ثمرات التحسين والتقبيح العقليين : البلايا و المصائب والشرور و كونه حكيماً
الشيخ حسن محمّد مكّي العاملي
منذ 15 سنةالبلايا والمصائب والشرور وكونه حكيماً
إِنَّ مسألة البلايا والمصائب والشرور ، من المسائل المشهورة الذائعة الصيت في الحكمة الإِلهيّة ، ولها صلة بالمباحث التالية :
1 ـ إذا كان الدليل على وجود الخالق المدبّر هو النظام السائد في الكون. فكيف يفسّر وجود بعض الظواهر غير المتوازنة العاصية عن النظام كالزلازل والسيول والطوفانات ، فإنّها من أبرز الأدلّة على عدم النظام.
2 ـ لو كان الصانع تعالى حكيماً في فعله ، متقناً في عمله ، واضعاً كلّ شيء في محلّه ، منزّهاً فعله عمّا لا ينبغي ، فكيف تفسَّر هذه الحوادث التي لا تنطبق مع الحكمة سواء أفسرت بمن يصنع الأشياء المتقَنة أو من يكون فعله منزهاً عمّا لا ينبغي.
3 ـ إذا كان الخالق عادلاً وقائماً بالقسط فكيف يجتمع عدله سبحانه مع هذه الحوادث التي تبتلع النفوس البريئة في آن واحد ، وتخرّب الديار وتدمّرها. إلى غير ذلك.
وعلى ذلك فالبحث عن المصائب والبلايا والشرور يرتبط بالمسائل المتقدّمة ، ونحن نطرح هذه المسألة بعد أن أقمنا الدليل على كونه حكيماً.
إِنَّ البحث عن الشرور ، ليس مسألة جديدة كشف عنها فلاسفة الغرب ومنهم الفيلسوف « هيوم » الإِنكليزي ، كما ربّما يتخيّله بعض من لا خبرة له بالفلسفة الإِسلاميّة ، بل والإِغريقيّة ، فإن هذه المسألة قد طرحت بين القدامى من فلاسفة الإِغريق ، والمتأخّرين من فلاسفة الإِسلام.
فقد اشتهر قول أرسطو : « إِنَّ الموجودات الممكنة بالقسمة العقليّة في بادئ الإِحتمال تنقسم إلى خمسة أقسام :
1 ـ ما هو خير كلّه لا شرّ فيه أصلا.
2 ـ ما فيه خير كثير مع شرّ قليل.
3 ـ ما فيه شرّ كثير مع خير قليل.
4 ـ ما يتساوى فيه الخير والشرّ.
5 ًـ ما هو شرّ مطلق لا خير فيه أصلا ».
ثمّ صرّحوا بأنَّ الأقسام الثلاثة الأخيرة غير موجودة في العالم ، و إنّما الموجود من الخمسة المذكورة هو قسمان (1).
وقد بحث الفيلسوف الإسلامي صدر الدين الشيرازي ـ ت 979 هـ ، م 1050 هـ ـ عن مسألة الخير والشر والمصائب والبلايا في كتابه القيّم « الأسفار الأربعة » في ثمانية فصول بحثاً علميّاً ، كما بحث عنها الحكيم السبزواري في قسم الفلسفة من شرح المنظومة بحثاً متوسطاً. وقد سبقهما عدة من الأجلّاء كما تبعهما ثلة أُخرى من المفكّرين الإسلاميين. و نحن نقتبس فيما يلي ما ذكره هؤلاء المحقّقون بتحليل وتشريح خاصّ فنقول :
إِنَّ مسألة الشرور والبلايا دفعت بعض الطوائف في التاريخ وحتّى اليوم إلى الاعتقاد بالتعدّد في الخالق ، وهو الاتّجاه المسمّى بالثَّنويّة ، حيث تصوّر أنَّ إله الخير هو غير إله الشَّر ، هروباً من الإِشكال المذكور ، ولأجل ذلك عرفوا بالثَّنوية. وبما أنَّهم يعتقدون بأنَّ الإِلهين مخلوقان للإِله الواجب الواحد ، فهم من أهل التثليث على هذا الإِعتبار.
