إبراهيم وإحياء الموتى
نماذج من إحياء الموتى في الشرائع السابقة
منذ 15 سنةالمصدر : الإلهيات على هدى الكتاب والسنّة والعقل : للشيخ جعفر السبحاني ، ج4 ، ص 207 ـ 210
(207)
1 ـ إبراهيم وإحياء الموتى
ذكر المفسرون أنّ إبراهيم ـ عليه السَّلام ـ رأى جيفة تمزقها السباع ، فيأكل منها
سباع البر ، وسباع الهواء ، ودواب البحر ، فسأل الله سبحانه وقال : ياربّ قد
علمت أنّك تجمعها في بطون السباع والطير ودواب البحر ، فأرني كيف تحييها
لأُعاين ذلك؟
يقول سبحانه : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ
تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنْ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ
اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ
حَكِيمٌ} (1) .
وما ذكرنا من سبب النزول يكشف عن أنّه لم يكن غرض إبراهيم إحياء
نفس فقط ، وإلاّ لكفى فيه إحياء طير واحد بعد إماتته ، وإنّما لكان الغرض
مشاهدة إعادة أجزاء كلّ طير إليه بعد اختلاطها بأجزاء الطيور الأُخر ، وهذا لا
يتحقّق إلا بتعدد الطيور أوّلاً ، واختلافها نوعاً ، ثانياً ، واختلاطها بعد ذبحها ،
ثالثاً ، فلأجل ذلك ورد أنّه أخذ طيوراً مختلفة الأجناس ، قيل إنّها : الطاووس ،
والديك ، والحمام ، والغراب ، فقطّعها ، وخلط ريشها بدمها ، ثمّ فرّقهنّ على
عشرة جبال ، ثمّ أخذ بمناقيرهنّ ، ودعاهنّ باسمه سبحانه ، فأتته سعياً ، فكانت
تجتمع ويأتلف لحم كلّ واحد وعظمه إلى رأسه ، حتى قامت أحياء بين يديه.
وبذلك كمل إيمانه ، وتمّ إذعانه بأنّه سبحانه يمكن أن يعيد أجزاء بدن كل
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) - سورة البقرة: الآية 260 .
________________________________________
(208)
حيّ إليه ، وأن اختلط بحىّ آخر ، كما لو أكلت الإنسان الميتَ سباعُ البراري ،
وجوارحُ الهواء ، وحيتانُ البحار ؛ فإنّ الاختلاط لايكون مانعاً عن الإحياء
والإعادة ، وقد تقدّم في بيان شبهاتهم أنّ المنكرين كانوا يركزون على « ضلالة
الأجزاء » في الأرض ، واختلاط أجزاء الموتى بعضها ببعض ، وقد قال سبحانه في
هذالمجال: { قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ } (1) .
والاستدلال بالآية يتوقف على الإمعان في أمرين :
الأوّل : إنّ مقتضى البلاغة مطا بقة الجـواب للسؤال ، ولمّا كان سؤاله عن
مشاهدة إحياء الموتى ـ واقتضى الحال الإجابة عنه ـ فيجب أن يكون ما يأمر به
سبحانه محققاً لاحياء الموتى ، وهو لا يتحقّق إلاّ بأن يقوم إبراهيم بتقطيعهنّ ، وخلط
أجزائهنّ ، وتفريقهنّ على الجبال .
الثاني : الإمعان في قوله : { فَصُرْهُنَّ } ، والمصدر الّذي اشتُقّ منه ، وفيه
احتمالات:
1ـ مانقل عن ابن عباس من أنّه قرأ « فَصَرَّهُنَّ » ، بتشديد الراء ، من
باب صرَّ ، يَصُرُّ ، من التصرية ، وهي الجمع والضم (2) ، وهذه القراءة غير
معروفة ، فهذا الاحتمال ساقط .
2 ـ أن يكون مأخوذاً من الصيْر، معتل العين ، فيقال صار يصير صيراً ،
بمعنى انتهى إليه ، مثل قوله : { إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} . والأمر منه « صُرْ » ولعل مَن
فَسَّره من أهل اللغة بمعنى المَيل أخذه من هذا.
3 ـ أن يكون مأخوذاً من « صري » ، معتل اللام ، ذكره الفراء في معاني
القرآن ، فقال إنّها إن كانت بمعنى القطع ، تكون من « صَرَيْت ، تصري » ،
واستشهد بقول الشاعر :
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) -سورة ق :الآية4.
(2) ـ الكشاف : ج 1، ص 296.
________________________________________
(209)
صَرَت نظرة لو صادف جوز دارع * غداً والعواصي من دم الجوف تنعر (1) .
فإن جعل من « صَير » يكون بمعنى « أمِلْهُنَّ إليك » ، ويجب عند ذلك تقدير
كلمة اقطعهن ، لدلالة ظاهرة الكلام عليه ، فيكون معنى الآية . أملهنّ إليك ،
فقطِّعهُنَّ ، { ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا } ، مثل قوله : { اضْرِبْ بِعَصَاكَ
الْبَحْرَ فَانفَلَقَ } (2) ، أي فضرب فانفلق .
