الإعجاز
الشيخ جعفر السبحاني
منذ 15 سنةطرق إثبات النبوة
(1)
الإعجاز
إتفق المتكلمون قاطبة على أنّ الإعجاز دليل قطعي على صدق مدّعي
النبوة ، وصلته بالخالق تعالى . ولما كان الإعجاز من المسائل المهمة في باب النبوة ،
استدعى ذلك بسطاً في الكلام ، فيقع البحث عن الجهات التالية :
الجهة الأولى ـ ما هي حقيقة الإعجاز وكيف نعرّفه ؟ .
الجهة الثانية ـ هل الإعجاز يخالف القوانين العقلية ؟ .
الجهة الثالثة ـ ما هي العلة المحدثة للمعجزة ؟ .
الجهة الرابعة ـ هل الإعجاز يضعضع أصول التوحيد ؟ .
الجهة الخامسة ـ كيف يفسّر المتجدّدون من المسلمين معجزات الأنبياء ؟ .
الجهة السادسة ـ كيف يعدّ الإعجاز دليلاً على صدق دعوى النبوة ؟ .
الجهة السابعة ـ هل حرم الإنسان المعاصر من المعاجز والكرامات ؟ .
الجهة الثامنة ـ بماذا تميّز المعجزة عن سائر خوارق العادات كالسحر
والكهانة ؟ .
هذه رؤوس المطالب المهمة في هذا البحث ، وإذا وقف الباحث على
أجوبتها ، تتجلى عنده المعجزة بصورة دليل قاطع على صدق مدعي النبوة ، كما
يتبيّن له أنّ القول بالإعجاز ممّا يؤيده العلم والفلسفة ، وليس وليد الوهم
والجهل . وإليك فيما يلي البحث عنها ، الواحدة تلو الأخرى .
الجهة الأولى
تعريف المعجزة
المشهور في تعريف المعجزة أنّها (1) : « أمر خارق للعادة ، مقرون
بالتحدي ، مع عدم المعارضة » (2) .
وبما أنّ الإعجاز يفارق الكرامة في أنّ الأول يكون مقروناً بدعوى النبوة
بخلاف الكرامة ، فيجب أن يضاف قيد : « مع دعوى النبوة » إلى التعريف ،
ولعلهم استغنوا عنه بقيد « التحدي » . وإليك توضيح هذا التعريف .
1 ـ الإعجاز خارق للعادة وليس خارقاً للعقل
إنّ هناك من الأمور ما تعدّ خارقة للعقل ، أي مضادة لحكم العقل الباتّ ،
كاجتماع النقيضين وارتفاعهما ، ووجود المعلول بلا علّة ، وانقسام الثلاثة إلى
عددين صحيحين . . . فإنّ هذه أمور يحكم العقل باستحالتها وامتناع تحققها .
__________________
(1) شرح التجريد ، لنظام الدين القوشجي ، ص 465 .
(2) وقد عرف المحقق الطوسي الإعجاز بقوله : « هو ثبوت ما ليس بمعتاد ، أو نفي ما هو معتاد ، مع
خرق العادة ومطابقة الدعوى » ، ( كشف المراد ص 218 ، طبعة صيدا ـ 1353 ه ) . ولا
تخفى المناقشة في هذا التعريف لزيادة قوله مع « خرق العادة » ، للاستغناء عنه بقوله : « ما ليس
بمعتاد ، أو نفي ما هو معتاد » . أضف إلى ذلك أنّه ترك بعض القيود اللازمة فيه . والتعريف الذي
ذكرناه أكمل منه .
وهناك أمور تخالف القواعد العادية ، بمعنى أنّها تعدّ محالاً حسب الأدوات
والأجهزة العادية ، والمجاري الطبيعية ، ولكنها ليست أمراً محالاً عقلاً لو كان
هناك أدوات أخرى خارجة عن نطاق العادة ، وهي المسماة بالمعاجز . ولأجل
تقريب ما ذكرنا تمثّل ببعض الأمثلة :
مثال أوّل : جرت العادة على أنّ حركة جسم من مكان إلى مكان آخر
تتحقق في إطار عوامل وأسباب طبيعية بدائية أو وسائل صناعية متحضرة . ولكن
لم تعرف العادة أبداً حركة جسم كبير من مكان إلى مكان آخر بعيد عنه ، في فترة
زمانية لا تزيد على طرفة العين ، بلا تلك الوسائط العادية . ولكن هذا غير ممتنع
عقلاً ، إذ لا يمتنع أن تكون هناك أسباب أخرى لتحريك هذا الجسم الكبير ، لم
يقف عليها العلم بعد .
ومن هذا القبيل قيام من أُوتي علماً من الكتاب بإحضار عرش بلقيس ،
ملكة سبأ ، من بلاد اليمن إلى بلاد الشام ، في طرفة عين ، بلا توسط شيء من
الأجهزة المادية المتعارفة ، بل بأسباب غيبية كان مطّلعاً عليها . فعمله هذا الخارق
للعادة ، غير خارق للعقل لما ذكرنا ، وهو معجزة .
مثال ثان : إنّ معالجة الأمراض الصعبة كالسِّل والعَمَى ، أمر ممكن لذاته
عقلاً ، ولكنه كان أمراً محالاً عادة في القرون السالفة ، لقصور علم البشر عن
الوقوف على الأجهزة والأدوية التي تعيد الصحة إلى المسلول ، والبصر إلى
الأعمى . ومع تقدم العلم تذلّلت الصعاب أمام معالجة هذه الأمراض ، فصار
بإمكان الطبيب الماهر القيام بالمعالجة عن طريق الأدوية والعمليات الجراحية .
وفي المقابل هناك طريقة أخرى للعلاج ، وهي الدعاء والتوسّل إلى الخالق
تعالى .
والعلاج ـ بكلا الطريقتين ـ يشترك في كونه أمراً ممكناً عقلاً ، غير أنّه يختلف
في الطريقة الأولى عن الثانية ، بالطريق والسبب ، فالطبيب الماهر يصل إلى غايته
بالأجهزة العادية ، فلا يعد عمله معجزة ولا كرامة ، والنبي ـ كالمسيح وغيره ـ
يصل إلى نفس تلك الغاية عن طريق غير عادي ، فيسمى معجزة .
فالعمل في كلتا الصورتين غير خارق لأحكام العقل ، إلّا أنّه موافق للعادة
في الأولى دون الثانية .
وقس على ما ذكرنا كثيراً من الأمثلة يتميز فيها خارق العادة عن خارق
العقل .
2 ـ الإِعجاز يجب أن يكون مقترناً بالدعوى
هذا هو القيد الثاني لتحديد حقيقة الإعجاز ، ويهدف إلى أنّ خَرْق العادة لا
يسمى إعجازاً إلّا بالإتيان به لأجل إثبات دعوى السفارة والنبوة ، فإذا تجرّد عنها
يسمى كرامة .
وقد نقل سبحانه في الذكر الحكيم كرامة لمريم عليها السلام ، في قوله عزّ
من قائل : ( كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا ، قَالَ يَا مَرْيَمُ
أَنَّىٰ لَكِ هَـٰذَا ، قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّـهِ ، إِنَّ اللَّـهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ
حِسَابٍ ) (1) .
وهذا الأمر ( حضور الرزق بلا سعي طبيعي ) لم يكن مقترناً بدعوى المقام
والمنصب الرسالي ، فلا يوصف بالإعجاز بل بالكرامة . وهكذا الحال فيما يقوم به
الأولياء والصلحاء من عظام الأمور الخارقة للعادة ، فإنّها توصف بالكرامة .
3 ـ عجز الناس عن مقابلته
هذا هو القيد الثالث في تحديد حقيقة الإعجاز ، وهو ينحلّ إلى أمرين :
الأول ـ دعوة الناس إلى المقابلة والمعارضة ، وطلب القيام بمثله .
الثاني ـ عجز الناس كلهم عن الإتيان بمثله .
وإلى كلا الأمرين أشير في التعريف بلفظ « التحدي » . ويترتب على هذا أنّ
__________________
(1) سورة آل عمران : الآية 37 .
ما يقومُ به كبارُ الأطباء والمخترعين من الأمور المعجبة ، خارجٌ عن إطار الإعجاز ،
لانتفاء الأمرين فيهما . كما أنّ ما يقومُ به السحرة والمرتاضون من الأعمال المدهشة ،
لا يُعَدّ معجزاً لانتفائهما أيضاً ، خصوصاً الأمر الثاني ، لقيام المرتاض الثاني بمثل
ما قام به المرتاض الأول ، بل بأعظم منه .
4 ـ أن يكون عمله مطابقاً لدعواه
لا بدّ من هذا القيد في صدق الإعجاز على فعل المدعي . فلو خالف ما
ادّعاه لما سمّي معجزة ، وإن كان أمراً خارقاً للعادة . وذلك كما حصل مع مسيلمة
الكذّاب عندما ادّعى أنّه نبي ، وآية نبوته أنّه إذا تفل في بئر قليلة الماء ، يكثر
ماؤها : فتفل فغار جميع مائها .
وقد كان من أفاعيله ـ الدالّة على كذب دعواه ـ أنّه أمَرٍّ يده على رؤوس
صبيان بني حنيفة ، وحنّكهم ، فأصاب القرع كلّ صبيٍّ مَسَحَ على رأسه ، ولَثَغَ
كُلُّ صبيٍّ حَنَّكَهُ (1) .
__________________
(1) لاحظ تفصيل هذه الوقائع في تاريخ الطبري ، ج 2 ، ص 507 .
الجهة الثانية
هل الإعجاز يخالف أصل العليّة ؟
إنّ بديهة العقل تحكم بأنّ كلّ ظاهرة إمكانية ، تحتاج في تحقُّقِها إلى علّة ،
وهذا أمر لم يختلف فيه إثنان ، وعليه أساسُ التجربة والبحث العلمي ، فإنّ العلماء
ـ في المختبرات وغيرها ـ يبحثون عن علل تكوّن الظواهر ، وموجداتها ، فشأنهم
كشفُ الروابط بين العلل المادية ومعاليلها ، هذا من جانب .
ومن جانب آخر ، إنّ الكتب السماوية ، والسِيَر التاريخية ، تَنْسِبُ إلى
الأنبياء ، أموراً لا تتفق بظاهرها مع هذا الأصل ، فتنسب إلى موسى
عليه السلام : أنّه ألقى عصاه الخشبية الصمّاء ، فانقلب حيّةً تسعى . وأنّ المسيح
عليه السلام كان يمسح بيده على المرضى فيبرؤن . وأنّ الحصى سبّحت في كفّ
النبي الأعظم صلى الله عليه وآله ، وغير ذلك من المعاجز . والإعتقاد بهذه لا
يجتمع مع قبول الأصل العقلي المذكور ، لأنّ الثعبان يتولد من البيضة بعد مرورها
بمراحل عديدة من الإنفعالات الداخلية . وإزالة المرض وعود الصحة ، رهن
استعمال الأدوية وإجراء العمليات الجراحية ، والتسبيح نوع تكلم يحتاج إلى
حنجرة وفم ولهوات ، يقوم به العاقل . وهكذا .
وعلى الجملة ، فظهور المعاجز على مسرح الوجود ، مع عدم علل مادية
تُظْهِرُها ، يُعَدُّ خرقاً لقانون العلية ، وقول بتحقق المعلول بلا علّة .
