التصدي لتأثير القران
التوحيد
منذ 15 سنة
المصدر : الإلهيات على هدى الكتاب والسنّة والعقل : للشيخ جعفر السبحاني ، ج3 ، ص 252 ـ 258
(252)
ولمّا كان للقرآن تأثيره العجيب في نفوس الشباب ، إحتالت قريش في اللَّبس
على الناس باللجوء إلى جملة من الأعمال الوقائية ، لِتَصُدَّ تأثير القرآن في النفوس
المتهيئة لقبول الحق ، تعرّض لها التاريخ والسير النبوية ، أهمها :
1 ـ منع الناس ، وخاصةً الشخصيات والوجهاء ، من سماع القرآن ، ومقابلة
الرسول.
2 ـ عزو القرآن إلى السحر.
3 ـ دعوة القصاصين لسرد أخبار الأُمم.
وكلُّ ذلك يدلّ على أنّ القرآن كان كلاماً ممتازاً فائقاً كلام البشر ، له تأثير
فريد في النفوس بحيث يجذب إليه الناس بمجرّد سماعهم ، بلا اختيار . وفيما يلي
بيان هذه الأعمال :
1 ـ منع سماع القرآن
يحكي لنا القرآن أنّ المشركين تواصوا بترك سماع القرآن والإلغاء عند قراءته
في قوله: ( وَ قَالَ الَّذِينَ كَفَرَوُا لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَ الْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ
تَغْلِبُونَ)(1). أي عارضوه باللّغو بما لا يُعْتَدُّ به من الكلام ، حتى لا يصل كلامه
إلى أسماع الآخرين.
ومع ذلك كله فأولئك الذين كانوا مبدءاً لردع الشباب عن سماع القرآن ، قد
نقضوا عهودهم ، لشدّة التذاذهم من سماعه.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1- سورة فصلت: الآية 26.
________________________________________
( 253 )
فهؤلاء ثلاثةٌ من بُلغاء قريش وأَشرافهم ، وهم أبو سفيان بن حرب ، وأبو
جهل بن هشام ، والأخنس بن شريق ، خرجوا ليلة ليستمعوا كلام رسول الله
ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وهو يصلّي من الليل في بيته ، فأخذ كلُّ رجل منهم مجلساً
يستمع فيه ، وكلٌّ لا يعلم بمكان صاحبه ، فباتوا يستمعون له ، حتى إذا طلع
الفجر ، تفرّقوا ، فجمعهم الطريق فتلاقوا وقال بعضهم لبعض : «لا تعودوا ،
فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئا ً» ، ثمّ انصرفوا.
حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كلُّ رجل منهم إلى مجلسه ، فباتوا يستمعون
له ، حتى إذا طلع الفجر تفرّقوا ، فجمعهم الطريق ، فقال بعضهم لبعض مثلما
قالوا أوّل مرة ، ثمّ انصرفوا.
حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كلّ رجل منهم مجلسه ، فباتوا يستمعون
له ، حتى إذا طلع الفجر تفرّقوا فجمعهم الطريق ، فقال بعضهم لبعض : « لا
نبرح حتى نتعاهد ألا نعود » ، فتعاهدوا على ذلك ، ثمّ تفرّقوا(1).
فلو كان القرآن كلاماً ، يشبه كلام الإنس ويوازنه ويعادله ، لم يكن هناك
أي وازع لهؤلاء الصناديد الذين يعدّون في الطليعة والقمة من أعداء النبي ، أن
يهجروا فرشهم ، ويُقلوا دفء دُثُرهم ، ويبيتوا في الظلام الحالك على التراب ،
حتى يستمعوا إلى كلامه ومناجاته في أحشاء الليل في صلاته ونسكه ، وما هذا إلاّ
لأنّ القرآن كان كلاماً خلاّباً ، لعذوبة ألفاظه وبلاغة معانيه ، رائعاً في نظمه
وأُسلوبه ، لم يكن له نظير في أوساطهم ، ولا في كلمات بُلَغائهم وفُصَحائهم ،
وهم الفُصحَاء والبُلغاء ، ومن يشار إليهم في تلك العُصور.