وإن جعل من « صري » ، تكون الكلمة متضمنة معنى الميل بقرينة تعدّيها
بـ « إلى » ، فيكون المعنى : اقطعهنّ متمايلات إليك ، كتمايل كل طير إلى
صاحبه .
وعلى كل تقدير ، فالآيه تدل على أنّ إبراهيم قطّعهنّ ، وخلط أجزاءهنّ ، ثمّ
فرقها على الجبال ، ثمّ دعاهن ، فأتَينه سعيا.
ومن غريب التفسير ، ماذكره صاحب المنارفقال في معنى الآيه ما حاصله :
خذ أربعة من الطّير فضمها إليك ، وآنسها بك ، حتى تستأنس وتصير بحيث
تجيب دعوتك إذا دعوتها ؛ فإنّ الطيور من أشّد الحيوانات استعداداً لذلك ، ثمّ
اجعل كل واحد منها على جبل ، ثمّ ادعها ؛ فإنّها تُسرع إليك من غير أن يمنعها
تفرق أمكنتها وبُعدها ، كذلك أمر ربك إذا أراد إحياء الموتى ، يدعوهم لكلمة
التكوين : « كونوا أحياء » ، فيكونون أحياء ، كما كان شأنه في بدء الخلقة ؛ ذلك
إذ قال للسموات والأرض : { اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} (3) . قال :
والدليل على ذلك من الآية قوله تعالى: { فَصُرْهُنَّ } ؛ فإن معناه « أملهن » ،
أي أوجد ميلاً بها ، وآنسها بك ، ويشهد به تعديته بإلى ، فإن صار إذا تعدى بإلى
كان بمعنى الإمالة » (4) .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) -معاني القرآن : ج 1ص 174. الشعر: « صَرَتْ نَظَرة » : أي قطعت نظرة ، أي فعلت ذلك ،
والجوز وسط الشيء ، والعواصي جمع العاصي ، وهوالعِرق ، ويقال نعرالعِرق : فار منه الدم .
(2) -سورة الشعراء : الآية 63.
(3) -سورة فصلت : الآية 11.
(4) -لاحظ تفسير المنار : ج3، ص 55 ـ 58 : وذكر وجوهاً في دعم هذه النظرية التّي نقلها عن أبي
مسلم ، وقد استحسنها في آخر كلامه ، وقال : « ولله درّ أبي مسلم ، ما أدقّ فهمه ، وأشدّ استقلاله فيه ».
________________________________________
(210)
يلاحظ عليه : إنّ ماذكره خلاف نصوص الآيه ؛ فأنّ إبراهيم طلب من
الله سبحانه أن يريه كيف يحيي الموتى أوّلاً ، وأراد سبحانه بقرينة تخلل الفاء في
قوله : { فَخُذْ } ، إجراء ذلك بيد إبراهيم ثانياً ، ثمّ أمره سبحانه أن يجعل كل
جزء منهنّ على جبل ، لا كل واحد منهن عليه ثالثاً.
وهذه الوجوه تدعم صحة النظرية المعروفة في تفسير الآية . وأما تعدية:
{ صُرْهُنَّ } بـ{ إِلَيْكَ } ، فقد عرفت الكلام فيه ، وأنّه إن كان بمعنى الميل
فالأمر بالتقطيع مقدّر ، وإن كان بمعنى القطع ، فالكلمة متضمنة لمعنى الميل.
على أنّه لوكان المراد ما اختاره من المعنى ، لما احتاج إلى هذا التفصيل ، بل
يكفي في المقام إحالة إبراهيم إلى لاعبي الطيور، الذين يربون الطيور ، حتى إذا
استأنسوا بأصحابهنّ ، يفرقونهنّ للطيران ، ثمّ يد عونهنّ بالصفير والعلامات
الخاصة ، فيأتين سعياً.
ولعمرى ، إنّ هذا التفسير يحطّ من عظمة القرآن ، وجلالته ، ويفتح
الباب للملحدين في تأويل مادلّ عليه القرآن من معاجز وكرامات الأنبياء
والرسل ، ولقد أعرب الكاتب عن باعثه في آخركلامه بقوله : « وأمّا المتأخرون
فهمّهم أن يكون في الكلام خصائص للأنبياء ، من الخوارق الكونية ، وإن كان
المقام ، مقام العلم والبيان والإخراج من الظلمات إلى النور ، وهو أكبر الآيات ،
الخ » (1) .
وهذا يعرب عن أن المعاجز بنظره ، تضاد العلم ، ولا تصلح للإخراج من
الظلمات إلى النور ، مع أنّه سبحانه أسماها بالبينات ، وقال : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى
تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } (2) .
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) - المصدرالسابق : ص58.
(2) -سورة الإسراء : الآيه 101. ولقد خرجنا في تفسير الآية عمّا اتبعناه من الإيجاز إيعازاً للباحث بما في
المنار وأمثاله من الدعوات التّي لا تتفق مع مبادئ الإسلام ، وسيلاحظ نظيره في الآية التالية .
التعلیقات