ألا يعتبر البداء فوضوية النظام الإلهي
البداء
منذ 15 سنة
ألا يعتبر البداء فوضوية النظام الإلهي
السؤال : ما هي المؤثرات التي تؤثر على المشيئة الإلهية ؟ نحن الشيعة نعتقد بالبداء ، والحقيقة أنّه مفهوم حضاري و وجداني في خلد الإنسان ، لكن ألا يعني البداء فوضوية النظام الإلهي ، طبعاً إذا اتفقنا على أنّ البداء هو علم الله المتحرك ، أو أنّ الله قد يبدو له شيء ، وعلى أساسه يغير بعض الأشياء الأخرى ، مثلا لو أنّ الأئمة عليهم السلام تسلموا مقاليد الحكم في الدولة العباسية كمثال فما حاجتنا للمهدي ، والأئمة من بعد الإمام الذي يتقلد الحكم لو افترضنا ذلك الإمام الصادق أو الرضا . من هنا نعني فوضوية النظام الإلهي ضمن عقيدة البداء ؟
الجواب : من سماحة الشيخ محمّد السند
ج 1 : قد جاء في حديث الكاظم عليه السلام في تعريف العقل أنّه ما عبد به الرحمن واكتسب به الجنان ، وهو يشير عليه السلام إلى تعريف العقل العملي أو العقل بدرجة العمّال المسيطر على باقي قوى النفس الغرائزية الحيوانية من الغضب والشهوة وشعبهما .
وفي نهج البلاغة : « كم من عقل أسير تحت هوى أمير » ، وقد قوبل العقل مع الجهل ، ولم يُجعل في قبالة العلم . وقد ذكر في الحديث الأوّل جنوداً للعقل وجنوداً للجهل .
وفي بعض الأحاديث إنّ : « العقل نور والجهل ظلمة » .
والعقل يطلق على معانٍ ، فعند الفلاسفة يطلق على العقل النظري أيضاً ، وهي قوة إدراك المعاني المجرّدة ، وقد يطلق عند علماء النفس على قوة الفكر والتفكر . وهناك بحث عن معنى تجرد العقل ، ثمّ ارتباطه بالقلب والروح .
ج 2 : قد ذكر في القرآن الكريم وأحاديث النبي صلى الله عليه وآله وأهل بيته ؟ أنّ ممّا يؤثر على مشيئته تعالى الدعاء ، فإنّه ورد أنّه يحجب القضاء المبرم ، وكذلك الصدقة ، وكذلك صلة الرحم ، وعموماً قد ورد في كل عمل صالح وكل طاعة لله تعالى وبر وخير أنّه يسبب حصول توفيق لهداية أكثر وتقدير إلهي أوفق .
ج 3 : هناك مفارقة بين البداء والفوضوية في التدبير الإلهي ، فإنّ الفوضوية تعنى العفوية والصدفة واللاقانون ، وليس لذلك مجال في التدبير والمشيئة والقضاء والقدر بل قد جعل لكل شيء سبباً إلا أنّ انتظام الأشياء في منظومة السببية والمسببية والعلية والمعلولية لا يعني وصله وغلق باب الأمل والرجاء بالله تعالى ولا فتح باب اليأس والقنوط فإنّه: {لاَ يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ}(يوسف/87). فمن تلك الأسباب والمسببات المجعولة هو الدعاء والصدقة والتوبة والعمل الصالح والاستقامة ، فإنّها تغيّر التقدير والقضاء إلى الخير من بعد أن كان سيّئاً ، وهذا لا يخرج القدر والقضاء عن قانون الأسباب والمسببات بل هو تحكيم له ؛ لأنّ هذه الأمور الصالحة هي أيضاً مجعولة أسباباً في الجعل والتكوين الإلهي ، فلو لم تؤثر لكان خلافاً للنظام الإلهي كما أنّ التقدير والقضاء السابق المبدل كان وفق أسباب حاصلة سابقاً مؤثرة إلا أنّها عرض لها أسباب أقوى تأثيراً ، فنسخت تأثيرها ، كما أنّ من حكمة البداء هو غلق باب الرجاء المفرط بنحو يؤدّي إلى التواني عن العمل والتواكل والتسويف ونحوه ، فيتعلق العبد باعمال صالحة سابقة ، أو بنسبةٍ إلى آباء صالحين أبرار ، أو نحو ذلك ويترك العمل الصالح ، أو قد ينغمس في العمل الطالح تواكلاً ، وقد ورد عن الرضا عليه السلام : لا تتكلوا على محبتنا وولايتنا ، وتتركوا العمل ، كما لا تتكلوا على اعمالكم ، وتتركوا محبتنا وولايتنا ، فالبداء يحفظ الحالة الوسطية في السير سواء بالنسبة للصالحين أو الطالحين ، ومن ثمّ يتساوى الخوف والرجاء ، وهو ضابطة التكامل والحيوية والانبعاث للصلاح والمضي في الطريق المستقيم ، كما ان من حكمة البداء الاعتقاد بقدرة الله تعالى اللامتناهية فليس قدرته مغلولة مكبلة بقضاء وقدر معين بل{ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ}(الرحمن/29). {وَقَالَتْ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ}(المائدة/64).
ومن ثمّ ترى سيد المرسلين صلى الله عليه وآله واشرف البشرية والكائنات على وجل وخوف من ربه تعالى ، وكذا أهل بيته المعصومين عليه السلام ، وهذا ميزان الحركة في طريق التكامل وعدم الوقوف عند درجة بل مواصلة الاستباق إلى الخيرات ، وكل هذه المنظومة من الأسباب المتداخلة لا تخرج عن إحاطة علم الباري القديم تعالى شأنه ، وهو معنى جفّ القلم بما كان ويكون إلى يوم القيامة ، لكن لا بمعنى سلب الاختيار ، ولا بمعنى عدم البداء ، وعدم النسخ التكويني والجمود وغلول يد الرحمن بل ما قبل البداء وبعده وأثنائه وغير ذلك كلها لا تخرج عن إحاطة علم الباري ونظام تدبيره الحكيم ، نعم من لا يطلع على حقائق الأمور يخيّل إليه الصدفة والعفوية من دون قانون تكويني حاكم وهي السنن الإلهية في خلقه ، والذي يستغرق في تدبّر السنن الإلهية من إحاطة بها غورا يخيّل إليه الجمود وسلب الاختيار واليأس من رحمته ، فليس من مقصودٍ وراءه تعالى ولا دونه ، إليه الرجعة والمنتهى .
التعلیقات