خاتمية الرسالة
الشيخ جعفر السبحاني
منذ 15 سنةخاتمية الرسالة
إتفقت الأُمّة الإسلامية عن بكرة أبيها ، على أنّ نبيّها محمداً صلى الله عليه
وآله ، خاتم النبيين ، وأنّ شريعته خاتمة الشرائع ، وكتابه خاتم الكتب
والصحف ، فهو آخر السفراء الإلهيين ، أُوصِدَ به بابُ الرسالة والنبوّة ، وخُتِمت
به رسالة السماء إلى الأرض ، وأنّ دينَ نبيِّها ، دينُ الله الأبدي ، وأنّ كتابه ،
كتابُ الله الخالد ، وقد أنهى الله إليه كل تشريع ، فاكتملت بدينه وكتابه الشرائع
السماوية التي هي رسالة السماء إلى الأرض .
ويدلّ على ذلك نصوص من الكتاب والسنّة ، نستعرضها فيما يلي :
أ ـ الخاتمية في الكتاب العزيز
لقد نصّ القرآن الكريم على الخاتمية تنصيصاً لا يقبل الشك ، ولا يرتاب
فيه من له أدنى إلمام باللغة العربية ، وذلك في مواضع :
1 ـ التنصيص على أنّه خاتم النبيين
قال سبحانه : ( مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ ، وَلَـٰكِن رَّسُولَ اللَّـهِ
وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ، وَكَانَ اللَّـهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ) (1) .
__________________
(1) سورة الأحزاب : الآية 40 .
وتتضح دلالة الآية بنقل سبب نزولها :
تبنّى رسول الله صلى الله عليه وآله ، زيداً ، قبل بعثته . وكان العرب
يُنَزِّلونَ الأدعياء منزلةَ الأبناء في أحكام الزواج والميراث ، فأراد سبحانه أن ينسخ
تلك السنة الجاهلية ، فأمر رسوله بتزوّج زينب ، زوجة زيد ، بعد مفارقته لها .
فأوجد ذلك الزواج ضجة بين المنافقين ، والمتوغلين في النزعات الجاهلية ، فأخمد
الله تعالى أصواتهم بقوله : ( مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ ) ، أي من الذين
لم يلدهم ، ومنهم زيد ، ( وَلَـٰكِن رَّسُولَ اللَّـهِ ) وهو لا يترك ما أَمره الله به ،
( وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ) أي آخرهم ، ختمت به النبوة ، فلا نبي بعده ، ولا شريعة
سوى شريعته ، فنبوته أبدية ، وشريعته باقية إلى يوم القيامة .
الخاتم وما يراد منه
الخاتم ، بفتح التاء ، كما عليه قراءة عاصم ، أو بكسرها كما عليه الباقون ،
يدلّ على أنّ باب النبوة ختمت به . وذلك لأنّه على الكسر ، إسم فاعل من ختم
يختم ، فهو خاتِم ، وعلى الفتح ، يحتمل وجوهاً ثلاثة :
أ ـ إنّه اسم بمعنى ما يختم به ، أي المختوم به باب النبوة ، فوجوده صلى الله
عليه وآله في سلسلة الأنبياء ، كالختم والإمضاء في الرسائل . فكما أنّ الرسائل
تختم في نهايتها ، بالخَتْم والإمضاء ، فكذا سلسلة الأنبياء ختمت بوجوده ، فهو
خاتم الأنبياء .
ب ـ إنّه فعل ، « خَاتَمَ » كـ « ضارَبَ » ، فهو صلى الله عليه وآله خَتَم بابَ
النبوة .
ج ـ إنّه اسم بمعنى « آخر » ، أي آخر النبيين ونهايتهم .
قال أبو محمد الدميري في منظومته :
والخاتِم الفاعِل قُل بالكسرِ
وما به يُختَمُ فتحاً يجري (1)
__________________
(1) التيسير في علوم التفسير ، ص 90 .
فأشار في هذا البيت إلى الوجهين ، وأنّه بالكسر إسم فاعل ، وبالفتح إسمٌ
بمعنى ما يختم به .
وقال البيضاوي : « وخاتم النبيين : آخرهم الذي ختمهم » (1) .
وفي هذا إشارة إلى المعنى الثالث .
ثم إنّ الختم له أصل واحد ، وهو بلوغ آخر الشيء ، يقال : ختمت
العمل ، وختم القاريء السورة . والختم ، وهو الطبع على الشيء ، فذلك من
هذا الباب أيضاً ، لأنّ الطبع على الشيء لا يكون إلّا بعد بلوغ آخره (2) .
وقد جاء هذا اللفظ في القرآن في موارد لا يشذّ واحد منها عن هذا الأصل ،
فمن ذلك .
قوله تعالى : ( يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَٰلِكَ
فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ) (3) ، أي من الشراب الخالص الذي لا غش فيه ، تختم
أوانيه وتسدّ بمسك .
وقوله تعالى : ( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ ، وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ
أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) (4) . أي نطبع على أفواههم ، فتوصد ، وتتكلم
أيديهم وأرجلهم .
فاتضح مما ذكرناه ، أنّ الآية صريحة في أنّ النبي الأكرم ، نهاية سلسلة
الأنبياء ، وأنّه قد ختم بنبوته باب النبوة وأوصده إلى يوم القيامة .
__________________
(1) أنوار التنزيل ، في تفسير سورة الأحزاب ، الآية 40 .
