ثمرات التحسين و التقبيح العقليين
الشيخ حسن محمّد مكّي العاملي
منذ 15 سنةثمرات التحسين والتقبيح العقليين
تحتلّ مسألة التحسين والتقبيح العقليين مكانة مرموقة في الأبحاث الكلاميّة وذلك أن أجلَّ ما تثبته هذه المسألة حكمة الباري تعالى وأنَّه منزَّه عن فعل ما لا ينبغي ، و به تنحل الكثير من المشاكل الكلاميّة وغيرها. و إليك فيما يلي بيان بعض منها.
1 ـ وجوب المعرفة
إتّفق المتكلّمون ـ ما عدا الأشاعرة ـ على لزوم معرفة الله سبحانه على كلّ إنسان لزوماً عقليّاً ، بمعنى أنَّ العقل يحكم بحُسْن المعرفة وقُبح تركها ، لِمَا في المعرفة من أداء شكر المنعِم ، وهو حسن ، و في تركها من الوقوع في الضَّرر المحتمل ، وهو قبيح. هذا إذا قلنا باستقلال العقل ، و إِلّا لَمَا ثبت وجوب المعرفة ، لا عقلاً ـ لأنّه حسب الفرض معزول عن الحكم ـ ولا شرعاً ، لأنّه لم يثبت الشرع بعد.
2 ـ وجوب تنزيه فعله سبحانه عن العبث
ممّا يترتّب على هذه المسألة تنزيه أفعاله سبحانه عن العبث ولزوم اقترانها بالغايات والأغراض وهذه المسألة من المسائل التي تشاجرت فيها العدليّة والأشاعرة فالأولى على الإيجاب والثانية على السلب. و للحكماء فيها رأي خاصّ أيضاً ، و لذلك فإِنَّا نفردها بالبحث بعد عرض هذه النتائج.
3 ـ لزوم تكليف العباد
إذا كان فعله سبحانه منزّهاً عن العبث ، يستقلّ العقل بالحكم بلزوم إيصال كلّ مكلّف إلى الغايات التي خلق لها ، و ذلك بتكليفهم بما يوصلهم إلى الكمال ، وزجرهم عمّا يمنعهم عنه ، حتّى لا يتركوا سدى ، وتتفتح في ضوء التكليف طاقاتهم الروحيّة. وعِلْم الإِنسان بالحُسن والقُبح لا يكفي في استكماله ، إذ هناك أمور تصدّه عن بلوغ الغاية أو توصله إليها و هي مجهولة له ، و لا تعلم إلّا من طريق الوحي والشرع.
4 ـ لزوم بعث الأنبياء
إِنَّ مسألة لزوم إرسال الرسل أيضاً ، تبتني على هذه المسألة ، فالعقل الذي يدرك بأنَّ الإِنسان لم يخلق سدى بل خلق لغاية ، يدرك بأنّه لا يصل إليها إلّا بالهداية التشريعيّة الإِلهيّة ، فيستقلّ بلزوم بعث الدعاة من الله تعالى لهداية البشر (1).
5 ـ لزوم النظر في برهان مدّعي النبوّة
لا شكّ أنَّ الأنبياء الحقيقيين يبعثون بمعاجز وبيّنات ، فإذا ادّعى إنسان السَّفارة من الله تعالى إلى النَّاس ، فهل يجب على الناس ، النظر في دعواه وبرهانه ؟ على استقلال العقل في مجال التحسين والتقبيح ، يجب النظر والإِصغاء دفعاً للضرر المحتمل. وأمَّا على القول بعدمه ، فلا يجب ذلك عقلاً ـ لأنّه حسب الفرض معزول ـ ولا شرعاً ، لعدم ثبوته بعد. ونتيجة ذلك أنَّ التارك للنظر معذور ، لأنّه لم يهتد إلى حقيقة الأمر !.