و على كلّ تقدير فالإِجابة عن مشكلة الشرور تتحقّق بوجهين :
الأوّل ـ تحليلها تحليلاً فلسفيّاً كليّاً.
الثاني ـ تحليلها تحليلاً تربويّاً مؤثراً في تكامل النفوس.
فعلى من يريد الإسهاب في البحث أنْ يلج البابين ، وهاك البيان :
البحث الأوّل ـ التحليل الفلسفي لمسألة الشرور.
حاصل هذا التحليل أنَّ ما يظنّه بعض الناس من أنَّ هناك حوادث غير منتظمة ، أوْ ضارّة مدمّرة ، فإنّما هو ناشئ من نظراتهم الضيّقة المحدودة إلى هذه الأمور. ولو نظروا إلى هذه الحوادث في إطار « النظام الكوني العام » لأذعنوا بأنّها خير برمتها ، و يكون موقف المسألة كما قاله الحكيم السَبْزَواري :
ما ليس مَوْزوناً لِبَعْض مِنْ نَغَم |
فَفي نِظامِ الكُلِّ كُلٌّ مُنْتَظَم |
هذا إجمال الجواب ، وأَمّا تفصيله فيتوقّف على بيان أمرين :
الأَمر الأَوّل ـ النَّظرة الضيّقة إلى الظواهر
إِنَّ وصف الظواهر المذكورة بأنَّها شاذّة عن النظام ، وأَنَّها شرور لا تجتمع مع النظام السائد على العالم أوّلاً ، وحكمته سبحانه ـ بالمعنى الأعمّ ـ ثانياً ، وعدله وقسطه ثالثاً ، ينبع من نظرة الإِنسان إلى الكون من خلال نفسه ، ومصالحها ، وجعلها محوراً ومِلاكاً لتقييم هذه الأمور. فعندما ينظر إلى الحوادث ويرى أنَّها تعود على شخصه وذويه بالإِضرار ، ينبري من فوره إلى وصفها بالشرور والآفات. وما هذا إلّا لأَنّه يتوجّه إلى هذه الظواهر من منظار خاصّ و يتجاهل غير نفسه في العالم ، من غير فرق بين من مضى من غابر الزمان ومن يعيش في الحاضر في مناطق العالم أو سوف يأتي ويعيش فيها. ففي النَّظرة الأَولى تتجلّى تلك الحوادث شرّاً وبليّة. ولكن هذه الحوادث في الوقت نفسه وبنظرة ثانية تنقلب إلى الخير والصلاح وتكتسي خلق الحكمة والعدل والنَّظْم. ولبيان ذلك نحلل بعض الحوادث التي تعد في ظاهرها من الشرور فنقول :
إِنَّ الإِنسان يرى أنّ الطوفان الجارف يكتسح مزرعته ، والسَيْل العارم يهدم منزله ، والزلزلة الشديدة تُزَعْزِعُ بُنيانه ، ولكنّه لا يرى ما تنطوي عليه هذه الحوادث والظواهر من نتائج إيجابيّة في مجالات أُخرى من الحياة البشريّة.
وما أَشبه الإِنسان في مثل هذه الرؤية المحدودة بعابر سبيل يرى جرّافة تحفر الأرض ، أو تهدم بناءً مُحْدِثَةً ضوضاءَ شديداً ومُثيرة الغبار والتراب في الهواء ، فيقضي من فوره بأنّه عمل ضارّ وسيء و هو لا يدري بأَنَّ ذلك يتمّ تمهيداً لبناء مستشفى كبير يستقبل المرضى ويعالج المصابين ويهيّء للمحتاجين إلى العلاج وسائل المعالجة والتمريض.