(2) مقاييس اللغة ، مادة « ختم » .
(3) سورة المطففين : الآيتان 25 و 26 .
(4) سورة يس : الآية 65 ، والبقرة : الآية 7 ، والأنعام : الآية 46 ، والشورى : الآية 24 ،
والجاثية : الآية 23 .
تشكيك ضئيل
إنّ هنا تشكيكاً اختلقته بعض الطوائف (1) الخارجة عن الإسلام ، العميلة
لأعدائه ، فقالت إنّ المراد من الخاتم في قوله ، عزّ من قائل : ( خَاتَمَ النَّبِيِّينَ ) ،
الحِلْية التي يزيّن بها الإصبع . والمراد أنّ النبي الأكرم زينة النبيين ، كما أنّ الخاتم
زينة يد الإنسان ، فهو بين تلك العصابة ، كالخاتم في يد لابسه .
وهذه شبهة واهية للغاية ، نجمت ـ إن لم تكن متعمدة ـ من الجهل باللغة
العربية ، وذلك لوجوه :
أولاً ـ إنّه لم يعهد إستعارة الخاتم في اللغة العربية ، للزينة ، فلا يقال إنّه
خاتم القوم ، أي زينتهم وحليتهم ، فكيف يستعيره القرآن في هذا المعنى ، وهو في
قمة البلاغة ؟! .
وثانياً ـ لو كان الهدف تشبيه النبي بالخاتم في كونه حلية ، لكان المناسب أن
يشبهه بالتاج والإكليل ، إذْ هما أبلغ في بيان المقصود ، أعني الزينة .
وثالثاً ـ إنّ الخاتم ليس له إلّا أصل واحد ، وهو ما يختم به ، ولو استعمل
في حلية الإصبع ، فذلك من باب إطلاق الكلّي على الفرد ، لأنّ الدارج في عهد
الرسالة إنهاء الكتاب بالخاتم ، فكانت خواتمهم أختامهم ، لا أنّه وُضع لحلية
الإصبع وضعاً على حدة .
ويدلّ على ذلك ما رواه ابن سعد في طبقاته ، من أنّ رسول الله أرسل
الرسل إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام وكتب إليهم كتبا ، فقيل يا رسول الله : إنّ
الملوك لا يقرأون كتاباً إلّا مختوماً ، فاتّخذ رسول الله صلى الله عليه وآله يومئذ ،
خاتماً من فضة ، فَصُّهُ منه (2) ، نقشه ثلاثة أسطر :
« محمد » ، « رسول » ، « الله » ، وختم به الكتب (3) .
__________________
(1) كالبهائية والقاديانيّة .
(2) كذا في النسخة ، والأَوْلى : « منها » ، ولعل التذكير باعتبار رجوع الضمير إلى الخاتم .
(3) الطبقات الكبرى ، ج 1 ، ص 248 . ولاحظ مقدمة ابن خلدون ج 1 ، ص 220 ، تجد فيه
بسطاً في الكلام .
فظهر ممّا قدمنا أنّ الخاتم بمعنى ما يختم به ، وله مصاديق ، فتارة يختم بحلية
الإصبع ، وأُخرى بشيء مثل الشمع ، وثالثة بمثل الطين ، وأشياء أُخرى درجت
حديثاً .
وأضعف من ذلك إحتمال أن يكون المراد من قوله تعالى : ( وَخَاتَمَ
النَّبِيِّينَ ) ، أنّه مصدِّقٌ للنبيين ، فاستعارة الخاتم له ، لأجل أنّه صلى الله عليه
وآله مُصَدِّقُهم كالخاتم المصدِّق لمضامين الكتب .
ويَرُدُّهُ ، أولاً : لو كان المراد هو تصديق النبيين ، فلم عدل عن التعبير
الصريح ، إلى هذا التعبير المعقد ، مع أنّه استعمل لفظ مصدّق دون الخاتم عندما
أراد بيان تصديق نبيٍّ لنبيٍّ آخر ؛ فقال : ( وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي
إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّـهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ ) (1) .
وكذلك عندما أراد بيان تصديق كتاب لكتاب ؛ فقال : ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ
الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ، مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ) (2) .
وثانياً ـ ليس الخاتم نفسه مصدِّقاً ، وإنّما هو آلة التصديق ، وما يُصَدَّق
به ، وإنّما المصدِّق من يستعمل الختم ، وهذا بخلاف النبي فإنّه بنفسه مصدق .
وَلَعَمْري ، لولا شيوع التشكيك بين البسطاء من غير العرب ، لكان الأولى
ترك التعرض له .
نعم ، هنا تشكيك آخر قابل للطرح والذكر ، وإليك بيانه .
تشكيك آخر
إنّ المختوم في الآية المباركة هو منصب النبوة لا الرسالة ، حيث قال :
( خَاتَمَ النَّبِيِّينَ ) . وخَتْم باب النبوة ، لا يلازم ختم باب الرسالة ، فهو مفتوح
على مصراعيه في وجه الأُمة ، ولم يوصد .
__________________
(1) سورة الصف : الآية 6 .
(2) سورة المائدة : الآية 48 .
