرة الإِنسانية ثانياً ، و البرهان الفلسفي ثالثاً . غير أنَّ إكمال البحث
يتوقف على تحليل ما اعتمد عليه الأشعري من البرهان العقلي في هذا
المقام .
الأدلة العقلية على خلق الأعمال
إنَّ الشيخ الأشعري و تلاميذ منهجه أقاموا حججاً و أدلة ، بل شبهات
و تشكيكات على خلق الأعمال ، و أنَّ أعمال العباد مخلوقة للّه سبحانه
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة الإسراء: الآية 44.
________________________________________
(271)
مباشرة ، و ليس لقدرة العبد فيها دور . و لأجل إيقاف الباحث على مدى وهن
هذه الحجج نأتي ببعضها منهم.
الدليل الأوّل: إنَّ المؤمن ليس موجداً لإِيمانه كما أنَّ الكافر ليس
موجداً لكفره ؛ لأنّ الكافر يقصد الكفر بما أنّه أمر حسن ، ولكنه في الحقيقة
قبيح ، كما أنَّ المؤمن يقصد الإِيمان بما أنّه غير متعب ، و هو ليس كذلك .
فينتج أنَّه إذا لم يكن المحدث للإِيمان و الكفر بما لهما من الخصوصيات ،
شخص المؤمن و الكافر ، يكون المحدث هو اللّه سبحانه(1).
يلاحظ عليه : أوّلاً: بالنقض بأنّه لو صحّ هذا الدليل لوجب القول بأنَّ
شارب الماء الذي يتخيّل أنَّه خمر ، لم يشرب ماءً ، و لم يصدر منه عمل و لا فعل ؛
لأنَّهُ قصد شرب الخمر و كان الواقع شرب الماء ، فَما وَقَعَ لَمْ يُقْصَدْ ، و ما قُصِدَ
لَمْ يَقَعْ.
وثانياً: إنَّ ما ذكره خلط بين الصفات الواقعية الحقيقية و الصفات
الانتزاعية . فالأولى كالحرارة و البرودة تحتاج إلى محدث كما يحتاج
موصوفها إليه كذلك . و أمَّا الثانية كالصِغَر و الكِبَر المنتزعين من مقايسة شيء
إلى شيء ، فلا تحتاج إلى صانع وراء محدث ذات الشيء ؛ لأنّ هذه الأوصاف
من مصنوعات الذهن ومخترعاته ، فالجسم الذي هو بقدر ذراع أكبر من
الجسم الذي على نصفه ، و الفاعل يوجد ذات الجسمين لا وصفهما ، و إنّما
ينتقل الإِنسان إليهما عند المقايسة ، و على ضوء ذلك فالموجد للإِيمان إنّما
يوجد نفس الإِيمان ، و الموجد للكفر يوجد ذات الكفر ، و أمَّا كون الأوّل مؤلماً
متعباً ، و الثاني قبيحاً فلا يحتاج إلى فاعل سوى الموجد الذي أوجد ذات
الإيمان أو الكفر ؛ فإنّ الوصفين أعني كون الإِيمان متعباً و كون الكفر قبيحاً
إنّما يحصلان عند المقايسة ، فالإِيمان بما أنَّه يجعل الإِنسان مسؤولاً أمام اللّه
أوّلاً ، و أمام الناس ثانياً ، يستتبع الإِتعاب . و الكفر بما أنَّه على خلاف
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) اللمع : ص 71 ـ 72. و عبارة اللمع غير خالية عن البسط المملّ و التعقيد المخل ، و ما
ذكرناه ملخّص مراده.
________________________________________
(272)
الفطرة و الحقيقة ، فإذا قيس إليهما يتصف بالقبح ، فالإِتعاب و القبح لا
يحتاجان إلى فاعل سوى موجد الإِيمان و الكفر.
والعجب أنَّ الأشعري يعترف بالحسن و القبح العقليين هنا مع أنَّ
منهجه فيهما غير ذلك ، كما وقفت عليه في محله.
الدليل الثاني : لا شكّ أنَّ الحركة الاضطرارية مخلوقة للّه سبحانه .
و ما هو المِلاك لإِسنادها إلى اللّه ، هو المِلاك في حركة الاكتساب ( الحركة
الاختيارية ) . فما دلّ على أنَّ حركة الاضطرار مخلوقة للّه تعالى ، يجب به
القضاء على أنَّ حركة الاكتساب مخلوقة للّه تعالى ، و ذلك لوحدة ملاكهما ،
و هو الحدوث (1).
يلاحظ عليه: إنَّ اشتراكهما في الملاك لا ينتج إلاَّ أنَّ للحركة
الاكتسابية أيضاً محدِثاً ، و أمَّا وحدة محدثيهما ، و أن محدِث الأولى هو نفس
محدِث الثانية ، فلا يدّل عليه البرهان ؛ لأنّ نسبة الحركة الاضطرارية إلى اللّه ،
وسلبها عن الإنسان لأجل خروجها عن اختياره وإرادته ، فتنسب إلى الله
سبحانه ، و أمَّا الحركة الاكتسابية فهي واقعة في إطار اختيار الإِنسان و إِرادته ،
فلا وجه لمقايسة إحداهما بالأخرى.
نعم ، لو قال أحد بمقالة الأشعري ، و أنَّ القدرة الحادثة في العبد غير
مؤثرة في وجود الفعل ، كان له أن يسند الحركتين إلى اللّه سبحانه ، ولكنه
أوَّلَ الكلام ، و الاستناد إلى ذلك الأصل أشبه بكون المدعى نفس الدليل.
ثمّ إِنَّ المتأخرين من الأشاعرة ، كالرازي في ( مُحَصّله ) ، و الإيجي في
( مواقفه ) ، و التفتازاني في ( شرح مقاصده ) ، و القوشجي في )شرحه على
التجريد ) ، بحثوا عن المسألة ( خلق الأعمال ) تحت عنوان عموم قدرته
سبحانه لكل شيء ، و أنّ كل موجود واقع بقدرته ، و لأجل إكمال البحث نأتي
ببعض ما ذكروه من الأدّلة.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) اللمع : ص 74 ـ 75، و الدليل منقول بالمعنى.
________________________________________
(273)
الدليل الثالث : لو كان العبد موجداً لأفعال نفسه ، لكان عالماً بتفصيل
أفعاله ، و هذا معنى قوله سبحانه: { أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ
الْخَبِيرُ}(1) . و بما أنَّ الإِنسان غير عالم بتفاصيل أفعاله بشهادة أنا نقصد
الحركة من المبدأ إلى المنتهى ، و لا نقصد جزئيات تلك الحركة ، وجب
القطع بأنَّ العبد غير موجد لها (2).
يلاحظ عليه : إنَّ الفاعل لو كان قاصداً للفعل بالتفصيل ، يوجده به ،
و لو كان قاصداً بالإِجمال يوجده كذلك ، فصانع شربة كيميائية من عدة
عناصر مختلفة يقصد إدخال كل عنصر فيها على وجه التفصيل ، فيلزمه العلم
بها تفصيلاً ، و القائم بالأكل و التكلم يقصد أصل الفعل على وجه التفصيل ،
ويقصد مضغ كل حبة أو التكلم بكل حرف و كلمة إجمالاً ، فيلزمه العلم بهما
على وجه الإِجمال .
الدليل الرابع : لو كانت قدرة العبد صالحة للإِيجاد ، فلو اختلفت
القدرتان في المتعلق ، مثل ما إذا أراد تعالى تسكين جسم ، و أراد العبد
تحريكه ، فإمّا أن يقع المرادان ، و هو محال . أو لا يقع واحد منهما ، و هو
أيضاً محال ، لاستلزامه ارتفاع النقيضين . أو يقع أحدهما دون الآخر ، و هو
أيضاً محال ؛ لأنّ وقوع أحدهما ليس أولى من وقوع الآخر ؛ لأنّ اللّه تعالى و إن
كان قادراً على ما لا نهاية له ، و العبد ليس كذلك إلاَّ أنَّ ذلك لا يوجب التفاوت
بين قدرة اللّه و قدرة العبد (3).
يلاحظ عليه: إننا نختار الشقّ الآخر أي وقوع مراد اللّه دون مراد العبد ؛
لأنّ قدرة اللّه في الصورة المفروضة ، قدرة فعلية تامة في التأثير ، و قدرة العبد
قدرة ممنوعة ، و من شرائط القدرة الفعلية أن لا تكون ممنوعة من ناحية قدرة
بالغة كاملة . فتعلق قدرته سبحانه و إرادته على الحركة تكون مانعة
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة الملك: الآية 14.
(2) الأربعون للرازي : ص 231 ـ 232. و شرح التجريد للقوشجي : ص 447.
(3) الأربعون للرازي : ص 232.
________________________________________
(274)
عن وصول قدرة العبد إلى درجة التأثير و الإِيجاد ، فإحداهما مطلقة و الأخرى
مشروطة.
الدليل الخامس : إنَّ نسبة ذاته إلى جميع الممكنات على السوية ، فيلزم
أن يكون تعالى قادراً على جميع الممكنات و على جميع مقدورات العباد.
و على هذا ففعل العبد إمَّا أن يقع بمجموع القدرتين ، أعني قدرة اللّه و قدرة
العبد ، و إمَّا أن لا يقع بواحدة منهما ، و إمَّا أن يقع بأحدى القدرتين دون
الأُخرى ، و الأقسام الثلاثة باطلة ، فوجب أن لا يكون العبد قادراً على
الإِيجاد و التكوين(1).
يلاحظ عليه : إنَّ لعموم قدرته سبحانه تفسيرين:
1ـ أن يتحقق كل شيء بقدرته سبحانه مباشرة ، و بلا واسطة كما هو
الحال في الصادر الأوّل في جميع المذاهب.