ولو وقف على تلك الأَهداف النبيلة لقضى بغير ما قضى ، ولَوَصَفَ ذلك التهديم بأنّه خير ، وأَنّه لا ضير فيما حصل من الضوضاء ، و تصاعد من الأَغبرة.
إِنَّ مَثَلَ هذا الإِنسان المحدود النظر في تقييمه ، مَثَل الخفاش الذي يؤذيه النور لأنّه يَقبض بصره ، بينما يبسط هذا النور ملايين العيون على آفاق الكون ويسهل للإِنسان مجالات السعي والحياة. أَفهل يكون قضاء الخفاش على النور بأنّه شرٌ مِلاكاً لتقييم هذه الظواهر الطبيعيّة المفيدة ؟ كلا ، لا.
الأمر الثَّاني ـ الظواهر حلقات في سلسلة طويلة
إنَّ النظر إلى ظاهرة من الظواهر، منعزلة عن غيرها ، نظرة ناقصة ومبتورة. لأنَّ الحوادث حلقات مترابطة متسلسلة في سلسلة ممتدّة ، فما يقع الآن منها يرتبط بما وقع في أعماق الماضي وبما سيقع في المستقبل ، في سلسلة من العلل والمعاليل والأسباب والمسبَّبات.
ومن هنا لا يصحّ القضاء على ظاهرة من الظواهر بحكم مع غضّ النظر عما سَبَقَها ، وما يلحقها ، بل القضاء الصحيح يتحقّق بتقييمها جُملة واحدة والنظر اليها نظراً كليّاً لا جزئيّاً. فإِنَّ كلّ حادثة على البسيطة أو في الجوّ ترتبط ارتباطاً وثيقاً بما سبقها أَوْ يلحقها من الحوادث. حتّى أنَّ ما يهب من النسيم ويعبث بأوراق المنضدة التي أَمامك يرتبط ارتباطاً وثيقاً بما حدث أو سيحدث في بقاع العالم. فلا بدّ للمحقّق أن يلاحظ جميع الحوادث بلون الإِرتباط والتَّشكل. فعند ذاك يتغيّر حكمه ويتبدّل قضاؤه ولن يصف شيئاً بالشذوذ ، ولن يَسِمَ شيئاً بأَنَّه من الشرور.
إذا عرفت هذين الأمرين فلنأْتِ ببعض الأَمثلة التي لها صلة بهما :
1 ـ إذا وقعت عاصفة على السواحل فإنّها تقطع الأشجار وتدمّر الأَكواخ وتقلب الأثاث ، فتوصف عند ساكني الساحل بالشر والبلية ، ولكنّها في الوقت نفسه تنطوي على آثار حيويّة لمنطقة أُخرى.
فهي مثلاً توجب حركة السُفُن الشِّراعيَّة المتوقّفة في عرض البحر بسبب سكون الريح. وبهذا تنقذ حياة المئات من ركّابها اليائسين من نجاتهم ، وتوصلهم إلى شواطئ النجاة ، فهي موصوفة عند ركّاب السفينة بالخير.
2 ـ إِنَّ الرياح وإِنْ كانت ربّما تهدم بعض المساكن إلّا أَنّها في نفس الوقت تعتبر وسيلة فعّالة في عمليّة التلقيح بين الأَزهار وتحريك السحب المولّدة للمطر وتبديد الأدخنة المتصاعدة من فوهات المصانع والمعامل التي لو بقيت وتكاثفت لتعذرت أَوْ تعسّرت عمليّة التنفّس لسكّان المدن والقاطنين حول تلك المصانع. إلى غير ذلك من الآثار الطيبة لهبوب الرياح ، التي تتضاءل عندها بعض الآثار السيّئة أو تكاد تنعدم نهائيّاً.
