الوضوء في عهد عثمان بن عفان
السيد علي الشهرستاني
منذ 15 سنةعهد عثمان بن عفان « 23 ـ 35 هـ »
كان الخليفة عثمان بن عفان الوحيد بين الخلفاء الثلاث الأوائل قد حكى صفة وضوء رسول الله ، وروى لنا وضوءاً بيانيّاً عنه (ص).
فقد أخرج البخاري ومسلم بسندهما عن ابن شهاب : إن عطاء بن يزيد الليثي أخبره أن حمران مولى عثمان أخبره ، أن عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ دعا بوضوء ـ فتوضّأ ـ فغسل كفّيه ثلاث مرّات ، ثمّ مضمض واستنثر ، ثمّ غسل وجهه ثلاث مرّات ، ثمّ غسل يده اليمنى إلى المرافق ثلاث مرّات ، ثمّ غسل يده اليسرى مثل ذلك ، ثمّ مسح رأسه ، ثمّ غسل رجله اليمنى إلى الكعبين ثلاث مرّات ثمّ غسل اليسرى مثل ذلك ، ثمّ قال : رأيت رسول الله (ص) توضّأ نحو وضوئي هذا.
ثمّ قال رسول الله : من توضّأ نحو وضوئي هذا ، ثمّ قام فركع ركعتين ، لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدّم من ذنبه (1).
نصّان أساسيّان
1 ـ أخرج المتّقي الهندي ، عن أبي مالك الدمشقي ، قوله : حدثت أن عثمان بن عفان اختلف في خلافته في الوضوء (2).
2 ـ أخرج مسلم في صحيحه ، عن قتيبة بن سعيد ، وأحمد بن عبدة الضبي ، قالا: حدّثنا عبد العزيز وهو الدراوردي عن زيد بن أسلم ، عن حمران مولى عثمان ، قال : أتيت عثمان بن عفان بوضوء ، فتوضّأ ثمّ قال : إنّ ناساً يتحدّثون عن رسول الله (ص) بأحاديث ، لا أدري ما هي ! ألا إنّي رأيت رسول الله توضّأ مثل وضوئي هذا ثمّ قال : « من توضّأ هكذا غفر له ما تقدّم من ذنبه » (3).
حدوث الخلاف في الوضوء
يوقفنا هذان النصّان على أمور :
الأوّل : ينبئ النصّ الأوّل وكذا الثاني عن حدوث اختلاف بين المسلمين في الوضوء وانشقاقهم إلى خطّين :
1 ـ وضوء الخليفة عثمان بن عفان.
2 ـ وضوء ناس من المسلمين.
وكلّ واحد منهما يكتسب مشروعيّة عمله بانتساب فعله إلى رسول الله ، فهؤلاء الناس كما قال الخليفة يتحدّثون عن رسول الله (ص) لقوله « إنّ ناساً يتحدّثون عن رسول الله بأحاديث » ، أمّا الخليفة فنراه يقول : ألا إنّي رأيت رسول الله توضّأ مثل وضوئي هذا !!
الثاني : يؤكّد النصّ الأوّل على أنّ الخلاف في الوضوء قد حدث في عهد الخليفة عثمان ، لقول أبي مالك « حدثت أن عثمان بن عفان اختلف في خلافته في الوضوء » ، وأن ذلك يتضمّن الإشارة إلى عدم وجود الاختلاف قبل عهده ويقوي ما سقناه سابقاً ، وستقف لاحقاً على أنّ الخليفة قد توضّأ وضوء الناس شطراً من خلافته كما نقل عنه في الصلاة بمنى وأنّه أتمّ الصلاة فيها بعد أن كان قد قصر فيها شطراً من خلافته وكذا في الأذان الثالث يوم الجمعة ، وتقديم الخطبة على الصلاة يوم العيدين .. وغيرها.
الثالث : إن عبارة الخليفة « إن ناساً يتحدّثون » تؤكّد مشروعيّة فعل هؤلاء الناس باعتباره مرويّاً عن رسول الله (ص) ، ولم يكذب الخليفة روايتهم لصفة وضوء رسول الله ، وبذلك يكون وضوؤهم هو وضوء رسول الله ، حيث لا يعقل أن يتحدّثوا بشيء ولا يفعلونه ، وخصوصاً أنّهم في خلاف مع خليفة المسلمين فيه ، أمّا « الناس » فكانوا لا يقبلون بوضوء الخليفة ولا يعتبرون ذلك هو وضوء رسول الله !!