والجواب : إنّ رفع التشكيك يتوقف على تبيين الفرق بين النبوة
والرسالة ، وبالتالي يعلم الفرق بين النبي والرسول ، فنقول :
النُّبُوَّة منصب معنوي يستدعي الإتصال بالغيب بإحدى الطرق المألوفة ،
والرسالة سفارة للمرسَل ( بالفتح ) من جانبه سبحانه لإبلاغ ما أُوحي إليه ، إلى
المُرْسَل إليه ، أو تنفيذ ما تحمَّله منه سبحانه ، في الخارج .
وبعبارة أخرى : النبوة ، تحمل الأنباء ؛ والرسالةُ ، إبلاغُ ما تَحَمَّلُه من
الأنباء ، بالتبشير والإنذار ، والتنفيذ .
ولأجل مناسبة الوحي لمقام النبوة ، والتبليغ لمقام الرسالة ، يقول سبحانه :
( إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَىٰ نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ ) (1) .
ويقول : ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ) (2) . ويقول :
( قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا ) (3) .
وفي ضوء هذا يعلم الفرق بين النبيّ والرّسول ، فالنبيُّ هو الإنسان الموحى
إليه بإحدى الطُرق المعروفة ، والرسول هو (4) الإنسان القائم بالسفارة من الله ،
للتبشير ، أو لتنفيذ عمل في الخارج ، أيضاً .
إذا عرفت ذلك ؛ فنقول : لو فرض إيصاد باب النبوة ، وختم نزول الوحي
إلى الإنسان ، كما يفيده قوله : ( خَاتَمَ النَّبِيِّينَ ) ، فعند ذلك يختم باب الرسالة
الإلهية أيضاً ، لأنّ الرسالة هي إبلاغ أو تنفيذ ما تحمله الرسول عن طريق
الوحي ، فإذا انقطع الوحي والإتصال بالمبدأ الأول ، فلا يبقى للرسالة موضوع .
__________________
(1) سورة النساء : الآية 163 .
(2) سورة المائدة : الآية 67 . هذا في مجال التبليغ .
(3) سورة مريم : الآية 19 . هذا في مجال التنفيذ .
(4) المقصود تعريف الرسول المصطلح ، فلا ينافي إطلاقه على المَلَك ، مثل قوله تعالى : ( حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ
أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا ) ( سورة الأنعام : الآية 61 ) . أو على الإنسان العادي : ( فَلَمَّا جَاءَهُ
الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَىٰ رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ . . . ) ( سورة يوسف :
الآية 50 ) .
فإذا كان النبي الأكرم خاتم النبيين ، أي مختوماً به الوحي والاتصال بالغيب ، فهو
خاتم الرُّسل أيضاً . وهذا واضح لمن أمعن النظر في الفرق بين النبوة
والرسالة (1) .
2 ـ التنصيص على أنّ القرآن لا يأتيه الباطل
قال سبحانه : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ ، وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ
لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ، تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ) (2) .
والمقصود من الذكر هو القرآن ، لقوله سبحانه : ( ذَٰلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ
الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ ) (3) .
أضف إليه أنّ قوله : ( وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ ) ، يُفَسِّرُ الذكر ، وهو لا ينطبق إلّا
على القرآن .
والضمير في قوله : ( لَّا يَأْتِيهِ ) ، يرجع إلى الذكر ، ومفاد الآية أنّ الباطلَ
لا يتطرق إليه ، ولا يجد إليه سبيلاً أبداً ، بأي نحو كان ، ودونك صُوَرَهُ :
1 ـ « لا يأتيه الباطل » ، أي لا ينقص منه شيء ولا يزيد فيه شيء .
2 ـ « لا يأتيه الباطل » ، أي لا يأتيه كتاب يبطله وينسخه ، فهو حق ثابت
لا يُبَدَّل ولا يُغَيَّر ولا يُتْرَك .
3 ـ « لا يأتيه الباطل » ، أي لا يتطرق الباطل إليه في إخباره عمّا مضى ، ولا
في إخباره عمّا يأتي ، ولا يتخلف الواقع عنه قيد شعرة .
وعلى ضوء هذا ، فإطلاق الآية ينفي كلّ باطل يتصور ، وأنّ القرآن حقّ لا
__________________
(1) إن لشيخنا الأستاذ ، دام مجده ، رسالة خاصة في الفرق بين النبي والرَّسول ، لاحظ موسوعته
القرآنية ، مفاهيم القرآن ، الجزء الرابع ، ص 315 ـ 370 .
(2) سورة فصلت : الآيتان 41 ـ 42 .
(3) سورة آل عمران : الآية 58 .
يدخله الباطل إلى يوم القيامة ، ومثل هذا لا يصح أن يكون حجة في أمد محدود ،
بل يكون متَّبعاً ، بلا حدّ ، لأنّ خاصِّيَّة الحقِّ المُطلق ، والمصون عن تطرق الباطل
مطلقاً ، هو كونه حجة لا إلى حدٍّ خاص ، والله سبحانه تعهد في الذكر الحكيم
بإحقاق الحق وإبطال الباطل ، كما قال : ( لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ
الْمُجْرِمُونَ ) (1) .
وبعبارة أخرى : إنّ الشريعة الجديدة ، إمّا أن تكون عين الشريعة
الإسلامية الحقّة ـ كما نصّت الآية ـ التي لا يقارنها ولا يدانيها الباطل ، أو غيرها ،
كلّاً أو جزءً .
فعلى الأول ، يكون إنزال الشريعة الثانية لغواً .
