نسخ المتعة بالإجماع
المصدر : زواج المتعة ، تأليف : السيّد جعفر مرتضى الحسيني العاملي ، ج1 ، ص 163 ـ 198
________________________________________ الصفحة 163 ________________________________________
الفصل الثالث
نسخ المتعة بالإجماع
________________________________________ الصفحة 164 ________________________________________
________________________________________ الصفحة 165 ________________________________________
اليقين بالناسخ:
وبعد أن عرفنا: أن هذا التشريع ثابت في الإسلام، وأن ذلك مما أجمعت عليه الأمة، وقد نص القرآن، ودلت الأخبار الكثيرة والمتواترة عن النبي (صلى الله عليه وآله) على تشريعه وسيأتي شطر منها فإن ذلك الحكم لا يرتفع إلا بعد ورود الناسخ بصورة يقينية، فعلى مدعي النسخ إثبات ذلـك بالأدلة القاطعة والبراهين الساطعة، ومن أين له ذلك، وأنى..
ونحن رغم اقتناعنا بأن دعوى النسخ قد جاءت بهدف تبرير بعض المواقف التي لم يفهمها البعض على حقيقتها، إلا أننا نجد أن من الإنصاف التعرض لها ومناقشتها بكل تفاصيلها، وجزئياتها حتى لا يبقى عذر لمعتذر، ولا حيلة لمتطلب حيلة.
________________________________________ الصفحة 166 ________________________________________
وقبل التعرض لذلك نقول:
قال الرازي هنا: إن الناسخ إن كان معلوماً بالتواتر، فإن مخالفة طائفة من الصحابة وغيرهم ممن سنذكرهم في هذا الكتاب توجب كفرهم، وخروجهم من الدين.
وإن كان الناسخ معلوماً بالآحاد يلزم جعل المظنون ناسخاً للمقطوع وهو باطل أيضاً(1).
وذلك يدفع إلى القول؛ بأن لا ناسخ في البين، وأن ما يدعونه ناسخاً لا يصلح لذلك..
لا بد من الإنصاف:
وقبل البدء في الحديث عما يقال من أن زواج المتعة منسوخ، نود أن نشير ـ بمرارة وأسف ـ إلى أن طريقتنا في الاستدلال تختلف عن طريقة أنصار نسخ هذا التشريع.
إذ إننا حين نأخذ دليل الإباحة من البخاري ومسلم وغيرهما، ونترك دليل النسخ، فإنما نتركه لأجل تناقض رواياته، وضعفها، ولغير ذلك من أمور كثيرة جداً بيناها في هذا
____________
(1) راجع: التفسير الكبير ج 10 ص 52
________________________________________ الصفحة 167 ________________________________________
الكتاب.
لكن ما يلفت نظرنا هنا هو: أننا نجد الطرف الآخر يكيل بمكيالين، حيث إنه حين يأخذ بدليل النسخ، لا ينظر فيه ليرى إن كان مما تقوم به الحجة، أو كان تام الدلالة أم لا، بل هو يتغاضى عن كل ما فيه من هنات وقد لا يشير أبداً إلى دليل الإباحة ولا يقرره تقريراً تاماً أو موضوعياً.
النسخ يقتضي جعل البديل:
لقد ادعى فريق من المسلمين أن زواج المتعة منسوخ.. ونحن قبل الشروع في بيان ما استند إليه نقول: لو افترضنا ان هذا الزواج قد نسخ بالفعل فإن نسخه ليس من قبيل التخفيف، ورفع حكم إلزامي عن هذه الأمة.
وإنما هو نسخ لحكم قد وضع لأجل حل مشكلة.
فإذا نسخ، وبقيت تلك المشكلة قائمة فيجب على الشارع أن يجعل بديلاً عن ذلك الحكم المنسوخ، خصوصاً إذا كان من يدعي النسخ يعتبر أن قوله تعالى: (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها) يشير إلى هذا النوع من النسخ..
________________________________________ الصفحة 168 ________________________________________
ومعنى ذلك:
أنه لا بد من عوض وبدل عن المنسوخ، وهو المتعة هنا، ولا بد أن يكون البدل من جنس المبدل منه أو قريباً منه، كما هو الحال في نسخ القبلة عن بيت المقدس، فقد أعطى قبلة خيراً منها وهي الكعبة..
ولا نرى أنه تعالى قد أعطى بديلاً عن زواج المتعة، لا خيراً منه، ولا حتى مثله.. فإما أن تكون السنة الإلهية قد تبدلت، وزال الوعد الإلهي، أو أن النسخ المدعى غير صحيح.
ما هو ناسخ آية المتعة:
قد عرفنا أن زواج المتعة قد ثبت تشريعه في الإسلام بالكتاب والسنة، وإجماع المسلمين، فمن يدعي النسخ، فعليه إثبات ذلك بالأدلة القطعية، وقد ادعت بعض الفئات من المسلمين نسخه.
قال الفخر الرازي عن آية المتعة: «الآية على تقدير ثبوتها لا تدل إلا على أن المتعة كانت مشروعة، ونحن لا ننازع فيه، وإنما الذي نقوله: إن النسخ طرأ عليه»(1).
____________
(1) التفسير الكبير ج 10 ص 51.
________________________________________ الصفحة 168 ________________________________________
وقد اختلفوا بالنسبة لناسخ آية المتعة، فقد قيل إنها نسخت بـ:
1 ـ الإجماع: قال ابن العربي: «فإنا لو قلنا: أن نكاح المتعة جائز فهي زوجة إلى أجل، ينطبق عليها اسم الزوجية، وان قلنا بالحق الذي أجمعت عليه الأمة من تحريم نكاح المتعة لما كانت زوجة، فلم تدخل في الآية»(1).