الرابع : إنّ جملة « إن ناساً » أو « لا أدري ما هي » ظاهرة في استنقاص الخليفة لـ « الناس » وأنّهم صحابة مجهولون .. فهل حقّاً كانوا كذلك ؟ أم أن الخليفة قال بمثل هذا لمعارضتهم إيّاه ، وأنّ طبيعة المعارضة تستوجب الاستنقاص ؟!
كانت هذه بعض النقاط .. ولنواصل الحديث بطرح تساؤلات أخرى :
لماذا وقع الاختلاف في هذا العهد مع عدم ملاحظته ـ بصورة واضحة ـ في زمن الشيخين ؟
ولماذا نرى الصحابة ينسبون إلى عثمان البدعة والإحداث ـ كما ستقف عليه لاحقاً (4) في حين لم ينسبوا ذلك إلى أبي بكر وعمر ؟
فلو قلنا بأن الخليفة هو المبدع لهذا الوضوء الجديد ، فما هو السبب والداعي لسلوكه هذا السلوك ، مع علمه بأن ذلك يسبب معارضة الصحابة له ؟
وهل الوضوء من الأمور المالية أو السياسية أو الحكومية .. حتّى يمكن التعامل معها وفق مصلحة الحكم والبلاد ؟
أم كيف يمكن لهؤلاء « الناس » الاجتراء والتعدّي على شعور المسلمين وإحداث وضوء يخالف وضوء الخليفة وما عمله المسلمون مدّة من الزمن ؟
وإذا كانوا هم البادئين بشقّ الصفّ الإسلامي ، أيعقل أن تتجاهلهم كتب السير والتاريخ ولم تنوه بأسمائهم ؟
ولم لا نرى مواجهة من كبار الصحابة لهم ، وظهور وضوءات بيانيّة منهم لإفشال ذلك الخط المبتدع الجديد ؟
ولماذا نرى الخليفة يقول : لا أدري .. وهل أنّه لا يدري حقّاً ؟
وكيف لا يدري وهو من المسلمين الأوائل ، وخليفتهم القائم ؟
وإن كان يدري ، فكيف يجوز لنفسه تجاهل أحاديث من يروي ويتحدّث عن رسول الله ؟ وإن كان الناس قد كذبوا على رسول الله ونسبوا إليه ما لم يصحّ فلماذا لم يشهر بهم ولم يودعهم السجون ؟
هذه التساؤلات مع جملة أخرى ، سنجيب عنها في مطاوي البحث إن شاء الله تعالى.
لكن اللافت للنظر في هذا المجال أنّ الخليفة هو الذي تصدّى بنفسه لمسألة الوضوء !
فما سبب ذلك ؟
ولماذا اعتبرت روايته للوضوء هي أكثر وأصحّ ما يعتمد عليه في حكاية وضوء النبي في أبواب الفقه ؟ مع العلم بأن صورة الوضوء لم تنقل عن كبار الصحابة الملازمين للرسول ، وهم مئات عدداً وكانوا يحيطون به (ص) ويعايشونه ، أضف إلى ذلك كون كثير منهم من أهل الفقه ، وحملة الآثار ، ومن العلماء ، المهتمّين بدقائق الأمور ، وهم الذين نقلوا لنا رأي الإسلام في مختلف مجالات الحياة.
فكيف لم تنقل عن أولئك كيفيّة الوضوء ؟ وهل من المعقول أن يسكت المقرّبون المكثرون عن بيان كيفيّة الوضوء ، إن كان فيها ما يستوجب البيان والتوضيح ؟!
ولماذا هذا التأكيد من عثمان على الوضوء بالذات ؟.. مع كونه يعاني من مشاكل وأزمات حادّة في إدارته السياسيّة ، وسياسته المالية ، ونهجه الفقهي .. بل حتّى في طور تفكيره وسائر شؤونه الأخرى.
قد يكون لزاماً علينا أن نقول : إنّ الحالة الطبيعيّة كانت تقتضي أن تصدر النصوص البيانيّة الحاكية لوضوء رسول الله (ص) عن صحابة من أمثال : أنس بن مالك ، سعد ابن أبي وقاص ، عبد الله بن مسعود ، عمّار بن ياسر ، أبي ذر الغفاري ، جابر بن عبد الله الأنصاري ، طلحة ، الزبير ، المقداد ، عبد الرحمن بن عوف ، زوجات النبي ، موالي النبي ، وغيرهم الكثير من الذين ما انفكوا عن ملازمته (ص) .. لا أن يقتصر النقل ويختصّ بفئة محدودة ، كعثمان ، وعبد الله بن عمرو بن العاص ، والربيع بنت معوذ ، و ....