2ـ أن يتحقق بقدرة مفاضة منه إلى العبد ، فيقوم العبد بإيجاده بحول
و قوّة منه سبحانه ، فالفعل مقدور للعبد بلا واسطة ، و مقدور للّه سبحانه عن
طريق القدرة التي تفضل بها عليه و أقدر عبده بها على الفعل . فيكون الفعل
فعل اللّه من جهة و فعل العبد من جهة أُخرى.
و بعبارة أخرى : إنَّ العوالم الممكنة من عاليها إلى سافلها متساوية
النسبة إلى قدرته سبحانه ، فالجليل و الحقير ، و الثقيل و الخفيف عنده سواسية ،
لكن ليس معنى الاستواء قيامه بكل شيء مباشرة و خلع التأثير عن العلل
و الأسباب ، بل هو سبحانه يظهر قدرته و سلطانه عن طريق خلق الأسباب ،
و بعث العلل نحو المسببات و المعاليل ، فالكل مخلوق له ، و مظاهر قدرته
و حوله.
فالأشاعرة خلعوا الأسباب و العلل و هي جنود اللّه سبحانه ، عن مقام
التأثير و الإِيجاد . كما أنَّ المفوضة عزلت سلطانه عن ملكه ، و جعلت بعضاً منه
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الأربعون للرازي : ص 232.
________________________________________
(275)
في سلطان غيره . و الحق الذي عليه البرهان و يصدقه الكتاب كون الفعل
موجوداً بقدرتين ، لكن لا بقدرتين متساويتين ، و لا بمعنى علتين تامتين بل بمعنى
كون الثانية من مظاهر القدرة الأولى و شؤونها و جنودها : { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ
رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ }(1). وقد جرت سنة اللّه تعالى على خلق الأشياء بأسبابها ،
فجعل لكل شيء سبباً ، و للسبب سبباً إلى أن ينتهي إلى اللّه سبحانه ،
والمجموع من الأسباب الطولية علة واحدة تامة كافية لإِيجاد الفعل ، و نكتفي
في المقام بكلمة عن الإِمام الصَّادق ـ عليه السَّلام ـ :
قال : « أبى اللّه أن يجري الأشياء إلاَّ بأسباب ، فجعل لكل شيء سبباً ،
و جعل لكلِ سبب شرحاً» (2).
ثمّ إنَّ للقوم من المعتزلة و الأشاعرة أقوالاً لا توافق الأصول الفلسفية ، و لا
الكتاب العزيز ، نذكرها في ملحق خاص آخر الكتاب خشية أن يطول
المقام (3).
إلى هنا تمّ الكلام في المقام الأوّل ، و هو تفسير عموم قدرته تعالى و كون
أفعال العباد مخلوقة له سبحانه.
***
المقام الثاني : في حقيقة الكسب
إنَّ القول بخلق الأفعال لمّا كان مستلزماً للجبر حاول الأشعري معالجته
بإضافة الكسب إلى الخلق ، قائلاً بأنَّ اللّه هو الخالق ، و العبد هو الكاسب ،
و مِلاك الطاعة و العصيان هو « الكسب » ، دون « الخلق » . فكل فعل صادر
عن كل إنسان مريد يشتمل على جهتين : « الخلق » و « الكسب » . فالخلق
منه سبحانه ، و الكسب من الإِنسان . و قد عرفتَ أنَّ نظرية الكسب التي تدرع
بها الأشاعرة أخذتها عن النجارية و الضِرارية ، فقد سبقتاها في تبني هذه
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة المدثّر : الآية 31.
(2) الكافي : ج 1، ص باب معرفة الإِمام ، الحديث 7، ص 183.
(3) لاحظ الملحق الأوّل في آخر الكتاب.
________________________________________
(276)
النظرية حتى تخرج عن الجبرية الخالصة التي تتبناها الجهمية . و الحافز
لإِضافة هذا الأمر ليس إلاَّ الخروج عن مضيق الجبر إلى فسيح الاختيار ، لكن
مع الالتزام بالأصل الثابت عندهم أعني كونه سبحانه خالقاً « لكل شيء
مباشرة و بلا واسطة » . و المهم هو الوقوف على حقيقة هذه النظرية ، فقد
اضطربت عبارات القوم في تفسيرها إلى حدّ صارت من الألغاز حتى قال
الشاعر فيها:
مما يُقَال وَ لا حقيقَة عِنْدَهُ * معقولة تدنو إلى الأفهام
الكَسْبُ عند الأشعرىّ ، و الحَالُ * عند البَهْشَمِي ، و طَفْرَةُ النَّظَّام (1).
وها نحن نأتي فيما يلي بنصوصهم في المقام:
أ ـ الكسب : وقوع الشيء من المكتسب له بقوة مُحْدَثة
إنَّ جماعة من الأشاعرة فسّروا الكسب بتأثير قدرة العبد المحدثة في
الفعل ، و يظهر هذا التفسير من عدة :
منهم : الشيخ الأشعري حيث يقول عند إبداء الفرق بين الحركة
الاضطرارية و الحركة الاكتسابية : « كما كانت القدرة موجودة في الحركة الثانية
وجب أن يكون كسباً ؛ لأنّ حقيقة الكسب هو أنَّ الشيء وقع من المكتسب له
بقُوة مُحْدَثَة » (2).
و منهم: المحقق التفتازاني حيث يقول في شرح (العقائد النَّسَفيّة) :
« فإن قيل : لا معنى لكون العبد فاعلاً بالاختيار إِلاَّ كونه موجداً لأفعاله بالقصد
و الإِرادة ، و قد سبق أنَّ اللّه تعالى مستقل بخلق الأفعال و إيجادها ، و معلوم أنَّ
المقدور الواحد لا يدخل تحت قدرتين مستقلتين.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) القضاء و القدر لعبد الكريم الخطيب المصري : ص 185.
(2) اللمع : ص 76 . و لا يخفى أنّ ما نسبه إليه صاحب ( شرح المواقف ) في المقام و إن كان
أوفق بمنهج الأشعري لكنه ينافي ما ذكره الشيخ في ( اللمع ) . و قد ذكرنا كلام الشارح في
صدر البحث فلاحظ.
________________________________________
(277)
قلنا : لا كلام في قوة هذا الكلام و متانته ، إلاَّ أنّه لما ثبت ( من
جانب) بالبرهان أنَّ الخالق هو اللّه تعالى ، و ثبت ( من جانب آخر) بالضرورة
أنَّ لقدرة العبد و إرادته مدخلاً في بعض الأفعال كحركة اليد دون البعض
كحركة الارتعاش ، إحتجنا في التفصي عن هذا المضيق إلى القول بأنَّ اللّه
تعالى خالق و العبد كاسب » (1).
يلاحظ عليه : إنَّه بعد لم يخرج عن هذا المضيق بل قال بأصلين
متعارضين ، فإذا ثبت بالبرهان أنَّه لا خالق إلاَّ هو تعالى ، و فسّرت خالقيته
العامة بكونه فاعلاً مباشراً لكل فعل ، لم يبق لتأثير قدرة العبد مجال . فالقول
بالأصلين جمع بين المتعارضين.
و بعبارة ثانية : إنَّ الخلق بتمام معنى الكلمة ، إذا كان راجعاً إليه ، و لا
تصح نسبته إلى غيره كيف يكون للقوة المحدثة في العبد تأثير ، فلو كان لها
تأثير يكون الفعل مخلوقاً للعبد أيضاً ، لا للّه وحده.
و باختصار : لو كانت القدرتان في عرض واحد ، فإنّه يستلزم اجتماع
القدرتين على مقدور واحد . و لو كانت قدرة العبد في طول قدرة اللّه
سبحانه ، يلزم كون الفعل مخلوقاً للعبد أيضاً ، و هم يفرون من نسبة الخلق
و الإِيجاد إلى غير اللّه سبحانه.
و منهم: القاضي الباقلاني فقال : « قد قام الدليل على أنَّ القدرة
الحادثة لا تصلح للإِيجاد ، لكن ليست الأفعال أو وجوهها و اعتباراتها تقتصر
على جهة الحدوث فقط ، بل ها هنا وجوه أُخر هي وراء الحدوث » . ثمّ ذكر
عدّة من الجهات و الاعتبارات ، و قال : « إنَّ الإِنسان يفرّق فرقاً ضرورياً بين
قولنا : « أوجد » ، وقولنا : « صلى » ، و « صام » ، و « قعد » ، و « قام » . و كما لا
يجوز أن تضاف إلى الباري تعالى جهة ما يضاف إلى العبد ، فكذلك لا يجوز
أن تضاف إلى العبد جهة ما يضاف إلى الباري تعالى ، فإذا جاز لكم إثبات
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) شرح العقائد النسفية : ص 115.
________________________________________
(278)
صفتين هما حالتان ، جاز لي إثبات حالة هي متعلق القدرة الحادثة ، و من
قال هي حالة مجهولة ، فبيّنا بقدر الإِمكان جهتها ، و عرّفنا أىّ شيء هي ،
ومثّلناها كيف هي » (1).
وحاصل كلامه : إنَّ للقدرة الحادثة تأثيراً في حدوث العناوين
و الخصوصيات التي هي مِلاك الثواب و العقاب ، و هذه العناوين وليدة قدرة
العبد . مثلاً : وجود الفعل مخلوق للّه سبحانه لكن تعنونه بعنوان الصوم
والصلاة ، و الأكل و الشرب راجع إلى العبد و القدرة الحادثة فيه.
