نظرية الفلاسفة المشائين في الوحي
المصدر : الإلهيات على هدى الكتاب والسنّة والعقل : للشيخ جعفر السبحاني ، ج3 ، ص 146 ـ 151
( 146 )
الثالثة : نظرية الفلاسفة المشائين في الوحي
سلك المشائيون من فلاسفة الإسلام ، في تحليل الوحي ، مسلكاً خاصّاً لا
يمت إلى ما سبق من التحليلات بصلة ، وتبتني نظريتهم على اُصول لا مجال لذكرها
هنا ، وإنّما نأتي بمجمل معتقدهم ونبيّنه في أُمور:
الأوّل : قد أثبتوا بفضل قاعدة الواحد لا يصدر منه إلاّ الواحد(1) ، إنّ
الصادر الأوّل من الواجب سبحانه شيء واحد ، وهو العقل الأوّل ، ثمّ أفاض
الوجود ، فأوجد العقل الثاني ، ثمّ اوجد الثاني الثالث إلى أن انتهى الفيض بإيجاد
العقل العاشر ، وهو المسمّى عندهم بالعقل الفعّال . وليست العقول عندهم
منحصرة على وجه القطع بالعشرة ، بل لم يجدوا دليلاً على أزيد منها(2).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1- المراد قاعدة : « لا يصدر من الواحد إلاّ الواحد » ، وعكسها : « لا يصدر الواحد ، إلاّ من
الواحد » . وقد برهنوا عليها ببرهان فلسفي ، لا ينافي صدور ما في الكون جليله ودقيقه من الله
سبحانه على نحو ترتب الأسباب والمسببات.
2- لأن طريق الاستكشاف هو الأفلاك التسعة المحسوسة الكاشفة عن النفوس التسع والعقول العشرة ،
ومن أراد التفصيل فليرجع إلى محله.
________________________________________
( 147 )
الثاني : إنّ ما يقوم به العقل العاشر من الفعل والإفاضة ، هو تكميل
النفوس الإنسانية أوّلاً ، وإفاضة الصور الجوهرية على عالم المادة ثانياً.
فالمخرج للنفوس الإنسانية من القوة إلى الكمال ، ومفيضُ المعارف على
قلوب الأولياء ، والصور الحيوانية والشجرية والمعدنية على المادة الأولى ، هو العقل
الفعّال ، بإذنه سبحانه.
الثالث : إنّ الإنسان مجهز بالحواس الظاهرية الخمس المعروفة ، كما هو
مجهز بحواس باطنية خمس ، هي:
1 ـ الحس المشترك : وهو القوة المدركة لما يرد العقل عبر الحواس الخمس
الظاهرية.
2 ـ الخيال : وهو مخزن الصور المحسوسة المأخوذة من الحسّ المشترك.
3 ـ الواهمة : وهي القُوّة المدركة للمعاني الجزئية ، كالعداوة والصداقة.
4 ـ الحافظة : وهي مخزن المعاني الجزئية المرسلة من الواهمة.
5 ـ العاقلة : وهي القوّة المدركة للمفاهيم الكلية والحقائق المطلقة عن
المادة وآثارها ، ولها شؤون أخرى ، كتركيب الأقيسة والأدلة وغير ذلك.
الرابع : إنّ النفوس الضعيفة غير الكاملة ، أسيرة القوى الباطنة في
مدراجها المختلفة ، من القوّة العاقلة إلى الحسّ المشترك ، ومنه إليها.
وأمّا النفوس القوية الصافية ، فإنّ بإمكانها الخروج عن هذا الإطار
والإتصال بالعقل الفعّال ، إتصالاً روحانياً معنوياً ، وتلقّي الحقائق والمعارف من
ذلك الموجود النوراني.
وهكذا ، فإنّ المعارف العليا المفاضة من العقل الفعّال ، تنعكس على القوّة
العاقلة ، ثمّ تفاض منها إلى القوة الخيالية ، ومنها إلى الحسّ المشترك ، وتأخذ كل
قوة ما هو المناسب لحالها وذاتها : فالحقائق المفاضة من العقل الفعّال إلى النفوس
الكاملة الإنسانية في مرحلة القوة العاقلة ، علومٌ ومعارف ، وفي مرتبة القوة
الخيالية ، صور وتمثّلات ، وفي مرحلة الحسّ المشترك ، كلام فصيح ومنظوم.
