عالمية الرسالة
الشيخ جعفر السبحاني
منذ 15 سنةعالمية الرسالة
الإسلام عقيدة وعمل ، لا ينفرد بهما شعب أو مجتمع خاص ، ولا يختصان
ببلد معين ، بل هو دين يعمّ المجتمع الإنساني ككل ، على اختلافه في العنصر
والوطن واللسان ، ولا يفترض لنفوذه حاجزاً بين أبناء الإنسان ، ولا يعترف بأية
فواصل وتحديدات جنسية أو إقليمية ، وهذا ما ينصّ عليه الذكر الحكيم ،
والأحاديث النبوية ، ونلمسه من سيرة الرسول الأكرم في نشر دينه ، ومن تاريخ
نشوء وتطور دعوته .
أمّا الكتاب العزيز ، فإليك بعض نصوصه :
1 ـ قال تعالى : ( قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ، إِنِّي رَسُولُ اللَّـهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ) (1) .
2 ـ قال تعالى : ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ) (2) .
3 ـ قال تعالى : ( وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا ، وَكَفَىٰ بِاللَّـهِ شَهِيدًا ) (3) .
4 ـ قال تعالى : ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ) (4) .
__________________
(1) سورة الأعراف : الآية 158 .
(2) سورة سبأ : الآية 28 .
(3) سورة النساء : الآية 79 .
(4) سورة الأنبياء : الآية 107 .
5 ـ قال تعالى : ( تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ ، لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ
نَذِيرًا ) (1) .
6 ـ قال تعالى : ( وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَـٰذَا الْقُرْآنُ ، لِأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ ) (2) .
أي كُلُّ من بَلَغَه القرآنُ ، ووصلت إليه تشريعاته في أقطار الأرض .
إلى غير ذلك من الآيات التي تنصّ على شمول رسالته لعامة البشر .
ويمكن الإستدلال بوجه ثان ، وهو أنّ القرآن كثيراً ما يوجّه خطاباته إلى
الناس غير مقيّدة بشيء ، ويقول : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ ، اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ
وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ، لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) (3) فلو كان الإسلام ديناً إقليمياً ، أو كانت
رسالته لعصر خاص ، فما معنى هذه النداءات العامة ؟ .
ويمكن الإستدلال بوجه ثالث ، وهو أنّه ربما يتّخذ القرآن الكريم عنواناً
عاماً لكثير من الأحكام ، من غير تقييد بلون أو عنصر ، كما في قوله تعالى : ( وَلِلَّـهِ
عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ) (4) ، فأوْجَبَ الحَجَّ على الناس إذا
استطاعوا ، عرباً كانوا أمْ غيرهم ، ولو كانت رسالته عنصرية ، لكان عليه أن
يقول : « ولله على الأُمة العربية ـ مثلاً ـ حجّ بيته » .
وهناك وجه رابع لعموم دعوته ، وهو أنّه يُعَرِّفُ كتابَه نوراً وهدىً للنَّاس
كلهم ، ويقول : ( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ، هُدًى لِّلنَّاسِ ) (5)
ويقول : ( وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَـٰذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ ، لَّعَلَّهُمْ
يَتَذَكَّرُونَ ) (6) .
هذه الوجوه الأربعة ، تهدف إلى أمر واحد ، وإن كانت تختلف في طريقة
__________________
(1) سورة الفرقان : الآية 1 .
(2) سورة الأنعام : الآية 19 .
(3) سورة البقرة : الآية 21 . ولاحظ سورة البقرة : الآية 168 .
(4) سورة آل عمران : الآية 97 .
(5) سورة البقرة : الآية 185 .
(6) سورة الزمر : الآية 27 .
البرهنة ، فقد اعتمد في الوجه الأول ، على تصريح القرآن بعموم رسالته ؛ وفي
الوجه الثاني ، على نداءاته العامة ؛ وفي الوجه الثالث ، على أنّ الموضوع لأحكامه
وتشريعاته ، أمرٌ عام ، وفي الوجه الرابع ، على أنّ القرآن يعرّف هدايته وإنذاره ،
أمراً عاماً للناس كلّهم .