فلماذا تصدر عن المقلين في رواية الحديث ، لا المكثرين الملازمين للنبي (ص) مع أن طبيعة الأشياء تقتضي الإفاضة في أحاديث الوضوء في روايات المكثرين ؟!
يبدو أن وراء المسألة أمراً خفيّاً ، خصوصاً بعد أن لا نرى للشيخين وضوءاً بيانياً في الباب !
أو لم يكن الشيخان من كبار أقطاب الرواية وأساطينها ، ومن السابقين في الإسلام ...؟؟
ثمّ .. ألم يكونا أفقه من عثمان ، وأشمل رؤية ، وأضبط رواية منه ؟
فإن كان الأمر كذلك .. فكيف يصحّ منهما أن يتركا موضوعاً عباديّاً في غاية الأهميّة ، مع ما قيل عن شدتهما في إيصال وتعليم الأحكام الشرعيّة إلى كلّ المسلمين ؟!
وإذا سلّمنا أن حروب الردة ، وفتح العراق والبحرين وغيرها قد شغلت أبا بكر عن الاهتمام ببعض مسائل الشريعة ، فهذا ما لا يمكن التسليم به بالنسبة إلى الخليفة الثاني ، الذي نقل عنه بأنّه كان يحمل درته ويدور في الأسواق والشوارع والأزقة ، ليصلح ما قد يرى من فساد اجتماعي ، وليعلم الناس ما يفترض أن يتعلموه من أحكام وآداب وسنن ، وكان يهتمّ أيّما اهتمام بمسائل الفقه فيحلّها ، وإذا استعصت عليه بعض المسائل ، نراه يجمع كبار الصحابة ويستشيرهم ، ويبحث معهم تلك المسألة ، ثمّ يخرج بالنتيجة الفقهيّة المتوخاة من البحث ، فتراه يطرح البحوث العلميّة الفقهيّة على الصحابة ممّن عاصروه ، أمثال : علي بن أبي طالب ، وعبد الله بن عبّاس ، والزبير ، وطلحة ، وعبد الله بن مسعود ، وغيرهم من كبار الصحابة.
فإذا كان ثمة اختلاف أو إبهام في الوضوء في الصدر الأوّل .. فلم لم تطرق هذه المسألة المهمّة مجالس أولئك الصحابة ؟!
إن هذا ليؤكّد بوضوح استقرار المسلمين في الوضوء أثناء تلك المرحلة الزمنيّة من الإسلام .. بل المسألة كانت من البداهة والشيوع بحيث أصبحت من أوليات الرسالة المحمديّة ومسلّماتها التي عرفها الجميع بما ينبغي ، دون أدنى شكّ أو ترديد أو التباس.
ومن الواضح أن الصحابي الذي لا يعرف الوضوء ، أو تراه يسأل عن كيفيّته ، يعدّ متهاوناً ومتساهلاً في الدين ، بل ويكشف سؤاله عن التشكيك في صلاته وعباداته ، وأنّه مدع للصحبة ليس إلّا ، إذ كيف يعقل أن يصاحب رجل النبي ، وهو لا يعرف وضوءه ولا حيثيّاته ولا أصول دينه وفروعه وآدابه وسننه وواجباته مع كون النبي قد عاش بين ظهرانيّهم ثلاثاً وعشرين سنة !
وإذا قيل لنا : إن فقيهاً من فقهاء المسلمين في زماننا الحاضر لا يعرف تفاصيل الوضوء ، أو أنّه يسأل عنها .. فإنّنا والحال هذه : إمّا أن لا نصدق ما قيل عنه ، أو أن نرميه بالجهل وعدم الفقاهة ، على الرغم من بعده عن عصر الرسالة بأربعة عشر قرناً.
فكيف يا ترى يمكننا تصوّر ذلك في صحابي ، بل في صحابة قد عاشوا مع النبي وترعرعوا بين يديه ورأوه بأمّ أعينهم وهو يمارس عباداته وطقوسه التي فرضها الله عليه وعليهم ؟!