________________________________________
( 148 )
فالنبي إذا تمّ استعداده ، وصَفَت نفسه ، يجد في نفسه استعداد للإتصال
بذلك العالم الأعلى ، فتفاض عليه الحقائق والدقائق ، من معارف المبدأ والمعاد ،
والكون والحياة ، والإنسان والمجتمع ، كلّها بصورة معارف كليّة.
ولكن هذه المعارف إذا تنزّلت إلى الدرجة التالية ، أعني القوة الخيالية ،
تتمثل في خياله ملكاً نورانياً يكلمه ويخاطبه بتلك المعارف والأحكام والسنن.
كما أنّها إذا تنزّلت إلى الدرجة الثالثة ، أعني الحسّ المشترك ، قرع أسماعه
صوت وكلام تلتذ به نفسه ، وتحفظه مصوناً عن كل تغيّر وتبدّل.
فليس للوحي حقيقة إلاّ انعكاس ما في العقل الفعّال من المعارف والعلوم
على عقل النبي ، ثمّ تنزله منه إلى خياله ، ومنه إلى حسّه. وليس هذا الإتصال
والتنزل وتلقّي المعارف الكلية ، وتمثل الملك ومشاهدته ، وسماع الصوت والكلام
المنظوم ، أشياء وهمية لا واقعية لها ، بل لكلٍّ منها درجة واقعية أحقّ من الواقعية
الظاهرية المادية.
يقول صدر المتألهين : « إنّ سبب إنزال الكلام وتنزيل الكتاب ، هو أنّ
الروح الإنسانية إذا تجرّدت عن البدن ، مهاجرةً إلى ربّها لمشاهدة آياته الكبرى ،
وتطهّرت عن المعاصي والشهوات والتعلّقات ، لاح لها نور المعرفة والإيمان بالله
وملكوته الأعلى . وهذا النور إذا تأكّد وتَجَوْهَر ، كان جوهراً قدسياً يسمّى عند
الحكماء في لسان الحكمة النظرية بالعقل الفعّال ، وفي لسان الشريعة النبوية
بالروح القدسي.
وبهذا النور الشديد العقلي ، يتلألأ فيها ( أي الروح الإنسانية ) أسرار ما في
الأرض والسماء ، ويتراءى منها حقائق الأشياء ، كما يتراءى بالنور الحسيّ
البصري ، الأشباح المثالية في قوّة البصر إذا لم يمنعها حجاب ، والحجاب ها هنا هو
آثار الطبيعة وشواغل هذا الأدنى ؛ وذلك لأنّ القلوب والأرواح ـ بحسب أصل
فطرتها ـ صالحةٌ لقبول نور الحكمة والإيمان إذا لم يطرء عليها ظلمة تفسدها
كالكفر ، أو حجاب يحجبها كالمعصية وما يجري مجراها.
وبعبارة أخرى : إذا أعرضت النفس عن دواعي الطبيعة وظلمات الهوى ،
________________________________________
( 149 )
والإشتغال بما تحتها من الشهوة والغضب والحسّ والخيال ، وولّت بوجهها شطر
الحق ، وتلقاء عالم الملكوت ، اتّصلت بالسعادة القصوى ، فلاح لها سرّ الملكوت ،
وانعكس عليها قدس اللاهوت ، ورأت عجائب آيات الله الكبرى.
ثمّ إنّ هذه الروح ، إذا كانت قدسية شديدة القوى ، قوية الإنارة لما
تحتها ، لقوة اتّصالها بما فوقها ، فلا يشغلها شأن عن شأن ، ولا يمنعها جهة فوقها
عن جهة تحتها ، فتضبط للطرفين ، وتسع قوتها الجانبين ( الملك والملكوت ) ،
لشدّة تمكّنها في الحدّ المشترك بين الملك والملكوت ، لا كالأرواح الضعيفة ، الّتي إذا
مالت إلى جانب غاب عنها الجانب الآخر ، وإذا ركنت إلى مشعر من المشاعر ،
ذهلت عن المشعر الآخر.
فإذا توجهت هذه الروح القدسية الّتي لا يشغلها شأن عن شأن ، ولا
يصرفها نشأة عن نشأة ، وتلقت المعارف الإلهية بلا تعلّم بشري ، بل من الله ،
يتعدى تأثيرها إلى قواها ، ويتمثل لروحه البشرى ، صورة ما شاهده بروحه
القدسي ، وتبرز منها إلى ظاهر الكون ، فيتمثل للحواس الظاهرة ، لا سيما السمع
والبصر ، لكونهما أشرف الحواس الظاهرة ، فيرى ببصره شخصاً محسوساً في غاية
الحُسْن والصباحة ، ويسمع سمعه كلاماً منظوماً في غاية الجودة والفصاحة ،
فالشخص هو الملك النازل بإذن الله ، الحامل للوحي الإلهي ، والكلام هو كلام
الله تعالى ، وبيده لوح فيه كتاب.