الجواب
إنّ المعترض خَلَطَ بين عدم وجود العلّة المادية التي اعتاد عليها الإنسان في
حياته ، وعدم العلّة على الإطلاق . فالذي يناقض قانون العلّية هو القول بأنّ
المعجزة ظاهرة إتفاقية لا تستند إلى علّة أبداً . وهذا مما لا يقول به أحد من
الإلهيين .
وأمّا القول بعدم وجود علّة مادية متعارفة للمعجزة ، فليس هو بإنكار
لقانون العلية على الإطلاق ونفياً للعلّة من الأساس ، وإنّما هو نفي دور وتأثير قسم
خاص من العلل ، ونفي الخاص لا يكون دليلاً على نفي العام .
وهذا القسم الخاص من العلل ، المنفي في مورد المعجزة ، هو العلل المادية
المتعارفة التي أنس بها الذهن ، ووقف عليها العالِم الطبيعي ، واعتاد الإنسان على
مشاهدتها في حياته . ولكن لا يمتنع أن يكون للمعجزة علّة أخرى لم يشاهدها
الناس من قبل ، ولم يعرفها العلم ، ولم تقف عليه التجربة ، وبعبارة أخرى ،
كون المعجزة معلولاً بلا علّة شيءٌ ، وكونها معلولةٌ لعلّة غيرِ معروفةٍ للناس والعلمِ
شيءٌ آخر . والباطل هو الأول ، والمُدّعى هو الثاني ، وسيوافيك الكلام فيه في
الجهة الثالثة .
الجهة الثالثة
ما هي العلةُ المحدثةُ للمعجزة ؟
قد وقفت في الجهة السابقة على أنّ القولَ بالمعاجز لا يضعضع أصل
العِلّية ، وأنّ عدم العلّة العادية في موردها لا يدلّ على تحقق المعاجز بلا علّة
أصلاً ، بل لها علّة غير معروفة بين العلل التي يشاهدها الإنسان . والكلام في هذه
الجهة يقع في تعيين تلك العلة ، وفيها أقوال واحتمالات :
القول الأول ـ إنّها الله سبحانه
ربما يحتمل أن تكون العلّة هي الله سبحانه ، وأنّه يقوم بإيجاد المعاجز
والكرامات مباشرة من دون توسط علل وأسباب . فكما هو أوجد المادة الأولى
وأجرى فيها عللاً وأنظمة ، قام في فترات خاصة بخلقِ الثعبان من العصا
الخشبية ، وتفجير الماء من الصخور الصَّمَّاء . . . وغير ذلك من خوارق الطبيعة
والعادة .
ولكن هذا ـ وإن كان أمراً ممكناً ، لعموم قدرته تعالى على كل شيء ممكنٍ
بذاته ـ إلّا أنّه على خلاف ما عرفناه من الربّ تعالى من سنته التي أجراها في
الكون ، وهي أن يكون لكل شيءٍ سبباً وعلّة . ومن البعيد أن يخالف تعالى سنته
في مجال المعاجز (1) .
__________________
(1) هذا ، على أنّ انتساب الحوادث المتجددة المتقضية بلا واسطة علل وأسباب ، إلى الله تعالى المُنَزَّه عن =
القول الثاني ـ إنّها علل مادية غير متعارفة
وهنا احتمال ثان ، وهو أن تكون العلّة المحدثة للمعجزة ، علة مادية غير
متعارفة ، اطّلع عليها الأنبياء في ظلّ اتصالهم بعالم الغيب . ولا بُعْدَ في أن يكون
للشيء علتان ، إحداهما يعرفها الناس ، والثانية يعرفها جمع خاص فيهم . ويمكن
تقريب ذلك بملاحظة إثمار الأشجار ، فإنّ له علة مادية يعرفها الزارع العادي ،
فتثمر في ظل تلك العلة بعد عدّة أعوام . وهناك خبراء من مهندسي الزراعة
واقفون على خصوصيات في التربة والأشجار والبيئة والمياه وغير ذلك ، توجب إثمار
الأشجار في نصف تلك المدة مثلاً . فإذا كان هذا ملموساً لنا في الحياة ، فلا
نستبعد أن يقف الأنبياء المتصلون بخالق الطبيعة . على أسرار ورموز فيها ،
يقدرون بها على إيجاد المعاجز .
ولكنه قول لا يدعمه دليل .
القول الثالث ـ إنّها الملائكة والموجودات المجردة
وهنا احتمال ثالث وهو أنّ المعاجز تتحقق بفعل الملائكة ـ التي يعرّفها القرآن
بـ « المدبّرات » (1) ، بأمر منه سبحانه ، عند إرادة النبي إثبات نبوته بها (2) .
__________________
= التجدد والحدوث ، ممّا لا تتقبله الأصول الفلسفية المبتنية على لزوم وجود السنخية بين العلّة
والمعلول ، سنخية ظلية لا توليدية . وهذا مفقود بينه سبحانه ، والزمان والزمانيات التي طبعت
على التجدد والتقضّي . وهذا هو البحث الذي طرحه الفلاسفة عند بحثهم عن ارتباط الحادث
بالقديم ، وهو من مشكلات البحوث الفلسفية .
ولا ينافي هذا عموم القدرة ، فإنّ عمومها أمر ثابت ومسلّم ، إلّا أنّ الشيء ربما لا يقبل الوجود إلّا
عن طريق أسباب وعلل مادية ، أي يكون وجوده على نحو لا يتحقق إلّا في ظل علل مادية . وهذا
ـ من باب التقريب ـ كالأرقام الرياضية ، فإنّ العدد خمسة ـ بوصف أنّه خمسة ـ لا يتحقق إلّا بعد
تحقق الأربعة ، ويستحيل تحققه ـ بهذا الوصف ـ استقلالاً بلا تحقق آحاد قبله . وهذا كصدور
الأكل من إنسان معين ، فإنّ الأكل يتوقف على وجود أسباب وأدوات مادية ، كالفم واللسان
والأسنان ، وعملية المضغ ثم البلع . وهذا النوع من الفعل لا يمكن أن ينسب إلى الله سبحانه نسبة
مباشرية ، وإنّما ينسب إليه دائماً نسبة تسبيبيّة ، لأن ماهيته محاطة بالأمور المادية .
(1) وهو قوله تعالى في سورة النازعات : ( فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا ) الآية 5 .
(2) ولعلّ من هذا القبيل تمثل الروح الأمين على السيدة مريم ، كما في قوله سبحانه : ( فَاتَّخَذَتْ مِن
دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا ) ( سورة مريم : الآية 17 ) .
القول الرابع ـ إنّها نفس النبي وروحُه
وذهب إلى هذا جمع من الفلاسفة والمحققين ، وإدراك صحته يتوقف على
معرفة القدرة العظيمة التي تمتلكها النفس البشرية ، فنقول :
إنّ الإنسان كلّما ازداد توجهاً إلى باطنه ، وانقطاعاً عن الظواهر المادية
المحيطة به ، كلما تفجّرت مكامن قدرات نفسه وتأجّج أوار طاقاتها ، وبالعكس ،
كلما ازداد انغماساً في دركات الملذات ، وإشباع الغرائز ، كلما خمدت طاقاتها
وانطفأت قدراتها .
ويدلّنا على ذلك عياناً ، ما يقوم به المرتاضون (1) من خوارق الأفعال
وعجائبها : فيرفعون الأجسام الثقيلة التي لا يتيسر رفعها إلّا بالرافعات الآلية ،
بمجرد الإرادة . ويستلقون على المسامير الحادة ثم تكسر الصخور الموضوعة على
صدورهم ، بالمطارق ، ويدفنون في الأرض أياماً ، ليقوموا بعدها أحياءً . وغير
ذلك مما يراه السائح في بلاد الهند وغيرها ، وتواتر نقله في وسائل الإعلام كالجرائد
والمجلات والإذاعات . وكل ذلك دليل قاطع على أنّ في باطن الإنسان قوى عجيبة
لا تظهر إلّا تحت شرائط خاصة .
وبعبارة واضحة ، إنّ نفس الإنسان كما تسيطر على أعضاء البدن ، فتنقاد
لإرادتها ، وتتحرك قياماً وجلوساً بمشيئتها ، فكذلك تسيطر ـ في ظل تلك الظروف
الخاصة ـ على موجودات العالم الخارجي ، فتقودها بإرادتها ، وتخضعها لمشيئتها ،
وتَقْدِرُ ، بمجرد الإرادة ، على إبطال مفعول العلل المادية في مقام التأثير ، وغير
ذلك من الأفعال .
وليس القيام بعجائب الأمور من خصائص المرتاضين ، بل إنّ هناك أُناساً
مثاليين ، أفنوا أعمارهم في سبل العبادة ومعرفة الربّ ، بلغوا إلى حدّ قدروا معه
على خرق العادة والمجاري الطبيعية .
__________________
(1) والرياضة هي التوجّه إلى الباطن والإنقطاع عن الظاهر .
يقول الشيخ الرئيس في هذا المجال : « إذا بلغك أنّ عارفاً أطاق بقوته
فعلاً ، أو تحريكاً ، أو حركة تخرج عن وسع مثله ، فلا تتلقه بكل ذلك
الإستنكار ، فلقد تجد إلى سببه سبيلاً في اعتبارك مذاهب الطبيعة . . . وإذا بلغك
أنّ عارفاً حدّث عن غيب فأصاب ، متقدماً ببشرى أو نذير ، فصدّق ولا يتعسّرن
عليك الإيمان به ، فإنّ لذلك في مذاهب الطبيعة أسباباً معلومة » (1) .
ويقول صدر المتألّهين : « لا عجب أن يكون لبعض النفوس قوة إلهية ،
فيطيعها العنصر في العالم المادي ، كإطاعة بدنه إياها . فكلّما ازدادت النفس تجرّداً
وتشبّهاً بالمباديء القصوى ، إزدادت قوةً وتأثيراً فيما دونها .
فإذا صار مجرّدُ التصوّر سبباً لحدوث هذه التغيرات ( طاعة البدن للنفس )
في هيولىٰ البدن ، لأجل علاقة طبيعية وتعلّق جبلّي لها إليه ، لكان ينبغي أن يؤثّر في
هيولىٰ العالم مثل هذا التأثير ، لأجل اهتزازٍ علويٍّ للنفس ، ومحبة إلهية لها ، فتؤثّر
نفسه في الأشياء » (2) .
ويدلّ على أنّ خوارق العادة رهن فعل النفس الإنسانية ، ما ينقله تعالى من
أفعال السحرة الواقعة بإذنه تعالى ، وذلك في قوله عزّ من قائل : ( فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا
مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّـهِ ) (3) .
وهناك من الآيات ما هو أصرح منها في نسبة الخوارق إلى أصحاب النفوس
القوية ، كما ورد في أحوال سليمان النبي عند ما طلب من الملأ إحضار عرش ملكة
سبأ من اليمن إلى فلسطين قبل أن يأتوه مسلمين . فقال عفريت من الجن إنّه قادر
على حمله والإتيان به قبل انفضاض مجلس سليمان ، ولكن مَنْ كان عنده عِلْمٌ من
الكتاب قال إنّه قادر على الإتيان به قبل أن يرتد طَرْفُ سُلَيْمانَ إليه ، وبالفعل ،
بأسرع من لمح البصر ، كان العرش ماثلاً أمامه .