وهناك وجه خامس يتصل إتصالاً وثيقاً بطبيعة الإسلام وقوانينه
وتشريعاته ، وهو أنّ القرآن في تشريعاته لا يعتمد إلّا على مقتضى الفطرة التي فطر
عليها بنو البشر كلُّهم ، فإذا كان الحكم موضوعاً على طِبْق الفطرة الإنسانية ،
الموجودة في جميع الأفراد ، فلا وجه لاختصاصه بإقليم دون إقليم ، أو شعب دون
شعب .
هذا هو الإسلام ، وتعاليمه القيمة ومعارفه وسننه ، فهل تجد فيها ما يشير
إلى كونه ديناً إقليمياً ، أو شريعة لفئةٍ محدودةٍ ؟ فإنّ للدين الإقليمي علائم
وأمارات ، أهمها أنّه يعتمد في معارفه وتشريعاته على ظروف بيئته وخصوصيات
منطقته ، بحيث لو فرض فقدانها ، لأصبحت السنن والطقوس التي يعتمد عليها
الدين ، سراباً يحسبه الظمآن ماءً .
ونحن في غنىً عن سرد آيات الذكر الحكيم التي تتبنى معارف وتشريعات
تقتضي بطبيعتها كونها دواءً للمجتمع الإنساني في جميع الأقطار والأزمان ، فقوله
سبحانه : ( إِنَّ اللَّـهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ ) الآية (1) ؛ وقوله : ( إِنَّ اللَّـهَ
يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا ، وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا
بِالْعَدْلِ ) (2) ، وقوله : ( إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ
عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) (3) ، وغير ذلك من تشريعاته في حقول
الإقتصاد والإجتماع والسياسة والأخلاق ، مما تقتضي بطبيعتها ، العمومية لجميع
البشر والمجتمعات .
__________________
(1) سورة النحل : الآية 90 .
(2) سورة النساء : الآية 58 .
(3) سورة المائدة : الآية 90 .
وأمّا السنة الشريفة ، فيكفي في ذلك قوله صلى الله عليه وآله ، في الخطاب
الذي ألقاه في داره ، حينما وفد إليه أعمامه وأخواله ، ومن كانت له به صلة :
« والله الذي لا إله إلّا هو ، إِنّي رسولُ الله إليكم خاصة ، وإلى الناس عامةً » (1) .
وأمّا في سيرته في حقل الدعوة ، فيكفي في ذلك وثائقة السياسية ، ومكاتيبه
التي وجّهها إلى أصحاب العروش وملوك العالم ، كَكِسرى مَلِك الفُرس ، وقَيْصر
مَلِك الروم ، والمقوقس عظيم القِبْط ، والنجاشي ملك الحبشة ، وغيرهم (2) .
هذا ، وإنّ الإسلام حارب العصبية ، والنعرات الطائفية ، في ظل وحدات
ثمان ، أعني : وحدة الأُمة ، وحدة الجنس البشري ، وحدة الدين ، وحدة
التشريع ، وحدة الأُخوة الروحية ، وحدة الجنسية الدولية ، وحدة القضاء ،
ووحدة اللغة العربية ، وهو القائل :
« أيّها الناس ، إنّ الله أذهب عنكم نَخْوَة الجاهلية وتفاخُرَها بآبائها ، ألا
إنّكم من آدم ، وآدم من طين ، ألا إنّ خير عباد الله عبدٌ اتَّقاه » .
وهو القائل : « إنّ العربية ، ليست بأبٍ والد ، ولكنها لسان ناطق ، فمن
قَصرُ عملُه ، لم يَبْلُغ به حَسَبُه » .
وهو القائل : « إنّ الناس من عهد آدم إلى يومنا هذا مِثْل أَسنان المِشْط ، لا
فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ على عَجَمِيٍّ ، ولا لأَحْمَرَ على أَسْوَدَ ، إِلَّا بالتقوى » .
وهو القائل : « إنّما الناس رجلان ، مؤمن تقي كريم على الله ، وفاجر شقي
هيِّن على الله » (3) .
