في إطلاقات الحسن والقبح
الشيخ حسن محمّد مكّي العاملي
منذ 15 سنةفي إطلاقات الحُسن والقُبح
لا شك أنَّ للحسن والقبح معنى واحداً ، وإنّما الكلام في مِلاك كون الشيء حَسَناً أو قبيحاً. وهو يختلف باختلاف الموارد ، فقد ذكر للحُسن والقُبح مِلاكات نوردها فيما يلي :
1 ـ ملاءَمةُ الطَبْع ومنافرته. فالمشهد الجميل ـ بما أنَّه يلائم الطبع ـ يُعدّ حَسَناً، كما أنَّ المشهد المخُوف ، ـ بما أنَّه منافر للطبع ـ يُعَدّ قَبيحاً.
ومثله الطعام اللذيذ والصوت الناعم ، فإنّهما حَسَنان كما أنّ الدواء المُرّ ونهيق الحمار قبيحان. والحُسن والقُبح بهذا المِلاك ليسا محلّ البحث والاختلاف. أضف إلى ذلك أنَّهما لا يمكنهما الثبات والدوام ، لاختلاف الطبائع.
2 ـ موافقة الغَرَض والمصلحة الشخصيَّة والنوعيّة ومخالفتهما. فقتل إنسان لعَدائه حَسَن ، حيث إنَّه موافق لأغراض القاتل الشخصيّة. ولكنّه قبيح لأصدقاء المقتول وأهله ، لمخالفته لأغراضهم ومصالحهم الشخصيّة. هذا في المجال الشخصي. وأَمَّا في المجال النوعي ، فإنَّ العدل بما أنَّه حافظ لنظام المجتمع ومصالح النوع فهو حَسَن وبما أنَّ الظلم هادم للنظام ومخالف لمصلحة النوع فهو قبيح. وهذا أيضاً خارج عن مجال البحث بين العدليّة والأشاعرة ، فإنَّ المصالح الشخصيَّة لا تصحّح توصيف الفعل بالحُسن والقُبح على وجه الدوام ، لما عرفت من اختلاف الأغراض والمصالح الشخصيّة. فرُبَّ فعل كالقتل حَسَنَ عند فرد أو جَمع وقَبيحٌ عند آخرين ، والبحث إنَّما هو عن الحُسن والقُبح الذاتيين اللذين لا يتغيّر الإِتّصاف بهما عند قوم دون قوم ، وجيل دون جيل ، بل يكون حُكْماً ثابتاً للفعل أبداً.
و أمَّا المصالح النوعيَّة ـ كبقاء النظام وانهدامه ـ فهي وإن كانت تصبغ الفعل بالحُسن والقُبح على وجه الثبات والدوام ، لكن لا يصحّ توصيف الحُسن والقُبح في هذا المورد بالذاتيين. لأنَّ المراد بالذاتي كون ملاحظة نفس الفعل ـ مع غضّ النظر عن غيره ـ موجباً لإِدراك العقل حُسنَه أو قُبحَه ، وليس الأمر كذلك في توصيف الفعل بالحُسن أو القُبح لأجل المصالح والمفاسد النوعيّة ، فإنَّ لتلك الأغراض الخارجة عن حقيقة الفعل دخالة في إدراك العقل وتوصيفه. فلأجل ذلك يجب أن يكون مثل ذلك خارجاً عن محلّ النزاع ، ولو اعترف الأشاعرة بحسن العدل وقبح الظلم من هذه الزاوية ، فلا يمكن عدهم موافقين للعدليّة.
3 ـ كون الشيء كمالاً للنفس أو نقصاً لها ، كالعِلْم والجهل ، فالأوّل زَيْن لها والثاني شَيْن. ولكنَّ التحسين و التقبيح بهذا المعنى لا غبار عليه وليس محلّاً للنقاش. إذ لا أظنّ أنَّ أحداً على أديم الأرض ينكر كونَ العلمِ والشجاعة والفصاحة كمالاً وحسَناً ، والجهلِ والجُبِن والفهاهةِ نقصاً وقبيحاً.
فهذه الملاكات الثلاثة على فرض كونها ملاكات للإِتّصاف بالحُسْن والقُبح ، خارجة عن حريم البحث ، وإنَّما البحث بين العدليّة وغيرهم في المِلاك الرابع التالي :
4 ـ ما استحقّ من الأَفعال مدح فاعله عُدّ عند العقلاء حَسَناً ، وما استحقّ منها ذماً عُدّ عندهم قبيحاً. وذلك بملاحظة الفعل نفسه من حيث هو هو ، من دون ضمّ شيء إليه ، ومن دون أن يلاحظ كونه مشتملاً على نفع شخصي أو نوعي ، فيستقلّ العقل بحُسنه ووجوب فعله ، أو قُبحه ووجوب تركه.