يلاحظ عليه : إنَّ هذه العناوين و الجهات لا تخلو من صورتين :
إمَّا أن تكون من الأمور الوجودية فعندئذٍ تكون مخلوقة للّه سبحانه
حسب الأصل المسلم.
و إمَّا أن تكون من الأمور العدمية ، فعندئذٍ لا يكون للكسب واقعية
خارجية بل يكون أمراً ذهنياً غنياً عن الإِيجاد و القدرة ، فكيف تؤثر القدرة
فيه ، و كيف يكون مِلاكاً للثواب و العِقاب.
و باختصار : إِنَّ واقعية الكسب إمَّا واقعية خارجية متحققة ، فحينئذٍ
يكون ( الكسب ) مخلوقاً للّه تعالى تعالى ، و لا يكون للعبد نصيب في الفعل ، أو لا
تكون له تلك الواقعية بل يكون أمراً وهمياً و ذهنياً ، فحينئذٍ لا يكون العبد
مصدراً لشيء حتى يُثاب أو يُعاقَب.
ب ـ الكسب : إيجاده سبحانه الفعل مقارناً لإِرادة العبد و قدرته
يظهر من بعض أئمة الأشاعرة أنَّ المراد من الكسب هو قيامه سبحانه
بإِيجاد الفعل مقارناً لإِرادة العبد و قدرته من دون أن يكون لقدرة العبد تأثير.
و هذا يظهر من جماعة :
منهم : الغزالي و هو من مشاهير الأشاعرة في أواخر القرن الخامس
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الملل و النحل : ج 1، ص 97 ـ 98 .
________________________________________
(279)
و أوائل السادس قال في ( الإقتصاد ) ما هذا حاصله: « إنّما الحق إِثبات
القدرتين ، على فعل واحد ، و القول بمقدور منسوب إلى قادرين ، فلا يبقى
إلاَّ استبعاد توارد القدرتين على فعل واحد ، و هذا إنّما يبعد إذا كان تعلق
القدرتين على وجه واحد ، فإن اختلفت القدرتان واختلف وجه تعلقهما ،
فتوارد القدرتين المتعلقتين على شيء واحد غير محال » .
ثمّ حاول بيان تغاير الجهتين ، فلاحظ (1).
ومنهم : الفاضل القوشجي حيث قال : « و المراد بكسبه إياه ، مقارنته
لقدرته من غير أن يكون هناك منه تأثير أو مدخل في وجوده سوى كونه محلاً
له » (2).
يلاحظ عليهما : إنَّ دور العبد في أفعاله على هذا التقرير ليس إلاَّ دور
المقارنة ، فعند حدوث القدرة و الإِرادة في العبد يقوم سبحانه بخلق الفعل ، و من
المعلوم أنَّ تحقق الفعل من اللّه مقارناً لقدرته ، لا يصحح نسبة الفعل
إلى العبد ، معه كيف يتحمل مسؤوليته ؛ إذ لم يكن لقدرة العبد تأثير في
وقوعه ، و عندئذٍ تكون الحركة الاختيارية كالحركة الجبرية.
والحق أنّ الأشاعرة مع أنّهم مالوا يميناً و شمالاً في توضيح الكسب لم
يأتوا بعبارة واضحة مقنِعَة . و لأجل ذلك نرى أنَّ التفتازاني يعترف بقصور
العبارات عن تفهيم المراد حيث يقول : « إن صرف العبد قدرته و إرادته
إلى الفعل كسبٌ ، و إيجاد اللّه تعالى عقيب ذلك خلقٌ ، و المقدور الواحد
داخل تحت قدرتين ، لكن بجهتين مختلفتين ، فالفعل مقدور للّه بجهة الإِيجاد ،
و مقدور للعبد بجهة الكسب ، و هذا القدر من المعنى ضروري ، و إن لم نقدر
على أزيد من ذلك في تلخيص العبارة المفصحة عن تحقيق كون فعل العبد
بخلق اللّه تعالى و إيجاده مع ما فيه للعبد من القدرة و الاختيار (3).
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الإقتصاد في الاعتقاد : ص 47، طبعة البابي الحلبي بمصر.
(2) شرح التجريد : ص 445.
(3) شرح العقائد النسفية : ص 117.
________________________________________
(280)
يلاحظ عليه أمران :
1 ـ إنَّ مراده من الصرف هو توجه قدرة العبد إلى الفعل ، فمجرد
توجهها إلى الفعل و إن لم يكن دخيلاً في وجود الفعل ، كسب . و من
المعلوم أنَّ صرف التوجه لا يعدو عن نية الفعل ، فكما أنَّها لا تؤثر في
المسؤولية إذا نوى هو وقام الآخر به ، فهكذا في المقام .
2 ـ إنَّ الشيخ التفتازاني يعترف بعجزه عن تفسير الكسب.
و هناك كلام متين للقاضي عبد الجبار نأتي بنصه قال: « إنَّ فساد
المذهب يعلم بأحد طريقين:
أحدهما : أن يتبين فساده بالدليل.
الثاني : أن يتبين أنَّه غير معقول في نفسه.
و المقام ( الكسب ) من قبيل الثاني ، فإذا تبين أنَّه غير معقول في نفسه
كفيت نفسك مؤونة الكلام عليه ؛ لأنّ الكلام على ما لا يعقل لا يمكن .
و الذي يبين لك صحة ما نقوله أنَّه لو كان معقولاً لكان يجب أن يعقله مخالف
المُجبرة في ذلك من الزيدية و المعتزلة و الخوارج و الإِمامية ، فإنّ دواعيهم
متوفرة ، و حرصهم شديد في البحث عن هذا المعنى . فلما لم يوجد في واحد
من هذه الطوائف على اختلاف مذاهبهم ، و تنائي ديارهم ، و تباعد
أوطانهم ، و طول مجادلتهم في هذه المسألة مَن ادعى أنّه عقل هذا المعنى أو
ظنه أو توهمه ، دل على أنَّ ذلك ممّا لا يمكن اعتقاده و الإِخبار عنه البتَّة .
و ممّا يدل على أنَّ الكسب غير معقول هو أنَّه لو كان معقولاً لوجب ـ كما عقله
أهل اللغة و عبّروا عنه ـ أن يعقله غيرهم من أهل اللغات ، و أن يضعوا له عبارة
تنبي عن معناه . فلما لم يوجد شيء من اللغات ما يفيد هذه الفائدة دل على
أنّه غير معقول » (1).
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) شرح الأصول الخمسة للقاضي عبدالجبار : ص 364 ـ 366.
________________________________________
(281)
إنكار الكسب من محققي الأشاعرة
الأشاعرة و إن أصرّوا على نظرية الكسب إلاَّ أنَّ هناك رجالاً منهم
أدركوا جفاف النظرية و مضاعفاتها السيئة ، فنقضوا ما أبرموه ، و أجهروا
بالحقيقة . و نخص بالذكر منهم رجالاً ثلاثة:
الأوّل: إمام الحرمين أبو المعالي الجُوَيْني ( ت 478 هـ ) ، فقد صرّح
بتأثير قدرة العباد في أفعالهم ، و أنَّ قدرتهم تنتهي إلى قدرة اللّه سبحانه ، و أنَّ
عالم الكون مجموعة من الأسباب و المسببات ، و كل سبب يستمد من سببه
المقدم عليه ، و في الوقت نفسه يستمد ذاك السبب من آخر ، إلى أن يصل
إلى اللّه سبحانه ، و هو الخالق للأسباب و مسبباتها المستغني على
الإطلاق» (1).
الثاني : الشيخ الشعراني ( ت973 هـ ) و هو من أقطاب الحديث
و الكلام في القرن العاشر فقد وافق إمام الحرمين في هذا المجال ، و قال مَن
زعم أنّه لا عمل للعبد فقد عاند ، فإنّ القدرة الحادثة إذا لم يكن لها أثر
فوجودها و عدمها سواء .
و من زعم أنّه مستبد بالعمل فقد أشرك ، فلابدّ أنّه مضطر على
الاختيار (2).
الثالث : الشيخ محمّد عبده ( ت 1323 هـ ) فقد خالف الرأي العام عند
الأشاعرة و صرّح بتأثير قدرة العبد في فعله ، و لم يبال في ذلك باعتراض رجال
الأزهر الذين كانوا يُكَفّرون من قال بالعلّة الطبيعية أو بمطلق العلّة غيره
سبحانه ، و يرددون في ألسنتهم قول القائل:
و من يَقُلْ بالطَّبْعِ أو بالعِلَّة * فذاك كُفْرٌ عند أهل المِلّة
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) لاحظ نص كلامه في الملل و النحل : ج 1، ص 98 ـ 99 و هو بشكل أدق خيرة الحكماء
و الإمامية جمعاء.
(2) اليواقيت و الجواهر في بيان عقيدة الأكابر : للشعراني، ص 139 ـ 141.
________________________________________
(282)
قال الإِمام عبده في كلام طويل : منهم القائل بسلطة العبد على جميع
أفعاله و استقلاله المطلق ، و هو غرور ظاهر (1).
و منهم مَن قال بالجبر و صرّح به ، و منهم مَن قال به و تبرأ من اسمه (2) ، و هو
هدم للشريعة ، و محو للتكاليف ، و إبطال لحكم العقل البديهي ، و هو عماد
الإِيمان.
دعوى أنَّ الاعتقاد بكسب العبد لأفعاله (3) يؤدي إلى الإِشراك باللّه
ـ و هو الظلم العظيم ـ دعوى من لم يلتفت إلى معنى الإِشراك على ما جاء به
الكتاب و السنَّة . فالإِشراك اعتقاد أنَّ لغير اللّه أثراً فوق ما وهبه اللّه من
الأسباب الظاهرة ، و أنَّ لشيء من الأشياء سلطاناً على ما خرج عن قدرة
المخلوقين ... » (4).