3 ـ الزلازل وإِنْ كانت تسبّب بعض الخسائر الجزئيّة أو الكليّة في الأَموال والنفوس ، إِلّا أَنَّها توصف بالخير إذا وقفنا على أَنَّ علّتها ـ على بعض الفروض ـ جاذبيّة القمر التي تجذب قشرة الأرض نحو نفسها ، فيرتفع قاع البحر ويوجب ذلك الزلازل في مناطق مختلفة من اليابسة. فإنَّ هذا في نفس الوقت يوجب أَنْ تصعد مياه البحار والأَنهار فتفيض على الأراضي المحيطة بها وتسقي المزارع والسهول فتجدّد فيها الحياة وتجود بخير العطاء.
ويترتّب على الزلازل آثار نافعة أُخرى يقف عليها الإِنسان المتفحّص في تلك المجالات ، فهل يبقى مجال مع ملاحظة هذين الأَمرين للقضاء العاجل بأنَّ تلك الحوادث شرور وبلايا لا يترتّب عليها أيّة فائدة ؟.
إِنَّ عِلْمَ الإِنسان المحدود هو الذي يدفعه إلى أَنْ يقضي في الحوادث بتلك الأقضية الشاذّة ، ولو وقف على علمه الضئيل ونسبة علمه إلى ما لا يعلمه لرجع القَهْقَرى قائلاً : ( رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَـٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ ) (2). ولأذعن بقوله تعالى : ( وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ) (3). وقوله سبحانه : ( يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) (4).
ولهذا السبب نَجِدُ أنَّ العلماء الموضوعيين الذين لم تبهرهم منجزات العلوم ولم يغرّهم ما حصل لهم من التقدّم ، يعترفون بقصور العلم البشري ويَحْذَرُون من التسرّع في القضاء والحكم على الأشياء. كيف وهذا العالم الإِنكليزي الأستاذ « وليم كروكش » مكتشف إشعاع المادّة ، والمخترع لكثير من أدوات التجارب الكيميائيّة قال : « من بين جميع الصفات التي عاونتني في مباحثي النفسيّة ، وذلّلت لي طرق اكتشافاتي الطبيعيّة ، وكانت تلك الإِكتشافات أحياناً غير منتظرة ، هو اعتقادي الراسخ بجهلي » (5). إلى غير ذلك من الكلمات المأثورة عن كبار المفكّرين وأعاظم الفلاسفة والمعنيين بتحليل الظواهر الطبيعيّة ، فإنّك تراهم يعترفون بجهلهم وعجزهم عن الوقوف على أسرار الطبيعة. وهذا هو المخّ الكبير في عالم البشريّة الشيخ الرئيس يقول : « بلغ علمي إلى حدّ علمت أنّي لست بعالم ».
تحليل فلسفي آخر للشرور
قد وقفت على التحليل الفلسفي الماضي ، وهناك تحليل فلسفي آخر لمشكلة البلايا والمصائب ولعلّه أدقّ من سابقه ، وحاصله :
إِنَّ الشرّ أمر قياسي ليس له وجود نفسي وإِنّما يتجلّى عند النفس إذا قيس بعض الحوادث إلى بعض آخر ، و إليك بيانه :
إِنَّ القائلين بالثَّنويّة يقولون إِنَّ الله سبحانه خير محض ، فكيف خلق العقارب السّامة والحيَّات القاتلة والحيوانات المفترسة والسباع الضواري.
ولكنّهم غفلوا عن أنَّ اتّصاف هذه الظواهر بالشرور اتّصاف قياسي وليس باتّصاف نفسي ، فالعقرب بما هو ليس فيه أيّ شرّ ، وإنّما يتّصف به إذا قيس إلى الإِنسان الذي يتأذَّى من لسعته ، فليس للشرّ واقعيّة في صفحة الوجود ، بل هو أمرُ انتزاعي تنتقل إليه النفس من حديث المقايسة ، ولولاها لما كان للشرّ مفهوم وحقيقة. وإليك توضيح هذا الجواب.