__________________
(1) الإشارات والتنبيهات ، مع شرح المحقق الطوسي ج 3 ص 397 . وبعدها أخذ الماتن والشارح
ببيان قدرة النفس على الأمور الخارقة للعادة .
(2) المبدأ والمعاد ، ص 355 ـ بتصرف .
(3) سورة البقرة : الآية 102 .
يقول سبحانه : ( قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي
مُسْلِمِينَ قَالَ عِفْرِيتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ
لَقَوِيٌّ أَمِينٌ قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ
طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَـٰذَا مِن فَضْلِ رَبِّي . . . ) (1) .
بعد هذا كلّه نقول : إذا كان هذا حال الإنسان العادي الذي لم يطرق إلّا
باب الرياضة ، أو العارف الذي قام بالفرائض واجتنب المحرمات ، فكيف بمن
وقع تحت عناية الله سبحانه ورعايته الخاصة ، وتعليم ملائكته ، إلى أن بلغت نفسُه
أعلى درجات القوة والمقدرة ، إلى حدّ يقدر ـ بإرادة ربّانية ـ على خلع الصور عن
المواد وإلباسها صوراً أُخرى ، ويَصِيرَ عالمُ المادة مطيعاً له ، إطاعة أعضاءِ بدن
الإنسان له .
وفي الذكر الحكيم إشارات إلى هذا المعنى حيث ينسب تعالى الإتيان بالمعجزة
إلى نفس الرسول بقوله : ( مَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّـهِ ) (2) .
فإنّ الفاعل في « يأتي » هو الرسول المتقدّم عليه .
وقد يؤيّد هذا الإحتمال بما ورد في توصيف الأنبياء بأنّهم جند الله ، وأنّهم
منصورون في مسرح التحدي ومقابلة الأعداء . قال سبحانه : ( وَلَقَدْ سَبَقَتْ
كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ) (3) .
وكون النبي منصوراً في جميع المواضع ، ومنها مواضع التحدي ، يَدُلّ على أنّ له
دوراً ودخالة في الإتيان بخوارق العادات .
ونظير ذلك قوله سبحانه : ( كَتَبَ اللَّـهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ) (4) ، فوصف
النبي صلى الله عليه وآله بكونه غالباً ، ولا معنى للغالبية إلّا لدخالته في مواضع
التحدي .
__________________
(1) سورة النمل : الآيات 38 ـ 40 .
(2) سورة غافر : الآية 78 .
(3) سورة الصافات : الآيات 171 ـ 173 .
(4) سورة المجادلة : الآية 21 .
ولا دليل على اختصاص الآيتين بالمغازي والحروب ، بل إطلاقهما يدلّ على
كونهم منصورين وغالبين في جميع مواقع المقابلة ، سواء أكانت محاجة أو تحدّياً
بالإعجاز ، أو حرباً وغزواً .
وهذا الفعل العظيم للنفوس ، إنّما يقع بأمره تعالى وتأييده ، ولذا كانت
تحصل لهم الغلبة في موارد المجابهة ؛ قال تعالى : ( فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَىٰ مَا جِئْتُم
بِهِ السِّحْرُ ، إِنَّ اللَّـهَ سَيُبْطِلُهُ ، إِنَّ اللَّـهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ ) (1) .
فهذه الآيات العامة المتقدمة ، تدلّ بظهورها على كون الفاعل للمعاجز
والكرامات ، نفوس الأنبياء وأرواحهم ، بإذن الله سبحانه .
وهناك آيات أخرى خاصة ، تسند إلى خصوص بعض الأنبياء خوارق
العادة ، بل ائتمار الكون بأمرهم .
قال تعالى : ( وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي
بَارَكْنَا فِيهَا ، وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ ) (2) .
وأنت إذا أمعنت في قوله : ( بِأَمْرِهِ ) ، ينكشف لك الستار عن وجه
الحقيقة ، ويظهر لك أنّ إرادته كانت نافذة في لطائف أجزاء الكون .
وقال تعالى في المسيح عيسى بن مريم : ( أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ
الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّـهِ ، وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ ، وَأُحْيِي الْمَوْتَىٰ
بِإِذْنِ اللَّـهِ ) (3) .
ويقول تعالى أيضاً : ( وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي ، فَتَنفُخُ فِيهَا
فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي ، وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي ، وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِي ) (4) .
فترى أنّ الآية تنصّ على أنّ نفخ الروح في الهيكل الطيني للطير ، رهن طاقة
__________________
(1) سورة يونس : الآية 81 .
(2) سورة الأنبياء : الآية 81 .
(3) سورة آل عمران : الآية 49 .
(4) سورة المائدة : الآية 110 .
المسيح البشرية ، وكذلك إبراء الأكمه والأبرص ، وإحياء الموتى ، وكل ذلك بإذن
الله تعالى ومشيئته .
وبعد هذا كله ، أيبقى شك في قدرة الأنبياء الشخصية على خرق العادة ،
وتكييف الطبيعة حسب ما يريدون ؟ .
بل ماذا يفهم الإنسان إذا قرأ هذه الآية ـ التي تنقل مخاطبة يوسف
عليه السلام إخوتَه ـ : ( اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَـٰذَا فَأَلْقُوهُ عَلَىٰ وَجْهِ أَبِي يَأْتِ
بَصِيرًا . . . ) (1) .
والآية التالية تبين نتيجة أمره : ( فَلَمَّا أَن جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَىٰ وَجْهِهِ فَارْتَدَّ
بَصِيرًا . . . ) (2) .
فما هو العامل المؤثّر في استرجاعه بَصَرَهُ ، بعد ما ابيضت عيناه من
الحزن ؟ .
هل هو قميص الملطخ بالدم ؟ أو حامل البشارة والقميص ؟ (3) .
ليس هذا ولا ذاك ، بل هو نفس إرادته الزكية المؤثّرة بإذن الله ، وعندما
تقتضي المصلحة الإلهية ذلك . وإنّما توسّل بالقميص ليعلم أنّه هو القائم بذلك .
فاتّضح من جميع ما ذكرناه من الآيات والشواهد أنّ للمعجزة علّةً إلهيةً
متمثلةً في نفوس الأنبياء وإرادتهم القاهرة . وليست إرادتهم هذه فوضوية ، وإنّما
لظهورها ظروف وشرائط خاصة سيأتي بيانها بإذنه تعالى .
__________________
(1) سورة يوسف : الآية 93 .
(2) سورة يوسف : الآية 96 .
(3) في الروايات ، أنّ حامله كان أحد إخوته .
الجهة الرابعة
هل الإعجاز يضعضع برهان النظم ؟
إنّ برهان النَّظم من أوضح الأدلة على أنّ العالم مخلوق لصانع عالم قادر .
حيث إنّ النظام الدقيق السائد على كل ظاهرة وجزء من ظواهر الكون وأجزائه
كاشف عن دخالة قدرة كبرى وعلم عظيم في تحققه وتكوّنه . هذا من جانب .
ومن جانب آخر ، إنّ المعجزات ـ كما تقدّم ـ خارقة للعادة والسنن السائدة
في هذا النظام ، فهي تعدّ استثناء فيه ونوع مخالفة له . فالوليد الإنساني ـ مثلاً ـ
يتكوّن بعد التقاء نطفة الرجل وبويضة المرأة ، فتتشكل منهما الخلية الإنسانية ، ثم
تمرّ بعد ذلك بمراحل التفاعل والتكامل ، ليخرج بعدها من بطن الأم موجوداً سويّاً
متكاملاً .
والقول بأنّ المسيح ـ عليه السلام ـ ولد بلا سيادة هذا النظام ، بل بمجرد
نفخ المَلَك في رحم مريم ـ عليها السلام ـ خرق لذاك النظام ، وهو كاشف عن عدم
كليته واطراده . أفبعد ذلك يمكن أن يستدلّ ببرهان النظم على وجود الصانع ؟ .
وبعبارة ثانية : إنّ النظم السائد على العالم كاشف عن دخالة المحاسبة
والتقدير في تكوّن كل شيء إنساناً كان أو حيواناً ، أرضياً كان أو أثيرياً . ولكن
خلق الثعبان فجأة من الخشب اليابس ، وخروج الناقة من الجبل الصخري
الأصم ، وما شابه ذلك ، ينفي وجود المحاسبة في تكوّن تلك الظواهر .
والجواب
إنّ المعترض لم يقف على أساس برهان النظم أولاً ، كما لم يقف على حقيقة
الإعجاز وماهيته ثانياً . ولذلك اعترض بأنّ القول بالإعجاز يخالف برهان النظم .
أمّا الأول ، فلأنّ المعترض تصوّر أنّ برهان النظم يبتني على وجود نظم
واحد بالعدد سائد على الجميع ، وقائم بمجموع الأشياء في العالم ، بحيث لو
شوهد خلاف النظم في جزء من أجزائه لبطل البرهان ، بحكم كونه واحداً بالعدد
غير قابل للانقسام .
ولكن الحقيقة خلاف ذلك ، فإنّ برهان النظم واحد بالنوع كثير بالعدد .
فهو يتمثّل ويتجسد في كل ذرة خاضعة في ذاتها للنظام . فتكون كل ذرة باستقلالها
حاملةً لبرهان النظم والدلالةِ على وجود الصانع القادر العليم ، من دون توقف في
دلالتها على سيادة النظم في الذرّات الأخرى .
وفي الحقيقة ، إنّ برهان النظم يتكثر عدداً بتكثر الذرات والأجزاء والظواهر
الخاضعة للنظام ، ولو فرض فقدان النظم في جزء وظاهرة ، أو أجزاء وظواهر ـ كما
يدعيه المعترض في مجال الإعجاز ـ لكفى وجود النظم في سائر الأجزاء والظواهر ،
في إثبات الصانع ، وإلى هذا يهدف القائل :
وفي كل شيء له آية
تدل على أنّه واحد
ففي كل خلية وعضو من الإنسان الواحد يتجسد برهان النظم ، ويتكثر
بتكثرها . فكيف إذا لاحظنا مجموع البشر والمخلوقات والكواكب والمجرّات . وكما
أنّ طغيان غُدَّة من النظام السائد على سائر الغدد في بدن الإنسان ، كما هو الحال
في السرطان ، لا يضرّ ببرهان النظم القائم بهذا الإنسان ، فكذلك الخروج عن
النظام في مجال الإعجاز ، لأغراض تربوية ، ولهداية الناس إلى اتصال النبي بعالم
الغيب ، فإنّه لا يؤثّر شيئاً في برهان النظم من باب أولى .
وأمّا الثاني ، فلأنّ الإعجاز ليس من الأمور المتوفرة في حياة الأنبياء ، بحيث
يكون النبي مصدراً له في كل لحظة وساعة ويوم ، ويكون خرق العادة وهدم
النظام شغله الشاغل . وإنّما يقوم به الأنبياء في فترات خاصة وحساسة لغايات
تربوية .
ثم إنّ النبي إذا أراد الإتيان بالمعجزة ، أطْلَعَ الناس مُسْبَقاً على أنّه سيقوم
بخرق العادة في وقت خاص . وهذا دالّ على وجود قوة قاهرة مسيطرة على العالم ،
تقوم كلما شاءت واقتضت الحكمة والمصلحة القدسية ، بخرق بعض النظم
والتخلّف عنها . فالعالم ، قَبْضُه وبَسْطُه ، وسنّ أنظمته وخرقها ، بيد خالقه ،
يفعل ما يشاء حسب المصالح .
