الفرق بين التقيّة والنفاق
السيّد ثامر هاشم العميدي
منذ 15 سنةالفرق بين التقيّة والنفاق
حينما نقول : إنّ في التقيّة عزّ المؤمن ، فلا شكّ أن في النفاق ذلّ المنافق ، وحينما نقول : إنّ في التقيّة المداراتيّة يلمُّ شمل المسلمين وتأتلف قلوبهم ، فلا شكّ أنّ في النفاق فرقتهم وشرذمتهم وزرع العداوة والبغضاء في ما بينهم.
وهكذا حينما نرجع إلى فوائد التقيّة ، نعلم جيّداً ، أنّ كلّ فائدة من فوائدها يشكّل نقيضها صفة للنفاق ، وحينئذ تُعلم الفروق الشاسعة بينهما ، لوضوح أنّ النفاق مع خلّوّه عن كلّ فائدة يُعدّ من أخسّ الصفات وأسوءها ، ويكفي أن أعلن الشارع المقدّس عن مصير المنافقين وشدّد النكير عليهم بقوله الكريم : ( إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا ) (1). بينما جاء وصف من استخدم التقيّة في موردها كما مرّ في أدلّتها بأنّه من المؤمنين.
ومع وضوح هذا الأمر ؛ إلّا أنّا سنبيّن باختصار بعض الفروق بين التقيّة والنفاق ، إذ ربّما لا يستهدي البعض إليها من خلال مراجعة فوائد التقيّة وتصوّر نقائضها في النفاق ، لا سيّما مع وجود من لم يفرّق بينهما كما يظهر من بعض البحوث والكتابات المعاصرة ، ومن بين هذه الفروق ما يأتي :
الفرق الأول : التقيّة ثبات القلب على الإيمان وإظهار خلافه باللسان فقط ، لضرورة مقبولة شرعاً وعقلاً. والنفاق عكس ذلك تماماً فهو ثبات القلب على الباطل وإظهار الحقّ على اللسان فقط ، بحيث لا يتعدى فعل المنافق إلى فعل المؤمن ، وأين هذا من ذاك ؟
الفرق الثاني : التقيّة لا تكون من غير ضرورة أو مصلحة معتد بها شرعاً ، وأمّا النفاق فهو خالٍ من كلِّ ذلك تماماً ، فهو مرض في قلوب المنافقين الذين يحسبون كلّ صيحة عليهم ، فكيف يستويان ؟ ومن هذا النفاق الدخول على سلاطين الجور والأمراء الفسقة واطرائهم بما ليس فيهم وتزكيتهم من دون أدنى ضرورة وبلا إكراه وإنّما لأجل التزلف إليهم ثمّ ذمّهم عند الخروج منهم كما كان يفعله عريف الهمداني ، وعروة بن الزبير ، وناس من التابعين ؛ ممّا حمل بعض الصحابة على تنبيههم على هذا النفاق (2).
الفرق الثالث : اعتنى القرآن الكريم ببيان رفع الحرج والعسر والشدّة والضرر ، وكذلك السُنّة النبويّة ، زيادة على طرح الفقهاء لجملة من القواعد الفقهيّة المبيّنة لذلك وكلّ هذا يدخل في دائرة التقيّة وبيان حكمها الشرعي ، وفي المقابل جاء التحذير الشديد بشأن النفاق وبيان مساوئه ، ولم يعدّ القرآن الكريم مَن اتّقى إلّا بكلِّ خير ، بينما وعد المنافقين بكلّ عذاب مهين.
الفرق الرابع : جواز التقيّة ثابت بنصّ القرآن الكريم ، وحرمة النفاق ثابتة بعشرات النصوص القرآنيّة ، ولو جاز القول بأنّ التقيّة نفاق ، فلم يبق إلّا القول بأنّ الشريعة الإسلاميّة أحلّت للمسلمين النفاق ثمّ نُسخ هذا الحكم بالحرمة ، وهو كما ترى قول مضحك لا يقوله إلّا السفيه الأحمق.
الفرق الخامس : التقيّة فضيلة كما مرّ والنفاق رذيلة بلا شكٍّ ، فكيف يجوز حمل أحدهما على الآخر.
الفرق السادس : قولهم بنظريّة عدالة الصحابة يثبّت الفرق بين التقيّة والنفاق بأوضح وجه ؛ لثبوت عمل الصحابة بالتقيّة كما سنبرهن عليه في الفصل الرابع ، ومعنى قولهم أنّ التقيّة نفاق يعني أنّ عدول الصحابة منافقون. وهذا ما لا يرتضيه المنافقون أنفسهم.
ونكتفي بهذه الفروق لنبيّن باختصار الأسباب المؤدية إلى هذا القول الساذج البعيد كلّ البعد عن العلميّة والموضوعيّة.