ومن الحبائل الّتي سلكوها لصدّ تأثير القرآن ، منع متشخصي المشركين من
لقاء الرسول ، خصوصاً من كان لإسلامه تأثير خاص في إيمان قومه بدين
الرسول.
ومن تلك الشخصيات الطفيل بن عمر الدوسي ، فقد قدم مكة ورسول الله
ــــــــــــــــــــــــــــ
1- سيرة ابن هشام : ج 1، ص 315.
________________________________________
( 254 )
بها ، فمشى إليه رجال من قريش ، وكان الطفيل رجلاً شريفاً شاعراً لبيباً ، فقالوا
له : « يا طُفيل إنّك قدمت بلادنا ، وهذا الرجل الّذي بين أَظهرنا قد أعضل بنا ،
وقد فرّق جماعتنا ، وشتت أمرنا ، وإنّما قوله كالسحر ، يفرّق بين الرجل وأبيه ،
وبينه وأخيه وزوجته ، وإنّا نخشى عليك وعلى قومك ما دخل علينا ، فلا
تكلِّمَنَّه ، ولا تَسْمَعَنَّ منه شيئاً».
يقول الطفيل : فوالله ما زالوا بي حتى أَجْمَعْتُ أَن لا أسمع منه شيئاً ، ولا
أَكلَّمه ، حتى حشوت في أذني حين غدوت إلى المسجد كُرْسُفاً ، فَرَقاً من أَنْ يَبْلُغني
شيء من قوله ، وأنا لا أُريد أَنْ أَسمعه.
قال : فغدوت إلى المسجد ، فاذا رسول الله قائم يصلي عند الكعبة.
قال : فقمت منه قريباً فأبى الله إلاّ أن يُسْمِعني بعض قوله فسمعت كلاماً
حسناً ، فقلت في نفسي : « واثكل أُمّي ، والله إنّي لرجل لبيب ، شاعر ، ما يخفى
عَلَيّ الحَسَن من القبيح ، فما يمنعني أن أَسمع من هذا الرجل . فإن كان
الّذي يأتي به حسناً قَبِلته ، وإن كان قبيحاً تَرَكْتُه. فمكثت حتى انصرف رسول الله
إلى بيته ، فاتبعته ، حتى إذا دخل بيته ، دخلت عليه ، فقلت :
« يا محمّد إنّ قومك قد قالوا لي كذا وكذا ، فوالله ما برحوا يخوّفونني أمرك
حتى سددت أُذُنَيَّ بكُرسف ، لئلا أسمع قولك ، ثمّ أبى الله إلاّ أن يسمعني
قولك ، فسمعته قولاً حسنا ً، فاعرض عَلَيَّ أمرك».
قال : فعرض عَلَيَّ رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ الإسلام وتلا عَلَيَّ القرآن.
فلا والله ما سمعت قولاً قطّ أحسن منه ، ولا أمراً أعدل منه.
قال : فأسلمت وشهدت شهادة الحق(1).
وممّا نقل في هذا المجال أنّ الأعشى ، أحد شعراء العرب ، الطائر الصيت ،
بلغ إليه الإسلام ، فخرج يريده ، فمدح النبي بقصيدة أدرج فيها كثيراً من تعاليم
الإسلام ، مستهلها :
ــــــــــــــــــــــــــــ
1- السيرة النبوية : لابن هشام، ج 1 ص 382 ـ 383.
________________________________________
( 255 )
أَلم تَغْتَمِض عيناك ليلة أرمدا * وبت كما بات السيلمُ مُسَهَّداً
إلى أن قال:
نبياً يرى ما لاترون ، وذكره * أغار لعمري في البلاد وأنجدا
فإياك والميتات لا تقربنها * ولا تأْخُذَن سهماً حديداً لتفصدا
وذا النُّصب المنصوبَ لا تنسكنَّهُ * ولا تعبد الأوثان ، والله فاعبدا
ولا تقربن حرّة ، كان سرُّها * عليك حراما ، فانكحن أو تأبّدا
وذا الرحم القربى فلا تقطعنّه * لعاقبة ولا الأسير المقيّدا
وسبّح على حين العشيات والضُحى * ولا تحمد الشيطان والله فاحمدا
فلما ورد الأعشى مكة ، اعترضه بعض المشركين من قريش فسأله عن أمره ،
فأخبره أنّه جاء يريد رسول الله ليسلم فقال له : يا أبا بصير ، إنّه يحرّم الزنا.