وخلاصة البحث أنّ الإعجاز ليس خرقاً لجميع النظم السائدة على العالم ،
وإنّما هو خرق في جزء من أجزائه غير المتناهية الخاضعة للنظام والدالّة ببرهان النظم
على وجود الصانع . وأيضاً ، إنّ قيام الأنبياء بالإعجاز إنّما يحصل بعد اقترانه
بالإعلام المسبق ، حتى يقف الناظرون على أنّ خرق العادة وقع بإرادة ومشيئة القوة
القاهرة المسيطرة على الكون والمجرية للسنن والأنظمة فيه .
هذا كلّه ، مع أنّ الإعجاز ، وإن كان خرقاً للسنن العادية ، إلّا أنّه ربما
يقع تحت سنن أخرى مجهولة لنا معلومة عند أصحابها ، فهي تخرق النظام
العادي ، وتجري نظاماً آخر غير عادي ، لا يقلّ في نظمه عنه .
الجهة الخامسة
الإعجاز والمتجددون من المسلمين
الإيمان بالغيب عنصرٌ أساسيٌ في جميع الشرائع السماوية ، ولو انتزع هذا
العنصر عن الدين الإلهي ، لأصبح دستوره دستوراً عادياً شبيهاً بالدساتير
والأيديولوجيات المادية البشرية التي لا تمت إلى الخالق والمدبّر لهذا الكون بصلة .
ولأجل ذلك نرى أنّه سبحانه يَعُدّ الإيمان بالغيب في طليعة الصفات التي يتّصف بها
المتّقون إذ يقول ـ عزّ من قائل ـ : ( الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ، وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ ،
وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ) (1) .
وقد كان أصحاب الشرائع وأنصارها ، وفي مُقدِّمتهم علماء الإسلام ،
محتفظين بهذا الأصل ، معتصمين به أشدّ الإعتصام ، مؤكّدين عليه غاية التأكيد ،
باعتبار أنّه الفارق الجوهري بينها ، وبين الأنظمة البشرية .
ولكن ، من جانب آخر ، إنّ الحضارة المادية الحديثة ، اعتمدت على الحسّ
والتجربة ، وأعطت كل القيمة والوزن لما أيّدته أدوات المعرفة المادية .
وقد أدهشت هذه الحضارة ، جماعة من المفكرين المسلمين ، فوجدوا
أنفسهم في صراع عنيف بين الإيمان بالغيب ، باعتباره عنصرا أساسياً في الدين ،
ومبادىء الحضارة المادية التي لا تَعْتَبِر إلّا ما كان قائماً على الحسّ والتجربة ، فمن
__________________
(1) سورة البقرة : الآية 3 .
الجهة الأولى لم يجرؤا على إنكار ما هو خارج عن إطار أدوات المعرفة المادية
ـ كالمعاجز ـ لأنّهم مسلمون ، ومن الجهة الثانية لم يتجرؤا على التصريح بوجود
الملائكة والجن ، وبخرق المعاجز للسنن الطبيعية والأسباب المادية ، تحرزاً من رمي
الماديين إيّاهم بالخرافة ، والإيمان بما لا تؤيّده التجربة ولا يثبته الحسّ .
ولأجل ذلك سلكوا طريقاً وسطاً ، وهو تأويل بعض ما جاء في مجال
الغيب ، خصوصاً المعاجز والكرامات ، حتى يستريحوا بذلك من هجمة الماديين ،
ويرضوا به طائفة المتدينين .
وممّن سلك هذا الطريق الشيخ محمد عبده (1) في مناره ، والطنطاوي (2) في
جواهره ، وتلامذة منهجهما . فمن وقف على كلا التفسيرين في المواضع التي يُحدّث
القرآن فيها عن معاجز الأنبياء وخوارق العادات ، يقف على أنّ الرجلين يسعيان
بكل حول وقوة إلى تصوير الحوادث الإعجازية ، وكأنّها جارية على المجاري
الطبيعية ، غيرُ مخالفةٍ أصول الحسّ والتجربة (3) .
بل ربما نرى أنّ بعض مُقْتَفي منهجهما ينكرون أنْ يكون للنبي الأعظم صلى
الله عليه وآله معجزة غير القرآن الكريم ، وقد تبعوا في نفي معاجزه ، قساوسة
النصارى الذين يحاولون إنكار معاجز النبي الكريم ليتسنى لهم بذلك تفضيل سيدنا
المسيح عليه السلام عليه أولاً ، وإنكار نبوته لكونه فاقداً للمعاجز ، ثانياً (4) .
__________________
(1) توفي سنة 1323 ه ق .
(2) توفي سنة 1358 ه ق .
(3) لاحظ مثلاً ما جاء في المنار ، ج 1 ، ص 322 ، تفسير قوله تعالى : ( ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ
لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) ( سورة البقرة : الآية 56 ) .
وفيه أيضاً ، ج 1 ، ص 343 ـ 344 ، تفسير قوله تعالى : ( وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنكُمْ فِي
السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ) . ( سورة البقرة : الآية 65 ) .
وفيه أيضاً ، ج 1 ، ص 350 ـ 351 ، تفسير قوله تعالى : ( فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَٰلِكَ يُحْيِي
اللَّـهُ الْمَوْتَىٰ . . . . ) ( سورة البقرة : الآية 73 ) .
وغير ذلك من الموارد .
(4) راجع للوقوف على كلمات القساوسة في هذا المجال ، كتاب « أنيس الأعلام » ، ج 5 ، ص 351 .
وهم يتمسكون في هذا المجال بعدّة آيات (1) خفي عليهم المراد منها ، ونحن
نكتفي في المقام بتفسير واحدة منها ، لم يزل يتمسك بها كل برّ وفاجر منهم ،
وهي :
قوله سبحانه : ( وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَـٰذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ ، فَأَبَىٰ
أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا وَقَالُوا لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنبُوعًا
أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا أَوْ تُسْقِطَ
السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا ، أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّـهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن
زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَىٰ فِي السَّمَاءِ ، وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّىٰ تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ ، قُلْ
سُبْحَانَ رَبِّي . هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًا رَّسُولًا ) (2) .
وقد استدلّ بها بعض القساوسة قائلاً : إنّ نبيَّ الإسلام لما طُولِبَ
بالمعجزة ، أظهر العجز بقوله إنّه ليس إلّا بشراً رسولاً .
إنّ تحليل هذا الإستدلال ونَقْدِهِ ، يَتَوَقَّفُ على دراسةِ كلِّ واحدةٍ من
المقترحات المذكورةِ في الآيات المتقدمة ، وهي :
1 ـ أنْ يَفْجُرَ لهم من الأرض يَنْبوعاً .
2 ـ أن يكون للنبي جنّة من نخيل وعنب ، وتجري الأنهار خلالها بتفجير
منه .
3 ـ أن يُسقط السماء عليهم كسفاً .
4 ـ أن يأتي بالله والملائكة قبيلاً .
5 ـ أن يكون للنبي بيت من زخرف .
6 ـ أن يرقى النبي في السماء ، ولا يكفي ذلك في إثبات نبوته حتى يُنَزِّل
عليهم كتاباً من السماء يقرؤوه .
__________________
(1) هي ثمانية عشرة آية ، تعرض لها الأستاذ ، دام ظله ، في موسوعته التفسيريّة مفاهيم القرآن ،
ج 4 ، ص 95 إلى 154 .
(2) سورة الإسراء : الآيات 89 ـ 93 .
هذه هي مقترحات القوم ، ونحن نجيب عليها بجوابين : إجماليٍّ
وتفصيليٍّ :
إجمال الجواب عن هذه المقترحات ، أنّ النبي صلى الله عليه وآله إنّما لم يأت
بها لعدم استجماعها لشرائط الإعجاز ، إذ ليس القيام بالمعجزة من الأمور
الفوضوية التي لا تخضع لشرط عقلي أو شرعي . وهذه المقترحات فاقدة لها .
تفصيل الجواب
أمّا الأول ، فإنّ سنة الله الحكيمة في الحياة البشرية إستقرت على أن يصل
الناس إلى معايشهم ومآكلهم ومشاربهم عن طريق السعي والجد ، تكميلاً
لنفوسهم وتربية لعزائمهم .
فإذا كان مطلوب القوم أن يُفَجِّر لهم النبي ينبوعاً وعيناً لا ينضب ماؤها ،
ليستريحوا بذلك من عناء تحصيل الماء ، فهو على خلاف تلك السنة الحكيمة .
نعم ، ربما تقتضي بعض الظروف ـ كإبقاء حياة القوم ـ قيام النبي بذلك ،
كما فعل موسى عندما شكى إليه قومه الظمأَ ، فاستسقى الله تعالى لهم ، فأوحى إليه
أنْ يضرب بعصاه الحجر ، فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً (1) ، ولكن مثل هذا لا
يعد نقضاً للسنة العامة ، كما أنّ الظروف في مكة لم تكن ظروفاً اضطراريةً .
وأمّا الثاني ، وهو كون النبي مالكاً لجنة من نخيل وعنب يفجّر الأنهار
خلالها ، فليس هو طلباً للإعجاز ، وإنّما كانوا يستدلّون بوجود الثروة على عظمة
الرجل ، وبالفقر وفقدان المال والإملاق على حقارته ، ولذا قالوا ، كما يحكيه عنهم
تعالى : ( لَوْلَا نُزِّلَ هَـٰذَا الْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ) (2) .
وعلى هذا ، فإجابة هذا الطلب يكون نوع اعتراف بهذه المزعمة ، إذ ليس
هناك رابطة ، عقلية بين كون الرجل صاحب ثروة ، وكونه متصلاً بالغيب . وإلّا
__________________
(1) لاحظ سورة البقرة : الآية 60 .
(2) سورة الزخرف : الآية 31 .
لوجب أن يكون أصحاب الثروات ، أنبياء إذا ادّعوا النبوة .
وأمّا الثالث ، وهو إسقاط السماء عليهم ، فإنّه يضاد هدف الإعجاز ، لأنّ
الغاية من خرق الطبيعة هداية الناس لا إبادتهم وإهلاكهم .
وأمّا الرابع ، وهو الإتيان بالله والملائكة ، فقد حكاه عنهم سبحانه في آية
أخرى ، بقوله : ( وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَىٰ
رَبَّنَا ) (1) .
ومن المعلوم أنّ هذا المقترح ، أمر محال عقلاً ، وممتنع بالذات ، فكيف يقوم
به النبي ؟! .
وأمّا الخامس ، وهو كونه صاحب بيت من زخرف ، فيُرَدُّ بما رُدَّ به الإقتراح
الثاني .
وأمّا السادس ، وهو طلب رُقِيِّهِ إلى السماء وإنزال كتاب ملموس يقرؤونه ،
فإنّ لحن هذا السؤال يدلّ على عنادهم وتعنتهم إذ لو كان الهدف هو الإهتداء ،
لكفى طلبهم الأول ـ أعني رُقيّه إلى السماء ـ ولم تكن حاجة إلى الثاني ، ومن المعلوم
أنّ النبيّ إنّما يقوم بالإعجاز لأجل الهداية والإرشاد إلى نبوته واتّصاله بعالم الغيب .