أضاف القرطبي: «قلت: وفائدة هذا الخلاف هل يجب الحد، ولا يلحق الولد، كالزنا الصريح؟ أو يدفع الحد بالشبهة، ويلحق الولد؟ قولان لأصحابنا»(2) وسنذكر طائفة من أقوال القائلين بأن النسخ قد ثبت بالإجماع.
2 ـ وقال آخرون: نسخت بالأخبار(3).
____________
(1) أحكام القرآن ج 3 ص 1311 ط دار المعرفة تحقيق علي محمد البجاوي.
(2) الجامع لأحكام القرآن ج 12 ص 106.
(3) راجع تفسير البيضاوي ج 1 ص 259، والتسهيل لعلوم التنزيل ج 1 ص 137، وتفسير القرآن العظيم ج 1 ص 474، ولباب التأويل ج 1 ص 343، وفتح القدير للشوكاني ج 1 ص 414، والتفسير الكبير ج 10 ص 50 والمحلى ج 9 ص 519، وعن تفسير أبي السعود مطبوع بهامش التفسير الكبير ج 3 ص 251، والغدير ج 6 ص 224 و 225 عمن تقدم.
________________________________________ الصفحة 170 ________________________________________
3 ـ وفريق ثالث يقول: إنها نسخت بالقرآن(1).
ونقول:
إن ذلك كله لا يصح، ونفصل القول في ذلك فيما يلي من مطالب..
النسخ بالإجماع، لا يصح:
قالوا: «إن زمن إباحة المتعة لم يطل، وإنه حرّم ثم أجمع السلف والخلف على تحريمها إلا من لا يلتفت إليه من الروافض(2) وزعم جماعة من الأئمة بتفرد ابن عباس بإباحتها..».
ولكن قال ابن عبد البر: «أصحاب ابن عباس من أهل مكة، واليمن على إباحتها ثم اتفق فقهاء الأمصار على تحريمها إلخ..»(3).
وقالوا أيضاً:
____________
(1) لباب التأويل ج 1 ص 343 وستأتي المصادر الكثيرة الدالة على ذلك.
(2) أوجز المسالك ج 9 ص 404 وفتح الباري ج 9 ص 150.
(3) نيل الأوطار ج 6 ص 271 و 272.
________________________________________ الصفحة 171 ________________________________________
«فلم يبق اليوم في ذلك خلاف بين فقهاء الأمصار وأئمة الأمة إلا شيئاً ذهب إليه بعض الشيعة، إلخ..»(1)، ويروى أيضاً عن ابن جرير جوازه(2).
وقالوا أيضاً عن قول جابر الأنصاري:
«فعلناها مع رسول الله (صلى الله عليه وآله)».
وقوله: «فنهانا عمر فلم نفعله بعد»:.. فإن كان قوله «فعلناها»، يعم كل الصحابة فقوله: «لم نعد» يعم جميع الصحابة، فيكون إجماعاً»(3).
وقال عياض: «ثم وقع الإجماع من جميع العلماء على تحريمها إلا الروافض»(4).
وقال آخر: «ثبت النسخ بإجماع الصحابة»(5).
وقال غيره: «ثم أجمع الصحابة على أن المتعة قد
____________
(1) نيل الأوطار ج 6 ص 272 والاعتبار ص 176.
(2) الاعتبار ص 176.
(3) أوجز المسالك ج 9 ص 404.
(4) أوجز المسالك ج 9 ص 404، وفتح الباري ج 9 ص 150.
(5) شرح فتح القدير ج 3 ص 150 ومرقاة المفاتيح ج 3 ص 422.
________________________________________ الصفحة 172 ________________________________________
نسخت في حياة النبي (صلى الله عليه وآله)»(1).
وعلى حد تعبير العيني: «قد يثبت(2) النسخ بإجماع الصحابة»(3).
وقال آخر: «إنه صار منسوخاً بإجماع الصحابة»(4).
لكن عبارة البعض هكذا: «تحريم نكاح المتعة كالإجماع بين المسلمين إلا عن بعض الشيعة(5)، ولعل هذا هو مراد العيني من قوله: قد يثبت».
وقال النووي: «ووقع الإجماع بعد ذلك على تحريمها من جميع العلماء إلا الروافض إلخ..»(6).
____________
(1) شرح العناية لمحمد بن محمود الباربرتي ج 3 ص 150.
(2) لعل الصحيح: ثبت.
(3) البناية في شرح الهداية ج 4 ص 100.
(4) مجمع الأنهر ج 1 ص 320.
(5) فتح الملك المعبود ج 3 ص 227 وراجع: أوجز المسالك ج 9 ص 404 وعون المعبود ج 6 ص 84، وفقه السنة ج 2 ص 42 وشرح السنة للبغوي ج 5 ص 78 وفتح الباري ج 9 ص 150. وتحريم المتعة في الكتاب والسنة ص 51 عن معالم السنن للخطابي.
(6) شرح النووي على صحيح مسلم ج 9 ص 180 وأوجز المسالك ج 9 ص 410.
________________________________________ الصفحة 173 ________________________________________
وادعوا: أنه بلغ أمير المؤمنين علياً (عليه السلام) قول ابن عباس في المتعة، فقال له (عليه السلام): إن رسول الله (صلى الله عليه وآله): «نهى عنها، وعن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر»(1)، وقد قال له (عليه السلام) ذلك: «لأنه كان يرى جواز المتعة، بناء على ما كان أولاً في حياة النبي (صلى الله عليه وآله)، ولم يكن بلغه النسخ، ولم يصح عنده، فلما أخبره بذلك رجع إلى قوله وانعقد على ذلك الإجماع، ولم يخالف فيه إلا من لم يعتد بخلافه ممن يزعم أنه من شيعة علي (عليه السلام)»(2).