فقال الأعشى : والله إن ذلك لأمر مالي فيه أرب.
فقال له : يا أبا بصير ، فإنّه يحرّم الخمر.
فقال الأعشى : أمّا هذه فوالله إنّ في النفس منها لعلالات ، ولكني منصرف ،
فأتروى منها عامي هذا ، ثمّ آتيه فأُسلم ، فانصرف. فمات في عامه ذلك ، ولم يعد
إلى رسول الله(1).
2 ـ عزو القرآن إلى السّحر
أدرك فُصحاء قريش وبُلَغاؤهم أنّ القرآن لا يشبه كلام الإنس ، وهو فوق
كلامهم ، ولمّا كان مقتضى العجز ، اعتناق الدين الّذي كان النبي يدعو إليه ،
خدعوا عقولهم وعقول قومهم بتفسيره بالسحر ، بحجّة أنّ السحر يفرّق ، والقرآن
ــــــــــــــــــــــــــــ
1- السيرة النبوية : لابن هشام: ص 386. وأضاف الشهرستاني في كتابه « المعجزة الخالدة »
ص 21: واجتمعت عليه قريش لما سمعت بخبره وبمدحه النبي الأُمي في قصيدة دالية ، جاء بها
ليجعلها تقدمة إيمانه وإذعانه ، وقالوا للأعشى : « إنْ أنشدته هذه القصيدة لم يقبلها منك ». ولم
يزالوا يخدعونه ويمنعونه حتى سافر إلى اليمامة ، وقال : « أقضي أياماً هناك ثمّ أعود إليه».
________________________________________
( 256 )
أيضاً فرّق بينهم . وهذا هو ريحانة قريش ، الوليد بن المغيرة ، وقد اجتمع مع
رؤساء قريش في دار الندوة ، فقال لهم : « إنّكم ذوو أحساب وذوو أحلام ، وإنّ
العرب يأتونكم ، فينطلقون من عندكم على أمر مختلف ، فأجمعوا أمركم على شيء
واحد . ما تقولون في هذا الرجل؟».
قالوا : « نقول:
1 ـ إنّه شاعر».
فعبس عندها ، وقال : « قد سمعنا الشعر ، فما يشبه قوله الشعر».
فقالوا:
2 ـ « إنّه كاهن».
قال : « إذاً تأتونه فلا تجدونه يحدث بما تحدث به الكَهَنة ». قالوا:
3 ـ « إنّه لمجنون».
فقال : « إذاً تأتونه ، فلا تجدونه مجنوناً ». قالوا:
4 ـ « إنّه ساحر».
قال : « وما الساحر»؟.
قالوا : « بشر يحببون بين المتباغضين ، ويبغِّضون بين المتحابين».
قال : « فهو ساحر».
فخرجوا لا يلقى أحد منهم النبي إلاّ قال :
يا ساحر ، يا ساحر».
واشتدّ على النبي ذلك ، فأنزل الله تعالى قوله :
(ذَرْني وَ مَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً * وَ جَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً * وَ بَنِينَ شُهُوداً *
وَ مَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلاَّ إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيداً * سَأُرْهِقْهُ
صَعُوداً * إِنَّهُ فَكَّرَ وَ قَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ
عَبَسَ وَ بَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَ اسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ
الْبَشَرِ)(1).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1- سورة المدثر : الآيات 11 ـ 25.
________________________________________
( 257 )
وفي رواية ، بعدما وصف الوليد ما سمع من كلام محمّد ، بقوله : « ما هو
من كلام الإنس الخ..»(1)، ذهب إليه أبو جهل ، فقعد إلى جنبه حزيناً ،
فقال له الوليد: « ما لي أراك حزيناً يابن أخي».
قال : « هذه قريش يعيبونك على كبر سنك ، ويزعمون أنَّك زيّنت كلام
محمّد».