وعلى الثاني ، تكون كلتا الشريعتين حقّة ، فيلزم كون المتناقضين حقّاً ،
وهو غير معقول .
فالآية صريحة في نفي أي تشريع بعد القرآن ، وشريعة غير الإسلام ، فتدلّ
بالملازمة على نفي النبوة التشريعية بعد نبوته .
نعم ، الآية لا تفي بنفي النبوة الترويجية ، التبليغية ، لغير شريعة
الإسلام ، وإنّما المتكفل له هي الآية الأُولى .
3 ـ التنصيص على الإنذار لكل من بَلَغ
قال سبحانه : ( قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً ، قُلِ اللَّـهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ
وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَـٰذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ ) (2) .
فالآية صريحة في أنّ النبي صار مأموراً بالإنذار ، بقرآنه ، لكل من بلغه
__________________
(1) سورة الأنفال : الآية 8 .
(2) سورة الأنعام : الآية 19 .
إلى يوم القيامة . فمن بلغه القرآن ، فكأنّما رأى محمداً صلى الله عليه وآله ،
وسمع منه ، وحيثما يأتيه القرآن ، فهو داع له ونذير .
وقوله : ( وَمَن بَلَغَ ) ، معطوف على الضمير المنصوب المتصل في قوله :
( لِأُنذِرَكُم ) ، لا على الفاعل المستتر ، أعني ضمير المتكلم . فمن بلغه
القرآن ، منذَر ( بالفتح ) لا منذِر .
4 ـ التنصيص على أنّه نذير للعالمين
قال تعالى : ( تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ
نَذِيرًا ) (1) .
هذه الآية كما تدلّ على عالمية رسالته ، دالّة على خاتميته إلى يوم القيامة .
واختلف أهل اللغة في مفاد العالمين (2) ، ولكن المراد به في المقام كلّ الناس ،
ونظيره قوله تعالى ـ حاكياً عن لسان لوط عليه السلام ـ : ( قَالَ إِنَّ هَـٰؤُلَاءِ ضَيْفِي
فَلَا تَفْضَحُونِ وَاتَّقُوا اللَّـهَ وَلَا تُخْزُونِ قَالُوا : أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ ) (3) .
أي قالوا في جوابه : أوَ لَيْس كنا قد نهيناك أنْ تستضيف أحداً من الناس .
وبذلك يتضح عدم صحة ما يُروى في تفسير العالمين بأنّ المراد الجن والإنس ، أو
الجنّ والملائكة ، إذ لا معنى لنهي قوم لوط ، نبيَّهم عن استضياف هؤلاء .
__________________
(1) سورة الفرقان : الآية 1 .
(2) وقد اختلف أهل اللغة في معنى « العالَم » ، الذي يجمع على عالمين ، على أقوال :
1 ـ إنّه اسم للفَلَك وما يحويه من الجواهر والأعراض ، وهو في الأصل إسم لما يعلم به ، كالطابع ،
والخاتم ، لما يطبع ويختم به . وأما جمعه ، فلأنّ كلَّ نوعٍ من هذه قد يسمى عالَماً : عالَم الإنسان ،
وعالَم الماء ، وعالَم النَّار . . .
2 ـ إنّه إسم لأصناف الخلائق من المَلَك والجِنّ والإنس .
3 ـ إنّه الإنسان ، والجمع باعتبار كون كلّ واحدٍ عالَماً . ( مفردات الراغب ، صفحة 349 ) .
(3) سورة الحجر : الآيات 68 ـ 70 .
ونظيره قوله سبحانه ـ حكاية عن لوط عليه السلام في الردّ على قومه ـ :
( أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ ) (1) ، فالمرادُ منه هو الناس ، بلا ريب ، لا الجن
ولا الملائكة .
وما ذكرنا من المعنى هو المروي عن الإمام الصادق عليه السلام ، قال :
« عنى به الناس ، وجعل كلَّ واحدٍ عالماً » (2) .
وعلى كل تقدير ، فسواء أكان المراد من العالَمين في الآيات الأُخر غير هذا ،
أو كان هذا ، فالمراد من قوله : ( لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ) ، عمومُ البشر ، أو مطلق من
يعقل . فالآية صريحة في أنّ إنذاره لا يختص بناس دون ناس ، أو زمان دون
زمان ، فهو على إطلاقه ، يعطي كونه نذيراً للأُمم البشرية ، بلا قيدٍ وحدّ .
وربما يقال إنّ « العالمين » يطلق ويراد منه الجمّ الغفير من الناس ، كما في
قوله سبحانه : ( يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ
عَلَى الْعَالَمِينَ ) (3) ويقال : « رأيت عالماً من الناس » ، يراد به الكثرة . وعند ذاك
لا تكون الآية صريحة في عموم رسالته لجميع البشر إلى يوم القيامة .
والجواب : إنّ المتبادر من اللفظ هو عموم الخلائق ، كما في قوله سبحانه :
( قَالَ فِرْعَوْنُ : وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ : رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن
كُنتُم مُّوقِنِينَ ) (4) . واستعماله في غير ذلك يحتاج إلى قرينة ، ولأجل ذلك يحمل
على المعنى الحقيقي في الآيات التالية :
( وَمَا اللَّـهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعَالَمِينَ ) (5) .
( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ ) (6) .
__________________
(1) سورة الشعراء : الآية 165 .