وقال محمد بخيت المطيعي: «إن المتعة، وان أبيحت يوم خيبر، فقد حرمت بعد ذلك في زمن النبي (صلى الله عليه وآله)..» إلى أن قال: «وعلى هذا انعقد الإجماع من الصحابة، وغيرهم على حرمتها، فلم يقع فيها إجماع بعد خلاف»(3).
____________
(1) وستأتي المصادر لهذا الحديث إن شاء الله تعالى.
(2) راجع: أسمى المناقب ص 145 و 158 و 160.
(3) سلم الوصول إلى نهاية السؤل ج 3 ص 292.
________________________________________ الصفحة 174 ________________________________________
وقال الأسنوي: «.. وباتفاقهم على تحريم المتعة، يعني نكاح المرأة إلى مدة، مع أن ابن عباس من كان يفتي بالجواز».
ثم تنظّر في ذلك إذ قد نقل عن الماوردي وغيره: «أن ابن عباس رجع فأفتى بالتحريم»(1).
وقال أيضاً: «إن الخلاف بين الأصوليين هل يصح الإجماع على أحد القولين بعد الخلاف أم لا ينعقد؟ وحكم الخلاف باق. وهو مذهب الباقلاني.. وهذا على عدم صحة رجوع ابن عباس عنها، فأما ما روي من رجوعه فقد انقطع الخلاف جملة»(2).
وأغرب تعبير قرأناه في هذا الصدد هو قول البعض: «وقد انعقد الإجماع في شورى الصحابة، حينما نهى عنها عمر (رض) وهو على المنبر أيام خلافته، وأقره الصحابة»(3).
فهل أصبحت الأحكام الإلهية تثبت أو ترفض من خلال شورى يعقدها الصحابة؟!.
____________
(1) نهاية السؤل ج 3 ص 387، وقريب من ذلك في فتح الملك المعبود ج 3 ص 227.
(2) شرح الموطأ للزرقاني ج 4 ص 49.
(3) تحريم المتعة في الكتاب والسنة ص 50.
________________________________________ الصفحة 175 ________________________________________
وأخيراً، فقد قال الشوكاني: «ثم قد أجمع المسلمون على التحريم ولم يبق على الجواز إلا الرافضة. وليسوا ممن يحتاج إلى دفع أقوالهم، ولا هم ممن يقدح في الإجماع، فإنهم في غالب ما هم عليه مخالفون للكتاب والسنة ولجميع المسلمين».
قال ابن المنذر: «جاء عن الأوائل الرخصة فيها ـ يعني المتعة ـ ولا أعلم اليوم أحداً يجيزها إلا بعض الرافضة».
وقال القاضي عياض: «أجمع العلماء على تحريمها إلا الروافض».
وقال ابن بطال: «وأجمعوا الآن على أنه متى وقع ـ يعني المتعة ـ أبطل، سواء كان قبل الدخول أو بعده».
وقال الخطابي: «تحريم المتعة كالإجماع إلا عن بعض الشيعة»(1).
ونقول:
إن دعوى أن الإجماع هو الذي نسخ تشريع المتعة الثابت
____________
(1) السيل الجرار ج 2 ص 268.
________________________________________ الصفحة 176 ________________________________________
بالقرآن الكريم، وبالسنة والإجماع، لا تصح.
وذلك للأمور التالية:
أولاً:
قول الشوكاني عن الرافضة: إنهم في غالب ما هم عليه مخالفون للكتاب والسنة ولجميع المسلمين، غير صحيح.. ويعلم ذلك بالبداهة، فإن ما يذهبون إليه ـ إلا ما قل ـ يوافقهم فيه هذا المذهب أو ذاك، أو اعلام آخرون لا يجرؤ أحد على الطعن بانتسابهم إلى مذهب أهل السنة والجماعة..
ثانياً:
إذا كانت حجة هؤلاء هي الإجماع دون سواه، على اعتبار أن الإجماع حجة في مورد لا يوجد فيه نص، فاستدلالهم به يفرض عليهم التخلي عن الاستدلال بالأخبار.
ثالثاً:
إن الحديث عن وجود إجماع على التحريم، غير صحيح، حيث سيأتي في فصل أقوال ومذاهب أن عدداً كبيراً من الصحابة والتابعين وغيرهم، كأهل مكة واليمن، وأكثر أهل الكوفة، يقولون باستمرار الحكم بإباحة هذا الزواج، بل حكي القول بالحلية عن جميع الصحابة، كما ذكره ابن حزم، عن جابر، وحكي أيضاً عن بعض أئمة المذاهب الأربعة وغيرهم، وعن أكابر علماء الأمة، فضلاً عن أهل البيت، وشيعتهم رضوان
________________________________________ الصفحة 177 ________________________________________
الله عليهم، ومع هذا فكيف يدعي هؤلاء الإجماع على النسخ؟!.
رابعاً:
إن عدداً ممن ينسب إليهم القول بالنسخ لا تصح نسبة ذلك إليهم.. خصوصاً ابن عباس وعلي (عليه السلام) كما سيأتي في الحديث عنه في فصل مستقل بالإضافة إلى ما سيمر علينا من دلائل على عدم صحة ذلك حين الحديث عن النسخ في خيبر، وفي حجة الوداع، وفي تبوك، وسيأتي في فصل النصوص والآثار: أن علياً (عليه السلام) قال: لولا أن عمر نهى عن المتعة ما زنى إلا شقي، وسيأتي أيضاً أنه عليه السلام تمتع بامرأة من بني نهشل بالكوفة..
وأما سعيد بن جبير فسيأتي في فصل النصوص والآثار أنه هو نفسه قد مارس هذا الزواج..
وسنذكر في فصل النصوص والآثار، وتقدم أيضاً: أن الحكم بن عتيبة سئل عن آية المتعة، هل هي منسوخة؟ فقال لا.