أَفَيَصِحُّ بعد هذه الكَلِم الدُّرِّيَّة ، رَمْيُ رسالته ، بالطائفية ، والعنصرية ،
والإقليمية ؟ .
__________________
(1) الكامل لابن الأثير ، ج 2 ، ص 41 ، وغيره .
(2) لاحظ للاطلاع على هذه النصوص ، « مكاتيب الرسول » ، ج 1 ، ص 91 ـ 240 .
(3) راجع للوقوف على مصادر هذه الكلمات : السيرة النبوية ، ج 2 ، ص 412 . وبحار الأنوار ،
ج 21 ، ص 105 .
إزالة شُبهات
شبهةٌ ـ ربما يتمسّك بعض القساوسة لتحديد دعوته ، بما في الكتاب العزيز
من قوله تعالى : ( لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ ) (1) .
غير أنّ الجواب واضح ، أمّا نقضاً ، فإنّ في نفس هذه السورة التي ورد فيها
قوله : ( لِتُنذِرَ قَوْمًا ) ، ما يدلّ بصراحة على عموم دعوته ، وهو قوله تعالى :
( لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ ) (2) .
وأما حلاً فإنّ طبيعة إبلاغ الدعوة ربما تقتضي توجيه الكلام إلى قسم
خاص ، وإنّ كانت الدعوة عالمية ، والرسول في بدء دعوته ، كان يمارس هداية
قومه أوّلاً ، ثم من يليهم في منطقة الحجاز ، ثم من يليهم ، ولأجل ذلك خصّ
الخطاب بقومه :
والشاهد أنّه يقول في آية أخرى : ( قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ ، وَلَا يَسْمَعُ
الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ ) (3) . فيخص الإنذار بالوحي بالمخاطبين ، بينما
يعمّ الإنذار به كلّ الناس في قوله : ( أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَىٰ رَجُلٍ
مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ ) (4) .
شبهة ثانية ـ وربما يتمسك بتخصيص الإنذار بأُمّ القُرى وَمَنْ حَوْلَها في قوله
سبحانه : ( وَهَـٰذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ
حَوْلَهَا ) (5) ، وأُمُّ القُرى إمّا عَلَمَ مِنْ أَعلام مَكَّةَ ، أَو كُلِّي أُطْلِقَ عليها ، فَتَخُصُّ
الآيةُ دعوتَه بإطار أُمّ القُرى وَمَنْ حَوْلَها .
والجواب أما نقضاً : فإنّ في نفس السورة التي وردت فيها تلك الآية ما يدلّ
__________________
(1) سورة يس : الآية 6 . ونظيره ، القصص : الآية 46 ، سورة السجدة : الآية 3 ، سورة مريم :
الآية 97 .
(2) سورة يس : الآية 70 .
(3) سورة الأنبياء : الآية 45 .
(4) سورة يونس : الآية 2 .
(5) سورة الأنعام : الآية 92 ، ونظيره سورة الشورى : الآية 7 .
على عموم رسالته ، لكل من بلغته ، فإنّه يقول : ( وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَـٰذَا الْقُرْآنُ
لِأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ ) (1) .
وأمّا حلاً ، فَعَيْنُ ما تَقَدَّم في سابقه ، من أنّ طبيعة الدعوة ، ربما تقتضي
توجيه الكلام إلى طائفة خاصة ، وإن كانت الدعوة عالميةً .
شبهة ثالثة ـ وربما يستدلّ بقوله سبحانه : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا
بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ، فَيُضِلُّ اللَّـهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ ) (2) ، على تحديد رسالته ، بتوهّم أنّ معنى الآية أنّ كل رسولٍ يوافق
لسانُه لسانَ من أُرسل إليهم .
وأنت خبيرٌ بأنّه تفسير خاطيءٌ ، فمعنى الآية هو موافقةُ لغةِ الرسول لسانَ
قومه ، لا اتحاد لغته مع لسان كل من أُرسل إليهم ، فمن الممكن أن يكون المرسل
إليهم أوسع من قوم الرسول ، فهذا إبراهيم دعا عرب الحجاز إلى الحج وهو ليس
منهم . وهذا الكليم دعا فرعون إلى الإيمان ، وهو عبري والمُرسَل إليه قِبْطِيٌ .