و قد وقف مفتي الديار المصرية على هذا النوع من التفكير عن طريق
اطّلاعه على نهج البلاغة للإِمام أمير المؤمنين ـ عليه السَّلام ـ ، و اتّصاله بالسيّد
المجاهد جمال الدين الأسد آبادي ، فقد كان لهما الأثر البالغ في بناء
شخصيته الفكرية و الفلسفية و الاجتماعية و السياسية.
بقيت هنا آراء غير قيّمة لبعض الأشاعرة في تفسير الكسب لا يهمنا
ذكرها (5).
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) يريد المعتزلة.
(2) يريد الأشاعرة.
(3) يريد من الكسب ، الإِيجاد و الخلق لا الكسب المصطلح عند الأشاعرة كما هو واضح لمَن
لاحظ كلامه.
(4) رسالة التوحيد : ص 59 ـ 62.
(5) راجع في الوقوف عليها، « أبحاث في الملل و النحل » الجزء الثاني، ص 140 ـ 158.
________________________________________
(283)
القرآن و خلق الأعمال
قد عرفتَ الأدلة العقلية التي أقامتها الأشاعرة على مسألة خلق أعمال
العباد بقدرة العباد وحدها ، ولكن للقوم أدلة سمعية نشير إلى بعضها . فقد
استدل الشيخ الأشعري عليها في كتاب ( الإِبانة ) بآيتين :
الآية الأُولى : قوله سبحانه : { قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا
تَعْمَلُونَ}(1).
يلاحظ على الاستدلال أمران :
أ ـ إِنَّ الاستدلال مبني على كون { َمَا} في كلامه سبحانه ، مصدرية
و إنَّ معنى الآية : « و اللّه خَلَقَكُمْ وَ عَمَلَكُمْ » . ولكن الظاهر أنّ {مَا}
موصولة بقرينة قوله : { أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ } ، و المراد من الموصول هنا
الأصنام و الأوثان ، و وحدة السياق تقتضي كون {مَا} في الآية الثانية موصولة
أيضاً ، فيكون معنى الآية: « أتعبدون الأصنام التي تنحتونها و اللّه خلقكم
أيها العبدة و الأصنام التي تعملونها » . و تتم الحجّة على المشركين بأنّهم
و معبوداتهم مخلوقات اللّه سبحانه ، فلا وجه لترك عبادة الخالق و عبادة
المخلوق.
و أمَّا إذا قلنا بكون {مَا} مصدرية ، فتفقد الآية الثانية صلتها بالأُولى ،
و يكون مفاد الآيتين : « أتعبدون الأصنام التي تنحتونها و اللّه خلقكم أيها
العبدة ، و خلق أعمالكم و أفعالكم » ، و الحال أنَّه ليس لعملهم صلة بعبادة ما
ينحتونه.
ب ـ إنَّه لو كانت {مَا} مصدرية لتمت الحجّة على غير صالح الخليل
و لانقلبت عليه ؛ إذ عندئذٍ ينفتح لهم باب العذر بحجّة أنَّه لو كان اللّه سبحانه
هو الخالق لأعمالنا ، فلماذا توبخنا و تنددنا بعبادتنا إيَّاهم.
الآية الثانية : قوله سبحانه: { هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنْ
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة الصافات: الآيتان 95 ـ 96.
________________________________________
(284)
السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ}(1).
يلاحظ عليه : إنَّ الآيات الدّالة على حصر الخالقية باللّه سبحانه كثيرة
في القرآن الكريم (2) .
لكن المهم هو الوقوف على ما تهدف إليه الآيات ، فإنّ لهذا القسم منها
احتمالين لا يتعين أي منهما إلاّ باعتضاده بالآيات الأُخر ، و دونك
الاحتمالين :
أ ـ حصر الخلق و الإِيجاد على وجه الإِطلاق باللّه سبحانه و نفيه عن
غيره بتاتاً على وجه الاستقلال و التبعية ، و هذا ما تتبناه الأشاعرة.
و يَرُدّه ما مضى من الآيات الكثيرة الدَّالة على أنَّ للعلل الطبيعية دوراً
في عالم الوجود بإذن اللّه سبحانه(3).
ب ـ إنَّ الخالقية المستقلة النابعة من الذات غير المعتمدة على شيء
منحصرة باللّه سبحانه ، ولكن غيره يقوم بأمر الخلق و الإِيجاد بمشيئته
وإرادته ، والكل جنود للّه سبحانه . و يدل على هذه النظرية الآيات التي تثبت
للموجودات تأثيراً ، و للإنسان دوراً في أفعاله.
و نزيد هنا بياناً مضافاً إلى ما مرّ في التوحيد في الخالقية : إنَّ الآيات
الواردة حول أفعال الإِنسان على قسمين : قسم يعد الإِنسان عاملاً فاعلاً
لأفعاله ، و قسم ينسب قسماً من الأفعال إلى الإِنسان . فمن القسم الأوّل قوله
سبحانه : { وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ }(4).
و قوله سبحانه: { أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ }(5).
و قوله سبحانه : { وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة فاطر: الآية 3.
(2) لاحظ الأنعام: الآيتان 101 و 102. و الحشر: الآية 24. و الأعراف: الآية 54.
(3) لاحظ بحث التَّوحيد في الخالقية المتقدم.
(4) سورة التوبة: الآية 1105.
(5) سورة محمّد: الآية 33.
________________________________________
(285)
يُرَى}(1).
وأمَّا القسم الثاني : فحدّث عنه و لا حرج ، فقد نسب في الذكر
الحكيم كثيراً من الأفعال إلى الإِنسان كالجهاد ، و الإِنفاق ، و الإِحسان ،
والسرقة ، و التطفيف ، و الكذب و غير ذلك من صالح الأعمال ورديها.
فعل واحد ينسب إلى اللّه و إلى العبد معاً
هناك قسم ثالث من الآيات ينسب الفعل الواحد إلى نفسه سبحانه ،
و إلى عبده في ضمن آيتين أو آية واحدة.
1 ـ يقول سبحانه: { إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ}(2).
فيخصّ الرَّازقية بنفسه بشهادة تقدم الضمير المنفصل { هُوَ } . و في الوقت
نفسه يأمر الإِنسان بالقيام بالرزق بالنسبة إلى من تحت يده و يقول: { وَلاَ
تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ
وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفًا}(3).
2 ـ يقول سبحانه: { أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ
الزَّارِعُونَ}(4). فيخص الزارعية بنفسه و ذلك معلوم من سياق الآيات .
و في الوقت نفسه يعد الإِنسان زارعاً و يقول: { كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ
فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ ...}(5). فكيف تجتمع هذه
التوسعة مع الحصر السابق.
3 ـ يقول سبحانه : { كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي }(6).
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة النجم: الآيتان 39 ـ 40.
(2) سورة الذاريات: الآية 58.
(3) سورة النساء: الآية 5.
(4) سورة الواقعة: الآيتان 63 و 64.
(5) سورة الفتح: الآية 29.
(6) سورة المجادلة: الآية 21.
________________________________________
(286)
فينسب الفعل الواحد و هو الغلبة في وقت واحد إلى نفسه و رسله.
4 ـ يقول سبحانه: { إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}(1).
فيعد نفسه ناصراً ، و في الوقت نفسه يعد المؤمنين ناصرين أيضاً.
5 ـ يقول سبحانه: { وَإِذْ تَخْلُقُ مِنْ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ
فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى
بِإِذْنِي }(2). ترى أنَّه سبحانه ينسب أمر الخلق إلى رسوله بصراحة ، حتى
أنَّ الرسول يصف نفسه به و يقول : { أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنْ الطِّينِ كَهَيْئَةِ
الطَّيْرِ }(3). و مع ذلك أنَّ القرآن الكريم يخصّ الخالقية باللّه سبحانه في
كثير من الآيات التي تعرفت عليها ، و لا يحصل الجمع بين هذه الآيات إلاَّ
بالقول بأنَّ الخالقية النابعة من الذات غير المعتمدة على شيء تختص به
سبحانه ، و مثله سائر الأفعال من الرزق و الزرع و الغلبة و النصرة ، فالكل
بالمعنى السابق مختص به سبحانه لا يعدوه ؛ لأنّها من خصائص الواجب ، و لا
يتصف بها الممكن . و أَمَّا الفعل المعتمد على الواجب المستمد منه ، فهو من
شأن العبد يقوم به بإقدار منه سبحانه و إذن . و لأجل ذلك يكرر سبحانه لفظة :
{ بِإِذْنِي } ، أو { بِإِذْنِ اللَّهِ } في الآيات المتقدمة ، و هذا واضح لمَن عرف الفباء
القرآن . و الأشعري و من تبعه قصروا النظر على قسم واحد ، و غفلوا عن
القسم الآخر ، و لا يقف على ذلك إلاَّ من فسّر الآيات تفسيراً موضوعياً(4).
***
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة محمّد: الآية 7.
(2) سورة المائدة: الآية 110.
(3) سورة آل عمران: الآية 49.
(4) المراد من التفسير الموضوعي هو جمع الآيات الواردة حول موضوع ما ، ثمّ عرض بعضها
على البعض الآخر ، حتى يتبين المراد و المفهوم . و هذا نمط و طراز حديث من التفسير
أبدعه شيخنا الأستاذ العلامة جعفر السبحاني ، و خرج منه أجزاء خمسة باسم « مفاهيم
القرآن ».
________________________________________
(287)
الأصل الثاني : علمه الأزلي المتعلق بأفعال العباد
هذا هو الأصل الثاني الذي اعتمد عليه اتباع الإِمام الأشعري .