وقد صرح عمران بن الحصين بعدم نسخ آية المتعة.
وأما ابن عباس، فقد تقدم قوله: «إن الآية محكمة غير منسوخة».. وكان يستدل بها على بقاء تشريع هذا الزواج.
________________________________________ الصفحة 178 ________________________________________
وأجابوا عن ذلك: بأن: «ابن عباس صح رجوعه إلى قولهم [أي الصحابة] فتقرر الإجماع»(1).
وسنذكر في فصل: علي (عليه السلام) وابن عباس، أنه لم يرجع عن ذلك.
خامساً:
إن الروايات الكثيرة جداً، ـ وستأتي ـ صريحة في أن التحريم لم يكن في زمن النبي (صلى الله عليه وآله) ولا في زمن أبي بكر، ولا شطراً من خلافة عمر بن الخطاب.
سادساً:
يقول الجمهور: «إن الإجماع لا ينسخ ولا ينسخ به»(2).
ولهذا التجأ البعض إلى أن يقول:
إن النسخ إنما هو بالأخبار، والإجماع مظهر، لأن نسخ الكتاب والسنة بالإجماع ليس بصحيح على المذهب الصحيح(3).
____________
(1) الهداية ج 1 ص 195، ورجوع ابن عباس مذكور في البحر الزخار ج 4 ص 23 وراجع: الجامع الصحيح للترمذي المطبوع مع تحفة الآحوذي ج 4 ص 268، وراجع: مرقاة المفاتيح ج 3 ص 422.
(2) راجع: البناية في شرح الهداية ج 4 ص 100.
(3) راجع: شرح التلويح للتفتازاني والمستصفى للغزالي ج 1 ص 126، والإحكام ج 3 ص 146 وشرح فتح القدير لكمال الدين محمد عبد الواحد ج 3 ص 150، وشرح النووي على صحيح مسلم بهامش إرشاد الساري ج 1 ص 50
=>
________________________________________ الصفحة 179 ________________________________________
فكيف إذا كان هذا الإجماع متأخراً عن عهد الصحابة، والتابعين؟ فإن النسخ بإجماع كهذا يتناقض مع قوله (صلى الله عليه وآله): «حلال محمد حلال إلى يوم القيامة، وحرام محمد حرام إلى يوم القيامة».
وكيف أيضاً إذا كان أهل البيت (عليهم السلام) وشيعتهم مخالفين لهؤلاء المجمعين، ويفتون بخلافهم؟.
هذا.. عدا عن وجود مخالفين كثيرين من غيرهم، حتى أئمة المذاهب الأربعة، كما سيأتي إن شاء الله تعالى في فصل: أقوال ومذاهب.
سابعاً:
إن هذا الإجماع قد علم فيه مستند المجمعين، فلا يكون حجة بل ينظر إلى مستندهم نفسه.
ثامناً:
قال التفتازاني في شرح التلويح صفحة 51: ذكر الجمهور أن الإجماع القطعي، وهو إجماع الصحابة لا يجوز تبديله ونسخه بإجماع آخر متأخر عنه(1) فإن كان ثمة إجماع
____________
<=
و52و53، وفواتح الرحموت بهامش المستصفى ج 2 ص 81، ومنهاج الوصول للبيضاوي، وشرحه المسمى بنهاية السؤل للأسنوي ج 2 ص 589، وإرشاد الفحول ص 197، وراجع: مرقاة المفاتيح ج 3 ص 422.
(1) المتعة في الإسلام للعلامة السيد حسين مكي ص 38.
________________________________________ الصفحة 180 ________________________________________
على التحليل لزواج المتعة فلا يرفعه أي إجماع على خلافه يأتي بعده.
تاسعاً:
وبعد ما تقدم نقول: لعل الذين يقولون بالنسخ بالإجماع هم من أولئك الذين يعتبرون الإجماع نبوة بعد نبوة(1) وهو حجة قاطعة للعذر متى انعقد وفي أي عصر كان(2) ويرون أن الأمة معصومة(3) وأن المراد بالأمة المعصومة، وبالنبوة هو من عدا أهل البيت (عليهم السلام) وشيعتهم.
عاشراً:
أما بالنسبة لهذا الأمر الذي يطال الخليفة الثاني بالتساؤل فلا بد أن يتحقق إجماع ناسخ حتى ولو خالف فيه خليفة آخر هو رابع الخلفاء الراشدين، وثلاثة من الأئمة الأربعة، وخالف أهل مكة واليمن وأكثر علماء أهل الكوفة
____________
(1) راجع: المنتظم ج 9 ص 210 والإلمام ج 6 ص 123 والإحكام في أصول الأحكام ج 1 ص 204 و 205 وبحوث مع أهل السنة والسلفية ص 27.
(2) الإحكام في أصول الأحكام ج 1 ص 208 وتهذيب الأسماء ج 1 ص 42 والنشر في القراءات العشر ج 1 ص 7 و31و33 و أي كتاب يبحث في حجية الإجماع على مذاق أهل السنة.
(3) راجع: تهذيب الأسماء ج 1 ص 42 والإلمام ج 6 ص 142 والباعث الحثيث ص 35 وشرح صحيح مسلم [مطبوع بهامش إرشاد الساري] ج 1 ص 28 ونهاية السؤل ج 3 ص 325 وسلم الوصول ج 3 ص 326 وعلوم الحديث لابن الصلاح ص 24 وإرشاد الفحول ص 82 والإحكام في أصول الأحكام للآمدي ج 4 ص 188 و 189.
________________________________________ الصفحة 181 ________________________________________
وكثيرين من الصحابة والتابعين وغيرهم!!!.
حادي عشر:
قال أمين محمود خطاب: «وأجيب: بأن الخلاف إنما كان في الصدر الأول إلى آخر خلافة عمر (رض). والإجماع إنما هو فيما بعد..».
