Logo
لإجراء العمليات قم أولاً بتسجيل الدخوللإجراء العمليات قم أولاً بتسجيل الدخول
١٢٠
لإجراء العمليات قم أولاً بتسجيل الدخول

جمع القرائن والشواهد

التوحيد

منذ 15 سنة


المصدر : الإلهيات على هدى الكتاب والسنّة والعقل : للشيخ جعفر السبحاني ، ج3 ، ص 117 ـ 122

( 117 )


 
     طرق إثبات النبوّة
              (3)


جمع القرائن والشواهد


     هذا هو الطريق الثالث لتمييز النبي الصادق عن المتنبي الكاذب ، وهذا

الطريق ضابطة مطردة في المحاكم القانونية ، معتَمَدٌ عليه في حَلّ الدعاوى

والنزاعات ، يسلكه القضاة في إصدار أحكامهم ، ويستند إليه المحامون في إبراء

موكليهم خاصة في المحاكم الغربية ، الّتي تفتقد إلى القضاء على الأيمان والبَيّنات ،

وتقضي هذه الطريقة بجمع كلّ القرائن والشواهد الّتي يمكن أن تؤيّد دعوى

المدّعي ، أو إنكار المنكر ، وضمّها إلى بعضها حتى يحصل القطع بصحة دعواه أو

إنكاره.

     ويمكن تطبيق هذه الطريقة بعينها في مورد دعوى النبوة ، فنتحرى جملة

القرائن الّتي يمكن أن نقطع معها بصدق الدعوى ، ومن هذه القرائن :

 

1 ـ نفسيات النبي

     مّما يدلّ على كون مدّعي النبوة صادقاً في دعواه ، تحلّيه بروحيات كمالية

عالية ، وأخلاق إنسانية فاضلة ، غير منكب على الدنيا وزخرفها ، ولا طالب

للرئاسة والزعامة ، لم ير له في حياته منقصة ، ودناسة ، بل عرف بكل خلق

كريم ، واشتهر بالنزاهة والطهارة.

     فجميع هذه الصفات تدلّ على صفائه في روحه وباطنه ، وبالتالي صدقه في

دعواه.

________________________________________


( 118 )


     2 ـ سمات بيئته

     إنّ ظهور مدّعي النبوّة في مجتمع أُمِّيٍّ ، لا يعرف الكتابة ، بعيد عن مظاهر

الحضارة والتمدّن ، ومجيئَه بشريعة تحمل سمات مناقضة بالكليّة لهذا الظرف

السائد ، قرينة على نبوّة هذا المدّعي.

     فإنّ مجي إنسان بشريعة تَحْمِلُ الدعوةَ إلى التعلّم ونبذ الأميّة ، وتشرّع

القوانين الإجتماعية والإقتصادية بل تحمل في تعاليمها نظام الدولة والتقنين

والقضاء والروابط السياسية . أقول : إنّ إتيانه بهذه المظاهر الحضارية في مجتمع

قبلي لم يسمع بشيء من تلك النظم ، لدليل على ارتباط هذا الإنسان بمبدء أعلى ،

غير خاضع لمقتضيات تلك البيئة بل إنّ ظاهرة كهذه هي بحدّ نفسها نوع من

الإعجاز ، وخروج عن المألوف.


     3 ـ مضمون الدعوة

     من جملة القرائن الّتي ترشد إلى صدق المدّعي أو كذبه في دعواه ، مضمون

العقيدة الّتي يحملها ، والدعوة الّتي يدعو إليها ، ومقدار التوافق بينهما.

فإذا كانت العقيدة الّتي يحملها ، والمعارف الّتي يدعو إلى اعتناقها ، معارف

إلهية تبحث في خالق الكون وصفاته وأفعاله ، وكانت دعوته العملية مرشدةً إلى

التحلّي بالُمُثل الأخلاقية ، والفضائل الإنسانية ، وناهيةً عن الرذائل النفسية ،

وركوبِ الشهوات المنحرفة ، والفسقِ والمجونِ ، كانت هذه قرائن على اتصال دعوته

بخالق الكون ، ومبدء الخير والجمال.


     4 ـ ثباته في طريق دعوته

     إنّ آية كون الدعوى إلهية ، لا يبتغي صاحبها شيئاً من الأعراض المادية ،

والمناصب الدنيوية ، ثباتُه في طريق دعوته ، وتضحيته بنفسه وأعزّ أقربائه في ذاك

السبيل.

________________________________________


( 119 )


     وفي المقابل ، إنّ انهزامه أمام المصاعب ، وتعلّقه بحفظ حياته ، دليل عدم

إيمانه بما يدعو إليه ، وبالتالي عدم ارتباط دعوته بمبدء إلهي.