(2) مفردات الراغب ، ص 349 .
(3) سورة البقرة : الآية 47 .
(4) سورة الشعراء : الآيتان 23 و 24 .
(5) سورة آل عمران : الآية 108 .
(6) سورة آل عمران : الآية 96 .
( أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ ) (1) .
( أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ ) (2) .
وأما ما ذُكر من الآية ، فليس ظاهراً في كون المراد منه الجمّ الغفير ، بل كلّ
الناس ، غاية الأمر أنّها خُصِّصت بأَهلِ عالمي زمانهم ، مثل قوله سبحانه : ( إِنَّ
اللَّـهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ) (3) .
وعلى أي تقدير فسواء فُسّرت الآية ، بالجمّ الكثير من الناس ، أو خصِّصت
بأهل عالمي زمانهم ، فإنّما هو لقرينة صارفة عن ظاهرها ، حيث إنّ القرآن دلّ على
أنّ الأُمّة الإسلامية أفضل الأمم ، مثل قوله سبحانه : ( كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ
لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ) (4) . ودلّت الأحاديث على أنّ إبنة
النبيّ الأكرم ، فاطمة عليها السلام ، مثل مريم أو أفضل منها (5) . فهذه وتلك
صارتا قرينتين على صرف الآيتين (6) عن ظاهريهما ، وأمّا غيرهما فيُحْمل على المعنى
الحقيقي ، أي الناس كلّهم إلى يوم القيامة .
__________________
(1) سورة الشعراء : الآية 165 .
(2) سورة الأعراف : الآية 80 .
(3) سورة آل عمران : الآية 42 .
(4) سورة آل عمران : الآية 110 .
(5) أخرج البُخاري ومسلم والتِرْمذي في صحاحهم عن عائشة قالت : إنّ النَّبيَّ صلى الله عليه وآله قال
لفاطمة في أُخريات أيامه : « ألا ترضين أن تكوني سَيِّدةَ نساءِ المُؤْمِنينَ أَوْ سَيِّدَةَ نِساءِ هذه الأُمَّة » ،
( لاحظ التاج الجامع للأصول ، ج 3 ، ص 314 ) .
وأخرج ابن سعد عن مسروق عن عائشة في حديث أنّ النبي صلى الله عليه وآله أَسَرّ إلى فاطمة عند
مرضه وقال : « ما ترضَيْن أن تكوني سيدة نساء هذه الأُمة ، أو نساءِ العالمين » . ( الطبقات
الكبرى ، ج 8 ، ص 27 . وحلية الأولياء ، ج 2 ، ص 40 ) ، ولولا هذه الأحاديث لقلنا
بتفضيل مريم على نساء العالمين إلى يوم القيامة ، كما أنّه لولا صراحة الآية في تفضيل هذه الأُمّة
لقلنا بتفضيل بني إسرائيل على الناس كلّهم إلى يوم القيامة .
(6) سورة البقرة : الآية 47 وسورة آل عمران : الآية 42 .
5 ـ التنصيص على كونه مرسلاً إلى الناس كافّة
قال سبحانه : ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ، وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ) (1) .
المتبادر من الآية كون « كافّة » ، حالاً من النّاس ، قُدِّمت على ذيها ،
وتقدير الآية : وما أرسلناك إلّا للناس كافّة ، بشيراً ونذيراً ، وقد استعمل
« كافّة » بمعنى « عامّة » ، في القرآن الكريم كثيراً ، قال سبحانه : ( وَقَاتِلُوا
الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً ) (2) . والآية دليل على كون رسالته عالمية ، كما
أنّها دليل على أنّه كان مبعوثاً إلى كافة الناس إلى يوم القيامة .
وأمّا جعل لفظ ( كَافَّةً ) حالاً من الضمير المتصل في قوله :
( أَرْسَلْنَاكَ ) ، ليعود معنى الآية : وما أرسلناك إلّا أن تَكُفَّهُم وتَرْدَعَهُم ، فَبعيد
عن الأذهان ، أضف إلى ذلك أنّ قوله في ذيل الآية : ( بَشِيرًا وَنَذِيرًا ) ، كافٍ
في هذا المعنى ، لأنّ التبشير والإنذار يتكفلان الكفّ والردع عن المحرمات ، وقد
فهم الصحابة من الآية ما ذكرناه (3) .
إشارات إلى الخاتمية في الذكر الحكيم
ما ذكرنا من الآيات كانت تصريحات بالخاتمية ، وهناك آيات تشير إليها إذا
أُمعن النظر في مضامينها ، وإليك نقل بعضها .
1 ـ قال سبحانه : ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ
الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ، فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّـهُ ، وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ
__________________
(1) سورة سبأ : الآية 28 .
(2) سورة التوبة : الآية 36 . ولاحظ أيضاً البقرة : 208 ، والتوبة : 122 .
(3) روى ابن سعد في طبقاته عن خالد بن معدان ، قال : قال رسول الله (ص) : « بُعثت إلى الناس
كافّة ، فإن لم يستجيبوا لي فإلى العرب . . » وفي نقل آخر عن أبي هريرة : « أُرسلت إلى الناس
كافة ، وبي خُتم النبيون » . ( الطبقات الكبرى ، ج 1 ، ص 172 ) .
مِنَ الْحَقِّ ، لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ، وَلَوْ شَاءَ اللَّـهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ،
وَلَـٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ . . ) (1) .