إلى أن قال: «وأكثر أهل العلم على تحريم المتعة»(1).
ثاني عشر:
إن الإجماع بعد الخلاف لا يرفع الخلاف السابق، فلاحظ التصريحات التالية:
أ ـ قال الزرقاني: «وتعقب قوله: لم يخالف إلا الروافض» بأنه ثبت الجواز عن جمع من الصحابة كجابر، وابن مسعود، وأبي سعيد، ومعاوية، وأسماء بنت أبي بكر، وابن عباس، وعمر بن الحويرث، وسلمة، وعن جماعة من التابعين..
وأجيب: بأن الخلاف إنما كان في الصدر الأول إلى آخر خلافة عمر، والإجماع إنما هو فيما بعد.
واختلف هل رجع ابن عباس إلى التحريم أم لا..
____________
(1) فتح الملك المعبود ج 3 ص 225.
________________________________________ الصفحة 182 ________________________________________
قال ابن عبد البر: «أصحابه من أهل مكة، واليمن، يرونه حلالاً».
واختلف الأصوليون في الإجماع بعد الخلاف، هل يرفع الخلاف السابق أم لا يرفعه، ويكون الخلاف باقياً، ومن ثم جاء الخلاف في من نكح متعة هل يحدّ أم لا؟ (1).
ب ـ «وقالوا: إن الخلاف إذا انقطع ووقع الإجماع على أحد أقواله بعد موت قائله وقبل رجوعه عنه فإن الناس مختلفون فيه، فذهب القاضي أبو بكر إلى أن الإجماع لا ينعقد بموت المخالف، فعلى هذا حكم الخلاف باقٍ في حكم قضية المتعة.. وبذلك لا يحد فاعله، وقال جماعة: ينعقد الإجماع بموت إحدى الطائفتين.. إلى أن قال: فعلى هذا يحدّ فاعله»(2).
وقال: «ومما يدل على أنه لم ينعقد الإجماع على تحريمه أنه يلحق به الولد»(3).
ج ـ ورغم أن النووي قد قال: «ووقع الإجماع بعد ذلك على
____________
(1) شرح الموطأ للزرقاني ج 4 ص 47.
(2) أوجز المسالك ج 9 ص 410.
(3) المصدر السابق.
________________________________________ الصفحة 183 ________________________________________
تحريمها من جميع العلماء إلا الروافض..».
لكنه ألحقه بقوله: «وكان ابن عباس يقول بإباحتها، وروي عنه أنه رجع عنها».
إلى أن قال: «واختلف أصحاب مالك، هل يحدّ الواطئ فيه، ومذهبنا أنه لا يحد لشبهة العقد وشبهة الخلاف..».
ومأخذ الخلاف اختلاف الأصوليين في أن الإجماع بعد الخلاف هل يرفع الخلاف، وتصير المسألة مجمعاً عليها، والأصح عند أصحابنا أنه لا يرفعه بل يدوم الخلاف، ولا تصير المسألة بعد ذلك مجمعاً عليها أبداً، وبه قال القاضي أبو بكر الباقلاني (1).
د ـ وقال ابن حجر الهيثمي: «.. ثم حرّم عام خيبر، ثم جاز عام الفتح، وقيل: حجة
____________
(1) شرح النووي على صحيح مسلم ج 9 ص 180 وراجع أوجز المسالك ج 9 ص 410 و 411.
________________________________________ الصفحة 184 ________________________________________
الوداع، ثم حرم أبداً بالنص الصريح الذي لو بلغ ابن عباس لم يستمر على حلها، مخالفاً كافة العلماء..
وحكاية الرجوع عنه لا تصح بل صح كما قال بعضهم عن جمع من السلف أنهم وافقوه في الحل، لكن خالفوه، فقالوا: لا يترتب عليه أحكام النكاح، وبهذا نازع الزركشي في حكاية الإجماع فقال: الخلاف محقق وإن ادعى جمع نفيه»(1).
هـ ـ «وفي نور الأنوار: قيل: يشترط للإجماع اللاحق عدم الاختلاف السابق عند أبي حنيفة، يعني إذا اختلف أهل عصر في مسألة وماتوا عليه، ثم يريد من بعدهم أن يجمعوا على قول واحد منهما، قيل لا يجوز ذلك الإجماع عند أبي حنيفة، وليس كذلك في الصحيح، بل الصحيح أنه ينعقد عنده إجماع متأخر، ويرتفع الخلاف السابق من البين، وفي هامشه على قوله عند أبي حنيفة اختار هذا القول أحمد بن حنبل، ومن الشافعية الغزالي، وقال الموفق: لا يجب الحد بالوطئ في نكاح مختلف فيه كنكاح المتعة وغيرها، وهذا قول أكثر أهل العلم، فإن الاختلاف في إباحة الوطئ فيه شبهة والحدود تدرأ بالشبهات، قال ابن المنذر
____________
(1) تحفة المحتاج بشرح المنهاج ج 7 ص 224.
________________________________________ الصفحة 185 ________________________________________
أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم أن الحدود تدرأ بالشبهة»(1).
وأخيراً، فلا نرى أننا بحاجة إلى التذكير بسقوط القول: بوجود شورى للصحابة حين أعلن عمر تحريم المتعة على المنبر.. فإنه لم يكن ثمة من شورى آنئذٍ، بل كان هناك فرض للمنع من قبل عمر، كما سيأتي توضيحه في أكثر من موضع من هذا الكتاب.. وسنذكر أن كثيراً من الصحابة لم يلتزموا بما فرضه عليهم عمر..