إِنَّ الصفات على قسمين : منها ما يكون له واقعيّة كموصوفه ، مثل كون الإِنسان موجوداً ، أو أَنَّ كلّ متر يساوي مائة سنتيمتر. فاتّصاف الإِنسان بالوجود والمتر بالعدد المذكور ، أَمران واقعيّان ثابتان للموجود ، توجّه إليه الذهن أَم لا. حتّى لو لم يكن على وجه البسيطة إِلّا إنسان واحد أو متر كذلك فالوصفات ثابتان لهما.
ومنه ما لا يكون له واقعيّة إلّا أَنَّ الإِنسان ينتقل إلى ذلك الوصف ، أَو بعبارة صحيحة ينتزعه الذهن بالمقايسة ، كالكبر والصغر ، فإِنَّ الكبر ليس شيئاً ذا واقعيّة للموصوف وإنّما يُدْرَك بالقياس إلى ما هو أصغر منه.
مثلاً : الأرض توصف بالصِغَر تارة إذا قيست إلى الشمس ، وبالكِبَر أخرى إذا قيست إلى القمر. ولأجل ذلك لا يدخلان في حقيقة الموصوف ، وإِلّا لما صحّ وصف الأرض بوصفين متعارضين.
إذا عرفت انقسام الأَوصاف إلى القسمين ، فعليك تحليل مفهوم الشرّ على ضوء هذا البيان فنقول : إِنَّ كون العقرب موجوداً وذا سمَّ ، من الأمور الحقيقيّة. وأمّا كونه شرّاً ، فليس جزءاً من وجوده ، وإِنّما يتّصف به سمّ العقرب إذا قيس إلى الإِنسان وتضرّره به أو فقدانه لحياته بسببه ، وإِلّا فانّه يعدّ كمالاً للعقرب وموجباً لبقائه. فإذا كان كذلك سهل عليك حلّ عقدة الشرور من جوانبها المختلفة.
أَمّا من جانب التوحيد في الخالقيّة وأنَّه ليس من خالق في صفحة الوجود إلّا الله سبحانه وهو خير محض ليس للشر إليه سبيل ، فكيف خَلَقَ هذه الموجودات المتّسمة بالشرّ ، فالجواب أنَّ المخلوق هو ذوات هذه الأشياء وما لها من الصفات الحقيقيّة ، وأَمّا اتّصافها بالشرّ فليس أمراً حقيقيّاً محتاجاً إِلى تعلّق العلّة ، بل هو أَمرٌ قياسي يتوجّه إليه الإِنسان ، عند المقايسة.
وإلى هذا المعنى تؤوّل كلمات الفلاسفة القدامى إذ قالوا :
« 1 ـ الشر أمرٌ عدمي ، وليس أَمراً موجوداً محتاجاً إلى العلّة.
2 ـ الشَّر ليس مجعولاً بالذات بل مجعول بالعَرَض.
3 ـ إذا تصفحت جميع الأشياء الموجودة في هذا العالم المسمَّاة عند الجمهور شروراً ، لم تجدها في أَنفسها شروراً ، بل هي شرور بالعَرَض خيْرات بالذات » (6).
ونحو ذلك الأخلاق الذميمة فإنّها كلّها كمالات للنفوس السَّبُعِيّة والبهيميّة وليست بشرور للقوى الغضبيّة والشَّهَوِيَّة. وإِنّما شِرِّيَّة هذه الأَخلاق الرذيلة بالقياس إلى النفوس الضعيفة العاجزة عنِ ضبط قواها عن الإِفراط والتفريط وعن سوقها إلى مسلك الطاعة الذي تناط به السعادة الباقية.
وكذلك الآلام والأوجاع والغموم والهموم فهي من حيث كونها إدراكات ، ومن حيث وجودها أو صدورها من العلل الفاعلة لها ، خيرات كماليّة ، وإِنّما هي شرور بالقياس إلى متعلّقاتها.