ومجموع هذه الأجوبة يوقفنا على أنّ النبيّ لَمْ يجب مطالبهم إمّا لأجل فقدان
المقتضي أو لوجود المانع . وعلى ذلك أجاب بما أمره سبحانه أن يجيبهم به ، قائلاً :
( سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًا رَّسُولًا ) .
وهو في هذا الجواب يعتمد على لفظين : « بَشراً » و« رسولاً » . والمراد أنّ
هذه الطلبات التي طلبتموها مني إمّا لكوني بشراً ، أو لكوني رسولاً . وعلى الأول
فقدرة البشر قاصرة عن القيام بهذه الأمور ، وعلى الثاني ، فهو موقوف على إذنه
سبحانه ، لأنّ الرسول لا يقوم بشيء إلّا بإذن مُرْسِلِه ، وليس ها هنا إذن ، لعدم
استجماع هذه الطلبات شرائط الإجابة (2) .
__________________
(1) سورة الفرقان : الآية 21 .
(2) وإذا أردت التفصيل ، فلاحظ « الميزان » ، ج 13 ، ص 217 ـ 218 .
وبالإجابة التي ذكرناها عن هذه الآيات ، تقدر على الإجابة عن كثير من
الآيات التي اتّخذها نفاة المعجزة ذريعة لنظريتهم .
أضف إلى ذلك أنّه كيف يمكن لأحد أن ينكر معاجز النبي الأكرم صلى الله
عليه وآله ، مع أنّ القرآن الكريم يخبر عن بعضها أولاً (1) ، والسنّة متواترة بها ،
ثانياً .
وليس إنكار المعاجز وغيرها ممّا يرتبط بالغيب ـ كالملائكة والجن ـ إلّا لفقدان
الهوية الإسلامية ، واتّخاذ موقف الهزيمة في مقابل الهجمات المادية ، التي أصبحت
بحمد الله تعالى ، وبفضل بحوث العلماء الغيارى ، سراباً في صحراء .
__________________
(1) لاحظ في ذلك الآيات التالية :
سورة آل عمران : الآيتان 61 و 86 ، سورة الأنعام : الآية 124 ، سورة الإسراء : الآية 1 .
سورة الروم : الآيات 1 ـ 3 ، سورة الصافات : الآيتان 14 ـ 15 ، سورة القمر :
الآيات 1 ـ 4 ، ولاحظ في تفصيل هذه الآيات ، مفاهيم القرآن ج 4 ص 75 .
الجهة السادسة
دلالةُ الإعجاز على صدق دعوى النبوّة
صفحات التاريخ تشهد على وجود أُناس ادّعوا السفارة من الله والإنباء
عنه ، عن كذب وافتراء ، ولم يكن لهم متاع غير التزوير ، ولا هدف سوى السلطة
والرئاسة .
ومن هنا كان لا بدّ من معايير وضوابط لتمييز النبي عن المتنبيء ، ومن
جملتها تَجَهّز المدّعي بالإعجاز ، وإتيانه بخوارق العادة ، متحدياً بها غيره على وجه
لا يقدر أحد على مقاومته ، حتى نوابغ البشر .
ويظهر من الآيات الواردة في القرآن الكريم أن طلب الإعجاز دليلاً على
صدق المدّعي ، كان أمراً فطرياً ، يطلبه الناس من الأنبياء عند دعواهم النبوّة
والسفارة الإلهية ، ولأجل ذلك لمّا ادّعى « صالح » عليه السلام ، النبوّة ، قوبل
بجواب قومه : ( مَا أَنتَ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا ، فَأْتِ بِآيَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) (1) .
وقد يخبر الأنبياء الناس بتجهزهم بالمعاجز عند طرحهم دعوى النبوة ، قبل
أن يطلبها الناس منهم ، كما قال موسى مخاطباً الفراعنة : ( حَقِيقٌ عَلَىٰ أَن لَّا أَقُولَ
عَلَى اللَّـهِ إِلَّا الْحَقَّ ، قَدْ جِئْتُكُم بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالَ إِن
كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) (2) .
__________________
(1) سورة الشعراء : الآية 154 .
(2) سورة الأعراف : الآيتان 105 و 106 .
وكما جاء في عيسى المسيح عليه السلام ، من قوله تعالى : ( وَرَسُولًا إِلَىٰ
بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ ) (1) .
ولكن الكلام في وجه دلالة الإعجاز على صدق قولِ المدعي ، فهل هو
دليل برهاني بحيثُ يكون بين المعجزة وصدق المدّعي رابطةٌ منطقيةٌ ، تستلزم
الأولى معها ، وجود الثانية ؟ أو هو دليل إقناعي ، يرضي عامة الناس وسوادهم
ويجلب اعتقادهم بصدق دعوى المدّعي ؟ .
هناك من يتخيل أنّ دلالة المعجزة على صدق دعوى النبي ، دلالة إقناعية لا
برهانية ، ويستدلّ هؤلاء المتوهمون ، على مقالتهم ، بأنّ الدليل البرهاني يتوقف
على وجود رابطة منطقية بين المُدَّعَى والدليل ، وتلك الرابطة غير موجودة في
المقام . إذ كيف يكون خرق العادة وعجز الناس عن المقابلة ، دليلاً على صدق
المدّعي في كونه نبيّاً وحاملاً لشريعة إلهية . إذ لو صحّ ذلك لصحّ أن يقال : إنّ
قيام الطبيب بعمليةٍ جراحيةٍ بديعةٍ ، دليلٌ على صدق مقاله في المسائل النجومية
والفلكية . أو صدق تخطيطاته السياسية والاجتماعية . ومن المعلوم ، انتفاء الرابطة
المنطقية بينها .
ولأجل ذلك ـ يضيف المتوهم ـ لا يدلّ قيام المسيح بإحياء الموتى وإبراء
المرضى ، على صدق ما يدّعيه ، بدلالة برهانية . وإنّما يُكتفى به ، لأنّ مشاهدة
هذه الأعمال العظيمة تجعل للقائم بها في نفوس الناس مكانةً عالية ، بحيث يأخذ
مجامع قلوبهم ويستولي على ألبابهم ، فيقنعهم ، ويجلب يقينهم بصدق دعواه .
هذا ، ولكن الحق وجود الرابطة المنطقية بين الإعجاز ودعوى النبوة ،
ويمكن إثبات ذلك ببيانين :
البيان الأول لوجود الرابطة المنطقية
ويتّضح بملاحظة الأمور التالية ، التي يسلمها الخصم أيضاً :
__________________
(1) سورة آل عمران : الآية 49 .
الأول : أنّ الخالق عادلٌ لا يجور ، وحكيمٌ لا يفعل ما يناقض الحكمة .
الثاني : أنّه سبحانه يريد هداية الناس ، ولا يرضى بضلالتهم وكفرهم .
الثالث : أنّ المعجزة إنّما تعدّ سنداً لصدق دعوى النبوة إذ كان حاملها
واجداً لشرطين :
1 ـ أن تكون سيرته نقية الثوب ، وبيضاء الصحيفة ، لم يُسَوِّدها شيء من
الأعمال المشينة .
2 ـ أن تكون شريعته مطابقة للعقل ، وموافقة للفطرة . أو على الأقل ، لا
يرى فيها ما يخالف العقل والفطرة .
فلو أنتفى الشرط الأول ، بأن كانت سوابقه سيئة ، لكفى ذلك في تنفر
الناس عنه .
وكذا لو انتفى الشرط الثاني ، بأن كانت شريعته مخالفة للعقل والفطرة ، لما
تَقَبَّلها أصحاب العقول السليمة .
وأمّا لو توفّر الشرطان فيه ، فتتطاول إليه الأعناق ، وتنقاد له القلوب ،
ولشرعه العقول ، فيسلّمون ما يقول ، ويطيعون ما أمر .
وهنا نقول : لو كانت دعوة هذا المدّعي ، صادقة ، فإعطاؤه القدرة على
الإتيان بالعجائب والخوارق ، مطابق للحكمة الإلهية .
وأمّا لو كانت دعواه كاذبة ، فإعطاؤه تلك القدرة ، وتسخير عالم التكوين
له ، في تلك الظروف ، على خلاف الحكمة ، وعلى خلاف الأصل الثاني المتقدم
أعني أنّه تعالى يريد هداية الناس ، ولا يرضى بإضلالهم ، وذلك لأنّه تعالى يعلم
أنّ الظروف تُوجِدُ في الناس خضوعاً لهذا الشخص ، فيكون إقداره على
الإعجاز ، مع كونه كاذباً ، إغراءً بالضلالة ، وصدّاً عن الهداية ، والله تعالى
حكيم لا يفعل ما يناقض غرضه وينافي إرادته ، فأي دلالة منطقية أوضح من
ذلك ؟ .
ولك أن تصب هذا الإستدلال في قالب القياس المنطقي ، فتقول :
إنّه سبحانه حكيم ، والحكيمُ لا يجعل الكون ولا بعضَه مُسَخَّراً للكاذب ،
فالله سبحانه لا يجعل الكون ولا بعضه مسخراً للكاذب . ولكن المفروض أنّ هذا
المدّعي مُسَخِّر للكون ، فينتج أنّه ليس بكاذب بل صادق .
ولا بُدّ من الإشارة هنا إلى أنّ دلالة المعجزة على صدق دعوى النبوّة يتوقف
على القول بالحسن والقبح العقليين ، وأمّا الذين أعدموا العقل ومنعوا حكمه
بهما ، فيلزم عليهم سدّ باب التصديق بالنبوّة من طريق الإعجاز ، لأنّ الإعجاز إنّما
يكون دليلاً على صدق النبوّة ، إذا قَبُح في العقل إظهار المعجزة على يد الكاذب ،
فإذا توقف العقل عن إدراك قبحه ، واحتمل صحة إمكان ظهوره على يد
الكاذب ، لا يَقْدِرُ على التمييز بين الصادق والكاذب (1) .
وفي بعض كلمات المتكلمين إشارة إلى ما ذكرنا . يقول القوشجي : « إنّما
كان ظهور المعجزة طريقاً لمعرفة صدقه لأنّ الله تعالى يخلق عقيبها العلم الضروري
بالصدق (2) ، كما إذا قام رجل في مجلس مَلِكٍ بحضور جماعة ، وادّعى أنّه رسول
هذا الملك إليهم ، فطالبوه بالحجة ، فقال : هي ( الحجة ) أن يخالف هذا الملك
عادته ، ويقوم على سريره ، ثلاث مرّات ويقعد ، ففعل . فإنّه يكون تصديقاً له ،
ومفيداً للعلم الضروري بصدقه من غير ارتياب » (3) .
وقال المحقق الخوئي : « إنّما يكون الإعجاز دليلاً على صدق المدّعي ، لأنّ
المعجز فيه خرقٌ للنواميس الطبيعية ، فلا يمكن أن يقع من أحد إلّا بعناية من الله
تعالى وإقدار منه . فلو كان مدّعي النبوّة كاذباً في دعواه ، كان إقداره على المعجز
__________________
(1) وإن للفضل بن روزبهان الأشعري كلاماً في الخروج عن هذا المأزق ، غير تام ، فمن أراد فليرجع
إلى دلائل الصدق ، ج 1 ، ص 366 ، وقد أوردناه في الجزء الأول من الكتاب وأجبنا عليه لاحظ
ص 247 ـ 248 .