و بيانه : إنَّ ما علم اللّه عدمه من أفعال العباد فهو ممتنع الصدور عن العبد ،
و إِلاَّ جاز إنقلاب العلم جهلاً . و ما علم اللّه وجوده من أفعاله ، فهو واجب
الصدور عن العبد ، و إلاَّ جاز ذلك الإنقلاب ، و لا مخرج عنهما لفعل
العبد . فيبطل الاختيار ؛ إذ لا قدرة على الواجب ، و الممتنع .
وكأن هذا الاستدلال ، استدلال نقضي على القائلين بالاختيار.
ولأجل ذلك يقول المستدل بعد نقله : « إن ما ذكرنا يبطل التكليف لابتنائه
على القدرة و الاختيار ، فما لزم القائلين بمسألة خلق الأعمال فقد لزم غيرهم
لأجل اعتقادهم بعلمه الأزلي المتعلق بالأشياء » حتى أنَّ الإمام الرازي ذكر
هذا الدليل متبجحاً بقوله : « و لو اجتمع جملة العقلاء لم يقدروا على أن
يوردوا على هذا الوجه حرفاً إلا بالتزام مذهب هشام ، و هو أنّه تعالى لا يعلم
الأشياء قبل وقوعها» (1).
أقول : يلاحظ عليه: مضافاً إلى أنَّ ما نسبه إلى هشام بن الحكم أمر
غير ثابت ، و لم يقل به بعد انتمائه إلى الإِمام الصادق ـ عليه السَّلام ـ : إنَّ
الإِجابة عن هذا الاستدلال واضحة جداً ، و إِنَّ زعم الرازي أنَّ الثقلين لا
يقدرون على حلّ عقدته ، و هي كما أوضحناه عند البحث عن القضاء و القدر
أنَّ علمه الأزلي لم يتعلق على صدور كل فعل عن فاعله على وجه الإطلاق ،
بل تعلق علمه بصدور كل فعل عن فاعله حسب الخصوصيات الموجودة
فيه . و على ضوء ذلك تعلق علمه الأزلي بصدور الحرارة من النار على وجه
الجبر ، بلا شعور و لا اختيار ، كما تعلق علمه الأزلي بصدور الرعشة من
المرتعش على وجه الجبر عالماً بلا اختيار ، ولكن تعلق علمه سبحانه بصدور
فعل الإِنسان الاختياري منه بقيد الاختيار و الحرية . فتعلق علمه بوجود
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) شرح المواقف : ج 8 ، ص 155.
________________________________________
(288)
الإنسان و كونه فاعلاً مختاراً ، و أنَّ كل فعل منه يصدر اختياراً ، و مثل هذا
العلم يؤكد الاختيار و يدفع الجبر عن ساحة الإِنسان ، كما أوضحناه فيما
مضى(1).
وفي المقام كلمات للمحققين أوردناها في ملحق خاص ،
فلاحظ (2).
***
الأصل الثالث : إرادته الأزلية المتعلقة بأفعال العباد
هذا هو الأصل الثالث الذي اعتمد عليه الأشاعرة ، قالوا : ما أراد اللّه
وجوده من أفعال العباد وقع قطعاً ، و ما أراد اللّه عدمه منها لم يقع قطعاً ، فلا
قدرة له على شيء منهما(3).
يلاحظ عليه : إنَّ هذا الاستدلال نفس الاستدلال السابق لكن بتبديل
العلم بالإِرادة ، فيظهر الجواب عنه ممّا قدمناه من الجواب عن سابقه . و بما
أنّ هذا البحث ممّا كثر النقاش فيه من جهات أُخرى نفيض القول فيه حسب
ما يسعه المقام ، فيقع البحث في جهات:
الجهة الأُولى : هل إرادته سبحانه نفس علمه بالأصلح أو شيء
آخر؟ قد أوضحنا الحال فيه عند البحث في الصّفات الثبوتية و قلنا إِنَّ
الإِرادة صفة كمال لا يمكن سلبها عن الذات بما هي كمال ، و هي غير
العلم . نعم ، الإِرادة المتجددة الحادثة المتدرجة الوجود ، لا تليق بساحته
سبحانه ، و إنّما اللائق بها كمال الإِرادة متجردة عن وصمة الحدوث و التدريج ،
و إن لم نعرف حقيقتها.
الجهة الثانية: على القول بأنَّ إرادته غير علمه ، وقع الكلام في شمول
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) راجع في توضيح الجواب بحث القضاء و القدر.
(2) لاحظ الملحق الثاني في آخر الكتاب.
(3) شرح المواقف : ج 8، ص 156.
________________________________________
(289)
إرادته سبحانه لأفعال الإِنسان ، أو أنَّ أفعاله خارجة عن إطار الإِرادة الإِلهية .
فالمعتزلة على الثاني ـ حفظاً لاختيار الإِنسان و تجنباً عن القول بالجبر ـ
والأشاعرة على الأوّل لكن بالالتزام بتعلق إرادته سبحانه على أفعال البشر من
غير واسطة كما هو الحال في غير الأفعال.
وأمَّا الإِمامية فقد اختلفت آراؤهم ، فيظهر من الشيخ الصدوق سعة
إرادته سبحانه لأفعال العباد ، لكن بوجه مجمل لا يعلم كنه مراده منه .
و ذهب الشيخ المفيد إلى خلافه و قال : « إنَّ اللّه تعالى لا يريد إلاّ ما حسن
من الأفعال ، و لا يشاء إلا الجميل من الأعمال ، و لا يريد القبائح و لا يشاء
الفواحش ، تعالى الله عمَّا يقول المبطلون علواً كبيراً . قال اللّه تعالى :
{ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ} ، و قال: { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ
الْعُسْرَ } .. » إلى أن قال : « فلو كان سبحانه مريداً لمعاصيهم لنافى ذلك
التخفيف و اليُسْر لهم ، فكتاب اللّه شاهد على ضد ما ذهب إليه الضالون
المفترون على اللّه الكذب» (1).
و قد صارت هذه المسألة مائزة بين الأشاعرة و المعتزلة ، و اتَّخذ كل من
الفريقين نتيجة رأيه شعاراً لمنهجه . و لأجل ذلك لمّا دخل القاضي
عبدالجبار المعتزلي ( ت 415 هـ ) دار الصاحب بن عباد فرأى فيه أبا إسحاق
الإسفرائيني الأشعري ( ت 413 هـ ) ، قال القاضي : « سبحان من تنزَّه عن
الفحشاء » ( يريد بذلك أنَّ القول بسعة إرادته لأفعال الإِنسان يستلزم أنَّه أراد
الفحشاء ) . فأجابه أبو إسحاق بقوله : « سبحان من لا يجري في ملكه إلاَّ ما
يشاء » ( مريداً بذلك أنَّ القول بوقوع أفعال العباد بلا مشيئة منه سبحانه
يستلزم القول بوجود أشياء في سلطانه و مملكته خارجة عن مشيئته) (2).
و على كل تقدير ، فالحق تعلُّق إرادته بكل ما يوجد في الكون من دون
فرق بين فعل الإِنسان و غيره ، و لا يقع في ملكه إِلاَّ ما يشاء ، ولكن لا على
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تصحيح الاعتقاد : ص 16 بتلخيص.
(2) شرح المقاصد : ج 2، ص 145.
________________________________________
(290)
الوجه الذي ذهبت إليه الأشاعرة من أنَّ ما يدخل في الوجود فهو بإرادته تعالى
من غير واسطة سواء أكان من الأمور القائمة بذاتها أو التابعة لها من الأفعال
بلا واسطة . فإنّه رأي زائف ، لما دللنا عليه من أنَّ نظام الوجود ، نظام
الأسباب و المسببات ، و أنَّه لا تتعلق إرادته سبحانه على خلق شيء بلا توسيط
أسبابه و علله ، و قد عرفتَ البرهان الفلسفي على ذلك و الآيات القرآنية (1).
فالأشاعرة و إن أصابوا في القول بسعة الإِرادة لكنهم أخطأوا في جعل
متعلقها نفس الفعل بلا واسطة ، و لا يترتب على ذلك سوى الجبر الذي
يتبنونه . بل الحق تعلق إرادته على جميع الكائنات لكن عن طريق صدورها
عن أسبابها و عللها . فإنَّ القول بخروج أفعال العباد عن حيطة إرادته سبحانه
لغاية تنزيهه تعالى عن وصمة القبائح و الشرور يستلزم القول بإثبات الشركاء للّه
سبحانه بالحقيقة ؛ لأنّه يمثل الإِنسان خالقاً لأفعاله مستقلاً في إيجادها ، و هو
كما قال صدر المتألهين: « أشنع من مذهب مَن جعل الأصنام و الكواكب
شفعاء عند اللّه ، و يلزمهم أنَّ ما أراد ملك الملوك لا يوجد في ملكه ، و أنَّ ما
كرهه يكون موجوداً فيه ، و ذلك نقصان شنيع ، و قصور شديد في السلطنة
و الملكوت ، تعالى القيوم عن ذلك علوّاً كبيراً» (2).
ولكنَّا ، نعذّر الطائفتين ، فإحداهما تعلقت فكرتها بتنزيهه سبحانه ، فلم
تَرَ بُدَّاً من القول بعدم سعة إرادته لأفعال العباد ، و الأُخرى أرادت توحيده
وتنزيهه من الشرك و الثنويّة ، فلم تَرَ بُدّاً من القول بسعة إرادته.