وأمَّا من جانب توصيفه سبحانه بالحكمة والإِتقان في الفعل والعمل ، فليس في خلق هذه الحوادث والموجودات شيء يخالف الحكمة ، فإنّه سبحانه خلق العقارب والحيّات والضواري والسباع بأحسن الخلقة وأعطاها ما يكفيها في الحياة ( الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ ) (7). وإِنّما تتّسم هذه الحوادث والموجودات بالشرّ ويتراءى أنّها خلاف الحكمة من حيث المقايسة ، وهو أمر ذهني لا خارجي.
إلى هنا خرجنا بهذه النتيجة وهي أَنَّ هناك عاملين دفعا الإِنسان إلى تصوّر أَنَّ الشَّر ، أَمرٌ عيني خارجي يعد إيجاده على خلاف الحكمة والعدل وأَنَّه عصيان عن النظم وهما :
1 ـ النَّظرة إلى الأَشياء من منظر الأنانيّة وتناسي سائر الموجودات.
2 ـ تصوّر أنَّ الشرّ له عينيّة خارجيّة كالموصوف ، والغفلة عن أَنَّه أمرٌ عدمي يتوجّه إليه الذهن عند المقايسة.
وقد حان وقت البحث عن التحليل التربوي للشرور الذي يسهّل التصديق بعدم كون إيجادها على فرض كونها أموراً عينيّة في الخارج ـ لأجل هذه الآثار التربويّة ـ مخالفاً للحكمة والعدل.
البحث الثَّاني ـ التَّحليل التربوي لمسألة الشرور
إِنَّ لهذه الحوادث آثاراً تربويّة مهمّة في حياة البشر الماديّة تارةً ، وفي إزاحة الغرور والغفلة عن الضمائر والعقول ثانياً. ولأَجل هذه الفوائد صحّ إيجادها ، سواء قلنا بأنّ الشرّ موجود بالذات ، كما عليه المعترض ، أو موجود بالعَرَض ، كما حقّقناه.
وإليك فيما يلي توضيح هذه الآثار واحدة بعد الأخرى.
أ ـ المصائب وسيلة لتفجير الطَّاقات
إِنَّ البلايا والمصائب خير وسيلة لتفجير الطاقات وتقدّم العلوم ورقي الحياة البشريّة ، فها هم علماء الحضارة يصرّحون بأن أكثر الحضارات لم تزدهر إلّا في أَجواء الحروب والصراعات والمنافسات حيث كان الناس يلجأون فيها إلى استحداث وسائل الدفاع في مواجهة الأعداء المهاجمين ، أو إصلاح ما خرّبته الحروب من دمار وخراب. ففي مثل هذه الظروف تتحرّك القابليّات بجبران ما فات ، وتتميم ما نقص ، وتهيئة ما يلزم. وفي المثل السائر : « الحاجة أُمّ الإِختراع ».
و بعبارة واضحة : إِذا لم يتعرض الإِنسان للمشاكل في حياته فإن طاقاته ستبقى جامدة هامدة لا تنمو ولا تتفتح ، بل نموّ تلك المواهب وخروج الطاقات من القوّة إلى الفعليّة ، رهن وقوع الإِنسان في مهب المصائب والشدائد.
نعم ، لا ندَّعي بأنَّ جميع النتائج الكبيرة توجد في الكوارث وإنّما ندَّعي أَنَّ عروضها يُهيّء أَرضيّة صالحة للإِنسان للخروج عن الكسل. ولأجل ذلك ، نرى أنَّ الوالدين الذين يعمدان إلى إِبعاد أَولادهما عن الصعوبات والشدائد لا يدفعان إلى المجتمع إلّا أَطفالاً يهتزّون لكلّ ريح كالنبتة الغضّة أَمام كلّ نسيم.
وأمّا اللذان يُنشئان أولادهما في أجواء الحياة المحفوفة بالمشاكل والمصائب فيدفعان إلى المجتمع أَولاداً أَرسخ من الجبال في مهب العواصف.