     5 ـ الأدوات الّتي يستفيد منها في دعوته

     من القرائن الّتي تدلّ على صدق المدّعي في دعوى النُبوّة والسفارة الإلهية ،

اعتماده في دعوته على أساليب إنسانية ، موافقة للفطرة والطهارة ، فإنّ لذلك

دلالات على إلهية دعواه.

     وأمّا لو اعتمد في نشر وتبليغ ما يدّعيه على وسائل إجرامية ، وأساليب

وحشية غير إنسانية ، متمسكاً بقول ماكيافللي : «الغاية تبرر الوسائل»(1) ، كان

هذا دليلاً على كون دعواه شخصية محضة ، لا صلة لها بالعالم الربوبي.


     6 ـ المؤمنون به

     إنّ لنفسيات المؤمنين بمدّعي النبوة وحواريه ، دلالة خاصة على صدقه فيما

يدّعيه ، وذلك أنّ أقرباء المدّعي وبطانته إذا آمنوا به ، واتّبعوا دعوته ، وبلغوا فيها

مراتب عالية من التقوى والورع ، كان هذا دلاًّ على صدق المدعي في ظاهره

وباطنه ، وعدم التوائه وكذبه ؛ لأنّ الباطل لا يمكن أن يخفى عن الأقرباء

والبطانة.

     هذه القرائن وما يشابهها إذا اجتمعت في مدّعي النبوة ، ودعواه الّتي

ــــــــــــــــــــــــــــ

     1- نيكولو ماكيافللي (1469 ـ 1527 هـ). سياسي ومؤرخ إيطالي ، أحد أعلام عصر النهضة في

أوروبا ، شارك في الحياة السياسية في إيطاليا ، ثمّ اعتزلها عام (1512 م) متفرغاً للتأليف. وعرف

في تاريخ الفكر السياسي بمؤلفه الشهير « الأمير » ، حيث أيّد فيه نظام الحكم المطلق ، وأحلّ فيه

للحاكم اتّخاذ كل وسيلة تكفل استقرار حكمه واستمراره ، ولو كانت منافية للدين والأخلاق ، وذلك

على أساس أنّ الغاية تبرر الوسيلة . ومن هنا صار لفظ «المكيافللية» وصفاً لكل مذهب ينادي بأنّ

الغاية تبرر الواسطة أو الوسيلة.

غير أنّ ماكيافللي عاد في كتابه « المحاضرات » ، فأيّد النظام الجمهوري الّذي يقوم على سيادة

الشعب ، وعدد مزايا هذا النظام ، وفَضّله على النظام الملكي.


________________________________________


( 120 )


     يدّعيها ، كانت دليلاً قاطعاً على صدقه ، فإنّ كلّ واحدة من القرائن ، وإن كانت

قاصرة عن إفادة اليقين ، إلاّ أنّها بمجموعها تفيده.


     أوّل من طرق هذا الباب

     إنّ أوّل من طرق هذا الباب ، وجعل القرائن المفيدة للقطع بصدق

المدّعي ، دليلاً على صحة الدعوى ، هو قيصر الروم ، فإنّه عندما كتب إليه

الرسول محمّد ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ، رسالة يدعوه فيها إلى اعتناق دينه الّذي أتى

به ، أخذ ـ بعد استلامه الرسالة ـ يتأمّل في عبارات الرسول ، وكيفية الكتابة ،

حتى وقع في نفسه احتمال صدق الدعوى ، فأمر جماعة من حاشيته بالتجول في

الشام ، والبحث عمّن يعرف الرسول عن قرب ، ومطّلع على أخلاقه وروحياته ،

فانتهى البحث إلى العثور على أبي سفيان وعدّة كانوا معه في تجارة إلى الشام ،

فأحضروا إلى مجلس قيصر ، فطرح عليهم الأسئلة التالية :

* قيصر: كيف نسبه فيكم؟

ـ أبو سفيان : محضٌ ، أوسطنا نسباً(1).

* قيصر: أخبرني ، هل كان أحد من أهل بيته يقول مثل ما يقول ، فهو

يتشبّه به؟

ـ أبو سفيان : لا ، لم يكن في آبائه من يدّعي ما يقول.

* قيصر: هل كان له فيكم ملك فاستلبتموه إيّاه ، فجاء بهذا الحديث

لتردّوا عليه ملكه؟

ـ أبو سفيان: لا.

* قيصر: أخبرني عن أتباعه منكم ، من هم؟

ـ أبو سفيان: الضعفاء والمساكين والأحداث من الغلمان والنساء ، وأمّا

ذوو الأنساب والشرف من قومه فلم يتبعه منهم أحد.