تقرير الإجماع بطريقة أخرى:
ويقول البعض ما ملخصه: «إن الإجماع قائم على تحريم نكاح المتعة، وذلك بالبيان الآتي: إن عمر قد نهى عن المتعة، وتوعد عليها وغلظ أمرها.. وذكر أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد نهى عنها على المنبر، بحضرة المهاجرين والأنصار، ولم يعارضه، ولا رد عليه منهم أحد، مع ما كانوا عليه من الحرص على إظهار الحق، وبيان الواجب والخطأ.
____________
(1) أوجز المسالك ج 9 ص 411.
________________________________________ الصفحة 186 ________________________________________
وقد عارضه أبي بن كعب في متعة الحج، وعارضه معاذ بن جبل في رجم الحامل، وقال له: إن كان لك سبيل عليها، فلا سبيل لك على ما في بطنها، وعارضته المرأة في أمر الصداق وغير ذلك، إذ لا يجوز لمثلهم المداهنة في الدين، ولا السكوت على استماع الخطأ لا سيما في أمور الشريعة.
فسكوتهم يعلمنا أن التحريم ثابت، وأن الحلية منسوخة عندهم كما هو الحال عند عمر.
ولو لم يقل بتحريم المتعة إلا واحد من الصحابة رضوان الله عليهم إذا لم يكن له فيهم مخالف لوجب علينا الأخذ بقوله، والمصير إلى علمه، لأنه لم يقل ذلك إلا عن علم ثاقب، ورأي صائب، وقد قال النبي (صلى الله عليه وآله): أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم، وقد أجمعوا كلهم على ذلك: فكان من خالف ذلك، واستحل نكاح المتعة مخالفاً للإجماع، معانداً للحق والصواب»(1).
ويقول أيضاً: «إباحة نكاح المتعة ليس في كتاب الله، ولا في سنة رسول
____________
(1) تحريم نكاح المتعة ص 77 و 78
________________________________________ الصفحة 187 ________________________________________
الله (صلى الله عليه وآله)، ولا في إجماع الصحابة، ولا قول واحد منهم، ولا من التابعين.. ولا العلماء بل في كل ذلك قد أنهي (كذا) عنه ومنع منه، فكان الأخذ بخلافهم ضلالاً»(1).
1ـ أقول:
الصحيح هو أن الذي اعترض على عمر لتحريمه المتعة هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وعمران بن الحصين، وابن عباس، بل اعترض عليه كل القائلين بالتحليل من بعده حسبما يظهر في فصل: أقوال ومذاهب، وفي فصل النصوص والآثار. فلا معنى لهذا الجزم القاطع من هذا القائل..
ثانياً:
سيأتي: أن عدم الاعتراض عليه، وهو يتوعد ويتهدد لا يدل على رضا الساكتين وموافقتهم على ما يقول. وسيأتي مزيد توضيح لهذا الأمر في القسم الثالث من هذا الكتاب. وليكن استمرارهم على ممارسة هذا الزواج، وعلى القول بحليته رغم كل هذه الشدة والحدة، نعم ليكن ذلك أبلغ رد عليه وأوضح اعتراض على قرار المنع الصادر منه.
____________
(1) تحريم نكاح المتعة ص 79.
________________________________________ الصفحة 188 ________________________________________
ثالثاً:
إن إباحة المتعة، وارد في كتاب الله في قوله تعالى: (فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن)، ثم هو ثابت أيضاً في سنة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقد أجمعت عليه الأمة، لكن البعض يدعي وجود ناسخ، وأنى له بإثباته، بل الثابت عكسه..
بل إن الخليفة الثاني نفسه، قد أقر باستمرار تشريع هذا الزواج في عهد أبي بكر، ثم في النصف الأول من خلافته هو، وأنه هو الذي ينهى ويمنع.
رابعاً:
قد عرفت أن طائفة كبيرة من الصحابة والتابعين، ومن فقهاء الإسلام، بل إن الأئمة الأربعة ـ باستثناء الشافعي ـ قد نقل عنهم القول، باستمرار الحلية، وإن كان بعض هؤلاء قيدها في صورة الضرورة.
خامساً:
إن الحديث المنسوب إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله): «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم».
لا تصح نسبته إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، كيف وقد كان أصحابه يكفر بعضهم بعضاً، ويقتل
________________________________________ الصفحة 189 ________________________________________
بعضهم بعضاً، ويحكمون على بعضهم بالخطأ والضلال، والنفاق، والانحراف، فهل يصح الاقتداء بهم وهذه هي حالهم، ويلزم من ذلك اهتداء القائلين بحلية المتعة، واهتداء القائلين بحرمتها.
وإذا صح الاقتداء بهم، فهل يقتدى بهم، حتى في التكفير والقتل، حين قتلوا عثمان وغيره، ويلزم كون محارب علي (عليه السلام) على الهدى..
فإن كان هذا الحديث صحيحاً فلا بد أن يحمل على جماعة مخصوصين من أصحابه لا على كل من رآه رسول الله (صلى الله عليه وآله).
والصحيح في هذا الحديث هو أنه (صلى الله عليه وآله) قال: «أهل بيتي كالنجوم إلخ..»(1) لأن أهل البيت (عليهم السلام) نور واحد، لا خلاف فيما بينهم، ولا اختلاف فيما ورد عنهم بل نهجهم واحد، وفكرهم واحد..
سادساً:
إن خضوع عمر واستسلامه، واعترافه بالخطأ على المنبر حيث أخبرته المرأة بما قاله الله تعالى في شأن
____________
(1) لسان الميزان ج 1 ص 136.
________________________________________ الصفحة 190 ________________________________________
الصداق: (وآتيتم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً).
فقال: امرأة أصابت ورجل أخطأ، أو نحو ذلك.
