الوضوء في العهد النبوي
السيد علي الشهرستاني
منذ 15 سنةالوضوء في العهد النبوي
ممّا لا شكّ ولا ريب فيه أنّ المسلمين في الصدر الأوّل كانوا يتوضّؤون كما كان النبي (ص) يتوضّأ بكيفيّة واحدة ، ولم يقع بينهم أيّ اختلاف يذكر ، وأنّه لو وجد لوصل إلينا ما يشير إليه ، ولتناقلته كتب الحديث والسير والأخبار ، إذ أن المشرع كان بين ظهراني الأمّة ، وهو بصدد التعليم والإرشاد ـ لأمّته الحديثة العهد بالإسلام ـ فمن البعيد حدوث الخلاف بينهم مع كون الجميع يرجعون إلى شخص واحد للأخذ منه وقد قال سبحانه : فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّـهِ وَالرَّسُولِ ، أضف إلى ذلك مشاهدتهم لفعله (ص) الذي هو السنّة والرافع لكلّ لبس وإبهام قد يخالطان البعض ، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى : إن الخلاف في كثير من الأمور بين الأمّة إنما هو وليد العصور المتأخّرة التي جاءت بعد عهده الشريف.
نعم ، قد يقال : إن سبب اختلاف الأمّة في الوضوء وجود تشريعين ، كان النبي (ص) يفعلهما على نحو التخيير ، دون الإشارة إلى ذلك !! أيّ أنّه (ص) : كان تارة يتوضّأ حسبما رواه عثمان (1) وعبد الله بن زيد بن عاصم (2) والربيع بنت المعوذ (3) وعبد الله بن عمرو بن العاص (4) عنه (ص) ، وأخرى مثلما نقله علي ابن أبي طالب (5) ورفاعة بن رافع (6) وأوس بن أبي أوس (7) وعباد بن تميم بن عاصم (8) و ... عنه (ص).
فلو ثبت ذلك ... لصحّت كلتا الكيفيّتين ، ولتخيّر المكلّف في الأخذ بأيّهما شاء مع ترك الآخر ، فتكون حاله كبقيّة الأحكام التخييريّة.
لكن هذا الاحتمال في غاية البعد ، لأنّنا نعلم بأن الحكم الشرعي ـ سواء التعييني أو التخييري ـ إنّما يأخذ مشروعيّته من الكتاب والسنّة ، فكفّارة اليمين ـ مثلاً ـ دلّ عليها دليل من القرآن وهو قوله تعالى : فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ (9) فعرفنا على ضوء الآية بأن الحكم في كفّارة اليمين إمّا إطعام عشرة مساكين ، أو كسوتهم ، أو تحرير رقبة.
وكفّارة صوم شهر رمضان ، قد دلّ عليها حديث الأعرابي (10) ، ورواية أبي هريرة (11) ، وهكذا الأمر بالنسبة إلى غيرهما من الأحكام التخييريّة ...
أمّا فيما نحن فيه ، فلا دلالة قرآنيّة ، ولا نصّ من السنّة النبويّة ، ولا نقل من صحابي بأنّه (ص) فعلها على نحو التخيير ، وليس بأيدينا ولا رواية واحدة ـ وإن كانت من ضعاف المرويّات ـ مرويّة عن أيّ من الفريقين تدلّ على التخيير ، بل الموجود هو التأكيد على صدور الفعل الواحد عنه (ص) وقد اختلفوا في ذلك ، فذهب بعض إلى أنه (ص) غسل رجله ، وذهب البعض الآخر إلى أنّه (ص) مسح رجله ، واستنصر كلّ منهما بالقرآن والسنّة على ما ذهب إليه (12).
وإذا ما تتبع الباحث أقوال علماء الإسلام فسوف يقف على أنّ الوضوء عندهم تعييني لا تخييري ، فغالب أتباع المذاهب الأربعة يقولون بلزوم الغسل في الأرجل لا غير ، أمّا الشيعة الإماميّة فإنّهم لا يقولون إلّا بالمسح وحده ، وإن كلا منهما ينسب قوله ـ مضافاً إلى دعوى استظهاره من الكتاب ـ إلى فعل رسول الله (ص) ، وهو ما جاء في صحاح مرويّاتهم.
أما القائلون بالجمع (13) أو التخيير (14) ، فإنّهم إنّما يقولون بذلك لا على أساس أن النبي (ص) جمع أو خير ، بل إن القائل بالجمع إنّما يقول به لكونه مطابقاً للاحتياط ، وأنّه طريق النجاة ، إذ الثابت عنده أن الكتاب ورد بالمسح ، وأنّ السنّة وردت بالغسل ، فأوجبوا العمل بهما معاً رعاية للاحتياط ، لا على أساس أن النبي (ص) جمع بينهما ، وأن ذلك هو المروي عنه (ص).
وكذا الحال بالنسبة للقائل بالتخيير ، فإنّه إنّما ذهب إلى ذلك لتكافؤ الخبر عنده في الفعلين « المسح والغسل » ، فالمكلّف لو أتى بأيّهما كان معذوراً ، إذ لم يرجح عنده أحد الفعلين حتّى يلزمه الأخذ به ، وعليه فدعوى التخيير مجرّد رأي جماعة قليلة من فقهائنا السابقين ، فلا يمكن به نقض الإجماع المركب بين المسلمين على أنّ الوضوء إمّا مسحي أو غسلي ، بل هناك أدلّة ستقف عليها لاحقاً ترجح أحد الطرفين وبها يثبت أن لا معنى للتخيير !
الهوامش
1. سنن النسائي 1 : 80 ، صحيح مسلم 1 : 204 / 3 ، سنن البيهقي 1 : 53 ، 68.
2. سنن النسائي 1 : 71 ، صحيح مسلم 1 : 210 / 18 ، سنن البيهقي 1 : 50 ، 59.
3. سنن الدارقطني 1 : 96 / 5 ، سنن البيهقي 1 : 64.
4. سنن البيهقي 1 : 68.
5. شرح معاني الآثار 1 : 34 / 156.
6. سنن ابن ماجة 1 : 156 / 460 ، سنن البيهقي 1 : 44 ، شرح معاني الآثار 1 : 35 / 161.
7. كنز العمال 9 : 476 / 27042.
8. كنز العمال 9 : 429 / 26822 ، شرح معاني الآثار 1 : 35 / 162.
9. سورة المائدة : ٨٩.
10. موطأ مالك 1 : 297 / 29.
11. موطأ مالك 1 : 296 / 28 ، صحيح البخاري 3 : 41 ، صحيح مسلم 2 : 781 / 81.
12. ستقف عزيزي القارئ على حقيقة وضوء رسول الله (ص) في الفصل الأول من هذه الدراسة إن شاء الله تعالى.
13. كالناصر للحقّ من أئمّة الزيديّة ، وداود بن علي الظاهري وغيرهما.
14. كالحسن البصري ، وأبي علي الجبائي ، وابن جرير الطبري وغيرهم.
مقتبس من كتاب : [ وضوء النبي (ص) ] / المجلّد : 1 / الصفحة : 30 ـ 32
التعلیقات