أسباب القول بأنّ التقيّة من النفاق :
هناك جملة من الأسباب الداعية إلى هذا القول ـ المعاصر ـ على الرغم ممّا يترتّب عليه من آثار سلبيّة خطيرة تحدّد مقدار ما يمتلكه أصحابه من الثقافة الإسلاميّة ، مع مدى موضوعيّتهم ، وقيمة مزاعمهم ، فضلاً عن درجة صلتهم برسالة الإسلام ؛ لما مرّ من أن التقيّة من المفاهيم الإسلاميّة الثابتة ثبوت أيّ مفهوم إسلامي آخر متّفق عليه ، وأنّها ضرورة شرعيّة لا يختلف ثبوتها عن ثبوت أيّة ضرورة شرعية أُخرى ، زيادة على كونها ضرورة عقليّة أيضاً ، وأبعد من ذلك أنّها من الغرائز الفطريّة التي يشترك بها الإنسان والحيوان معاً ، ومن هنا كان السعي إلى النفع واتقاء الخطر مُشاهداً حتّى عند الحيوانات التي ليس من شأنها أن تفقه دليلاً شرعياً كان أو عقلياً.
وهذا يدلّ على أنّ انكار التقيّة ووصفها بالنفاق ، إنّما هو انكار للفطرة ، فضلاً عن كونه انكاراً لضرورة شرعيّة وعقليّة.
وعليه لابدّ من التوفّر على أسباب هذا القول الساذج المتطرّف ، فنعرضها كالآتي :
السبب الأول : الجهل بمعنى التقيّة ، وعدم القدرة الكافية على التفريق بينها وبين النفاق لشبهة اشتراكهما بصفة إظهار الإنسان لشيءٍ هو على خلاف ما يُبطن.
السبب الثاني : حسن ظنّ الخلف بما قاله المتعصّب (3) أو الشاذّ من السلف (4). مع تقليدهم تقليداً أعمى من غير روية ولا تحقيق أو تدقيق (5) !
السبب الثالث : التمسّك بالقسم المحرّم من التقيّة ، لعدم معرفة أقسامها الاُخر من الوجوب ، والإباحة ، والإستحباب ، والكراهة ، كما بيّناه في أقسامها.
السبب الرابع : نصرة الآراء الموروثة والتعصّب لها ، وعدم تحقيق الاُمور على وجوهها ، مع تعميم هذا الاتّجاه السلبي بين البسطاء من الناس ؛ لكي يتمرّنوا تدريجيّاً على قبوله واعتقاد صحّته ، ورفض ما خالفه مهما كانت أدلّته.
السبب الخامس : الخوف الحقيقي من التقريب بين المذاهب الإسلاميّة ، والعمل بكلِّ وسيلة للإطاحة بكلِّ المساعي الشريفة الرامية إلى جمع كلمة المسلمين ؛ لأنّ في وحدة المسلمين القضاء المحتم على تلك الشرذمة التي عرفت بشذوذها أصولاً وفروعاً.
السبب السادس : إشاعة الكذب المحض على الشيعة الإماميّة بهدف التشنيع عليهم ولو بالكذب على جميع المسلمين كزعمهم أن التقيّة من النفاق ، أو كقولهم عن الشيعة الإماميّة : « ... وهم يتوسّعون في مفهوم التقيّة إلى حد اقتراف الكذب والمحرمات » (6) ونحو هذا من الأكاذيب المعبّرة عن عدم الشعور بالمسؤوليّة ، مع انعدام الحياء ، وفقدان الورع والتقوى.
السبب السابع : الدعم المادي الذي تقدمه بعض الجهات المشبوهة بصلاتها المعروفة مع أعداء المسلمين لمن باع ضميره وذمته لقاء ثمن بخس دراهم معدودة لترويج الباطل الذي يضمن سلامة عروشهم عبر ديمومة الوضع الراهن وبقائه في مجتمعنا الإسلامي ، حتّى وإن أدّى ذلك إلى الطعن بمفاهيم الإسلام كمفهوم التقيّة وغيرها من المفاهيم الإسلاميّة الناصعة مثل التوسّل بالأنبياء والصالحين ، وزيارة قبورهم ، وطلب شفاعتهم ونحوها.
ولكي تتّضح الحقيقة أكثر ، وتغلق المنافذ بوجه المشعوذين والمشنعين على الشيعة بالتقيّة ، فلابدّ من بيان بعض الصور الواردة في كتب العامّة في التقيّة على مستوى القول والفعل والفتوى ، لكي يكون ذلك بمثابة المرآة الصافية التي يمكن النظر من خلالها إلى ما هو موجود فعلاً من صور التقيّة في كتب العامّة ، وهو ما سنتناوله في الفصل الرابع من هذا البحث ، مراعين بذلك الإختصار فيما سنذكره من تلك الصور في مباحثه الثلاثة الآتية.
الهوامش
1. سورة النساء : ٤ / ١٤٥.
2. اُنظر : صحيح البخاري ٩ : ٨٩ ، باب ما يُكرَه من ثناء السلطان ، وإذا خرج قال غير ذلك من كتاب الأحكام. والسنن الكبرى / البيهقي ٨ : ١٦٤ و ١٦٥. والسنن الواردة في الفتن / أبو عمرو الداني ١ ـ ٢ : ٤٠٨ ـ ٤٠٩ / ١٤٩. وفتح الباري ٣ : ١٧٠.
