الإِختيار لدى الوجوديين
العدل الإلهي
منذ 15 سنةالمصدر : الإلهيات على هدى الكتاب والسنّة والعقل : للشيخ جعفر السبحاني ، ج2، ص 335 ـ 339
(335)
مناهج الإِختيار
(2)
الإِختيار لدى الوجوديين
الإِختيار لدى الوجوديين ـ الذائع الصيت في الغرب ـ يقوم مقام
التفويض لدى المعتزلة في الشرق الإِسلامي غير أنّ الداعي يختلف عند
الفرقتين ، فالمعتزلي الشرقي قال بثبوت الإِختيار للإِنسان في أفعاله بصورة
التفويض حفاظاً على العدل الإِلهي . و الوجودي الغربي ذهب إلى أنَّ
الإِنسان يتكون و يتولد مجرداً عن كل لون و صبغة ، و عن كل ميل و غريزة ،
للحفاظ على حريته ، و عدم انسياقه بالذات إلى جانب خاص .
و إذا كان التَّفويض المعتزلي ردّ فعل على الجبر المعروف بين أهل
الحديث والحنابلة ، ثمّ الأشاعرة ، فالإختيار لدى الوجوديين بالنحو السابق
ردّ فعل على الجبري المادي الذي يعتقد بأنَّ الإِنسان يتولد و هو أسير عامل
الوراثة ، ثمّ الثقافة و البيئة . فالوجوديون تقدموا في إثبات الإِختيار إلى حدّ
أنكروا أن يكون لغير فعل الإِنسان و عمله تأثير في تكوّن شخصيته.
و من روّاد هذا المسلك في الأوساط الغربية الفيلسوف الفرنسي جان
پول سارتر(1) و حاصل مذهبه :
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ولد في باريس عام 1905.
________________________________________
(336)
إِنَّ وجود الإِنسان متقدم على طبيعته و ماهيته ، فهو يتكون بلا ماهية ، و يتولد
بلا قيد . ثمّ إِنَّه بفعله و عمله في ظل إرادته و اختياره ، يصنع لنفسه
شخصية . و على ذلك فما اشتهر من وجود الميول و الغرائز في الوجود
الإنساني التي تضفي على وجود الإنسان لوناً و صبغة و توجد فيه انحيازاً إلى
نقطة و تمايلاً إلى شيء ، ليس بصحيح ؛ لأنّ الإعتراف بوجود هذه الغرائز ،
سواء أكانت علوية أو سفلية يزاحم اختياره و حريته ، و يسلب منه الحرية التامة ،
و التساوي بالنسبة إلى كل شيء.
فلأجل الحفاظ على حرية الإِنسان و كونه موجوداً فعّالاً بالإختيار و حرّاً
في الإِنتخاب يجب إنكار كل عقيدة مسبقة ( يريد نفي القضاء و القدر ) ،
و كل مصير يجعله مسيّراً . و هذا هو المراد ممّا اشتهر منهم بأنَّ الإنسان يتكون
بلا ماهية (1).
مناقشة النظرية
إنَّ للإِنسان ماهيتين :
1 ـ ماهية عامة يتكون معها و يتولد بها.
2 ـ ماهية خاصة يكتسبها في ضوء إرادته عن طريق العمل .
و عدم التفرقة بين الماهيتين دفعهم إلى الإِعتقاد بتكون الإِنسان و تولده
مجرّداً عن كل صبغة طبيعية و سائقة ذاتية .
أمّا الطبيعة العامة : فهي عبارة عن الطاقات و المواهب الإِلهية المودعة
في وجوده ، و هي ميول طبيعية تسوقه إلى نقطة خاصة فيها سعادته أو شقاؤه ، و قد
أعطى سبحانه ، زمامها بيد الإِنسان المختار في كيفية الإِستفادة منها كمّاً
و كيفاً . و نحن نعترف بأنَّ هذه المواهب و الإِستعدادات توجد في نفس
الإِنسان محدودية خاصة ، و تحقق في وجوده انحيازاً إلى جانب ، ولكنها لا
تعدو عن كونها قابليات و اقتضاءات و أرضيات لأهداف خاصة ، ولكن زمام
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) عصر التجزية و التحليل : ص 125.
________________________________________
(337)
الإِختيار فيها بيد الإِنسان المختار ، فله أن يتطلب بهذه المواهب ما شاء . كما
له أن يترك الإِستفادة منها ، بل له أن يكافحها.
والذي يدل على ذلك ما كشف عنه العلم من أنَّ الإِنسان يتولد و فيه
طاقات و سوائق متضادة و مختلفة ، و كل يطلب منشوداً خاصاً ، و لولا هذه
الطاقات المتضادة لما وصل الإِنسان إلى قمة التكامل . مثلاً :
الإِنسان جُبِل على حب النفس ، و يظهر هذا منه من نعومة أظفاره ،
و في الوقت نفسه جبل على حب الخير ، و يظهر بعد سنين من حياته. فالإِنسان
المختار يستفيد من تلك الميول الطبيعية على حدّ لا يجعله حب الذات
حيواناً ضارياً ، كما لا يجعله حبّ الخير إنساناً تاركاً و مهملاً لحياته .