(2) هذا التعبير صحيح على منهج الأشاعرة من أنّ أفعال العباد كلها مخلوقة لله تعالى ، ولكن الحق أنّ
هذا العلم يوجَدُ في الإنسان بعد عدّة عوامل .
(3) شرح القوشجي على التجريد ، ص 465 الطبعة الحجرية ، ايران .
من قِبَل الله تعالى إغراءً بالجهل وإشادةً بالباطل ، وذلك محال على الحكيم تعالى ،
فإذا ظهرت المعجزة على يده كانت دالّة على صدقه وكاشفة عن رضا الحق سبحانه
بنبوّته .
وهذه قاعدة مطردة يجري عليها العقلاء من الناس فيما يشبه هذه الأمور ،
ولا يشكون فيها أبداً . فإذا ادّعى أحد من الناس سفارة عن ملك من الملوك في
أمور تختصّ برعيته ، كان من الواجب عليه أولاً أن يقيم على دعواه دليلاً
يعضدها ، حين تشكّ الرعية بصدقه ، ولا بدّ من أن يكون ذلك الدليل في غاية
الوضوح ، فإذا قال لهم ذلك السفير : الشاهد على صدقي أن الملك غداً
سيحييني بتحيته الخاصة التي يحيي بها سفراءه الآخرين ، فإذا علم الملك ما جرى
بين السفير وبين الرعية ثم حيّاه في الوقت المعيّن بتلك التحية ، كان فِعْلُ الملك
هذا تصديقاً للمدعي في السفارة .
ولا يرتاب العقلاء في ذلك ، لأنّ الملك القادر المحافظ على مصالح رعيته
يقبح عليه أن يصدّق هذا المدعي إذا كان كاذباً ، لأنّه يريد إفساد الرَّعيَة » (1) .
القرآن والدّعوى الكاذبة
يخبر القرآن الكريم عن أنّه سبحانه فرض على نفسه معاقبة النبي وإهلاكه
إذا كذب على الله تعالى ، قال عزّ وجل : ( وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ
لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ
حَاجِزِينَ ) (2) .
قال المحقق الخوئي : « المراد من الآية الكريمة أنّ محمداً الذي أثبتنا نبوّته ،
وأظهرنا المعجزة لتصديقه ، لا يمكن أن يَتَقَوَّل علينا بعض الأقاويل ولو صنع
ذلك ، لأخذنا منه باليمين ، ولقطعنا منه الوتين ، فإنّ سكوتنا عن هذه الأقاويل ،
__________________
(1) البيان في تفسير القرآن ، ص 35 ـ 36 ، الطبعة الثامنة ، 1401 ه ـ بيروت .
(2) سورة الحاقّة : الآيات 44 ـ 47 .
إمضاءٌ منّا لها ، وإدخال للباطل في شريعة الهدى ، فيجب علينا حفظ الشريعة في
مرحلة البقاء ، كما وجب علينا في مرحلة الحدوث » (1) .
إنّ هذه الآيات تحكي عن سنّة إلهية جارية في خصوص من ثبتت نبوّتهم
بالأدلّة القطعية ودلّت معاجزهم على أنّهم تحت رعايته سبحانه ، الذي أقدرهم بها
على التصرّف في الكون . فالإنسان الذي يصل إلى هذا المقام ، يستولي على مجامع
القلوب ، ويسخّر الناس بذلك لمتابعته ، فكل ما يلقيه ، ويشرّعه ، يأخذ طريقه
إلى التنفيذ في حياة الناس والمجتمع . فلو افتعل هذا الإنسان ـ في مثل هذه
الظروف ـ كذباً على الله تعالى ، اقتضت حكمته سبحانه إهلاكه وإبادته ، لِما في
إبقائِه وإدامة حياته ، من إضلال الناس ، وإبعادهم عن طرق الهداية ، الأمر
الذي يناقض مقتضى الحكمة الإلهية التي شاءت هداية الناس وإبعادهم عن وسائل
الضلالة .
والتدبّر في مفاد هذه الآيات يرشدنا إلى وجود الرابطة المنطقية بين كون النبي
محقّاً في دعواه ، وإتيانه بالمعجزة وأنّه يتصرف في الكون برضى مبدعه . وبقاؤه على
وصف التصرّف كاشف عن رضاه تعالى ، وصدق النبي فيما يأتي به .
وبما ذكرنا يعلم أنّ الآيات لا تهدف إلى أنّ دعوى النبوّة كافية في صدق
المدّعي ، وأنّ المدّعي لو كان كاذباً في دعواه لشملته نقمة الله سبحانه وإماتته ،
بحجة أنّه لو تقوّل عليه بعض الأقاويل لقطع منه الوتين ، فاستمرار المدّعي للنبوّة
على الحياة ـ وإن لم يأت بأية معجزة ولم يُقم برهاناً على صدق دعواه ـ هو ، بحدّ
نفسه ، كاشفٌ عن صدق دعواه (2) .
إذ لا ريب أنّ هذه الدعوى أوهن من بيت العنكبوت ، ولو صحّت ، للزم
تصديق كل متنبيء في العالم ـ وإن ثبت كذبه ـ لمجرّد عدم إهلاك الله تعالى له .
إلى هنا وقفت على البيان الأول الذي يُثبت أنّ بين دعوى النبوّة والإتيان
بالمعجزة ، رابطة منطقية .
__________________
(1) البيان في تفسير القرآن ، ص 36 ، الطبعة الثامنة ، 1401 ه ـ بيروت .
(2) ادّعى ذلك الكاتب البهائي ، أبو الفضل الجرفادقاني ، في كتابه الفرائد ، ص 240 ، طبعة مصر .
البيان الثاني لوجود الرابطة المنطقية
إنّ نَفْي الرابطة المنطقية بين الإتيان بالمعجزة وصدق الدعوى ، أمر يحتاج
إلى التحليل ، فهو باطل على وجه وصحيح على وجه آخر ، وذلك بالبيان التالي :
إن كان المراد من قلب العصا ثعباناً ـ مثلاً ـ أنّه كالأوسط في القياس ، دليلٌ
على صدق ما يدّعيه النبي من أنّه سبحانه واحدٌ ، عالمٌ قادرٌ ، ليس كمثله شيء . .
فلا ريب في عدم صحته . إذ لا يمكن الإستدلال على صحّة هذه الأصول
بالتصرف في الكون .
ولأجل ذلك لم يطرح القرآن أصول الإسلام مجردةً عن البرهنة ، بل قَرَنَها
بلطائف الدلائل والإشارات ، يقف عليها كلُّ متدبّر في الذكر الحكيم .
فَيَسْتَدِلُّ في البرهنة على وجوده سبحانه بقول : ( أَفِي اللَّـهِ شَكٌّ فَاطِرِ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) ؟ (1) .
وفي البرهنة على وحدة المدبّر ، بقوله : ( لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّـهُ
لَفَسَدَتَا ) (2) .
وفي البرهنة على إبطال أُلوهيةِ الأصنام ، بقوله : ( وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّا
يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ ، وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا ، وَلَا يَمْلِكُونَ
مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا ) (3) .
وفي إبطال أُلوهية المسيح ، بقوله : ( مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ
خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ، وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ ، انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ
الْآيَاتِ ) (4) .
إلى غير ذلك من عشرات الآيات التي تَطْرَحُ الأُصول والعقائد ، بالبراهين
__________________
(1) سورة إبراهيم : الآية 10 .
(2) سورة الأنبياء : الآية 22 .
(3) سورة الفرقان : الآية 3 .
(4) سورة المائدة : الآية 75 .
الدقيقة . فالمعجزة غير دالّة بالدلالة المطابقية على صحّة المعارف والأصول التي يأتي
بها صاحبها ، بمعنى أنّها ليست الحدّ الأوسط في صحّة المدّعى ، كالتغيير في قولنا :
العالَم مُتَغَيّر ، وكلُّ مُتَغِّير حادث ، فالعالَمُ حادث .
وإنْ كان المُرادُ أنّ خرق العادة الملموسة ـ أعني قلب العصا حيّة ـ دليلٌ على
أنّهم قادرون على خرق عادة أخرى غير ملموسة ـ وهي الإتصال بعالم الوحي وكون
إدراكات النبي خارجة عن إطار الإدراكات العادية المتعارفة ـ فهو صحيح ، وإليك
بيانه :
إنّ الأنبياء عليهم السلام ، كانوا يواجهون في تبليغ رسالاتهم إشكالين
عظيمين في أعين الناس :
الإشكال الأول ـ إنّهم كانوا يتخيّلون أنّ النبي المرسل من عالم الغيب ،
يجب أن يكون من جنس الملائكة ، ولا يصحّ أن يكون إنساناً مثلهم .
والقرآن الكريم يحكي عنهم هذا الاعتراض ، بقوله : ( قَالُوا إِنْ أَنتُمْ إِلَّا
بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا ) (1) .
وكان الأنبياء يجيبون سؤالهم بأنّ المماثلة أساس التبليغ ، والوحدة النوعية غير
مانعة منه ، لإمكان أن يتفضل فرد من نوع على فرد من ذاك النوع ، فيكون
الفاضل مُرْسلاً ، والمفضول مُرْسَلاً إليه .
والقرآن الكريم يحكي هذا الجواب ، بقوله : ( قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ
إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ ، وَلَـٰكِنَّ اللَّـهَ يَمُنُّ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ) (2) .
الإشكال الثاني ـ إنّ الأنبياء عليهم السلام كانوا يَدَّعون أنّهم يتلقون
الأصول والمعارف والأحكام والفروع من الله سبحانه عن طريق الوحي ، وهو
إدراك خاص يوجَد فيهم ولا يوجد في غيرهم ، وليس من قبيل الإدراكات العادية
__________________
(1) سورة إبراهيم : الآية 10 .
(2) سورة إبراهيم : الآية 11 .
التي يجدها كل إنسان في صميم ذاته من طريق الإبصار بالعين ، والسمع بالأُذن ،
والتفكّر والإستدلال بالعقل .
وهذه الدعوى كانت تثير السؤال التالي :
إنّ ادّعاء الإدراك عن طريق الوحي ، إدعاءُ أمرٍ خارقٍ للعادة ، فإنّ
الإدراكات الإنسانية لا تخرج عن إطار الحسيّات والخياليات والعقليات . فنحن لا
نؤمن بقولكم هذا إلّا إذا شاهدنا خرقاً للعادة يماثل ما تدّعون ، حتى نستدلّ بخرق
عادة مرئية ، على وجود نظيرها في باطن وجودكم ، وصميم حقيقتكم .
ومن منطلق إجابة هذا السؤال ، كان الأنبياء يفعلون الخوارق ، ويأتون
بالمعاجز ، حتى يدللوا بذلك على تمكنهم من خرق العادة مطلقاً ، سواء أكانت
مرئية ـ كقلب العصا إلى الثعبان ، وتسبيح الحصى ـ أو غير مرئية ـ كالإدراك غير
المشابه للإدراكات العادية ، الذي هو الوحي .
وإن شئت قلت : كانوا يستدلون بخرق العادة الملموسة ، على غير الملموسة
منها .
