الموت ليس إبطالاً للشخصية
شبهات المنكرين للمعاد
منذ 15 سنةالمصدر : الإلهيات على هدى الكتاب والسنّة والعقل : للشيخ جعفر السبحاني ، ج4 ، ص 191 ـ 193
(191)
جواب الشبهة الثالثة : الموت ليس إبطالاً للشخصية
إنّ القائل بأنّ الموت إبطال للشخصية ، حسب أنّ الإنسان موجود مادي
محض ، وليس هو إلاّ مجموعة خلايا وعروق وأعصاب وعظام وجلود ، تعمل
بانتظام ، فإذا مات الإنسان صار تراباً ، ولا يبقى من شخصيته شيء ، فكيف
يمكن أن يكون المعاد نفس الأوّل؟ ولعلّه إلى ذلك يشير قولهم : { أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي
الأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ } ؟. بأن يكون المراد من الضلال في الأرض بطلان
الهوية بطلاناً كاملاً لا يمكن أن تتسم معه بالإعادة ، ويجيب القرآن عن هذه
الشبهة بجوابين:
أوّلهما : قوله : { هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ } (3).
ــــــــــــــــــــــــــــ
(3) - سورة السجدة : الآية 10.
________________________________________
(192)
وثانيهما: قوله : { قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ
تُرْجَعُونَ}(1).
والجواب الأوّل : راجع إلى بيان باعث الإنكار ، وهو أنّ السبب الواقعي
لإنكار المعاد ، ليس ما يتقوّلونه بألسنتهم من الضلالة في الأرض ، وإنّما هو ناشئ
من تبنيّهم موقفاً سلبياً في مجال لقاء الله ، فصار ذلك مبدأً لطرح هذه الشبهات.
والجواب الثاني : جواب عقلي عن هذا السؤال ، وتعلم حقيقته بالإمعان في
معنى لفظ التوفي ، فهو وإن كان يفسّر بالموت ، ولكنّه تفسير باللازم ، والمعنى
الحقيقي له هو الأخذ تماماً ، وقد نصّ على ذلك أئمة أهل اللغة ، قال ابن منظور
في اللسان : « توفّي فلان وتوفاه الله ، إذا قبض نفسه ، وتَوفَّيْت المال منه ،
واستوفيته ، إذا أَخَذته كلّه. وتوفيت عدد القوم ، إذا عددتهم كلهم . وأنشد أبو
عبيدة:
إنّ بني الأدرد ليسوا من أحد * و لا توفّاهم قريش في العدد
أي لا تجعلهم قريش تمام عددهم ولا تستوفي بهم عددهم » (2).
و آيات القرآن الكريم بنفسها كافية في ذلك ، يقول سبحانه: { اللَّهُ يَتَوَفَّى
الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} (3) ؛ فإنّ لفظة { الَّتِي } ، معطوفة
على الأنفس ، وتقدير الآية : يتوفى التي لم تمت في منامها . ولو كان التوفي بمعنى
الإماتة ، لما استقام معنى الآية ؛ إذ يكون معناها حينئذٍ : الله يميت التي لم تَمُتْ في
منامِها . وهل هذا إلاّ تناقض؟ فلا مناص من تفسير التوفّي بالأخذ ، وله مصاديق
تنطبق على الموت تارة ، كما في الفقرة الأُولى ، على الإنامة أُخرى ، كما في الفقرة
الثانية.
إذا عرفتَ ذلك فلنرجع إلى قوله سبحانه : { قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ } ،
فمعناه : يأخذكم ملك الموت الذي وكّل بكم ، ثمّ إنّكم إلى الله ترجعون . وهذا
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) - سورة السجدة : الآية 11.
(2) - لسان العرب : ج 15، ص 400، مادة « وفى ».
(3) - سورة الزمر : الآية 42.
________________________________________
(193)
مآله إلى أنّ شخصيتكم الحقيقية لا تضل أبداً في الأرض ، وما يرجع إليها يأخذه
ويقبضه ملك الموت ، وهو عندنا محفوظ لا يتغير ولا يتبدّل ولا يضلّ ، وأمّا
الضال ، فهو البدن الذي هو بمنزلة اللباس لهذه الشخصية.
فينتج أنّ الضال لا يشكل شخصية الإنسان ، وما يشكّلها ويقوّمها فهو
محفوظ عند الله ، الذي لا يضلّ عنده شيء.
والآية تعرب عن بقاء الروح بعد الموت ، وتجرّدها عن المادة وآثارها ، وهذا
الجواب هو الأساس لدفع أكثر الشبهات التي تطرأ على المعاد الجسماني العنصري.
وبما أنّ تجرد النفس ، ممّا شغل بال المنكرين ، واهتمّ به القرآن الكريم ،
عناية كاملة ، فسنبحث عنه بعد الإجابة عن الشبهة الرابعة.
التعلیقات