عدم الإختلاف في الأُسلوب
التوحيد
منذ 15 سنة
المصدر : الإلهيات على هدى الكتاب والسنّة والعقل : للشيخ جعفر السبحاني ، ج3 ، ص 371 ـ 372
( 371 )
شواهد إعجاز القرآن
(2)
عدم الإختلاف في الأُسلوب
إنّ القرآن الكريم نزل نجوماً في مدّة تقرب من ثلاث وعشرين سنة(1) ، في
فترات مختلفة وأحوال متفاوتة من ليل ونهار ، وحضر وسفر ، وحرب وسِلْم ،
وضرّاء وسرّاء ، وشدّة ورخاء ، ومن المعلوم أنّ هذه الأحوال تؤثّر في الفكر
والتعقّل ، وفي قرائح قادة الكلام ، وأصحاب البلاغة ، فربما يقدر البليغ على إلقاء
خطابة بليغة في حالة ، ولا يقدر عليها في أُخرى . أو الشاعر المُفْلِق يجود بقريض
معجِب في ظروف روحيّة خاصة ، يعجز عنه في أُخرى . ذلك أمر ملموس لمن
مارس إلقاء الخُطب ، ونظم القريض.
ولكن القرآن جاء على خلاف هذه القاعدة ، فلم يختلف حاله في بلاغته
الخارقة المعجزة . كما أنّ الأُسلوب في جميع السور النازلة في هذه المدة المديدة ،
واحد . « فسورة العلق » الّتي هي أوّل سورة نزلت على النبي ، نظير سورة «النصر »
الّتي نزلت عليه في أُخريات أَيامه ، في الأُسلوب والبيان ، من دون أن يكون هناك
اختلاف بينهما.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1- قد تضافرت الآيات على أنّ القرآن نزل نجوماً ، وكان هذا أحد الإشكالات الّتي وجهها الكفّار
والمشركون إلى النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ، فقد كانوا يطلبون منه أن يأتي بكتاب مجموع مُدَوّن مرة
واحدة ، وهذا ما يحكيه سبحانه مجيباً عنه في قوله: ( وَ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ
جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَ رَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً)(سورة الفرقان: الآية 32).
________________________________________
( 372 )
إنّ السور المكية الّتي تتراوح بين ثلاث وثمانين ، وخمس وثمانين سورة ،
نزلت كلّها في ظروف قاسية ، كانت الرهبة فيها حليف صاحب الرسالة ، وكان
الإستضعاف مسيطراً على المؤمنين به ، ومع ذلك فهي لا تتفاوت في بداعة
الأُسلوب ، وروعة النظم ، وكمال الفصاحة والبلاغة ، مع السور المدنية الّتي
نزلت في ظروف هادئة كان الأمن والهدوء مستتبين فيها. فلم يكن لتلك الأحوال
القاسية ، ولا لهذه الظروف الهادئة ، تأثير في فصاحة القرآن وبلاغته ، وروعة
نظمه ، وبداعة أُسلوبه ، فجاء الكلّ على نمط معجز لا يُدْرَك شأوه ، ولا يُشَقُّ
غُبارُه.
فهذا يدلّ على أنّ هذا الكتاب ، ليس وليد قريحة النبي ، ونتاج ذهنه وتفكّره ،
وإلاّ لكثر فيه الاختلاف وتفاوت في نظمه وبلاغته ، فكان بعضه بالغاً حدّ
الإعجاز ، وبعضه قاصراً عنه.
* * *
التعلیقات