شبهة رابعة ـ وربما يستدل أيضاً ، بقوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ
هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ ، مَنْ آمَنَ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ
أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ) (3) ، على تحديد رسالته .
وحاصل الإستدلال هو أنّ المتبادر من الآية هو نجاة أصحاب الشرائع
السابقة حتى بعد بعثة الرسول الأكرم ، إذا كانوا مؤمنين بالله واليوم الآخر وعملوا
صالحاً . فهذه الآية تعطي الضوء الأخضر لنجاة اليهود والنصارى والصابئين إذا
كانوا ملتزمين بهذه الشروط ، وإن لم يعتنقوا رسالة الرسول الأعظم ، أو لم يعملوا
بأحكامه وتشريعاته . وهذا لا يجتمع مع القول بأنّ رسالته عالمية يجب على كلّ
الناس اعتناقها .
__________________
(1) سورة الأنعام : الآية 19 .
(2) سورة إبراهيم : الآية 4 .
(3) سورة البقرة : الآية 62 . ولاحظ المائدة : الآية 69 .
والجواب : إنّ الإستدلال نَجَمَ من الجمود على نفس الآية ، والغفلة عما
ورد حولها من الآيات . ومثل هذه الآية لا يصح تفسيره إلّا على نمط التفسير
الموضوعي ، واستنطاق الآية بأُختها ، وعرض البعض على البعض حتى يُهتدى إلى
معالمها . وسيوافيك أنّ الآية ـ بقرينة الآيات التي تتلوها ـ بصدد تفنيد المزاعم
الباطلة لليهود والنصارى ، وليست بصدد إمضاء الشرائع السالفة ، بعد ظهور
النبي الأكرم ، وإليك البيان .
1 ـ تفنيد فكرة الشعب المختار
كان اليهود والنصارى يتبنون فكرة الشعب المختار ، فكل من الطائفتين
تَدّعي أنّها أسْمَى بني البشر . وقد نقل القرآن الكريم هذه الفكرة السخيفة عن
كلتا الطائفتين بقوله : ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَىٰ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّـهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ، قُلْ
فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم ، بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ . . ) (1) .
فقوله : ( فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم ) ، تفنيدٌ لهذا الزَّعم ، وَيدُلُّ على أنّهم
وغيرهم عند الله سواسية ، فهو سبحانه يثيب المطيع ، ويعذب العاصي .
وقد بلغت أنانية اليهود واستعلاؤهم الزائف حداً ، تفوهوا بما يحكيه
سبحانه عنهم بقوله : ( وَقَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَّعْدُودَةً ) (2) .
والقرآن يُفَنَّد هذا الزعم ، بشكل الإستفهام الإنكاري ، ويقول : ( قُلْ
أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّـهِ عَهْدًا ، فَلَن يُخْلِفَ اللَّـهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّـهِ مَا لَا
تَعْلَمُونَ ) (3) .
فهكذا ، نستكشف من خلال هذه المزاعم وردودها أنّ اليهود كانوا ـ ولا
يزالون ـ يَعُدُّونَ أَنْفُسَهُم صفوة البشرية ، ونخبة الشعوب . وكانوا يحاولون بِمثل
__________________
(1) سورة المائدة : الآية 18 .
(2) سورة البقرة : الآية 80 .
(3) سورة البقرة : الآية 80 .
هذه المزاعم ، فَرْضَ كَيانهم على العالَم ، كأرفع نوعٍ بشريٍّ إِنتخَبَهُ الله من بين
سائر البشر ، حتى كأنّهم أبناءُ الله المُدَلَّلون .
2 ـ النجاة رهن العمل والإلتزام
كانت الطائفتان ( اليهود والنصارى ) ، تزعمان أنّ الإنتساب إسماً إلى
شريعة موسى أو المسيح ، وسيلة النجاة . كما كان اليهود بالخصوص يزعمون أنّ
الإنتساب إلى « إسرائيل » ، ينقذ من عذاب الله سبحانه ؛ ولأجل ذلك قالوا :
( لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ ) (1) .