6 ـ العِلْم بصدق دعوى النبوّة
إِذا اقترنت دعوة المتَنّبئ بالمعاجز و البيّنات الواضحة ، فلو قلنا باستقلال العقل في مجال الحُسن والقُبح ، حكمنا بصدقه ، لقبح إعطاء البيّنات للمدّعي الكذّاب ، لما فيه من إضلال النَّاس. وأمَّا إذا عزلنا العقل عن الحكم في المقام ، فلا دليل على كونه نبيّاً صادقاً ، والشرع بعد لم يثبت حتّى يحكم بصدقه.
7 ـ الخاتميّة واستمرار أحكام الإِسلام
إِنَّ استقلال العقل بالتحسين والتقبيح ، بالمعنى الذي عرفت من الملاءَمة للفطرة العلويّة والمنافرة لها ، أساس الخاتميَّة وبقاء أحكام الإِسلام وخلودها إلى يوم القيامة. وذلك أنَّ الفطرة مشتركة بين جميع أفراد البشر ولا تتبدّل بتبدّل الحضارات وتطّور المدنيّات ، فإِنَّ تبدّلها لا يمسّ فطرة الإِنسان ولا يغيّر جبلّته ، فيصبح ما تستحسنه الفطرة أو تستقبحه خالداً إلى يوم القيامة ، ولا يتطرق التبدّل والتغيّر إليه (2).
8 ـ ثبات الأخلاق
إِنَّ مسألة ثبات الأخلاق في جميع العصور والحضارات أو تبدّلها تبعاً لاختلافها ، ممّا طرح مؤخّراً عند الغربييّن ودارت حوله المناقشات وأبديت فيه الآراء ، فمن قائل بثبات أصولها ، ومن قائل بتبدّلها وتغيّرها حسب تغيّر الأنظمة والحضارات. ولكن المسألة لا تنحلّ إلّا في ضوء التحسين والتقبيح العقليين الناشئين من قضاء الجِبِلَّة الإِنسانية العالية والفطرة الثابتة ، فعند ذاك تتّسم أصول الأخلاق بسمة الثبات والخلود. وأمّا ما يتغيّر بتغيّر الحضارات فإنّما هو العادات والتقاليد العرفيّة.
خذ على ذلك مثلاً « إكرام المحسن » ، فإنّه أمر يستحسنه العقل ، ولا يتغيّر حكم العقل هذا أبداً ، وإنّما الذي يتغيّر بمرور الزمان ، وسائل الإِكرام وكيفيّاته. فإذاً ، الأصول ثابتة ، والعادات والتقاليد ـ التي ليست إلّا لباساً للأصول ـ هي المتغيّرة.
9 ـ الحكمة في البلايا والمصائب والشرور
من المسائل المشهورة في الحكمة الإِلهيّة مسأله البلايا والشرور ، فإِنَّ وجود هذه الحوادث أوجد إشكالات على حكمته بل عِلْمه تعالى ، فهي بظاهرها تدلّ على انعدام النّظام في الكون من جهة ، وتنافي حكمته بمعنى إتقان أفعاله من جهة ثانية ، وتنافي حكمته ـ على نحو الإِطلاق ـ أعني كون فعله منزّهاً عمّا لا ينبغي من جهة ثالثة ، وتنافي حكمته ـ على نحو الخصوص ـ أعني عدله تعالى وقيامه بالقسط من جهة رابعة. وحيث إنّها من المسائل الطويلة الذيل ، التي وقع فيها البحث والنقاش سواء في علم الكلام أو الفلسفة والحكمة الإِلهيّة ، فإنَّا نفردها بالبحث بعد العرض الإِجمالي لهذه النتائج.
10 ـ الله عادل لا يجور
من أبرز مصاديق حكمته تعالى ـ الثابتة بفضل القول بالتحسين والتقبيح العقليين ـ عدله ، بمعنى قيامه بالقسط وأنَّه لا يجور ولا يظلم وسنفرده بالبحث مع بيان مكانته في التشريع الإِسلامي. و يترتّب عليه بعض النتائج منها :
أ ـ قبح العقاب بلا بيان
إذا كان الله تعالى عادلاً ، فإنّه لا يعاقب عباده من دون أن يبيّن لهم تكاليفهم ، فإنَّ ذلك ظلم يحكم العقل بقبحه ولزوم تنزّه الواجب عنه. من دون فرق بين أن لا يقع البيان أصلاً ، أو يقع ولا يصل إليهم لأسباب وعوامل معيّنة. وهذا الأصل ممّا اتّفق عليه الأصوليّون وبنوا عليه أصالة البراءة في الشبهات غير المقترنة بالعلم الإِجمالي.