* قيصر: أخبرني عمّن تبعه ، أيحبه ويلزمه؟ أم يقليه ويفارقه؟

ــــــــــــــــــــــــــــ

     1- أي أَعْلانا نسباً.

________________________________________


( 121 )


 ـ أبو سفيان: ما تبعه رجل ففارقه.

* قيصر: أخبرني كيف الحرب بينكم وبينه؟

ـ أبو سفيان: سجال ، يدال علينا وندال عليه.

* قيصر: أخبرني هل يغدر؟

ـ أبو سفيان: (لم أجد شيئاً مّما سألني عنه أغمزه فيه غيرها فقلت): لا ،

ونحن منه في هدنة. ولا نأمن غدره. (وأضاف أبو سفيان بأن قيصر ما التفت إلى

الجملة الأخيرة منه).

     ثمّ إنّ قيصر أبان وجه السؤال عن الأمور السابقة ، وأنّه كيف استنتج من

الأجوبة الّتي سمعها من أبي سفيان أنّه نبي صادق ، بقوله :

«سألتك كيف نسبه فيكم ، فزعمت أنّه محض من أوسطكم نسباً ، وكذلك

يأخذ الله النبي إذا أخذه ، لا يأخذه إلاّ من أوسط قومه نسباً.

وسألتك هل كان أحد من أهل بيته يقول بقوله ، فهو يتشبه به ، فزعمت

أن لا.

وسألتك هل كان له فيكم ملك فاستلبتموه إيّاه ، فجاء بهذا الحديث يطلب

به ملكه ، فزعمت أن لا.

وسألتك عن أتباعه فزعمت أنّهم الضعفاء والمساكين والأحداث والنساء ،

وكذلك اتباع الأنبياء في كل زمان.

وسألتك عمّن يتبعه ، أيحبّه ويلزمه ، أم يقليه ويفارقه.  فزعمت أنْ لا يتبعه

أحد فيفارقه ، وكذلك حلاوة الإيمان لا تدخل قلباً فتخرج منه.

وسألتك هل يغدر ، فزعمت أن لا. فلئن صدقتني عنه ليغلبنيّ على ما تحت

قدمي هاتين ، ولوددت أنّي عنده فأغسل قدميه. إنطلق لشأنك».

قال أبو سفيان : فقمت من عنده وأنا أضرب إحدى يديّ بالأخرى وأقول:

أي عباد الله ، لقد أَمِرَ أَمْرُ ابن أبي كبشة. أصبح ملوك بني الأصفر يهابونه في

________________________________________


( 122 )


سلطانهم بالشام(1).

     ومن المأسوف عليه أنّ هذا الطريق الّذي سلكه قيصر ، ووجده وسيلة كافية

لكشف الحقيقة بذكائه ، قد تُرك بين المسلمين قرون عديدة.

     وسلوك هذا الطريق ، وجمع القرائن والشواهد الدالّة على صدق دعوى

المدّعي ، أكثر ملائمة لروح أبناء هذا العصر من التركيز على المعاجز المدوّنة في

كتب الحديث ، الّتي مضت عليها قرون . نعم ، المعاجز أشدّ تأثيراً ، وأسرع في

جلب القلوب لمن شاهدها بأُم عينيه . ولأجل ذلك كان عامة الأنبياء مجهزين بها

بالنسبة إلى أبناء زمانهم.

     وممّن طرق هذا الباب في القرن الثالث عشر أحد مشايخ الشيعة في مدينة

إسطنبول ، فقد ألف كتابه « ميزان الموازين » ، وأوعز إلى هذا الطريق عند

البحث عن نبوّة خاتم الأنبياء(2). وبعده الكاتب السيّد محمّد رشيد رضا ، مؤلّف

المنار، في كتابه «الوحي المحمّدي » ، فقد بلغ الغاية في جمع الشواهد والقرائن.

وسنسلك نحن هذا الطريق عند البحث في النبوّة الخاصة.

     وفي الختام نركّز على نكتة ، وهي أنّ الإعتماد على الطريقين الأخيرين ، لا

يعني الإكتفاء بهما ورفض ما ثبت بالتواتر من المعجزات والبيّنات ، بل لكل

موقعه الخاص يعرفه الكاتب القدير ، والخطيب البارع ، ويستفيد من كلٍّ حسب

ما يناسبه الحال.


* * *


ــــــــــــــــــــــــــــ


     1- تاريخ الطبري : ج 2، ص 290 ـ 291.  حوادث السنة السادسة للهجرة.

     2- طبع الكتاب عام 1288.

 

 

 

التعلیقات

اکتب التعلیق...

المضافة أخيراً