فالحفاظ على حرية الإِنسان لا يتوقف على إنكار الفطريات و الغرائز بل يكفي
في ذلك القول بأنَّ للإِنسان ماهية عامة موجودة في جميع الأفراد ليس للإِنسان
في الإِنطباع بها أي صنع و دخالة . و ماهية خاصة ، يستحصلها عن طريق
العمل كما سنشرحه .
وأمَّا الطبيعة الخاصة : فهي عبارة عمَّا يتكون في نفس الإِنسان من
الروحيات العالية أو الدانية نتيجة استفادته من تلك المواهب الأولية ، إفراطاً
أو تفريطاً أو اعتدالاً . مثلاً قد أودعت يد الخلقة في وجود الإِنسان ميولاً
سافلة كالغضب . و في الوقت نفسه أودعت ميولاً عالية كالرحمة و الرأفة.
فربما يتجلى الإِنسان في مسرح الحياة سبعاً ضارياً لإِفراطه في أعماله قوة
الغضب ، كما قد يتجلى إنساناً مهملاً تاركاً لحقوقه الفردية و الإِجتماعية
و فريسة للمعتدين لتفريطه في أعمالها . و قد يتجلى إنساناً مثالياً يستفيد منها
على حدّ الإِعتدال بالموازنة مع جانب الرحمة و الرأفة ، فيدفع عن نفسه
الإِعتداءات ، و في بعض الأحيان يُؤثر غيره و يقوم بحاجات بني نوعه . فهناك
شخصيات ثلاث تتكون في الفرد الإِنساني حسب إعماله تلك الموهبة
الإِلهية . وقس عليه سائر الميول و الغرائز عالية كانت أو سافلة ، إنسانية كانت
أو حيوانية .
________________________________________
(338)
ثمّ إنَّ سعادة الإِنسان و شقاءه ليسا رهن الماهية العامة ، و الإِعتراف بها
لا يمس بكرامة سعادته ، كما لا يجعله في عِداد الأتقياء . بل الماهيات
العامة تُعَبّد له طريق السعادة خصوصاً الفطريات العالية الإِنسانية التي كشف
عنها العلم و هي:
1 ـ روح الإِستقراء و اكتشاف الحقائق.
2 ـ حب الخير و النزوع إلى البر و المعروف.
3 ـ علاقته بالجمال في مجالات الطبيعة و الصناعة.
4 ـ الشعور الديني الذي يتأجج لدى الشباب في سن البلوغ .
فهذه الميول النابعة من داخل الإِنسان و فطرته هي ماهيته العامة ، و كلها
تسوقه إلى الخير و تصده عن الشر ، لكن على وجه الإِقتضاء ، فهناك إنسان
يستخدم تلك المواهب في ظل الإِختيار و الإِرادة ، و يكون عالِماً كاشفاً عن
السنن الكونية ، و إنساناً بارّاً يفعل الخير لبني نوعه ، و موجوداً فنّاناً يصنع
المصنوعات الدقيقة ، و إنساناً إلهياً ، يعتقد بأنَّ وراء العالم عالَماً آخر ، و أنَّ
هناك خالقاً للكون ، و له تجاه خالقه مسؤوليات و تكاليف.
كما أنَّ هناك إنسان يترك الإِستفادة منها أو من بعضها ، فيسقط في
المهاوي ، و يتجلّى على خلاف الإِنسان المتقدم.
فالإِعتراف بهذه الفطريات لا يجعل الإِنسان جاهز الصنع ، كما
عرفتَ ، فإن الذي يرتبط بهذه الفطريات إنّما هي شخصيته العامة ، و أمَّا
شخصيته الخاصة فهي مصنوعة إرادته و اختياره .
و العجب أنَّ مبدع النظرية لم يقدر على إنكار ماهية عامة للإِنسان في
بعض المجالات ، فهو يعترف بأنَّ الإِنسان يتولد في إطار قيود خاصة منها
أنَّ وجوده متعلق بهذا العالم ، و يعيش حياة اجتماعية ، و أنَّه موجود فان ٍ،
و غير ذلك من الحدود و القيود.
أقول : إنَّ الحدود و القيود التي تحدّ شخصية الإِنسان لا من قِبل نفسه
________________________________________
(339)
أكثر ممّا اعترف به ، فكل إنسان يعيش بين أحضان العالم المادي محكوم
بقوانين الكون الفيزيائية و الكيميائية.
والظاهر أنَّ أصحاب النظرية قد ابتدعوا المدعى و صاغوه في قالب
خاص لغايات اجتماعية ، ثمّ ذهبوا - للحفاظ على المدعى - إلى إنكار
الفطريات و الغرائز المودوعة في وجوده ، و هو أشبه باتخاذ موقف خاص في
موضوع ، ثمّ تَعَمُّل الدليل عليه .
***
التعلیقات