المهيمن هو الرَّقيب (2) ، فكتاب النبي الأكرم مهيمن على جميع الكتب
النازلة من قبل وهو ( مهيمناً عليه ) متمم لقوله : ( مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ
الْكِتَابِ ) . تتميم إيضاح ، إذ لولاه لأمكن أن يتوهم من تصديق القرآن للتوراة
والإنجيل أنّه يصدِّق ما فيهما من الشرائع والأحكام ، تصديق إبقاء ، من غير تغيير
وتبديل ، لكن توصيفه بالهيمنة يبين أنّ تصديقه لهما بمعنى تصديق أنّها شرائع حقّة
من عند الله ، وأنّ لله أن يتصرف فيها ما يشاء بالنسخ والإكمال ، كما يشير إليه قوله
ـ في ذيل الآية ـ : ( وَلَوْ شَاءَ اللَّـهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا
آتَاكُمْ ) .
2 ـ قال سبحانه : ( أَفَغَيْرَ اللَّـهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ
مُفَصَّلًا ، وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ ، فَلَا تَكُونَنَّ
مِنَ الْمُمْتَرِينَ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَّا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ ، وَهُوَ السَّمِيعُ
الْعَلِيمُ ) (3) .
وقوله : ( وتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ . . . ) ، يدلّ على إيصاد باب الوحي ،
وانقطاعه إلى يوم القيامة ، وتمامية الشرائع النازلة من الله سبحانه ، طوال قرون ،
إلى سفرائه .
والمراد من الكلمة ، الشرائع الإلهية ، كما في قوله : ( وصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ
رَبِّها وَكُتُبِه ) (4) ، ومعنى الآية : تمّت الشرائع السماوية بظهور الدعوة المحمدية ،
ونزول الكتاب المهيمن على جميع الكتب ، وصارت مستقرة في محلها ، بعدما
__________________
(1) سورة المائدة : الآية 48 .
(2) فعيل بمعنى فاعل ، أي مراقب .
(3) سورة الأنعام : الآيتان 114 و 115 .
(4) سورة التحريم : الآية 12 .
كانت تسير دهراً طويلاً في مدارج التدرج ، بِمَنْحِ نُبُوّة بعد نُبُوّة ، وإنزال شريعة
بعد شريعة .
والدليل على أنّ المراد من الكلمة ، الشرائع الإلهية ، هو قوله : ( وَلَوْ شَاءَ
اللَّـهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ) ، أي جعلكم مقتفين لشريعة واحدة ، وبما أنّ هذه
الدعوة الإلهية الواردة في القرآن الكريم ، صدق لا يشوبه كذب ، وما فيه من
الأحكام عدل لا يخالطه ظُلم ، تمّت الشريعة السماوية ، فلا تتبدل كلماتها
وأحكامها من بعد . وهذا المعنى يظهر عند التأمل في سياق الآيات .
إلى هنا تم البحث عن الآيات الدالّة على الخاتمية بصراحة أو بالتلويح
والإشارة ، ولأهمية الإعتقاد بها تضافرت فيها النصوص عن النبي الأكرم وعترته
الظاهرة ، غير أنّ سرد كل ما وقفنا عليه عنهم عليهم السلام ، يستدعي وضع
رسالة مستقلة ، فنكتفي بنقل بعضها عن النبي الأكرم ، ووصيِّه الإمام عليّ
عليه السلام ، ونترك الباقي إلى محله .
ب ـ الخاتمية في الأحاديث الإسلامية
لقد حصحص الحق ، بما أوردناه من النصوص القرآنية ، وانْحَسَر الشَّكُ
عن مُحيّا اليقين ، فلم تَبْقَ لمجادِلٍ شُبْهَةٌ في أنّ رسول الله ، خاتمُ النبيين
والمرسلين ، وأنّ شريعته خاتمةُ الشرائع ، وكتابَه خاتم الكتب . وإليك فيما يلي
كَلِمٌ ذُرِّيَّة ، من صاحب الشريعة ووصيه في هذا المجال :
1 ـ خرج رسول الله صلى الله عليه وآله من المدينة إلى غزوة تبوك ، وخرج
الناس معه ، فقال له عليٌّ ( عليه السلام ) : « أَخْرُجُ معك ؟ » . فقال : « لا » ،
فبكى عليٌّ ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله : « أما ترْضى أن تَكونَ مِنِّي
بمنزلة هارونَ من موسى ، إلَّا أَنَّه لا نَبِيَّ بَعْدي » ، أو « ليس بعدي نبي » ؟ .
وهذا الحديث هو المشهور بحديث المنزلة ، لأنّ النبي نزّل نفسه منزلة
موسى ، ونزّل عليّاً مكان هارون ، وهو صحيح متفق عليه بين الأُمّة ، لم يشكّ
أحد في صحّة سنده ، ولا سنح في خاطر كاتب أن يناقش في صدوره ، وحسبُك
أنّه أخرجه البخاري في صحيحه ، في غزوة تبوك (1) ، ومسلم في صحيحه في باب
فضائل عليّ عليه السلام (2) ، وابن ماجه في سُنَنه في باب فضائل أصحاب
النبي (3) ، والحاكم في مستدركه ، في مناقب عليّ عليه السلام (4) وإمام الحنابلة في
مسنده بطرق كثيرة (5) ، وأمّا الشيعة فقد أصفقوا على نقله في مجامعهم
الحديثية (6) .