وإلى ما ذكرنا يشير العلامة الطباطبائي رحمه الله بقوله : « إنّ دعوى النبوّة
والرسالة من كل نبي ورسول ـ على ما يقصه القرآن ـ إنّما كانت بدعوى الوحي
والتكليم الإلهي بلا واسطة ، أو بواسطة نزول ملك ، وهذا أمر لا يساعده الحسّ
ولا تؤيّده التجربة ، فيتوجه عليه الإشكال من جهتين : إحداهما من جهة عدم
الدليل عليه ، والثانية من جهة الدليل على عدمه . فإنّ الوحي والتكليم الإلهي
وما يتلوه من التشريع والتربية الدينية ممّا لا يشاهده البشر في أنفسهم ، والعادة
الجارية في الأسباب والمسبَّبات تنكره ، وقانون العليّة العامة لا يجوزه ، فهو أمر
خارق للعادة .
فلو كان النبي صادقاً في دعواه النبوّة والوحي ، لكان لازمه أنّه متصل بما
وراء الطبيعة ، مؤيّد بقوة إلهية تقدر على خرق العادة ، وأنّ الله سبحانه يريد بنبوّته
والوحي إليه ، خرق العادة . فلو كان هذا حقاً ، ولا فرق بين خارق وخارق ،
كان من الممكن أن يصدر من النبي خارق آخر للعادة من غير مانع ، وأن يخرق
الله العادة بأمر آخر يصدّق النبوة والوحي من غير مانع عنه ، فإنّ حكم الأمثال
واحد ، فلئن أراد الله هداية الناس بطريق خارق للعادة وهو طريق النبوة
والوحي ، فليؤيدها وليصدقها بخارق آخر وهو المعجزة .
وهذا هو الذي بعث الأمم إلى سؤال المعجزة على صدق دعوى النبوة ، كلما
جاءهم رسول من أنفسهم (1) .
__________________
(1) الميزان ، ج 1 ، ص 86 .
الجهة السابعة
هل حرم الإنسان المعاصر من المعاجز والكرامات ؟
لا شكّ أنّ للإعجاز أثراً بالغاً في إيجاد الإيمان بدعوى المدّعي ، وربما يكون
أثر الإعجاز في نفوس عامة الناس أبلغ من تأثير البراهين العقلية .
فإذا كان للإعجاز هذا الأثر البالغ ، فلماذا حرم منه إنسان ما بعد عصر
الرسالة ؟ ولماذا لا تظهر يد من الغيب تقلب العصا ثعباناً وتبرىء الكُمْه والبُرْص
والمصابين بالسرطان ؟ مع أنّ إنسانَ ﭐلقرنِ المعاصر أشدُّ حاجةً إلى مشاهدة
المعجزة ، لذيوع بذور الشكّ والترديد بين الناس عامة والشباب خاصة ، أفليس
هذا حرماناً من الفيض المعنوي ؟ .
الجواب : إنّ الإنسان المعاصر ، بل من قَبْله ممن جاؤوا بعد عصر
الرسالة ، ليس ولم يكونوا محرومين من المعجزة ، بل إنّ هناك معجزتين
ساطعتين ، خالدتين على مرّ الدهور .
الأولى ـ القرآن الكريم
إنّ القرآن الكريم ، معجزةُ النبي الأكرم الخالدة ، المشرقة على جبين
الدهر ، تتحدّى المعاندين ، وتواجه المشككين ، بقولها : ( وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا
نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللَّـهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) (1)
__________________
(1) سورة البقرة : الآية 23 .
وهذا النداء القرآني يكرّره المسلمون في تلاواتهم وإذاعاتهم وأنديتهم
الدينية ، فلم يُجِب إلى الآن أحد من العرب والعجم ، بل كلّهم انحنوا
ـ مذهولين ـ أمام عظمة القرآن في فصاحته وبلاغته ونظمه وأسلوبه ، كما سيأتي
الكلام فيه مفصلاً .
على أنّ القرآن الكريم أخبر بأنّ هذه المعجزة خالدة إلى يوم القيامة ، ولن
يقدر أحد من البشر على مقابلتها ، بقوله : ( قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ
أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَـٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ، وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ) (1) .
الثانية ـ المباهلة
روى أهل السِيَر والتاريخ أنّه قَدِم وفد نصارى نَجران على رسول الله صلى
الله عليه وآله ، فدارت بينه وبينهم أسئلة وأجوبة حول نبوته عليه الصلاة
والسلام . فدعاهم الرسول إلى قبول الإسلام ، فامتنعوا ، فدعاهم إلى المباهلة
فاستنظروه إلى صبيحة اليوم التالي :
فلما رجعوا إلى رجالهم ، قال لهم الأُسقف : « أُنظروا محمداً ، فإن خرج
بِوُلده وأَهْلِهِ ، فاحذروا مباهَلَته ، وإِن خَرَجَ بأصحابه فباهلوه » .
فلما كان الغد ، خرج النبي الأكرم ويده في يد علي بن أبي طالب ، والحسن
والحسين يمشيان أمامه ، وفاطمة ابنته تمشي خلفه .
وخرج النصارى يتقدّمهم أُسْقُفُهم ، فلما رأى النبيَّ قد أقبل بمن معه ، سأل
عنهم فقيل له : هذا ابن عمه ، وهذان ابنا بنته ، وهذه الجارية بنته فاطمة ، أعزّ
الناس عليه .
وتقدم رسول الله صلى الله عليه وآله فجثا على ركبتيه ، فقال أبو حارثة
الأسقف : « جثا والله كما جثا الأنبياء للمباهلة » ، فرجع ولم يُقدم على المباهلة .
__________________
(1) سورة الإسراء : الآية 88 .
وقال : « أنا أخاف أن يكون صادقاً ، ولئن كان صادقاً ، لم يَحُلْ والله علينا
الحول ، وفي الدنيا نصراني » .
فصالَحوا رسول الله صلى الله عليه وآله على ألف حُلّة من حلل الأواقي ،
وقال النبي : « والذي نفسي بيده ، لو لاعنوني ، لمُسخوا قردة وخنازير ،
ولاضطرم الوادي عليهم ناراً ، ولما حال الحول على النصارى حتى يهلكوا » (1) .
وفي هذا المجال ورد قوله سبحانه : ( فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ
الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ
نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّـهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ) (2) .
والمباهلة معجزة إسلامية خالدة ، يقوم بها الأمثل فالأمثل من الأُمة في مقام
محاجة المخالفين من اليهود والنصارى وغيرهم ، ولا تختص بالنبي الأكرم .
إنّ بإمكان أصحاب النفوس الكاملة ، في مراتب التقوى والورع واليقين ،
أن يباهلوا أعداء الدين ، ويدعوا عليهم بالدمار والهلاك ، ولن يمضي زمن إلّا وقد
شملهم العذاب الإلهي .
وقد كان سيدنا العلامة الطباطبائي رحمه الله يرى هذا الرأي ويقول : « إنّ
المباهلة معجزةٌ خالدةٌ للمسلمين يحتجون بها على صحّة عقائدهم وأُصولهم فمن
يريد المباهلة فيما جاء به النبي الأعظم صلى الله عليه وآله ، فأنّا على أتمّ الأُهبة
والإستعداد لمباهلته ، فليُقْدم المخالف إذا شاء » .
ولعلّ الأستاذ الراحل أخذه من كلام الإمام الصادق عليه السلام ، حينما
قال له أحد أصحابه : « إنّا نكلّم الناس فنحتجّ عليهم يقول الله عزّ وجل :
( أَطِيعُوا اللَّـهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ) (3) فيقولون : نزلت في أمراء
السرايا . فنحتج عليهم بقوله عزّ وجل : ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّـهُ وَرَسُولُهُ ـ إلى آخر
__________________
(1) مجمع البيان ، ج 1 ، ص 452 ، طبعة صيدا .
(2) سورة آل عمران : الآية 61 .
(3) سورة النساء : الآية 59 .
الآية ) (1) فيقولون نزلت في المؤمنين . ونحتج عليهم بقول الله عزّ وجل : ( قُل لَّا
أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ ) (2) فيقولون نزلت في قُربى المسلمين . قال
فلم أَدَعْ ممّا حضرني ذِكْرُهُ من هذه وشبهها إلّا ذكرته .
فقال عليه السلام : إذا كان ذلك فادعهم إلى المباهلة . . . إلى آخر
الحديث » (3) .
__________________
(1) سورة المائدة : الآية 55 .
(2) سورة الشورى : الآية 23 .
(3) أصول الكافي ، ج 3 ، باب المباهلة ، الحديث الأول ، ص 513 ، الطبعة الرابعة ، 1401 ه ،
بيروت .
الجهة الثامنة
بماذا تُمَيَّزُ المعجزةُ عن السحر ؟
لا ريب في أن هناك جماعة من الناس لهم القدرة على القيام بأعمال مدهشة
وعجيبة لا يمكن تفسيرها عن طريق العلوم المتعارفة وهؤلاء كالمرتاضين الهنود
وغيرهم ، الذين تقدم نقل شطر من أعمالهم . وكالسحرة والمشعوذين .
وكأساتذة التنويم المغناطيسي ، الذي كشفه « مسمر » الألماني في القرن
الثامن عشر ، وبه يتمكن الأستاذ من السيطرة على الوسيط الذي فيه استعداد
خاص للتأثّر ، وكيفية ذلك أنّ الأستاذ ينظر في عين الوسيط نظرات عميقة ويجري
عليه حركات يسمونها « سحبات » ، فما تمضي لحظة إلّا ويغطّ الوسيط غطيط
النوم ، على وجه لو قام أحد يَخِزُهُ بالإبرة وَخَزاتٍ عديدة ، لا يبدي الوسيط
حراكاً ، ولا يُظهر أَيّ شيء يدلّ على شعوره وإحساسه . فعند ذلك يقوم الأستاذ
بسؤاله أسئلة ربما يقتدر معها على كشف المغيبات ، ويستطيع أن يتصرف فيه بنحو
يقنعه معه بتغيير اسمه ، وغير ذلك (1) .
وهنا يُطرح السؤال التالي : مع وجود هذه الأمور المدهشة والعجيبة والخارقة
للقوانين المتعارفة ، التي تحصل بالرياضة وسحر السحرة ، وألاعيب المشعوذين ،
فكيف نتمكن من تمييزها عن المعجزة والآية الإلهية ؟ .
__________________
(1) لاحظ مناهل العرفان ، ج 1 ، ص 61 .
وهذا من المباحث الحساسة في النبوّة العامة ، إذ به تتبين حدود المعجزة التي
تميّزها وتفصلها عن سائر خوارق العادة .
والجواب : إنّ هناك مجموعة من الضوابط والحدود التي تمتاز بها المعجزة عن
سائر خوارق العادة وهي :
الأول : إنّ السِّحر ونحوه رهن التعليم دون الإعجاز
إنّ ما تنتجه الرياضة والسحر والشعوذة من آثارٍ خارقة للعادة ، جميعها
خاضعة لمناهج تعليمية ، لها أساتذتها وتلامذتها ، وتحتاج إلى الممارسة المتواصلة
والدؤوبة حتى يصل طالبها إلى النتائج المطلوبة ، فينام على مسامير مُحَدَّدَة ، وتكسر
الصخور بالمطارق على صدره ، من دون أن يصاب بجراح في صدره أو ظهره ، أو
يقوم بحركات توجب تأثيراً نفسياً على إنسان آخر ، فيُذهب وَعْيَه ويتصرف فيه ،
أو يقوم بألاعيب خفيّة يبهر بها العيون ، ويستولي بها على القلوب ، فيصوّر غير
الواقع واقعاً متحققاً . وكل هذا أثر التعليم والتعلّم وكثرة الممارسة والمجاهدة .