ومعنى هذا القول ، أنّ بإمكان الإنتساب إلى « إسرائيل » ، أو كون
الإنسان يهوديّاً أو نصرانياً بالإسم ، أن يجعل الإنسان سعيداً ، مالكاً لمفاتيح
الجنة . ويردّ القرآن عليهم ، بأنّ الوسيلةَ الوحيدة لامتلاك الجنة ، ليس هو
« الإنتساب » ، ولا التجنُّن « بالتسمية » ، بل هو الإيمان الصادق والعمل
الصالح ، يقول تعالى : ( تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ ، قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
بَلَىٰ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّـهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ ، فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ
يَحْزَنُونَ ) (2) .
فقوله : ( بَلَىٰ مَنْ أَسْلَمَ ) ، يعني الإيمان الخالص ، والتسليم الصادق
لله .
وقوله : ( وَهُوَ مُحْسِنٌ ) ، يعني العمل بالشريعة التي يؤمن الفرد بها .
وكلتا الجملتين تدلّان على أنّ السبيل الوحيد إلى النجاة في يوم القيامة هو
الإيمان والعمل ، لا إسم اليهودية أو النصرانية ، ولا الإنتساب إلى بيت النبوّة ،
فليست المسألة مسألة أسماء ، ولا مسألة انتساب ، وإنّما هي مسألة إيمان صادق ،
وعمل صالح .
__________________
(1) سورة البقرة : الآية 111 .
(2) سورة البقرة : الآية 111 و 112 .
3 ـ الأصالة للتوحيد لا لليهودية ولا للنصرانية
لقد كان لهاتين الطائفتين ادعاء ثالث ، هو أنّ الهداية الحقيقة ، في اعتناق
اليهودية أو النصرانية ، كما يحكيه عنهم القرآن بقوله : ( وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ
نَصَارَىٰ تَهْتَدُوا ) (1) .
والقرآن يردّ عليهم هذا الزعم الواهي بقوله : ( بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا
كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) (2) . مشيراً إلى أنّ الهداية الحقيقية ، هي في الأخذ بملة
إبراهيم ، واعتناق مذهبه في التوحيد الخالص من كل شائبة . فإذا عَمَّتْهما
الهداية ، فإنّما هو لأخذهم بالحنيفية الإبراهيمية ، لا لاعتناق اليهودية والمسيحية ،
فلا أصالة لهما ، إلّا إذا كانتا مشتملين على جوهر التوحيد الإبراهيمي وحنيفيّته .
وقد بلغت جسارة الطائفتين إلى حدّ أنّهم حاولوا إضفاء طابع اليهودية
والمسيحية على إبراهيم ، ليحصلوا بذلك على دعم جديد لمعتقداتهما ، ويضفوا
الشرعية على مسلكيهما . ولكن القرآن عاد إلى تفنيد هذه المزعمة الثالثة ، كما فند
المتقدمتين ، بقوله : ( مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا ، وَلَـٰكِن كَانَ حَنِيفًا
مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) (3) .
فهذه المقدمات ، تثبت أنّ اليهود والنّصارى كانوا يتبنون هذه الأفكار
الواهية الثلاثة :
1 ـ الرفعة على البشر أجمعين .
2 ـ كفاية مجرد الإنتساب إلى مذهبهما في النجاة .
3 ـ إختصاص سبيل الهداية بالطائفتين .
فجاء القرآن يُفَنِّد كلَّ واحدة من هذه المزاعم ، مستقلّاً ، بعد نقلها ،
بالآيات التي عرفت . ثم يفندها جميعها بصورة إجمالية ، بالآية التي وقعت ذريعةً
__________________
(1) سورة البقرة : الآية 135 .
(2) الآية السابقة نفسها .
(3) سورة آل عمران : الآية 67 .