والحق إمكان الجمع بين التنزيه و التوحيد بالبيان التالي :
الجهة الثالثة : إنَّ القول بسعة إرادته سبحانه يبتني على مقدمات ثابتة:
1ـ سعة قدرته و خالقيته سبحانه ، و أنَّ كل ما في صفحة الكون من
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) لاحظ ما ذكرناه عند البحث عن نظرية خلق الأعمال حيث قلنا بأنَّ حقيقة الوجود حقيقة واحدة ،
و هو يقتضي أن يكون التأثير ملازماً له في جميع المراتب . و لاحظ الآيات التي ذكرناها
بعده.
(2) الأسفار : ج 6، ص 370.
________________________________________
(291)
دقيق و جليل ، و ذات و فعل ، مخلوق للّه سبحانه على البيان الذي سمعتَ.
2ـ إنَّ الوجود الإِمكاني وجود فقير قائم بالواجب غير مستغن عنه في
شأن من شؤونه لا في ذاته و لا في فعله ، و إِنَّ غناء فعل الإِنسان عن الواجب
يستلزم خروجه عن حدّ الإِمكان ، و إنقلابه موجوداً واجباً ،و هذا خلف ، فما في
الكون يجب أن يكون منتهياً إلى الواجب قائماً به قيام المعنى الحرفي
بالاسمي. فالقول باستقلال الإِنسان في فعله أشبه بمقالة الثنوية.
3ـ إرادته سبحانه نفس ذاته ، فهو علم كله ، و قدرة كله ، و حياة كله ،
و إرادة كله ، و إن لم يتحقق لنا كنه إرادته.
ففي ضوء هذه الأصول الثلاثة تثبت سعة إرادته بوضوح ، و لا يحتاج إلى
التأكيد و التبيين.
هذا حال الدلائل العقلية ، و هناك آيات في الذكر الحكيم تؤيد عموم
إرادته :
1ـ يقول سبحانه : { وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ
الْعَالَمِينَ }(1).
2ـ ويقول سبحانه : { وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ }(2).
و الآية و إن كانت ناظرة إلى ظاهرة خاصة و هي الإِيمان ، ولكنها تؤدي ضابطة
كلية في جميع الظواهر.
3ـ و يقول سبحانه: { مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى
أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ}(3). و هذه الآية قرينة على أنَّ الآية
السابقة كنفس هذه الآية بصدد إعطاء الضابطة ، وإن كان البحث فيهما في
إطار الإِيمان و قطع اللينات أو تركها.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة التكوير، الآية 29.
(2) سورة يونس: الآية 100.
(3) سورة الحشر: الآية 5.
________________________________________
(292)
وهناك آيات بهذا المضمون تركنا إيرادها (1).
هذا ما يرشدنا إليه الذكر الحكيم ، و عليه تضافرت أحاديث أئمة أهل
البيت.
1ـ روى الصدوق في توحيده بسنده عن حفص بن قرط عن أبي
عبداللّه ـ عليه السَّلام ـ قال: قال رسول اللّه ـ صلى الله عليه وآله ـ : « مَن
زعم أنَّ اللّه تعالى يأمر بالسوء و الفحشاء ، فقد كذب على اللّه ، ومَن زعم أنّ
الخير و الشر بغير مشيئة اللّه ، فقد أخرج اللّه من سلطانه ، و مَن زعم أنَّ
المعاصي من غير قوة اللّه ، فقد كذب على اللّه ، و مَن كذب على اللّه أدخله
النَّار » (2).
2ـ روى البرقي في محاسنه عن هشام بن سالم عن أبي عبداللّه
ـ عليه السَّلام ـ قال : « إنَّ اللّه أكرم من أن يكلف النَّاس ما لا يطيقون ، و اللّه
أعزّ من أن يكون في سلطانه ما لا يريد» (3).
3ـ و روى عن حمزة بن حمران قال : قلت له : « إنَّا نقول إنَّ اللّه لم
يكلف العباد إلاَّ ما آتاهم ، و كل شيء لا يطيقونه فهو عنهم موضوع ، و لا
يكون إلاَّ ما شاء اللّه ، و قضى ، و قدّر ، و أراد . فقال : و اللّه إنَّ هذا لديني
و دين آبائي » (4).
4 ـ و روى الصدوق عن البزنطي أنَّه قال لأبي الحسن الرضا
ـ عليه السَّلام ـ : « إنَّ أصحابنا بعضهم يقولون بالجبر ، و بعضهم بالاستطاعة
فقال لي : أكتب : قال اللّه تبارك و تعالى : يا ابن آدم بمشيئتي كنت أنت
الذي تشاء لنفسك ما تشاء ، و بقوتي أديت إلىَّ فرائضي ، و بنعمتي قويت على
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) راجع البقرة : الآيتان 249 و 251، الأعراف : الآية 58 ، الأنفال : الآية 66، آل عمران : الآية 49، النّساء : الآية64
و غيرها.
(2) توحيد الصدوق : باب نفي الجبر و التفويض ، الحديث 2، ص 359.
(3) بحار الأنوار : ج 5 ، كتاب العدل و المعاد ، الحديث 64، ص 41.
(4) المصدر السابق : الحديث 65، ص 41.
________________________________________
(293)
معصيتي ، جعلتك سميعاً بصيراً قوياً » (1). الحديث.
والبرهان العقلي و آيات الذكر الحكيم و أحاديث العترة الطاهرة أثبتت
سعة إرادته ، و إنَّما الكلام في أنَّ القول بسعة الإرادة لا ينافي اختيار العبد
وحريته ، و هذا يبين في الجهة التالية :
الجهة الرابعة: في أنَّ سعة إرادته لأفعال الإِنسان لا يستلزم الجبر ؛
و ذلك لأن إرادته لم تتعلق على صدور فعل الإِنسان منه سبحانه مباشرة و بلا
واسطة ، بل تعلقت على صدور كل فعل من علّته بالخصوصيات الّتى
اكتنفتها .
مثلاً تعلقت إرادته سبحانه على أن تكون النار مبدأً للحرارة بلا شعور
و إرادة ، كما تعلقت إرادته على صدور الرعشة من المرتعش مع العلم ولكن
لا بإرادة و اختيار ، و هكذا تعلقت إرادته في مجال الأفعال الاختيارية للإِنسان
على صدورها منه مع الخصوصيات الموجودة فيه المكتنفة به من العلم
و الاختيار و سائر الأمور النفسانية.
و صفحة الوجود الإِمكاني مليئة بالأسباب و المسببات المنتهية إليه
سبحانه ، فمثل هذه الإرادة المتعلقة على صدور فعل الإنسان منه بقدرته
المحدثة ، و اختياره الفطري تؤكد الاختيار و لا تسلبه منه.
و مع ذلك كله ليس فعل الإِنسان فعلاً أجنبياً عنه سبحانه غير مربوط
به ، كيف و هو بحوله و قوّته يقوم و يقعد ، و يتحرك و يسكن . ففعل الإِنسان مع
كونه فعله بالحقيقة دون المجاز ، فعل اللّه أيضاً بالحقيقة ، فكل حول يفعل به
الإِنسان فهو حوله ، و كل قوة يعمل بها فهي قوته.
قال العلاَّمة الطباطبائي : « إنَّ الإِرادة الإِلهية تعلقت بالفعل بجميع
شؤونه و خصوصياته الوجودية ، و منها ارتباطه بعلله و شرائط وجوده . و بعبارة
أخرى : تعلقت الإِرادة الإِلهية بالفعل الصادر من زيد مثلاً لا مطلقاً ، بل من
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) التوحيد : باب المشيئة و الإِرادة ، الحديث 6، ص 338. و نظيره الحديث 10 و 13.
________________________________________
(294)
حيث إِنَّه فعل اختياري صادر من فاعل كذا ، في زمان كذا . فإذن تأثير
الإرادة الإِلهية في الفعل يوجب كونه اختيارياً ، و إلاَّ تخلف متعلق الإرادة
عنها.
فالإِرادة الإِلهية في طول إرادة الإِنسان ، و ليست في عرضها حتى تتزاحما ،
و يلزم من تأثير الإِرادة الإِلهية بطلان تأثير الإِرادة الإِنسانية . فخطأ المجبرة
في عدم تمييزهم كيفية تعلق الإرادة الإِلهية بالفعل ، و عدم تفريقهم بين
الإِرادتين الطوليتين و الإِرادتين العرضيتين ، و حكمهم ببطلان تأثير إرادة العبد
في الفعل لتعلق إرادة اللّه تعالى به » (1).
الجهة الخامسة : في تفسير ما استدلَّ به شيخنا المفيد من الآيات على
خروج أفعال العباد عن حيطة إرادته سبحانه .
استدلَّ القائلون بعدم سعة إرادته بآيات مثل قوله تعالى : { وَمَا اللَّهُ
يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ}(2). و قوله : { وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ }(3). و قوله :
{ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ}(4). و غير ذلك ممّا استند إليه شيخنا المفيد
في « تصحيح الاعتقاد» (5).
يلاحظ عليه أوّلاً: إنَّ من المحتمل أن تكون الإِرادة في المقام إرادة
تشريعية لا تكوينية ، و من المعلوم أنَّ التشريعي من الإرادة ، لا يتعلق إلاَّ بما
فيه الصلاح ، و تتجلى بصورة الأمر بالمصالح و النهي عن المفاسد ، فلا يأمر
بالظلم و الفحشاء ، قال سبحانه : { قُلْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى
اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}(6).
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الميزان : ج 1، ص 99 ـ 100، طبعة بيروت.
(2) سورة غافر: الآية 31.
(3) سورة الزمر: الآية 7.
(4) سورة البقرة: الآية 205.
(5) تصحيح الاعتقاد : ص 16 ـ 18.
(6) سورة الأعراف: الآية 28.
