حقيقة الشفاعة و أقسامها
الشفاعة
منذ 15 سنةالمصدر : الإلهيات على هدى الكتاب والسنّة والعقل : للشيخ جعفر السبحاني ، ج4 ، ص 342 ـ 345
(342)
الأمر الثالث : حقيقة الشفاعة و أقسامها
للشفاعة أصل واحد يدل على مقارنة الشيئين ، من ذلك الشفع ، خلاف
الوتر ، تقول كان فردا فشفّعته (1).
فإذا كان مقوم الشفاعة ، انضمام شيء إلى شيء في مقام التأثير ، فهي تنقسم
إلى الأقسام التالية :
شفاعة تكوينية ، شفاعة قيادية ، وشفاعة مصطلحة بين الناس.
1 ـ الشفاعة التكوينية
قد عرفتَ في مباحث التوحيد أنّ المظاهر الكونية ، بحكم أنّها ممكنة
الوجود ، غير مستقلة في ذاتها ، ولكنها مع ذلك قائمة على أساس علل ومعاليل
سائدة فيها.
وعلى ضوء ذلك فتأثير كل ظاهرة كونية في أثرها ، ومعلولها ، بإذنه
سبحانه ، ولا يتحقق إلا مقترناً به ، ولأجل ذلك سمّى سبحانه السبب الكوني ،
شفيعاً ؛ لأنّ تأثيره مشروط بأن يكون إذنه سبحانه منضماً إليه ، فيؤثران معاً.
يقوله سبحانه : { إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ
اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ
فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} (2). والمراد من الشفيع هو الأسباب والعلل المادية الواقعة في
طريق وجود الأشياء وتحققها ، وإنّما سميت العلة شفيعاً ، لأجل أنّ تأثيرها يتوقف
على إذنه سبحانه ، فهي مشفوعة إلى إذنه ، حتى تؤثر وتعطي ما تعطي .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ـ المقاييس : ج 3، ص 201 .
(2) - سورة يونس : الآية 3.
________________________________________
(343)
فالآية خارجة عن الشفاعة المصطلحة بين علماء الكلام ، والقرائن الموجودة
في نفس الآية تصدّنا عن حملها إلا على هذا القسم من الشفاعة ، وقد عرفتَ أنّ
الشفاعة خلاف الوتر ، وأنّه يصحّ في صدقها ، انضمام شيء إلى شيء.
2 ـ الشفاعة القيادية
والمراد من هذا الصنف هو قيام الأنبياء والأولياء ، والأئمة والعلماء ، والكتب
السماوية مقام الشفيع ، والشفاعة للبشر لتخليصهم من عواقب أعمالهم ، وسيئات
أفعالهم.
والفرق بين هذه الشفاعة والشفاعة المصطلحة أنّ الثانية توجب رفع العذاب
عن العبد بعد استحقاقه له ، وهذه توجب أن لا يقع العبد في عداد العصاة ، حتى
يستحق العقاب . فالأُولى من قبيل الرفع ، والثانية من قبيل الدفع ، وعلى ذلك
فقيادة الأنبياء والأئمة ، تقوم مقام الشفيع والشفاعة في تجنيب العبد من الوقوع في
المعاصى والمهالك.
فالشفاعة بهذا المعنى ، مثلها مثل الوقاية في الطبابة ، كما أنّ الشفاعة
المصطلحة مثلها مثل المداواة بعد إصابة المرض.
وليس إطلاق الشفاعة بهذا المعنى إطلاقاً مجازياً ، كيف وقد شهد بذلك
القرآن والأخبار.
قال سبحانه: { وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ
مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (1).
والضميرالمجرور في { بِهِ } يرجع إلى القرآن ، ومن المعلوم أنّ ظرف شفاعة
القرآن ، هو الحياة الدنيوية ؛ فإن هدايته تتحقق فيها ، وإن كانت نتائجها تظهر
في الحياة الأُخروية ، فمَن عمل بالقرآن قاده إلى الجنة.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) - سورة الأنعام : الآية 51.
________________________________________
(344)
يقول ـ صلى الله عليه وآله ـ: « إذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل
المظلم ، فعليكم بالقرآن ، فإنّه شافع مشفّع » (1).
فالشفاعة هنا بنفس معناها اللغوي ؛ وذلك أنّ المكلّف يضم هداية القرآن ،
وتوجيهات الأنبياء والأئمة إلى إرادته وسعيه ، فيفوز بالسعادة الأُخروية.
وهذا غير الشفاعة المصطلحة ؛ فإنّ ظرفها هو الحياة الأُخروية ، فبين
الشفاعتين بون بعيد.
3 ـ الشفاعة المصطلحة
حقيقة هذه الشفاعة لا تعني إلا أن تصل رحمته سبحانه ومغفرته وفيضه إلى
عباده عن طريق أوليائه وصفوة عباده ، و ليس هذا بأمر غريب فكما أنّ الهداية
الإلهية التّي هي من فيوضه سبحانه ، تصل إلى عباده في هذه الدنيا عن طريق
أنبيائه وكتبه ، فهكذا تصل مغفرته سبحانه : إلى المذنبين والعصاة من عباده يوم
القيامة عن ذلك الطريق ، ولا بُعْد في أن يصل غفرانه سبحانه إلى عباده يوم
القيامة عن طريق عباده ، فإنّه سبحانه قد جعل دعاءهم في الحياة الدنيوية سبباً
لذلك ، وقال :
{ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ
لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} (2).
وتتضح هذه الحقيقة إذا وقفنا على أنّ الدعاء بقول مطلق ، وبخاصة دعاء
الصالحين ، من المؤثرات الواقعة في سلسلة نظام العلة والمعلول ، ولا تنحصر
العلة في المحسوس منها ، فإن في الكون مؤثرات خارجة عن إحساسنا وحواسنا ،
بل قد تكون بعيدة عن تفكيرنا ، وإليه يشير قوله سبحانه : { فَالْمُدَبِّرَاتِ
أَمْرًا} (3).
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ـ الكافي : ج 2 ص 238.
(2) - سورة النساء : الآية 64 ، ولاحظ يوسف : الآية 97 و 98، التوبة : الآية 103.
(3) - سورة النازعات : الآية 5 .
________________________________________
(345)
وبالإمعان فيما ذكرنا من وقوع الدعاء في سلسلة العلل ، تقدرعلى إرجاع
الشفاعة المصطلحة إلى قسم من الشفاعة التكوينية بمعنى تأثير دعاء النبي في جلب
المغفرة.
التعلیقات