هل العصمة تسلب الإختيار؟
المصدر : الإلهيات على هدى الكتاب والسنّة والعقل : للشيخ جعفر السبحاني ، ج3 ، ص 172 ـ 174
( 172 )
سؤالان هامّان
السؤال الأوّل: هل العصمة تسلب الإختيار؟
ربما يتوهّم أنّ العصمة تسلب من المعصوم الحرية والاختيار ، وتقهره على
ترك المعصية ، لتكون النتيجة انتفاء كلّ مكرمة ومحمدة ربما تنسب إليه لاجتنابه
المعاصي والمآثم . وقد أُشير في أمالي السيّد المرتضى إلى ما ذكرنا ، عند إيراد السؤال
التالي:
« ما حقيقة العصمة الّتي يعتقد وجوبها للأنبياء والأئمة ، وهل هي معنى
يضطّر معه إلى الطاعة ، ويمنع عن المعصية ، فكيف يجوز الحمد لتارك المعصية ،
والذمّ لفاعلها . وإن كان معنى يضاهي الاختيار ، فاذكروه ودلّوا على صحّة
مطابقته له»(1).
جوابه
إنّ العصمة لا تسلب الاختيار عن المعصوم بأيٍّ من التحاليل الّتي مضت ،
ويتّضح ذلك بالنظر في العصمة النسبية المتحققة في العاديين من الناس ، فقد تقدم
أنّ العالِم بوجود الطاقةِ الكهربائية في الأسلاك العارية ، لا يمسّها ، والطبيب لا
يشرب سؤر المجذومين والمسلولين ، لعلمهما بعواقب فعلهما . ومع ذلك ، فكل
منهما ـ في حال اجتنابه عن الفعل ـ قادر على الفعل لو غضّ طرفه عن حياته وخاطر
بها ، ولكنهما لا يقومان به لحبِّ كلٍّ منهما صحتَه وسلامته.
إنّ كلّ واحد من العملين المزبورين ممكن الصدور بالذات منهما ، غير أنّه
ممتنع الصدور بالعرض والعادة ، لا ذاتاً وعقلاً ، وكم فرق بين المحالين . ففي
المحال العادي يكون الصدور من الفاعل ممكناً بالذات ، غير أنّه يرجّح أحد
الطرفين على الآخر بالدواعي الموجودة في ذهنه ، بخلاف الثاني ، فإنّ أصل الفعل
ممتنع بذاته ، فلا يصدر لذلك ، لا لعدم الدواعي ، وهذا نظير صدور القبيح من
ــــــــــــــــــــــــــــ
1- أمالي السيّد المرتضى : ج 2، ص 347.
________________________________________
( 173 )
الله سبحانه ، فإنّه ممكن بالذات ، فيقع تحت إطار قدرته ، فبإمكانه تعالى إخلاد
المطيع في نار جهنم ، لكنه لا يصدر منه ، لكونه مخالفاً للحكمة ، ومبائناً لما وعد
به.
وعلى ذلك فامتناع صدور الفعل من الإنسان ، حفظاً للأغراض
والغايات ، لا يكون دليلاً على سلب الاختيار والقدرة.
وهكذا ، فالنبي المعصوم قادر عل اقتراف المعاصي ، بمقتضى ما أُعطي من
القدرة والحرية ، غير أنّ تقواه العالية ، وعلمه بآثار المعاصي ، واستشعاره عظمة
الخالق ، يصدّه عن ذلك ، فهو كالوالد العطوف الّذي لا يُقدم على ذبح ولده ولو
أُعطي ملأ الإرض ذهباً ، وإن كان مع ذلك قادراً على قطع وتينه ، كما يقطع
وتين عدوه.
يقول العلامة الطباطبائي : إنّ ملكة العصمة لا تغيرّ الطبيعة الإنسانية
المختارة في أفعالها الإرادية ، ولا تُخرجها إلى ساحة الإجبار والإضطرار . كيف ،
والعلم من مبادئ الاختيار ، ومجرّد قوة العلم لا يوجب إلاّ قوة الإرادة . كطالب
السلامة إذا أيقن بكون مائع ما سمّاً قاتلاً من حينه ، فإنّه يمتنع باختياره من
شربه ، ويشهد على ذلك قوله سبحانه: (وَ اجْتَبَيْنَاهُمْ وَ هَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاط
مُسْتَقِيم * ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَ لَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ
مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)(1) ، والضمير في (واجْتَبَيْناهُمْ) يرجع إلى الأنبياء . وفي
الوقت نفسه تفيد الآية أنّ في إمكانهم أن يشركوا بالله ، غير أنّ الإجتباء والهداية
الإلهية ، يمنعان من ذلك.
ومثله قوله سبحانه: ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ
تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَ اللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ
الْكَافِرِينَ)(2).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1- سورة الأنعام: الآيتان 87 ـ 88.
2- سورة المائدة: الآية 67.
________________________________________
( 174 )
إلى غير ذلك من الآيات الصريحة في قدرة الأنبياء على المخالفة»(1).
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1- لاحظ الميزان : ج 11، ص 179.
التعلیقات