وأمّا الإعجاز الذي يقوم به الأنبياء فإنّه منزّه عن هذه الوصمة ، فإنّ ما
يأتونه من الأعمال المدهشة الخارقة للعادة ، لم يدرسوه في منهاج ، ولا تلقوه على يد
أُستاذ ، ولا قضوا أعمارهم في التدرّب والتمرّن عليه .
ولأجل ذلك نرى أنّ الكليم عليه السلام عندما رجع من مَدْيَن إلى مصر :
( نُودِيَ مِن شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَىٰ إِنِّي أَنَا
اللَّـهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ ، فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّىٰ مُدْبِرًا وَلَمْ
يُعَقِّبْ ، يَا مُوسَىٰ أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ
بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ، وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ ، فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن
رَّبِّكَ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ . . ) (1) .
فكان هذا عملاً إبداعياً غير مسبوق بتعلّم ولا تمرّن ، ولذلك استولى عليه
__________________
(1) سورة القصص : الآيات 30 ـ 32 .
الخوف في بداية الأمر ، فوافاه الخطاب من جانبه تعالى : ( يَا مُوسَىٰ لَا تَخَفْ إِنِّي
لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ ) (1) .
قال القاضي عبد الجبار : « إنّ الحيلة مِمّا يمكن أن تتعلم وتُعَلَّم ، وهذا غير
ثابت في المعجزة » (2) .
الثاني ـ إنّ السِّحر ونحوه قابل للمعارضة دون المعجزة
إنّ عمل المرتاضين والسَّحَرَة بما أنّه نتاج التعليم والتعلّم ، يكثر وقوعه
ويسهل الإتيان بمثله على كل من تلقّى تلك الأُصول وتدرّب عليها ، ولذا قال
القاضي عبد الجبار : « إنّ الحيل مما يقع فيها الإشتراك وليس كذلك
المعجزة » (3) .
الثالث ـ إنّ السحر ونحوه لا يقترن بالتحدي بخلاف الإعجاز
إنّ السَّحَرة والمرتاضين ، وإن كانوا يأتون بالعجائب ويفعلون الغرائب ،
إلّا أنّ واحداً منهم لا يجرؤ على تحدّي الناس ، ودعوتهم إلى مقابلته ، لعلمهم بأنّ
الدعوة إلى التحدّي لن تتم لصالحهم ، إذ ما أكثر السحرة وأهل الرياضة من
أمثالهم .
وهذا بخلاف أهل الإعجاز ، فإنّهم لا يأتون بمعجزة إلّا ويقرنوها
بالتحدّي ، ولذلك أُمر النبي بأن يقول :
( قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَـٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ
بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ) (4) .
__________________
(1) سورة النمل : الآية 10 .
(2) شرح الأصول الخمسة ، ص 572 .
(3) شرح الأصول الخمسة ، ص 572 .
(4) سورة الإسراء : الآية 88 .
الرابع ـ إنّ السحر ونحوه محدود من حيث التنوع دون المعاجز
إنّ عمل أَهل الرياضة والسحر ، لما كان رهن التعليم والتعلّم ، متشابه في
نوعه ، متّحد في جنسه ، يدور في فلك واحد ، ولا يخرج عن نطاق ما تعلمه أهله
ومارسوه ، ولذا لا يأتون بما يريده الناس والمتفرجون ، بل بما تدرّبوا عليه ، وافق
طلب الناس أو لا .
بخلاف إعجاز الأنبياء ، فإنّه على جانب عظيم من التنوع في الكيفية إلى
حدٍّ قد لا يجد الإنسان بين المعجزات قدراً مشتركاً وجنساً قريباً . فشتّان ما بين
قلب العصا إلى الثعبان الحي (1) ، وضربها على الأحجار ليتفجر منها الماء (2) ،
وضربها على البحر لينفلق شطرين ، كل فرق كالطَّوْد العظيم (3) ، وإخراج اليد
من الجيب بيضاء تتلألأ (4) ، وغير ذلك من معاجز موسى عليه السلام .
وكذلك الحال في آيات المسيح البيّنات ، المُبْهرة للعقول والمدهشة للقلوب ،
فتارة ينفخ في هيئة الطير المجسّمة من الطين فتدبّ الحياة فيها ، وتنبض بالدماء
عروقها ، فتكون طيراً بإذن الله . وأخرى يبرىء الأكمه والأبرص ، وثالثة يحيي
الموتى ، ورابعة ينبىء الناس بما يأكلون في بيوتهم ويدّخرون فيها (5) ، ولذلك
يصفها تعالى بالجلال والتقدير بقوله : ( إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم
مُّؤْمِنِينَ ) (6) .
وهذا التنوع في الكيفية ، نتيجة كون قدرتهم مستندة إلى القدرة الإلهية .
نعم إنّ الحكمة الإلهية اقتضت أن تكون معاجز الأنبياء مناسبة للفنون
__________________
(1) قال تعالى : ( فَأَلْقَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ ) ( سورة الأعراف : الآية 107 ) .
(2) قال تعالى : ( وَإِذِ اسْتَسْقَىٰ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا
عَشْرَةَ عَيْنًا ) ( سورة البقرة : الآية 60 ) .
(3) قال تعالى : ( فَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ
الْعَظِيمِ ) ( سورة الشعراء : الآية 63 ) .
(4) قال تعالى : ( وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ ) ( سورة الأعراف : الآية 108 ) .
(5) اقتباس من الآية 49 من سورة آل عمران المباركة .
(6) سورة آل عمران : الآية 49 .
الرائجة في عصورهم ، حتى يتسنى لخبراء كل فنّ تشخيص المعاجز وإدراك
استنادها إلى القدرة الغيبيّة ، وتمييزها عن الأعمال الباهرة المستندة إلى العلوم
والفنون الرائجة . وتتّضح حقيقة ما ذكرناه ، في السحرة الذين بارزوا موسى
عليه السلام ، فإنّهم ـ لكونهم من أهل الخبرة والمعرفة بحقيقة السحر وفنونه ـ
أدركوا فوراً ، بعدما ألقى موسى عصاه وانقلبت ثعباناً حيّاً التقف حبالهم وعصيّهم
أدركوا أنّه ليس من جنس السحر ، وأنّه معجزة خارقة متصلة بالقدرة الإلهية ،
ولذلك سرعان ما خضعوا للحق كما يحكيه عنهم تعالى بقوله : ( وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ
سَاجِدِينَ قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) (1) .
قال القاضي عبد الجبار : « إنّ المُشَعْوِذ والمحتال إنّما يَنفذ حيلته على من لم
يكن من أهل صناعته ، ولا يكون له دراية ومعرفة ، وليس هذا حال المعجزة ،
فقد جعل الله سبحانه وتعالى معجزة كل نبي مما يتعاطاه أهل زمانه ، حتى جعل
معجزةَ موسى عليه السلام قَلْبَ العصا حيّةً ، لما كان الغالب على أهل ذلك
الزمان ، السحر . وجعل معجزة عيسى عليه السلام إبراءَ الأَكْمَهِ والأَبْرَصَ ، لما
كان الغالب على أهل زمانه الطب . وجعل معجزة نبينا محمد صلى الله عليه وآله
« القرآن » ، وجعله في أعلى طبقات الفصاحة ، لما كانت الغلبة للفصاحة
والفصحاء في ذلك الزمان ، وبها كان يفاخر أهله ويتباهى » (2) .
الخامس ـ الإختلاف من حيث الأهداف والغايات
إنّ أصحاب المعاجز يتبنون أهدافاً عالية ، ويتوسلون بمعاجزهم لإثبات
أحقية تلك الأهداف ، ونشرها . وهي تتمثل في الدعوة إلى عبادة الله تعالى
وحده ، وتخليص الإنسان من عبودية الأصنام والحجارة والحيوانات ، والدعوة إلى
الفضائل ونبذ الرذائل ، واستقرار النظام الاجتماعي للبشر ، وغير ذلك .
وهذا بخلاف المرتاضين والسحرة ، فغايتهم إمّا كسب الشهرة والسمعة بين
__________________
(1) سورة الأعراف : الآيتان 120 ـ 121 .
(2) شرح الأُصول الخمسة ، ص 572 .
الناس ، أو جمع المال والثروة ، وغير ذلك ممّا يناسب متطلبات القوى البهيمية ،
وإنّك لا ترى مرتاضاً أو ساحراً يقوم بنشر منهج أخلاقي أو اجتماعي فيه إنقاذ
البشر من الظلم والإضطهاد ، ويدعو إلى التقوى والعفة وما شابه .
والسبب في ذلك واضح ، فإنّ الأنبياء خريجوا مدرسة إلهية تزخر بالدعوة إلى
الفضائل والإجتناب عن الرذائل ، فلا يقومون بالإعجاز إلّا لنشر أهداف
مدرستهم . وأما غيرهم ، فهم خريجوا المدرسة المادية التي لا هَمَّ لها إلّا إرضاء
ميولها الحيوانية ، وإشباع لذّاتها وشهواتها .
السادس ـ الإختلاف في النفسانيات
إنّ أصحاب المعاجز ـ باعتبار كونهم خريجي المدرسة الإلهية ـ متحلّون
بأكمل الفضائل والأخلاق الإنسانية والمتصفح لسيرتهم لا يجد فيها أيّ عملٍ مشينٍ
ومنافٍ للعفة ومكارم الأخلاق .
وأمّا أصحاب الرياضة والسحر ، فهم دونهم في ذلك ، بل تراهم غالباً
متحللين عن المثل والفضائل والقيم .
فبهذه الضوابط الستّ يتمكن الإنسان من تمييز المعجزة عن غيرها من
الخوارق ، والنبيِّ عن المرتاض والساحر ، والحق عن الباطل . وهذه المميزات ،
وإن كانت تهدف إلى أمر واحد ، إلّا أنّها تختلف في الحيثيات :
فالأول منها يهدف إلى الفرق بين المعجزة وغيرها من حيث المبادىء .
والثاني إلى الفرق من حيث تحديد القدرة ، فقدرة السَحَرة في حدّ القدرة
البشرية ، وقابلة للمعارضة ، بخلاف إعجاز الأنبياء .
والثالث إلى الفرق في كيفية الإتيان بالعمل ، فالمعجزة تقترن بالتحدّي دون
غيرها .
والرابع إلى قلّة التنوع في عمل السحرة ، وكثرته في عمل الأنبياء .
والخامس إلى الفرق من حيث الغاية .
والسادس إلى الفرق من حيث صفات وروحيات أصحاب المعاجز ،
وغيرهم .
وإلى هنا يتم البحث في الطريق الأول من الطرق الثلاثة التي يُعرف بها النبي
من المتنبيء ، بجهاته الثمان . ويقع البحث فيما يلي في الطريق الثاني وهو تصديق
النبي السابق نبوّة النبي اللاحق .
مقتبس من كتاب : الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل / المجلّد : 3 / الصفحة : 67 ـ 113
التعلیقات