هل الإعجاز يخالف أصل العليّة؟
المصدر : الإلهيات على هدى الكتاب والسنّة والعقل : للشيخ جعفر السبحاني ، ج3 ، ص 73 ـ 74
( 73 )
الجهة الثانية
هل الإعجاز يخالف أصل العليّة؟
إنّ بديهة العقل تحكم بأنّ كلّ ظاهرة إمكانية ، تحتاج في تحققِها إلى علّة ،
وهذا أمر لم يختلف فيه إثنان ، وعليه أساسُ التجربة والبحث العلمي ، فإنّ العلماء
ـ في المختبرات وغيرها ـ يبحثون عن علل تكوّن الظواهر ، وموجداتها ، فشأنهم
كشفُ الروابط بين العلل المادية ومعاليلها ، هذا من جانب.
ومن جانب آخر ، إنّ الكتب السماوية ، والسِيَر التاريخية ، تَنْسِبُ إلى
الإنبياء ، أموراً لا تتفق بظاهرها مع هذا الأصل ، فتنسب إلى موسى
ـ عليه السَّلام ـ : أنّه ألقى عصاه الخشبية الصمّاء ، فانقلبت حيّةً تسعى . وأنّ المسيح
ـ عليه السَّلام ـ كان يمسح بيده على المرضى فيبرؤن . وأنّ الحصى سبّحت في كفّ
النبي الأعظم ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ، وغير ذلك من المعاجز . والإعتقاد بهذه لا
يجتمع مع قبول الأصل العقلي المذكور ؛ لأنّ الثعبان يتولد من البيضة بعد مرورها
بمراحل عديدة من الإنفعالات الداخلية . وإزالة المرض وعود الصحة ، رهن
استعمال الأدوية وإجراء العمليات الجراحية ، والتسبيح نوع تكلم يحتاج إلى
حنجرة وفم ولهوات ، يقوم به العاقل . وهكذا .
وعلى الجملة ، فظهور المعاجز على مسرح الوجود ، مع عدم علل مادية
تُظْهِرُها ، يُعَدُّ خرقاً لقانون العلية ، وقول بتحقق المعلول بلا علّة.
________________________________________
( 74 )
الجواب
إنّ المعترض خَلَطَ بين عدم وجود العلّة المادية الّتي اعتاد عليها الإنسان في
حياته ، وعدم العلّة على الإطلاق . فالذي يناقض قانون العلّية هو القول بأنّ
المعجزة ظاهرة اتفاقية ، لا تستند إلى علّة أبداً . وهذا ممّا لا يقول به أحد من
الإلهيين.
وأمّا القول بعدم وجود علّة مادية متعارفة للمعجزة ، فليس هو بإنكار
لقانون العلية على الإطلاق ، ونفياً للعلّة من الأساس ، وإنّما هو نفي دور وتأثير قسم
خاص من العلل ، ونفي الخاص لا يكون دليلاً على نفي العام.
وهذا القسم الخاص من العلل ، المنفي في مورد المعجزة ، هو العلل المادية
المتعارفة الّتي أنس بها الذهن ، ووقف عليها العاِلم الطبيعي ، واعتاد الإنسان على
مشاهدتها في حياته ، ولكن لا يمتنع أن يكون للمعجزة علّة أخرى لم يشاهدها
الناس من قبل ، ولم يعرفها العلم ، ولم تقف عليه التجربة . وبعبارة أخرى :
كون المعجزة معلولاً بلا علّة شيءٌ ، وكونها معلولةٌ لعلّة غير معروفة للناس والعلمِ
شيءٌ آخر . والباطل هو الأوّل ، والمُدَّعى هو الثاني ، وسيوافيك الكلام فيه في
الجهة الثالثة.
* * *
التعلیقات