3. كالفخر الرازي في كتابه : محصل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين من العلماء والحكماء والمتكلّمين : ٣٦٥ ، ط ١ ، دار الكتاب العربي ، بيروت / ١٤٠٤ هـ. والشهرستاني في الملل والنحل ١ : ١٥٩ ـ ١٦٠ ، ط ٣ ، مطبعة أمير ، قم / ١٤٠٩ هـ ، فقد ذكرا أنّ التقيّة من وضع الرافضة ! وهو كما ترى لا يليق بشأنهما بأيّ وجه من الوجوه.
4. كمؤسّس الفرقة الوهابيّة محمّد عبدالوهّاب في رسالته « في الردّ على الرافضة » : ٢٠ ، تحقيق الدكتور ناصر بن سعيد ، نشر دار طيبة ، الرياض « بدون تاريخ ».
5. اُنظر على سبيل المثال لا الحصر ما في الكتب الآتية بشأن التقيّة من تقليد أعمى أو كذب وافتراء :
١ ـ بطلان عقائد الشيعة / محمّد عبد الستّار التونسوي : ٥٢ و ٧٢ و ٧٣ و ٧٨ و ٧٩ ، دار العلوم ، القاهرة / ١٩٨٣ م ، نشر المكتبة الإمداديّة بمكّة المكرّمة.
٢ ـ تبديد الظلام / إبراهيم سليمان الجبهان : ٤٨٣ ، ط ٣ ، السعودية / ١٤٠٨ هـ.
٣ ـ التشيّع بين مفهوم الأئمّة والمفهوم الفارسي / الدكتور محمّد البنداري : ٢٣٥ ، دار عمان ، الأردن / ١٤٠٨ هـ.
٤ ـ الثورة الإيرانيّة في ميزان الإسلام / محمّد منظور نعماني الهندي ، ترجمة الدكتور محمّد البنداري : ١٢٢ و ١٨٠ و ١٨٢ ـ ١٨٧ و ٢٢٢ ، ط ١ ، دار عمان ، الأردن / ١٤٠٨ هـ.
٥ ـ الخطوط العريضة / محبّ الدين الخطيب : ٩ و ١٠ ، ط ٩ ، جدّة ، السعودية / ١٣٨٠ هـ.
٦ ـ دراسات في عقائد الشيعة / الدكتور عبدالله محمّد الغريب : ١٧ ، ط ١ ، مطبعة طيبة ، الرياض / ١٤٠٢ هـ.
٧ ـ دراسات في الفرق والعقائد / الدكتور عرفان عبدالحميد : ٥٣ ، ط ١ ، مطبعة سعد ، بغداد / ١٩٧٧ م.
٨ ـ رجال الشيعة في الميزان / عبدالرحمن الزرعي : ٦ و ١٧ ـ ١٨ و ٥٠ ـ ٥١ و ١٢٦ و ١٤٨ و ١٧٣ ، ط ١ ، دار الأرقم ، الكويت / ١٤٠٣ هـ.
٩ ـ سراب في ايران / الدكتور أحمد الأفغاني : ٢٥ ـ ٢٧ ، ط ٢ ، عمّان / ١٤١٥ هـ.
١٠ ـ الشيعة الاثني عشرية في دائرة الضوء / الدكتور عبدالمنعم البري : ٢٦٠ وما بعدها ، ط ١ ، دار السلام ، القاهرة / ١٤١٠ هـ.
١١ ـ الشيعة في التصوّر الإسلامي / علي عمر فريج : ١٥٠ و ١٥٢ و ١٥٤ و ١٦٥ و ١٨٣ ، دار عمّار ، الأردن / ١٤٠٥ هـ.
١٢ ـ الشيعة معتقداً ومذهباً / الدكتور صابر عبدالرحمن طعيمة : ٥ و ٨٨ و ١١٨ ، ط ١ ، المكتبة الثقافية ، بيروت / ١٤٠٨ هـ.
١٣ ـ الشيعة وتحريف القرآن / محمّد مال الله : ٣٥ و ٣٦ ، ط ٢ ، شركة الشرق الأوسط للطباعة ، عمّان ، الأردن / ١٤٠٥ هـ.
١٤ ـ الشيعة والتشيّع / إحسان الهي ظهير : ٧٩ و ٨٤ ، ط ٤ ، لاهور ، باكستان / ١٤٠٥ هـ.
١٥ ـ الصراع بين الإسلام والوثنية / عبدالله علي القصيمي : ٤٥٨ و ٤٥٩ ـ المعلومات الاُخرى لم تذكر ـ.
١٦ ـ الوشيعة في نقد عقائد الشيعة / موسى جار الله : ١٠٤ ، ط ١ ، مطبعة الشرق ، مصر / ١٣٥٥ هـ.
6. الموسوعة الميّسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة : ٣٠٢ ، ط ٢ ، الرياض / ١٤٠٩ هـ.
مقتبس من كتاب : [ التقيّة في الفكر الإسلامي ] / الصفحة : 128 ـ 134
التعلیقات