________________________________________
(295)
وثانياً: نفترض أنَّ الإِرادة في قوله سبحانه: { وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا
لِلْعِبَادِ}(1). إرادة تكوينية ، و تعرب الآية عن أنَّ إرادته لا تتعلق بالظلم ،
و لكن المراد هو المشيئة التكوينية المتعلقة بالشيء من جانبه سبحانه من دون
أن يكون للعبد فيها دور ، بأن يقوم سبحانه بنفسه بأعمال الظلم و البغي على
العباد ، فيعذب البريء المطيع ، و ينعم المجرم الطاغي ، إلى غير ذلك من
الأفعال التي يستقل العقل بقبحها و شناعتها . و اللّه سبحانه أعلى و أجلّ من أن
تتسم إرادته بهذا العنوان.
و أمَّا مشيئته التكوينية المتعلقة بالأشياء لكن من خلال إرادة عباده
و مشيئتهم ، بحيث يكون لإِرادتهم دور في تحقق المتعلق و اتصافه بالبغي
و الظلم ، فالآية ليست نافية له ؛ و ذلك أنَّ مشيئة العبد هي السبب الأخير
لتعنون الفعل بالظلم و تلوّنه بالبغي ، و لولاها لما كان عنهما خبر و لا أثر .
و لأجل دور العبد و دخالته في تحقق القبائح و المحرمات نرى أنَّه سبحانه جعل
ـ على ما في الحديث القدسي ـ حسنات العبد أولى إلى نفسه من العبد ،
و سيئاته على العكس ، قال : « و ذلك أنا أولى بحسناتك منك ، و أنت أولى
بسيئاتك مني» (2) . و ما هذا إِلاَّ لأنّه سبحانه قد هيّأ للعبد ، تكويناً و تشريعاً ،
كل شيء يسعده فلم يصنع سبحانه إِلاَّ الجميل . فما أصابه من حسنة فمنه
سبحانه ؛ لأنّه عمل الجميل بمعدات جميلة واقعة منه سبحانه ، في اختيار
العبد ، و إن ارتكب البغي و الظلم فقد ارتكب القبيح بالجميل الذي صنعه
سبحانه له حيث تفضّل عليه بالمشيئة والاختيار والقدرة ، ولكنه صرفها في
غير محله ، فهو أولى بسيئاته من اللّه الجميل الفاعل له.
و باختصار : إنَّ فعل العبد لا يقع في ملكه تعالى إلاَّ بإرادته سبحانه
جميع مقدماته التي منها اختيار العبد الموهوب من عنده سبحانه إليه ، فتعلق
مشيئته بأفعال العباد بمعنى أن اختبار العبد و حريته مراد للّه سبحانه ، فهو
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة غافر: الآية 31.
(2) التَّوحيد : للصدوق أبواب المشيئة و الإِرادة ، الحديث 7، ص 338.
________________________________________
(296)
تعالى أراد أفعال العبد لأجل أنَّه أراد اختياره و حريته . فسعة المشيئة لفعل
العبد و إن كان هذا الفعل ظلماً و بغياً ، لا يُحْدِث في ساحته سبحانه و صمة
عيب أو شين ؛ لأنّ المسؤول عن تحقق القبيح هو العبد الذي صرف هواه في
البغي بدلاً من العدل.
ولعلك لو وقفت على ما سنذكره عند البحث عن الأمر بين الأمرين
لسهل عليك تصديق ذلك.
ثمّ إِنَّ لصَدْرِ المُتَأَلّهِين و تلاميذ منهجه و أستاذه السيّد المحقق الداماد
أجوبة أخرى مذكورة في كتابه فلاحظها (1)
الأصل الرابع : لزوم الفعل مع المرجِّح الخارج عن اختياره
هذا هو الأصل الرابع الذي اعتمد عليه الأشاعرة ، و حاصله : إِنَّ العبد
لو كان قادراً لكان ترجيحه لأحد الطرفين إمَّا لا لمرجح (أي بلا علَّة) ، فيلزم
انسداد باب إثبات الصانع ، و إِمَّا لمرجِّح ، فإن كان من العبد تسلسل ، و إن
كان من اللّه تعالى فعند حصول ذلك المرجّح يجب الفعل ، و عند عدمه يمتنع ،
فلا يكون مقدوراً (2).
و توضيحه على ما في المواقف و شرحه : إنَّ العبد لو كان موجداً لفعله
بقدرته ، فلابدّ من أن يتمكن من فعله و تركه ، وإلاّ لم يكن قادراً عليه ؛ إذ
القادر مَن يتمكن من كلا الطرفين . و على هذا يتوقف ترجيح فعله على
تركه ، على مرجح ( علّة ) ، و إلاَّ فلو وقع أحد الطرفين بلا مرجح يلزم وقوع
أحد الجائزين بلا سبب ، و هو محال ، فإذا توقف وجود الفعل على المرجح ،
فهذا المرجح إمَّا أن يكون من العبد باختياره أو من غيره ، فعلى الأوّل يلزم
التسلسل ، لأنَّا ننقل الكلام إلى صدور ذلك المرجح عن العبد ، فيتوقف صدوره
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الأسفار : ج 6، الفصل الثاني عشر، ص 379 ـ 395.
(2) إرشاد الطالبيين : ص 565.
________________________________________
(297)
على مرجح ثانٍ و هكذا . و على الثاني يكون الفعل عند ذلك المرجح واجب
الصدور عن العبد بحيث يمتنع تخلفه عنه ، و إلاَّ فلو لم يكن الفعل مع ذلك
المرجح واجب الصدور ، و جاز وقوع الطرف الآخر ، يلزم أن يكون
تخصيص أحد الطرفين بالتحقق دون الآخر بلا دليل . فيجب أن يكون أحد
الطرفين مع المرجح واجب الصدور ، و معه يكون اضطرارياً لا اختيارياً (1) .
يلاحظ عليه : إنَّ كل ممكن يكون الوجود و العدم بالنسبة إليه
متساويان ، و يتوقف خروج الممكن عن أحد الطرفين إلى علّة تامة تجعله
واجباً ، و تجعل الطرف الآخر ممتنعاً . و إلاَّ فلو كان ـ مع وجود العلّة التامّة ـ
وقوع الطرف الآخر ممكناً للزم خروج الممكن عن مركز التساوي إلى أحد
الطرفين بلا سبب و علّة . و قد برهن الحكماء على قاعدتهم : « الشيء ما لم
يجب لم يوجد » ، بما ذكرناه . و بذلك يظهر : إنَّ التعبيرات الواردة في
الاستدلال تعبيرات غير فنّية ؛ فإنَّ وقوع الممكن لا يتوقف على وجود
المرجح مع إمكان وجود الآخر ، بل يتوقف على وجود علّة تامة تجعل أحد
الطرفين ضروري التحقق ، و الآخر ممتنعه.
إذا عرفتَ هذا فنقول : إنَّ صدور الفعل من الإِنسان يتوقف على
مقدمات ، و مبادئ ، و معدّات ، كتصور الشيء ، و التصديق بفائدته ، و الاشتياق إلى
تحصيله ، و غير ذلك من المبادئ النفسانية و الخارجية ممَّا لا يمكن حصره .
فربما تكون هناك العشرات من المقدمات تؤثر في صدور الفعل عن الإِنسان
سواء التفت إليها الإِنسان أو لا ، ولكن هذه المقدمات لا تكفي في تحقق الفعل
و صدوره منه إلاَّ بحصول الإِرادة النفسانية التي يندفع بها الإِنسان نحو
الفعل ، و معها يكون أحد الطرفين واجب التحقق ، و الطرف الآخر ممتنعه .
و المرجح الذي تلهج به الأشاعرة مبهم ليس شيئاً وراء تلك الإِرادة التي إذا
انضمت إلى المبادئ المتقدمة عليها تخرج الفعل عن حد الإِمكان إلى حد
الوجوب ، و تضفي على الطرف الآخر صبغة الامتناع . و ليس ذلك المرجح
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) شرح المواقف : ج 8، ص 149 ـ 150 بتلخيص و تصرّف.
________________________________________
(298)
مستنداً إلاَّ إلى نفس الإِنسان و ذاته ، فإنّها المبدأ لظهوره في الضمير.
إنّما الكلام في كون هذا المرجح فعل اختياري للنفس أوْ لا.
فمَن قال بأنَّ الفعل الاختياري ما يكون مسبوقاً بالإِرادة ، وقع في
المضيق في جانب الإِرادة ؛ إذ على هذا تصير الإِرادة فعلاً غير اختياري ؛
لأنّها غير مسبوقة بإرادة أُخرى كما هو واضح وجداناً ، و على فرض احتماله ننقل
الكلام إلى الإِرادة الثانية ، فإمَّا أن يتوقف ، فيلزم كون الثانية غير اختيارية ، أو
يتسلسل ، و هو باطل.
و أمَّا على القول المختار ـ كما سيوافيك بيانه عند البحث عن الجبر
الفلسفي ـ من أنَّ التعريف المذكور مختص بالأفعال الجوارحية كالأكل
و الشرب ؛ فإنّ الاختيارية منها ما يكون مسبوقاً بالإِرادة دون الأفعال الجوانحية
للنفس ، كالعزم و الإِرادة ؛ فإنَّ مِلاك اختياريتها ليس كونها مسبوقة بالإِرادة بل
كونها فعلاً للفاعل المختار بالذات أعني النفس الناطقة ؛ فإنَّ الاختيار
و الحرية نفس ذاته و حقيقته . و سنبرهن على ذلك عند البحث عن الجبر
الفلسفي.