ودلالة الحديث على الخاتمية واضحة ، كدلالته على خلافة علي
( عليه السلام ) للنبي صلى الله عليه وآله بعد رحلته .
2 ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله : إنّ مَثَلي وَمَثَل الأنبياء من قبل ، كمثَلَ
رجل بنى بيتاً ، فأحسنه وأجمله ، إلّا موضع لَبِنَةٍ من زاوية ، فجعل الناسَ
يطوفون به ويعجبون له ، ويقولون : هلّا وضعت هذه اللَّبنة . قال : « فأنا
اللَّبنة ، وأنا خاتم النبيين » (7) .
3 ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله : لي خمسة أسماء : أنا محمد ؛
وأحمدُ ؛ أنا الماحي ، يمحو الله بي الكفر ؛ وأنا الحاشر ، يُحشر الناس على
__________________
(1) صحيح البخاري ، ج 3 ، ص 58 .
(2) صحيح مسلم ، ج 2 ، ص 323 .
(3) سنن ابن ماجه ، ج 1 ، ص 28 .
(4) مستدرك الحاكم ، ج 3 ، ص 109 .
(5) مسند أحمد ، ج 1 ، ص 331 ، وج 2 ، ص 369 ، 437 .
(6) لاحظ أمالي الصدوق ، ص 29 . ومعاني الأخبار ، ص 74 . وكنز الفوائد ص 282 . والخرائج
والجرائح ص 75 . ومناقب ابن شهر آشوب ، ج 1 ، ص 222 . وكشف الغُمَّة ، ج 1 ،
ص 44 . وبحار الأنوار ، ج 37 ، الباب 53 ص 254 ـ 289 .
(7) صحيح البخاري ، ج 4 ، ص 226 . ومسند أحمد ، ج 2 ، ص 398 و 412 . ولاحظ الدر
المنثور للسيوطي ، ج 5 ، ص 204 . وللحديث صور مختلفة تشترك كلها في إثبات الخاتمية للنبي
قال رسول الله : « فأنا موضع تلك اللبنة ، فجئت فَخَتَمْتُ الأنبياء » . لاحظ التاج ، ج 3 ،
ص 22 ، نقلاً عن البخاري ومسلم والترمذي .
قدمي ؛ وأنا العاقب ، الذي ليس بعده النبي » (1) .
4 ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله : « أُرسلت إلى الناس كافة ، وبي
خُتم النبيون » (2) .
5 ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله : « فُضّلت بِسِت :
أُعطِيتُ جوامِعَ الكَلِم ، ونُصِرْتُ بالرُّعب ، وأُحلّت لي الغنائم ، وجُعِلَتْ
لي الأَرضُ طَهوراً ومسجداً ، وأُرْسِلْتُ إلى الخَلْقِ كافّة ، وخُتم بي النبيون » (3) .
هذه أحاديث خمسة عن خاتم النبيين ، والمروي في هذا المجال عنه صلى الله
عليه وآله أكثر من ذلك (4) .
تنصيص الإمام عليّ على الخاتمية
6 ـ قال علي عليه السلام : « . . إِلى أَنْ بَعَثَ الله مُحَمداً صلى الله عليه
وآله ، لإنجاز عِدَته ، وتمام نُبُوَّته ، مأخوذاً على النبيين ميثاقُه ، مشهورةً سِماتُه ،
كريماً ميلادُه » (5) .
7 ـ قال علي عليه السلام : « أَرْسَلَهُ على حين فَتْرَةٍ من الرُّسل ، وتنازُع
من الألسن ، فَقَفّى به الرسل ، وختم به الوحي » (6) .
8 ـ قال علي عليه السلام وهو يلي غسل رسول الله صلى الله عليه وآله :
« بأبي أنتَ وأُمّي ، لقد انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت غيرك ، من النُّبوة
والإنباء ، وأخبار السماء ، خصصت حتى صرت مُسَلّياً عمن سواك ، وعَمَمْتَ
__________________
(1) صحيح مسلم ، ج 8 ، ص 89 . الطبقات الكبرى ، ج 1 ، ص 65 ، مسند أحمد ، ج 4 ،
ص 81 و 84 .
(2) الطبقات الكبرى ، ج 1 ، ص 128 ، ومسند أحمد ، ج 2 ، صفحة 412 .
(3) الجامع الصغير ، ج 2 ، ص 216 ، الرقم 5880 ، ط دار الفكر ـ بيروت .
(4) سيوافيك الإحالة إلى المصدر الجامع لهذه الأحاديث .
(5) نهج البلاغة ، الخطبة الأُولى . والضميران في « عدته » ، و « نبوته » ، لله تعالى .
(6) نهج البلاغة ، الخطبة 129 .
حتى صار الناس فيك سواء » (1) .
9 ـ قال علي عليه السلام : « أمّا رسول الله صلى الله عليه وآله فخاتم
النبيين ، ليس بعده نبي ولا رسول ، وختم برسول الله الأنبياء إلى يوم
القيامة » (2) .
10 ـ قال علي عليه السلام في خطبة الأشباح : « . . . بل تعاهدهم
( العباد ) بالحجج على أَلسن الخيرة من أنبيائه ، ومتحملي ودائع رسالاته ، قَرْناً
فقرناً ، حتى تمّت بنبينا محمد ( صلى الله عليه وآله ) حُجَّتُهُ ، وبلغ المَقْطَعَ عُذْرُهُ
ونُذُرُه » (3) .