قال الإِمام علي بن أبي طالب : « ألا إِنَّ الشَّجرَةَ البَرّيّة أَصْلَبُ عُوداً ، و الرَّوائِعَ الخَضِرَةَ أرَقُّ جُلوداً ، والنباتاتِ البَدَويَّة أَقوى وَقُوداً وأَبطَأُ خُموداً » (8).
وإلى هذه الحقيقة يشير قوله سبحانه : ( فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّـهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ) (9).
و قوله تعالى : ( فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ) (10).
و قوله تعالى : ( فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَىٰ رَبِّكَ فَارْغَب ) (11) أيّ تَعَرَّض للنَّصَب والتعب بالإِقدام على العمل والسعي والجهد بعدما فرغت من العبادة ، وكأنَّ النصر والمحنة حليفان لا ينفصلان وأَخوان لا يفترقان.
ب ـ المصائب و البلايا جرس إِنذار
إِنَّ التمتّع بالمواهب الماديَّة والإِستغراق في اللذائذ والشهوات يوجب غفلة كبرى عن القيم الأخلاقيّة ، وكلّما ازداد الإِنسان توغّلاً في اللذائذ والنعم ، ازداد ابتعاداً عن الجوانب المعنويّة. وهذه حقيقة يلمسها كلّ إِنسان في حياته وحياة غيره ، ويقف عليها في صفحات التاريخ. فإذن لا بدّ لأنتباه الإِنسان من هذه الغفلة من هزّة وجرس إِنذار يذكّره ويوقظ فطرته وينبّهه من غفلته. وليس هناك ما هو أَنفع في هذا المجال من بعض الحوادث التي تقطع نظام الحياة الناعمة بشيء من المزعجات حتّى يدرك عجزه ويتخلّى عن غروره ويخفّف من طغيانه. ونحن نجد في الكتاب العزيز التصريح بصلة الطغيان بإحساس الغِنى ، إذْ يقول عزّ وجلّ : ( كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ ) (11).
ولأجل هذا يعلّل القرآن الكريم بعض النوازل والمصائب بأَنّها تنزل لأَجل الذكرى والرجوع إلى الله ، يقول سبحانه : ( وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ) (12).
و يقول أيضاً : ( وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ) (13).
هكذا تكون البلايا والمصائب سبباً ليقظة الإِنسان و تذكرة له ، فهي بمثابة صفع الطبيب وجه المريض المبنّج لإِيقاظه ، الذي لولا صفعته لانقطعت حياة المريض.
فقد خرجنا بهذه النتيجة وهي أَنَّ التكامل الأَخلاقي رهن المحن والمصائب ، كما أنَّ التفتّح العقلي رهن البلايا والنوازل.
والإِنسان الواعي يتّخذها وسيلة للتخلّي عن الغرور ، كما يتّخذها سلماً للرقي إلى مدارج الكمال العلمي ، وقد لا يستفيد منها شيئاً فيعدّها مصيبة وكارثة في الحياة.
ج ـ البلايا سبب للعودة إلى الحقّ
إِنَّ للكون هدفاً ، كما أنَّ لخلق الإِنسان هدفاً كذلك ، وليس الهدف من خلقة الإِنسان إلّا أَنْ يتكامل ويصل إلى ما يمكن الوصول إِليه. وليس الهدف من بعث الأَنبياء وإِنزال الكتب إِلّا تحقيق هذه الغاية السامية. ولما كانت المعاصي والذنوب من أَكبر الأَسباب التي توجب بعد الإِنسان عن الهدف الذي خُلق من أَجله ، وتعرقل مسيرة تكامله ، كانت البلايا والمصائب خير وسيلة لإِيقاف الإِنسان العاصي على نتائج عتوه وعصيانه حتّى يعود إِلى الحقّ ويرجع إِلى الطريق الوسطى. وإِلى هذه النكتة يشير قوله سبحانه : ( ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) (14). ويقول سبحانه في آية الأخرى : ( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَـٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) (15).