لا يفيد شيئاً.. بل هو يدل على أن من كان هذا حاله، فلا يصح الأخذ بقوله.. لأنه قد يحرم الحلال، ويحلل الحرام، حتى ولو كان منصوصاً عليه في الكتاب العزيز مثل، مقالته في مهور النساء، كما أنه قد أراد رجم الحبلى، حتى نهاه علي (عليه السلام)، وقال له: إن كان لك سبيل عليها فلا سبيل لك على الذي في بطنها.
فمن كان هذا حاله لم يكن له أن يستبد برأيه، بل عليه أن يرجع إلى الصحابة ويأخذ عنهم..
وسيأتي في القسم الرابع من هذا الكتاب المزيد مما يوضح الكثير من مواضع الخلل في الأقوال الآنفة الذكر.
وقد أعرضنا عن ذلك هنا مخافة التكرار الممل، والمخل في نسق الكتاب، والله هو الموفق والهادي إلى الحق والصواب.
الإجماع على الإباحة إجماع على التحريم:
وقد حاول بعضهم أن يقول: إن أهل العلم متفقون على
________________________________________ الصفحة 191 ________________________________________
أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد رخص في المتعة لظروف خاصة، ثم حرمت. فاتفاقهم قائم على الطرفين ـ أعني التحريم والتحليل معاً ـ فإن كان هذا إجماعاً مثبتاً للإباحة فهو مثبت للتحريم أيضاً.
فإن قيل: إن هناك إجماعاً على الترخيص..
قيل: هناك إجماع على التحريم أيضاً..
على أن لفظ الترخيص مؤذن بالتوقيت، مشعر بأن هذا الحكم في طريقه إلى النسخ(1).
ونقول:
1 ـ إن هذا المعترض يجعل ما هو محل النزاع مورداً للاتفاق. فإن أهل العلم وان كانوا قد اتفقوا على تشريع المتعة، لكنهم لم يتفقوا على النسخ، وخلاف ابن عباس كالنار على المنار، وكالشمس في رابعة النهار، هذا فضلاً عن غيره من صحابة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وقد ذكرنا شطراً من القائلين بحلية هذا الزواج في فصل أقوال ومذاهب..
____________
(1) تحريم المتعة للمحمدي ص 186 بتصرف.
________________________________________ الصفحة 192 ________________________________________
بل إن أهل مكة والمدينة، واليمن، قائلون بالتحليل. بل قد نقل ذلك عن ثلاثة من أئمة المذاهب الأربعة، حسبما أوضحناه في ذلك الفصل.
فما معنى قول هذا المعترض: إن أهل العلم متفقون على الطرفين، فإن كان يقصد به أهل العلم الذين يوافقونه، فلا يفيده ذلك شيئاً، وإن كان يقصد أهل العلم من المسلمين على سبيل العموم والشمول، فهو غير صحيح.
وفي مطلق الأحوال، إننا لا نستطيع أن نجد معنى صحيحاً، أو معقولاً لما يدعيه هذا المعترض من وجود إجماع على التحريم ليعارض به الإجماع على الترخيص. فهل هو لا يرى علياً (عليه السلام) وابن عباس، وجابراً وابن مسعود، وابن جبير والحكم وعمران بن الحصين، وحتى ابن عمر، وابن أم أراكة.. وعلماء مكة واليمن والمدينة، وعدداً من أئمة المذاهب الأربعة وغيرهم وغيرهم، هل لا يرى في هؤلاء جميعاً من يصلح لخرق الإجماع الذي يدعيه على التحريم؟!
2 ـ قوله: إن لفظ الترخيص مؤذن بالتوقيت، ومشعر بالنسخ، هو مجرد ادعاء وتحكم، إذ إن هذا اللفظ لا يشعر بهذا ولا يؤذن بذاك.
________________________________________ الصفحة 193 ________________________________________
3 ـ إن الإيذان بالتوقيت إن كان بالغاً حد الدلالة على ذلك، فإنه لا يحتاج إلى النسخ، بل هو ينتهي بانتهاء زمانه.. والدليل الذي يحدد الأمد يعتبر قرينة على دليل جعل الحكم، ومبيناً لأمده، ولا يكون ناسخاً له، فيصح أن يقول الشارع قد رخصت لكم بكذا..
ثم يقول: إن أمد الرخصة ينتهي بعد سنة من الآن فقوله الثاني ليس ناسخاً للأول بل هو قرينة عليه..
أما إن لم يبلغ حد الدلالة الظاهرة فإنه لا يكون مؤذناً بالتوقيت. ولا مشعراً بالنسخ.
4 ـ قوله: إن الترخيص كان لظروف خاصة، ثم ادعاؤه الإجماع على ذلك. لا يصح إذ لا إجماع على التقييد بالظروف الخاصة.. بل إن ظاهر التشريع هو جعل الحكم لموضوعه بصورة مطلقة، كتشريع الزواج الدائم تماماً وكتشريع أحكام الإرث، والطلاق، والحج و..
الإجماع على الإذن، لا على الإباحة:
وزعموا أيضاً: أن الاجماع لم ينعقد على إباحتها ـ والتعبير بـ «إباحتها» خطأ. بل انعقد على الإذن بها، كما أذن بأكل الميتة، فإن الإباحة تكون لأمر ذاتي في الفعل.
________________________________________ الصفحة 194 ________________________________________
أما الإذن فيكون لضرورة سوغت هذا الإذن. فتعبير بعض الأئمة بالإباحة من قبيل التسامح في التعبير(1) ويمكن أن يقال أيضاً: «إن ترك النبي (صلى الله عليه وآله) المتعة لهم قبل الأمر الجازم بالمنع ليس من قبيل الإباحة، بل هو من قبيل الترك حتى تستأنس القلوب بالإيمان، وتترك عادات الجاهلية. وقد كان شائعاً بينهم اتخاذ الاخدان، وهو ما نسميه اتخاذ الخلائل، وهذه هي متعتهم، فنهى القرآن الكريم، والنبي (صلى الله عليه وآله) عنها. وأن الترك مدة لا يسمى إباحة، وإنما يسمى عفواً حتى تخرج النفوس من جاهليتها، والذين يستبيحونها باقون على الجاهلية الأولى؟(2).