و على هذا فالاستدلال مبتور جداً . أضف إلى ذلك : أنَّ الظاهر من
كلامهم أنَّ المرجح للفعل شيء خارج عن محيط إرادة الفاعل و اختياره ، و هو
شيء يخالف الفطرة و الشهود الوجداني لكل فاعل . بل المرجح ، و إن شئتَ
قلتَ بعبارة صحيحة ، الجزء الأخير من العلة التامة ، هو الإِرادة ، و هي فعل
اختياري للنفس ، لا لكونها مسبوقة بالإِرادة بل لكونها ظلالاً للفاعل المختار
بالذات ، أعني النفس التي هي المَثَل الأعلى للّه سبحانه ، فهو أيضاً فاعل
مختار بالذات تكون أفعاله أفعالاً اختيارية لكونها ظلالاً للفاعل المختار
بالذات.
ثمّ إِنَّ بعض المحققين أجاب عن استدلال الأشاعرة بجواب غير تام
و حاصله : إنَّ الترجيح بلا مرجح لا مانع منه ، و إنَّ وجود المرجح و أصل الفعل
و طبيعته كافٍ ، و إن كانت أفراده متساوية من دون أن يكون لبعضها مرجح على
________________________________________
(299)
البعض الآخر (1).
ولا يخفى أنَّ امتناع التَّرَجُّح من غير مرجح ( كامتناع تحقق الممكن بلا
علّة ) و امتناع التَّرْجِيح بلا مرجح من باب واحد ، و القول بالامتناع في الأوّل
يستلزم الامتناع في الثاني ؛ و ذاك لأنّ أصل الفعل كما لا يتحقق بلا علة ،
فكذلك الخصوصيات لا تتحقق إلاَّ معها ، فالجائع بالنسبة إلى الرغيفين
و الهارب بالنسبة إلى الطريقين كذلك ، فكما أنَّ صدور أصل الأكل و الهرب
يحتاج إلى علّة ، لامتناع وجود الممكن بلا سبب ، كذلك تخصيص أحد
الرغيفين بالأكل و ترك الآخر ، بما أنَّه أمر وجودي يحتاج إلى علّة . والقول
بأنَّ وجود أصل الفعل يتوقف على علّة دون خصوصياته ، يرجع إلى القول بوجود
الممكن ـ و لو في بعض مراتبه ـ و تحققه بلا علّة . و لأجل ذلك يقول
المحققون إنَّ مآل تجويز الترجيح بلا مرجح إلى تجويز التّرَجُّح بلا مرجح.
فلازم هذا الجواب أنَّ الخصوصية لا تطلب العلّة ، و هذا انخرام للقاعدة
العقلية ، من حاجة الممكن إلى علّة.
و أمَّا التمثيل برغيفي الجائع و طريقي الهارب ، فلا شكّ أنَّ للفعل
و الخصوصية هناك مرجح ، و هو أنَّ الإِنسان العادي يجد في نفسه ميلاً إلى
جانب اليمين من كل من الرغيف و الطريق ، فالميل الطبيعي يكون مرجحاً
لانصراف الإِرادة إليه دون طرف اليسار . نعم ربما ينعكس لأجل طوارئ في
الواقعة تلتفت إليها النفس ، فتختار ما في جانب اليسار (2).
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المحاضرات : ج 2، ص 47 ـ 49. و يظهر ذلك الجواب أيضاً من العلاّمة في ( نهج
المسترشدين) لاحظ إرشاد الطالبيين : ص 266.
(2) ثمّ إنَّ للمحقّق الطوسي في المقام كلاماً و هو: « الوجوب للداعي لا ينافي القدرة
كالواجب ». و قد جعله العلاّمة جواباً عن الاستدلال الذي نقلناه عن الأشاعرة . و الظاهر أنَّ
هذه العبارة ناظرة إلى تحليل دليل آخر للقائلين بالجبر ، و هو أنَّ القاعدة الفلسفية المسلمة
أعني « الفعل ما لم يجب لم يوجد » ، تقتضي صدور الفعل عن الإِنسان عن وجوب
و اضطرار . و هذا لا يجتمع مع القول بالاختيار . فأجاب عنه المحقق الطوسي بأنَّ الوجوب
العرضي للداعي لا ينافي القدرة و الاختيار ، فالفعل بالنظر إلى قدرة العبد ممكن ، و بالنظر إلى
داعيه واجب ، و ذلك لا يستلزم الجبر ؛ فإنَّ كل قادر يجب صدور الأثر منه عند وجود الداعي
كالواجب. =
________________________________________
(300)
تشكيكات أُخرى للأشاعرة
هذا هو المهم من الأصول التي اعتمد عليها الأشاعرة في إثبات الجبر
و سلب الاختيار . و لهم هناك تشكيكات واهية لا تستحق أن يطلق عليها اسم
الاستدلال . نكتفي بذكر أمرين منها:
الأوّل: التكليف واقع بمعرفة اللّه تعالى إجماعاً ؛ فإن كان التكليف
في حال حصول المعرفة ، فهو تكليف بتحصيل الحاصل ، و هو محال. و إن
كان في حال عدمها ، فغير العارف بالمكلِّف و صفاته المحتاج إليه في صحة
التكليف منه ، غافل عن التكليف . و تكليف الغافل تكليف بالمحال(1).
يلاحظ عليه : إنَّ البحث في كون الإِنسان مختاراً أو مجبوراً ، و ليس
البحث في جواز التكليف بالمحال . و ما ذكر من الاستدلال راجع إلى الأوّل
دون الثاني هذا أوّلاً.
و ثانياً : إنَّ التكليف بالمعرفة تكليف عقلي لا شرعي ، و يكفي في
التكليف العقلي التوجه الإِجمالي إلى أنَّ هناك منعماً يجب معرفته ، و معرفة
صفاته و أفعاله حتى يكون شاكراً في مقابل نعمه ، أو يجب معرفته دفعاً للضرر
المحتمل على التقريرين في بيان لزوم معرفة الباري في مسلك المتكلمين.
و يكفي في حكم العقل التوجه الإِجمالي لا التفصيلي . و على ذلك فنحن
نختار الشقّ الأوّل من الاستدلال ، ولكن لا بمعنى المعرفة التفصيلية حتى
ــــــــــــــــــــــــــــ
= و أنت تعلم أنّ هذا الجواب يمكن أن يكون رافعاً للشبهة الثانية أعني وجوب الفعل عند
وجوب العلّة ، و لا يكون قالعاً لما نحن فيه من الإشكال ؛ لأنّ كلام الأشاعرة مركز على أنّ هذا
الداعي يوجد في النفس لا من جانب الإِنسان بل من جانبه سبحانه ، و معه يكون الفعل واجباً
ضرورياً خارجاً عن الاختيار ، فالقول بأنَّ الفعل واجب بالنظر إلى الداعي و هو لا ينافي
القدرة و الإِمكان بالنظر إلى نفس الفعل ، لا يرتبط بالإِشكال . نعم يمكن أن تكون عبارة
المحقق جواباً نقضياً عن استدلال الأشاعرة ببيان أن ما ذكرتموه من الدليل في حق الإنسان
قائم في حقه سبحانه حرفاً بحرف كما نوّه به العلاّمة في ( كشف المراد) ، و أوضحه شارح
( المواقف ) فلاحظهما . و قد خلط شيخنا المظفر في تقرير استدلال الأشاعرة ، بين
الدليلين . فلاحظ ( دلائل الصدق ) : ج 1، ص 511.
(1) شرح المواقف : ج 8 ، ص 157.
________________________________________
(301)
يكون تحصيلاً للحاصل ، بل المعرفة الإِجمالية الباعثة على التفصيلية منها.
الثاني: إنَّ أبا لهب أُمِر بأن يؤمن دائماً وهو ممتنع ؛ لأنّه تعالى أخبر بأنّه
لا يؤمن . و الإِيمان تصديق الرسول فيما علم مجيئه به ، و ممَّا جاء به أنَّه لا
يؤمن . فيكون هو في حال لزوم إيمانه على الاستمرار مأموراً بأن يؤمن بأنَّه لا
يؤمن ، و يصدّق بأنّه لا يصدق . و إيمانه المشتمل على ما ذكر محال ؛
لاستلزامه الجمع بين التصديق و التكذيب. فإذا كان المكلف به محالاً ، لم
يكن للتكليف به فائدة (1).
يلاحظ عليه : إنَّ الإِيمان هو التصديق الإِجمالي بأنَّ ما جاء به النبي
حق . و هذا كافٍ في عدّ الإِنسان مؤمناً . و لا يشترط في تحقق الإِيمان
التصديق التفصيلي بكل واحد ممّا جاء به النبي . و على ضوء هذا كان أبو
لهب مأموراً بالتصديق الإِجمالي ، وهو توحيده سبحانه ، و الإِعتقاد بأنَّ رسالة ابن
اخيه من اللّه سبحانه . و هذا أمر ممكن لكل أحد ، و قد كان في وسعه أيضاً ،
ولكنه لم يؤمن به . و أمَّا التصديق التفصيلي بكل ما جاء في القرآن و منه أنَّ أبا
لهب لا يؤمن بتاتاً ، و أنَّ النار مثواه ، فلم يكن ممَّا يجب الإِيمان به حتى يلزم منه
التناقض.
إلى هنا تمَّ إيراد جملة من تشكيكات الأشاعرة الواردة في مجال الأفعال
الاختيارية ، و لا حاجة إلى الإسهاب أزيد من هذا ، و فيما ذكرناه غنى و كفاية لمَن
أراد الحق و ابتغاه.
نعم . استدلت الأشاعرة بالآيات المصرّحة بأنَّ الهداية و الإِضلال والختم
من جانبه سبحانه . و سنعقد له فصلاً خاصاً عند البحث عن مذهب الحق. و هو
الأمر بين الأمرين.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) شرح المواقف : ج 8 ، ص 157.
التعلیقات