وهذا الأمر المتمثل بما معه أو فيه ، ليس مجرد صورة خيالية لا وجود لها في
خارج الذهن والتخيّل ، كما يقوله من لا حظ له من الباطن ، ولا قَدَم له في أسرار
الوحي والكتاب ، كبعض أتباع المشائين ، معاذ الله عن هذه العقيدة الناشئة من
الجهل بكيفية الإنزال والتنزيل»(1).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1- الأسفار الأربعة : ج 7، ص 24 ـ 25.
________________________________________
( 150 )
تحليل نظرية الفلاسفة
أُعترض على هذه النظرية باعتراضات عديدة ، غير واردة عند من أمعن
النظر وتدبّر فيها ، نذكر بعضاً منها:
الإعتراض الأوّل : إنّ نتيجة هذه النظرية أنّه لا واقعية للملك ولا للصوت
في مرتبة الحسّ ؛ لأنّ القوّة التخيّلية في ذهن النبي هي الّتي توجد الصوت وصورة
الملك في تلك المرتبة ، ثمّ ينعكس من الخيال إلى مرتبة الحسّ.
الجواب : إنّ ما ذكر من الإعتراض يَرِد على عقيدة بعض المشائيين في
الوحي ، كما صرّح به صدر المتألهين نفسه في كلامه المتقدم . وأمّا عند غيرهم ،
فللوحي درجات واقعية حسب مراتب وجوده . فله وجود عقلي وخيالي وحسّي ،
وليس أيٌّ منها مصنوعَ ذهن النبي ونفسه ، تلك النفس الصافية الصقيلة الّتي
ينعكس فيها كل ما في عالم العقل الفعّال . وما ذكرناه من عبارات صدر المتألهين
أوضح شاهد على ذلك
الإعتراض الثاني : إنّ هذا التصوير للوحي ، مقلوب ما نأنسه من
الإدراكات في هذه الحياة ، فإنّ الترتيب الطبيعي للإدراك هو الحسّي ، ثمّ الخيالي ،
فالعقلي ، ولكن على هذه النظرية ، ينقلب الأمر ويشرع الإدراك من العقل ،
وينتهي بالحسّ.
الجواب : إنّ ما ذكره المعترض حقّ في الإدراكات المعاديّة ، وأمّا الإدراكات
المتجاوزة حدّ العادة ، فهي على عكس المأنوس ، والوحي النازل على الأنبياء
إدراك خارق للعادة بدليل عظمة المعارف والقوانين الّتي يأتي بها الوحي إليه.
وغير ذلك من الإعتراضات القابلة للجواب.
والملاحظة الصحيحة على هذه النظرية ، هي أنّ ما ذكروه من أنّ حقيقةً
واحدةً تتجلى في نفس النبيِّ بصور ثلاث ، وإن كان غير ممتنع ، إلاّ أنّه لا دليل
على أنّ الوحي هو خصوص ذاك ؛ إذ ربّ وليّ من الأولياء الذين صفت
ضمائرهم ، وطهرت قلوبهم ، نالوا المعارف والحقائق المفاضة من ذاك العالم
________________________________________
( 151 )
بالإشراق ، ومع ذلك لا يصحّ تفسيره بالوحي المصطلح ، وإلاّ كان كل إنسان يدرك في
عقله حقيقة عليا ، ثمّ تتجلى في خياله ، ثمّ في حسّه ، نبياً أو رسولاً.
وقد بلغ الحواريون درجةً راقيةً من المعرفة والإدراك حتى خاطبهم الباري عزّ
وجلّ ، كما يشير إلى ذلك بقوله: ( وَ إِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيينَ أَنْ آمِنُوا بِي
وَ بِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَ اشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ)(1). ومع ذلك لم يُسَمِّهِمُ القرآن
رسلاً ، ولا أنبياء ، ولا الكلام المنزل عليهم وحياً نبوياً ، رسالياً ، وإنّما كان
إلهاماً قوياً.
فحق المقال في الوحي ما ذكرناه في صدر البحث ، من أنّه مجهول الكنه ،
معلوم الآثار ، يجب الإيمان به كالإيمان بالغيب على الإطلاق.
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1- سورة المائدة : الآية 111.
التعلیقات