وإِنْ شئت قلت : إِذا وقع الفعل في إطار العقل البشري من دون فرق بين الأَفراد ، ومع غضّ النظر عن أَيّ شيء آخر غير الفعل نفسه ، وجده العقل موصوفاً بالحُسن وقابلاً للمدح ، أَو على العكس. وهذا كما إِذا لاحظ جزاء الإِحسان بالإِحسان فيحكم بحسنه ، وجزاءه بالإِساءة فيحكم بقبحه.
فالعقل في حكمه هذا ، لا يلاحظ سوى نفس الموضوع ، من دون أن يتصوّر كونه يتضمّن صلاحاً أَو فساداً. فمبحث الحُسن والقُبح الذاتيين ، لا يهدف إِلّا إلى هذا القسم.
والأَقسام الثلاثة الأُولى خارجة عن مجال البحث ، كما أَنَّ التحسين والتقبيح العاديين ، كتحسين خروج الجندي بالبَزَّة العسكريّة وتقبيح خروج العالم باللباس غير المناسب ، خارجان أيضاً عن محلّ البحث.
وربّما يتوهّم أَنَّ للتحسين والتقبيح مِلاكاً خامساً ، هو أَنَّ الحَسَنَ ما استَحقّ الثواب عند الله ، والقَبيح ما استحقّ العقاب عنده. ولكنّه خارج عن مجال البحث أَيضاً ، كيف وقد بحث عن أَصل التحسين والتقبيح البراهمة الذين لا يدينون بشريعة فضلاً عن الإِعتقاد بالثواب والعقاب في الآخرة ، فكيف يكون هذا مِلاك البحث. نعم قد اتّخذ هذا الوجه سناداً من أراد أنْ ينكر الحُسنَ والقُبحَ ، بحجّة أَنَّ العلم باستحقاق الثواب والعقاب على الفعل خارج عن نطاق العقل ، وداخل في مجال الشرع.
و ممّا قدّمنا يعلم ما فيه.
ولأجل زيادة البيان في تعيين محلّ النزاع بين الأشاعرة والعدليّة نأتي بالتوضيح التالي :
إِنَّ كثيراً من الباحثين عن التحسين والتقبيح العقليين ، يعلّلون حُسن العدل والإِحسان ، و قُبَح الظلم والعدوان ، باشتمال الأَوّل على مصلحة عامّة وباشتمال الثاني على مفسدة كذلك. ولأجل تلك النتائج عم الإِعتراف بحُسن الأَوّل وقبح الثاني الجميع. ولكنّك عرفت أنَّ مِلاك البحث أوسع من ذلك ، و أَنَّ المسألة مركزة على لحاظ نفس الفعل مع غضّ النظر عن تواليه وتوابعه ، هل يدرك العقل حسنه أَو قبحه ، أَو لا ؟ وهل العقل يمدح إحسان المحسن بالإِحسان ، ويذمّ جزاء المحسن بالإِساءة أَو لا ؟ وهل العقل يقبح تكليف الإِنسان بما لا يطيقه ، أَو لا ؟ و هل العقل يحسّن عمل العامل بالميثاق ، أَو لا ؟ فالنقاش على هذا الصعيد لا بالنظر إلى الأَغراض والمصالح ، فرديَّة كانت أَمْ اجتماعيَّة.
فالقائلون بالتقبيح والتحسين العقليين يقولون : إِنَّ كلّ عاقل مميِّز ، يجد من صميم ذاته حُسن بعض الأَفعال وقُبح بعضها الآخر ، وإنَّ هذه الأحكام نابعة من صميم القوّة العاقلة والهُويَّة الإِنسانيَّة المِثاليَّة.
وأَوّل من قام بتحرير محلّ النزاع على الوجه الذي قرّرناه هو المحقّق اللاهيجي في تأليفه الكلاميّة. وأَوضح دليل على صواب تحريره هو أَن الغرض من طرح هذه المسألة التوصّل إلى التعرف على أَفعاله سبحانه ، وأَنَّ العقل هل يستطيع أَنْ يستكشف وصف أَفعاله، أَو لا ؟ وأَنَّ ما هو حسن عند العقل أَو قبيح عنده هل هو كذلك عند الله تعالى ؟ ولا يمكن ذلك الإستكشاف إلّا بكون المدار في التحسين والتقبيح على ملاحظة نفس الفعل بما هو هو.
وعلى ذلك فلا معنى للبحث عن التحسين والتقبيح بالمِلاكات السَّابقة من الملاءمة والمنافرة للطبع ، أو موافقة الغَرَض ومخالفته ، أَو كونه حافظاً وهادماً للنظام والمجتمع ، وإِلّا لبطلت الغاية التي طرحت لأَجلها تلك المسألة وهي التعرف على أَفعال الباري سبحانه.
مقتبس من كتاب : [ الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل ] / المجلّد : 1 / الصفحة : 233 ـ 236
التعلیقات