د ـ البلايا سبب لمعرفة النّعم وتقديرها
إِنَّ بقاء الحياة على نمط واحد يوجب أنْ لا تتجلّى الحياة لذيذة محبوبة ، وهذا بخلاف ما إذا تراوحت بين المُرّ والحُلو والجميل والقبيح ، فلا يمكن معرفة السلامة إِلّا بالوقوف على العيب. ولا الصّحة إلّا بلمس المرض ، ولا العافية إِلّا عند نزول البلاء. ولا تدرك لذّة الحلاوة إِلّا بتذوّق المرارة.
فجمال الحياة وقيمة الطبيعة ينشئان من التنوّع والإِنتقال من حال إلى حال ومن وضع إلى آخر. ولأجل ذلك نلمس أَنَّ خالق الطبيعة جعل الوديان إلى جانب الجبال ، والأَشواك جانب الورود ، والثّمار المرّة جَنْب الحلوة ، والماء الأَجاج جَنْب العَذْب الفُرات ، إلى غير ذلك من مظاهر التضادّ والتباين التي تضفي على الطبيعة بهاءً وجمالاً ، وكمالاً وجلالاً.
هذه هي الآثار التربويّة للمصائب والبلايا ، وتكفي في تسويغ نزولها ، وتبرير تحقيقها في الحياة البشريّة.
البلايا المصطنعة للأَنظمة الطاغوتيّة
إِنَّ هناك من المِحَن ما ينسبه الإِنسان الجاهل إلى خالق الكون ، والحال أنَّها من كسب نفسه ونتيجة منهجه. بل الأَنظمة الطاغوتيّة هي التي سببت تلك المحن وأوجدت تلك الكوارث ، ولو كانت هناك أنظمة قائمة على قيم إلهيّة لما تعرض البشر لتلك المحن.
فالتقسيم الظالم للثروات هو الذي صار سبباً لتجمّع الثروة عند ثلّة قليلة ، وانحسارها عن جماعات كثيرة ، كما صار سبباً لتمتّع الطائفة الأولى بكلّ وسائل الوقاية والحماية من الأَمراض والحوادث وحرمان الطائفة الثانية منها. فهذه البلايا المصطنعة خارجة عن إطار البحث ، فلا تكون موقظة للفكر ولا مزكيّة للنفوس ، بل تهيّء أَرضيّة صالحة للإِنتفاضات والثورات.
إلى هنا خرجنا بهذه النتيجة وهي أَنَّ الظواهر غير المتوازنة بحسب النظرة السطحيّة متوازنة بالقياس إلى مجمل النّظام ولها آثار اجتماعيَّة وتربويَّة ولا مناص في الحياة البشريَّة منها فلا تعد مناقضة للنَّظْم السائد ولا لحكمة الخالق ولا لعدله وقسطه سبحانه وتعالى.
الهوامش
1. الأسفار ، ج 7 ، ص 68.
2. سورة آل عمران : الآية 191.
3. سورة الإِسراء : الآية 85.
4. سورة الروم : الآية 7.
5. على أطلال المذهب المادي ، ج 1 ، ص 136.
6. الأسفار الأربعة ، ج 7 ، ص 62.
7. سورة طة : الآية 50.
8. نهج البلاغة ـ خطبة 45.
9. سورة النساء : الآية 19.
10. سورة الانشراح : الآيتان 5 و 6.
11. سورة الانشراح : الآيتان 7 و 8.
12. سورة العَلَق : الآيتان 6 و 7.
13. سورة الأعراف : الآية 94.
14. سورة الأعراف : الآية 130.
15. سورة الروم : الآية 41.
16. سورة الأعراف : الآية 96.
مقتبس من كتاب : [ الإلهيات على هدى الكتاب والسنّة والعقل ] / المجلّد : 1 / الصفحة : 273 ـ 286
التعلیقات