ونقول:
أولاً:
إن كانت المتعة زنا كما يزعمون، فهل أذن الله ورسوله بالزنا؟.
ثانياً:
هل يمكن أن نتصور أن الاضطرار إلى النساء يصل إلى درجة يصبح الزنا فيها حلالاً؟ فيكون كالاضطرار إلى أكل
____________
(1) راجع: تحريم المتعة للمحمدي ص 188 و189.
(2) المصدر السابق ص 189.
________________________________________ الصفحة 195 ________________________________________
الميتة، الذي لولاه لمات الإنسان؟
ثالثاً:
أي دليل يدل على أن الأئمة قد تسامحوا فعبروا عن الإذن بالإباحة؟! إن هذا مجرد ادعاء يحتاج إلى إثبات.
رابعاً:
من الذي قال: إن إباحة المتعة لم تكن لأمر ذاتي في الفعل، تماماً كما هو الحال في الزواج الدائم؟! وكيف يمكن إثبات الخطأ في التعبير بكلمة: «إباحة».
خامساً:
إذا كان هذا المعترض ممن يقول بأن الحسن هو ما حسنه الشارع، وليس بالضرورة أن تكون الأحكام المجعولة تابعة للمصالح والمفاسد في نفس الأمر والواقع.. فلا يبقى معنى لاشتراط أن تكون الإباحة اقتضائية وناشئة عن أمر ذاتي في الفعل.
سادساً:
إن تحريم الزنا قد كان في مكة، وقبل الهجرة وأسوأ مظاهره إذا كان هو اتخاذ الاخدان والخلائل، فهل يمكن أن يكون الله قد حرم الزنا، الذي قد يتفق لإنسان ما مع امرأة ما، ويترك ما هو أشر وأضر، وهو اتخاذ الأخدان الذي يعني العشرة والانغماس في أجواء الزنا لمددٍ متطاولة.
وهل يصح للنبي (صلى الله عليه وآله) أن يعفو عن أمر
________________________________________ الصفحة 196 ________________________________________
كهذا؟!، ولماذا لم يترك الزناة الآخرين يمارسون رذيلتهم إلى أن تخرج النفوس من جاهليتها؟ وما الدليل على وجود اصطلاح كهذا «عفو» في قاموس المصطلحات الإسلامية، أو العربية؟!
سابعاً:
قال تعالى في سورة النساء الآية 25: (وآتوهن أجورهن بالمعروف، محصنات غير مسافحات، ولا متخذات أخدان).
وسورة النساء قد نزلت في أوائل الهجرة، فكيف ينهاهم الله عن المخادنة ثم يعفو رسول الله (صلى الله عليه وآله) ويتركهم ولا ينهاهم عنها إلى عام خيبر بل إلى عام أوطاس والفتح، وحجة الوداع؟!..
لا يرجع في المختلفات إلى علي وآل بيته (عليه السلام):
والغريب في الأمر قولهم: «قال الخطابي: تحريم المتعة كالإجماع إلا عن بعض الشيعة، ولا يصح على قاعدتهم في الرجوع في المختلفات إلى علي وآل بيته (عليه السلام)، فقد صح عن علي (عليه السلام) أنها نسخت، ونقل البيهقي عن جعفر بن محمد: أنه سئل عن المتعة، فقال هي الزنا
________________________________________ الصفحة 197 ________________________________________
بعينه»(1).
ونقول:
1 ـ لا ندري من أين استنبط هذه القاعدة التي نسبها إلى الشيعة، وفي أي كتاب من كتبهم ذكرت؟!.
2 ـ إن الصحيح عند الشيعة هو لزوم الرجوع في المختلفات إلى علي وآل بيته (عليه السلام) ليرفعوا الخلاف، ببيان الحق، الذي لا محيص عنه، فهم أحد الثقلين الذين أمرنا الرسول (صلى الله عليه وآله)، بالرجوع إليهم والأخذ منهم، والانتهاء إلى قولهم، وهم سفينة النجاة من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق، وهم أهل بيت النبوة (عليهم السلام) فهم أدرى من كل أحد بما في ذلك البيت.
3 ـ لا ندري لماذا اختص علي وأهل بيته (عليهم السلام) بهذا الحرمان من الرجوع إليهم، ولم ينل ذلك عمر وأهل بيته مثلا.
4 ـ أما قوله: صح عن علي (عليه السلام) أنها نسخت،
____________
(1) فتح الباري ج 9 ص 150 وأوجز المسالك ج 9 ص 404، وراجع فتح الملك المعبود ج 3 ص 227، وعون المعبود ج6 ص84، وفقه السنة ج 2 ص 42 و 43.
________________________________________ الصفحة 198 ________________________________________
فسيأتي أنه لا يصح، بل الصحيح عكس ذلك، فقد صح عنه (عليه السلام) وعن أهل بيته (عيهم السلام) الاستمرار على القول بالحليّة. وكذا الحال بالنسبة لما نسبوه إلى الإمام الصادق (عليه السلام).
وقد تقدم النقل الصريح للحلّية عن أهل البيت (عليهم السلام)، وسيأتي المزيد من الكلام حول ذلك.
ومهما يكن من أمر، فإن نسبة هذه المقولة إلى الشيعة تذكرنا بقول علي (عليه السلام) عن بنت أبي حثمة حين أرسلت إليه لتمدح عمر بن الخطاب فور وفاته، فقد قال علي (عليه السلام) في هذه المناسبة: «أما والله ما قالت ولكن قولت»(1).
____________
(1) شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج 12 ص 5 عن الطبري.
التعلیقات