لمنكري عالمية الرسالة ، وهدف الآية أنّ فكرة الشعب المختار ، أو كون النجاة
رهن الإنتساب والتسمية ، أو اختصاص الهداية بإحدى الطائفتين ، أمر باطلٌ لا
أساس له ، فإنّ النجاة والجنة يَعُمّان جميع البشر وجميع الطوائف ، إذا كانوا مؤمنين
بالله واليوم الآخر ، وعاملين بالصالحات ، من غير فرق بين إنسان وإنسان ،
وشعب وآخر ، فلا استعلاء ولا تفوق لطائفة على غيرها ، ولا الإنتساب والتسمية
ينجيان أحداً في العالم ، ولا الهداية رهن اعتناق أحد المذهبين ، وإنّما النجاح
والفوز والصلاح في الإيمان والعمل الصالح . وهذا الباب مفتوح في وجه كل
إنسان ، يهودياً كان أو نصرانياً أو صابئياً .
فالآية بصدد تفنيد هذه المزاعم ، وأمّا الإعتراف بإقرار الإسلام لشرعية
الشرائع السابقة ، بعد ظهوره ، فليس لها دلالة على ذلك ولا إشعار ، بشرط
التوقف والإمعان في الأفكار التي كانت الطائفتان تتبناهما .
وممّا يوضح المراد من هذه الآية ، قوله : ( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا
وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ ، وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ ) (1) . فتصرّح الآية
بانفتاح أبواب الجنة في وجه البشر ، من غير انحصار بجماعة دون جماعة ، حتى أنّ
أهل الكتاب لو آمنوا بما آمن به المسلمون ، لقبلنا إيمانهم ، وكفرنا عنهم سيئاتهم .
ومثله قوله سبحانه في سورة العصر : ( وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي
خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ، وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا
بِالصَّبْرِ ) (2) .
وأمّا كفاية الإيمان والعمل الصالح ، فقط ، وعدم لزوم شيء آخر من
المعارف والعقائد والأعمال ، فليست الآية ، بصدد بيانها نفياً أو إثباتاً ، وإنّما يُرجع
فيها إلى الآيات الأُخر .
وإذا أردت أن تصوغ الجواب في أُسلوب منطقي ، فقل : إنّ الحصر في
__________________
(1) سورة المائدة : الآية 65 .
(2) سورة العصر .
الآية ، حَصْرٌ نِسبيٌ إضافيٌ ، بمعنى أنّ المؤثر في النجاة من النار ، والفوز بالجنة ،
إنّما هو الإيمان والعمل الصالح ، وأمّا عدم دخالة شيء آخر كالأصول الثلاثة التي
يتبناها اليهود والنصارى أو دخالته ، فليست الآية في مقام تبيينه إثباتاً أو نفياً ،
حتى يكون دليلاً على إقرار الآية بشرعية الشرائع السابقة .
وبعبارة أخرى : إنّ الآية ساكتة عن بيان ما هو حقيقة الإيمان بالله وما هو
شرطه ، وما هو المقصود من العمل الصالح ، وكيف يتقبل ، وإنّما يطلب ذلك من
سائر الآيات .
وقد دلّت الآيات القرآنية على أنّ الإيمان بالله لا ينفك عن الإيمانِ بأنبيائه ،
والإيمانُ بأنبيائه ، لا ينفك عن الإيمانِ بنبيه الخاتم ، قال سبحانه : ( فَإِنْ آمَنُوا
بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ ) (1) .
كيف وقد عَدّت الآيات القرآنية الإيمانَ بالرسول مُقَوِّماً لحقيقة الإيمان ،
فقالت : ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّـهِ وَرَسُولِهِ ) (2)
إلى هنا تمّ البحث عن عالمية رسالة الرسول الأكرم ، وتمّ ردّ الشبهات التي
قد تُورد حوله ، ويقع البحث في السمة الثانية لرسالته وهي خاتميتها ، وهو من
الموضوعات المهمّة التي لا يكون المُسْلِمُ مُسْلِماً إلّا بالإيمان بها .
__________________
(1) سورة البقرة : الآية 137 .
(2) سورة النور : الآية 62 .
مقتبس من كتاب : الإلهيات على هدى الكتاب والسنّة والعقل / المجلّد : 3 / الصفحة : 473 ـ 483
التعلیقات