ثم إنّه قد أُورد على الخاتمية شبهاتٌ واهية ، غنية عن الإجابة ، يقف عليها
كلُّ من له إلمام بالكتاب والسُّنة والأدب العربي ، وإنّما هي صَخَب وهياج وجدال
باطل ، يؤثّر في الجاهلين . ولأجل ذلك إستخدمتها القاديانية ، والبابية ،
والبهائية ، ذريعة لاصطياد السذج من الناس غير العارفين باللُّغة ، ولا بالكتاب
والسنّة ، ولأجل إراءة ضآلة هذه الشبهات نأتي بشبهة واحدة منها ، تُعَدُّ من أقوى
شبهاتهم ، ثم نعطف عنان القلم إلى تحرير أسئلة صحيحة مطروحة حول
الخاتمية ، وهي قابلة للبحث والنقاش ؛ فإليك البيان :
شبهة واهية
كيف يدّعي المُسلمون انغلاق باب النبوة والرسالة ، مع أنّ صريح كتابهم
قاضٍ ، بانفتاح بابها إلى يوم القيامة ، وقد جاء في كتابهم قوله : ( يَا بَنِي آدَمَ ،
__________________
(1) نهج البلاغة ، الخطبة 230 . ومجالس المفيد ، ص 527 . والبحار ، ج 22 ، ص 527 .
(2) الإحتجاج ، ج 1 ، ص 220 .
(3) نهج البلاغة ، الخطبة 87 . وما أوردناه نماذج من أحاديث الخاتمية اقتصرنا عليها رَوْماً للإختصار ،
ومن أراد التفصيل والإحاطة بأكثر ما ورد في هذا المجال من النبي وعترته الطاهرة فليرجع إلى
مفاهيم القرآن ، ج 3 ، ص 148 ـ 179 . فقد وصل عدد الأحاديث في هذا المجال إلى 135
حديثاً ، والكلُّ يشهد على إيصاد باب النبوة ورسالة السماء إلى الأرض .
إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ ، فَمَنِ اتَّقَىٰ وَأَصْلَحَ ، فَلَا خَوْفٌ
عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ) (1) .
فقوله : ( إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ ) ـ مقروناً بنون التأكيد ـ كاشفٌ عن عدم إيصاد
باب النبوة ، وأنّه مفتوح .
والجواب : إنّ هذه الشبهة حصلت من الجمود على نفس الآية ، والغفلة
عن سياقها . فإنّ الآية تحكي خطاباً خاطب به سبحانه بني آدم في بدء الخلقة ،
وفي الظرف الذي هبط فيه آدم إلى الأرض ، وقد شرع القرآن بنقل القصة
والخطابات في سورة الأعراف من الآية الحادية عشر ، وختمها في الآية السابعة
والثلاثين ، فبدأ القصة بقوله :
( وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ ، فَسَجَدُوا
إِلَّا إِبْلِيسَ ، لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ ) .
وختمها بقوله :
( قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ، وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ
حِينٍ قَالَ : فِيهَا تَحْيَوْنَ ، وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ ) (2) .
وعند ذلك ، خاطب سبحانه أبناء آدم بخطابات أربعة ، تهدف إلى لزوم
الطاعة ، والتحرز عن إطاعة الشيطان ، وأنّ لهم في قصة أبيهم وأُمهم ، عبرةً
واضحةً ، فقال :
1 ـ ( يَا بَنِي آدَمَ ، قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ . . ) .
2 ـ ( يَا بَنِي آدَمَ ، لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ ، كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ
الْجَنَّةِ . . ) .
3 ـ ( يَا بَنِي آدَمَ ، خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ . . . ) .
__________________
(1) سورة الأعراف : الآية 35 .
(2) سورة الأعراف : الآيات 11 ـ 25 .
4 ـ ( يَا بَنِي آدَمَ ، إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ ) .
فالخطاب الأخير ، ليس إنشاءَ خطاب في عصر الرسالة ، حتى ينافي
ختمها ، بل حكاية للخطاب الصادر بعد هبوط أبينا آدم إلى الأرض .
والذي يوضح ذلك قوله سبحانه في سورة أُخرى :
( قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا ، بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ، فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي
هُدًى ، فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ ) (1) .
فقوله : ( فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى ) ، يتحد مع الآية السابقة ، مضموناً .
وهذا النموذج من الشبهات يوقفك على حالة سائر ما استدلّت به الفرق
الباطلة في هذا المجال ، من القرآن ، ولذلك ضربنا عن هذه الشبهات
صفحا (2) . ونعرّج إلى أسئلة جديرة بالبحث والنقاش ، حول الخاتمية طَرَحها
مرور الزمان ، وتكامُلُ الحضارات ، وتَفَتُّح العقول ، على بساط البحث . فلأجل
أهميتها ، نطرحها ، ثم نجيب عنها بما يناسب وضع الكتاب .
__________________
(1) سورة طه : الآية 123 .
(2) لاحظ ـ للوقوف عليها وعلى أجوبتها ـ « مفاهيم القرآن » ، ج 3 ، ص 185 ـ 216 .
مقتبس من كتاب : الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل / المجلّد : 3 / الصفحة : 485 ـ 503
التعلیقات