فقام مع أبي جهل حتى أتى مجلس قومه ، فقال : « أتزعمون أنّ محمّداً
مجنون ، فهل رأيتموه يخنق »؟.
فقالوا : « اللهم لا».
قال : « أتزعمون أنّه كاهن ، فهل رأيتم عليه شيئاً من ذلك»؟.
قالوا : « اللهم لا».
قال : « أتزعمون أنّه شاعر ، فهل رأيتموه أنّه ينطق بشعر قطّ »؟.
قالوا : « اللهم لا».
قال : « أتزعمون أنّه كذّاب ، فهل جَرّبتم عليه شيئاً من الكذب»؟.
قالوا : « اللهم لا».
فقالت قريش للوليد : « ما هو؟».
فتفكّر في نفسه ، ثمّ نظر وعبس ، فقال : « ما هو إلاّ ساحر. ما رأيتموه
يفرّق بين الرجل وأهله ، وولده وموإليه؟. فهو ساحر ، وما يقوله سحر
يُؤْثَر»(2).
إنّ تفسير القرآن بالسحر ، وتوصيف الداعي بالساحر ـ كما نقله القرآن في
غير واحد من آياته ـ أدلّ دليل على أنّ فُصَحاء العرب وجدوا العجز في أنفسهم
ــــــــــــــــــــــــــــ
1- تقدم كلامه في الصفحة السابقة.
2- مجمع البيان : ج 5، ص 386 ـ 387.
________________________________________
( 258 )
ورأوا أنّ الهزيمة في حلبة السباق معقودة بنواصيهم ، فما وجدوا مخلصاً لتعمية من
يفد على مكة في أيام الحج من عرب الجزيرة إلاّ بتفسيره بشيء ينطلي على طباع
السُّفهاء وأذهان السذج من الناس ، وهو أنّه سحر ، والجائي به ساحر ، بحجّة
الإشتراك في الأثر.
وعلى ضوء ذلك تعود كلُّ الشرائع السماوية سحراً ، والأنبياء سحرة ، بحجّة
أنّهم كانوا يفرّقون بشرائعهم بين أفراد الأمة الواحدة(1).
وكيف يكون القرآن سحراً ، والسحر لا يبقى بعد موت الساحر ، ولا يؤثّر
في أقوياء النفوس ، وها هو القرآن قد مَرَّ عليه حتى اليوم أربعة عشر قرناً ، ولما
يزل غضّاً طرياً كما كان ، لم يتضاءل نوره وأثره بمرور الزمان ، وتوالي الأعقاب في
الأحقاب ، كما خضع له أعاظم أهل الفكر والتعقل من البشر.
3 ـ دعوة القصاص لسرد الأساطير
وقد عمد رؤساء قريش ، لإحباط تأثير القرآن الكريم ـ بعد أن رأوا أنّ
الناس يدركون بفراستهم وفطنتهم أنّ للقرآن جاذبية غريبة لم يسبقه كلام في
الحلاوة ، ولا حديث في العذوبة ، ولا عبارات في العمق ، يتقبّله كل قلب واع ،
وتسكن إليه كل نفس مستعدة ـ عمدوا إلى تخطيط تدبير آخر ، ظنّاً منهم بأنّ تنفيذه
سيصرف الناس عنه ، ألا وهو معارضة القرآن الكريم ، بدعوة النضر بن الحارث
ليسرد للناس أخبار ملوك الفرس وقصصهم وحكايتهم وأساطيرهم ، وما طلبوا منه
القيام بهذا العمل إلاّ ليلهي به الناس عن الإصغاء إلى القرآن الكريم.
فقام بهذا العمل ولكن كانت خطتهم ، خطة حمقاء إلى درجة أنّها لم تدم إلاّ
عدّة أيام ؛ لأنّ قريشاً سئمت من أحاديث النضر ، وتفرّقت عنه(2).
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1- قد ورد تفسير القرآن بالسحر، والداعي بالساحر ، في عدّة آيات منها في الأوّل الصافات :
الآية 15، الأحقاف : الآية 7، سبأ: الآية 43. وفي الثاني : يونس: الآية 3، ص:
الآية 4.
2- لاحظ السيرة النبوية : ج 1، ص 300و358.
التعلیقات