نعم ، المسألة تبتنى على التحسين والتقبيح العقليين إذا لم تثبت البراءة من الشرع بواسطة الكتاب والسنّة ، والمفروض أنَّ البحث فيها بعده.
ب ـ قبح التكليف بما لا يطاق
من نتائج حكم العقل بعدله تعالى ، حكمه بلزوم وجود التمكّن والقدرة في العبد للإِتيان بما يُكَلَّفون به ، وأنَّ تكليفهم وإلزامهم بما هو فوق طاقتهم ظلم وهو قبيح لا يصدر عن الحكيم ، و لأجل أهميّة هذا البحث نفرده أيضاً ببحث مستقل بعد عرض هذه النتائج.
ج ـ مدى تأثير القضاء والقدر في مصير الإِنسان
من جملة المسائل المترتّبة على عدله تعالى ، تأثير القضاء والقدر في مصير الإِنسان ، وهذه المسألة مع كونها من المسائل الأصوليّة في العقيدة الإِسلاميّة ، ممّا وقع فيه الجدل والنقاش إلى درجة التكفير وإراقة الدماء بين المسلمين في العصور الأولى. ويتفرّع عليها مسألة البَداء أو تغيير المصير بالأعمال الصالحة أو الطالحة. وحيث إِنَّ الوقوف عليهما يتوقّف على الإِسهاب والتفصيل في مباحثهما ، خصّصنا كلّاً منهما بفصل خاصّ من فصول الكتاب.
د ـ إختيار الإِنسان
من جملة المسائل المترتّبة على عدله تعالى ، اختيار الإِنسان في أفعال نفسه ، وذلك أنَّ كونه مجبوراً مُسَيِّراً فيما يقوم به ، ظلم وجور. وحيث إِنَّ هذه المسألة أيضاً من المسائل التي كثر فيها الجدال وتعدّدت فيها الآراء بين إفراط وتفريط ، أفردناها بالبحث في فصل مستقلّ من الكتاب ، مع ما يتفرع عليها من البحوث حول الحسنة والسيّئة ، والهداية والضلالة وغير ذلك.
هـ ـ المصحّح للعقاب الأخروي
من جملة التساؤلات التي طرحت حول عدله سبحانه ، ما هو المصحّح للعقاب الأُخروي ؟ وذلك من جهتين :
الأولى ـ لماذا العقاب الأخروي ؟ هل هو للتّشفي أو الإِنتقام وكلاهما نقص تعالى الله عنه.
الثانية ـ إِنَّ مقتضى القانون العقلي أن تكون العقوبة على مقدار الجرم ، والتخلّف عن ذلك ظلم وجور تنزَّه الله عنه ، فَلِمَ يُخَلّد الكافرون والمجرمون في النار أبداً ؟.
و سنجيب عنهما بعد التعرّض للبحث عن عدله تعالى (3).
الهوامش
1. سنبحث مفصّلاً في لزوم بعثة الأنبياء في مباحث النبّوة العامّة.
2. سنبحث عن خاتميّة الإِسلام في مباحث النبوّة الخاصّة.
3. وهناك جملةٌ أخرى من التساؤلات حول حكمته وعدله تعالى ، أجاب عنها الأستاذ دام ظله في موسوعته « الله خالق الكون » ، فلاحظ ص 97 - 99. وص 269 - 281.
مقتبس من كتاب : [ الإلهيات على هدى الكتاب والسنّة والعقل ] / المجلّد : 1 / الصفحة : 257 ـ 262
التعلیقات