نعم ، نحن لا ننكر أن يكون نقل الراوي لصفة وضوء رسول الله ، أو سؤاله عن بعض خصوصيّات الأحكام جاء لتعليم الآخرين ، لكنّنا نعاود السؤال ونقول : لماذا لا يروي عنه (ص) الأحاديث الوضوئيّة الصحابة المكثرون ؟
ومن هنا ـ وطبقاً لما ذكرناه ـ نقول قانعين : إن الاختلاف لم يدب بين المسلمين في تلك الحقبة من عصر الإسلام ، بل نشأ في عهد الخليفة الثالث ، الذي وردت عنه نصوص بيانيّة ـ تتجاوز الآحاد ـ في صفة وضوء النبي (ص). ولو دقّق الباحث اللبيب النظر فيها لرآها تتضمّن الكثير من الإشارات الدالّة على حدوث الاختلاف في زمنه.
أضف إلى ذلك أنّ عثمان كان يستغلّ كلّ الفرص المؤاتية ليري الناس وضوءه ، ويحاول التأكيد عليه بشتى الأساليب ـ كما سترى (5) ـ.
والآن لنتعرف على البادئ بالخلاف ، وهل أن وضوءه هو وضوء رسول الله ؟
وكيف بدأ الشقّ في الصف الإسلامي ، ولم ؟
من هو البادئ بالخلاف ؟
نرجع إلى بعض التساؤلات السابقة لتقريرها فنقول :
يفترض مبدئيّاً كون الميل والانحراف أو الخطأ في التفكير المستتبع للخطأ في السلوك العملي ، إنّما ينتج عن هفوات وزلّات عامة الناس ، ويكون دور الحاكم في هذه الحال دور المقوم والمصحّح لما يصدر من خطأ أو شذوذ في التفكير أو في المنهج العملي ، حيث نرى الأمم في شتى مراحل تطوّرها تؤمر على نفسها أو يتأمر عليها من يتوخى منه أن يقيم الأود ويشدّ العمد ، ويحافظ على مسار الأمّة ، ويدافع عن أفكارها وآرائها.
لكن الدلائل والمؤشّرات في نزاع الوضوء تقودنا إلى غير ذلك ، لأن « الناس » المخالفين هذه المرّة هم من أعاظم الصحابة وفقهاء الإسلام (6) ، وليس فيهم من هو أقلّ من الخليفة الثالث من حيث الفقه ، والعلم ، والحرص على تقويم المجتمع والمحافظة على معالم الدين الإسلامي من أيدي التحريف والتخليط واللبس .. كما أنّهم ليسوا من عامة الناس المكثرين من الأغلاط وغير المتفقّهين في الدين ، وهم ليسوا من متأخّري الإسلام من الصحابة الذين لم يعيشوا طويلاً مع النبي (ص) ، بل العكس هو الصحيح ، إذ أنّهم على قدر من الجلالة والعظمة ، يجلون معها عن أن يحتاجوا إلى من يقومهم ويشرف على ما رأوه ورووه عن النبي (ص) .. وسنفصل لك لاحقاً أسماءهم وأحوالهم لتطلع عليها.
ومن الأمور التي تزيد المدعى وضوحاً وتؤكّد على أنّ الخليفة عثمان بن عفان وراء مسألة الوضوء هو الجرد الإحصائي ، الذي توصلنا من خلاله إلى أن مرويات الوضوء الثلاثي الغسلي (7) الصحيحة السند ، إنما تنحصر في :
1 ـ عثمان بن عفان.
2 ـ عبد الله بن عمرو بن العاص.
3 ـ عبد الله بن زيد بن عاصم.
4 ـ الربيع بنت معوذ.
علماً أن المروي عن عبد الله بن زيد بن عاصم هنا يعارض ما أخرجه ابن أبي شيبة عنه ، بأن رسول الله مسح رأسه ورجليه مرّتين (8).
وكذا الحال بالنسبة للربيع بنت معوذ ، فإن ابن عبّاس ناقشها في وضوئها الغسلي ، وقال : يأبى الناس إلّا الغسل ، ونجد في كتاب الله إلّا المسح (9).
بهذا انحصر الوضوء الثلاثي الغسلي في عثمان بن عفان ، وعبد الله بن عمرو بن العاص.
هذا بالنسبة إلى الروايات الصحيحة ، وثمة روايات ضعيفة سنداً ونسبة ، يلزم مناقشتها .. منها : ما روي عن علي وابن عبّاس ، فإنّها على الرغم من سقوط أسانيدها عن الاعتبار ، تتعارض مع ما تواتر عنهما بصحاح المرويات الدالّة على تبنيهما الوضوء الثنائي المسحي ، والمؤكّدة على اعتراضهما على من ينسب الوضوء الثلاثي الغسلي إلى النبي (ص) ، كما فعله ابن عبّاس مع الربيع بنت معوذ ، وقد مرّ قبل قليل.
علماً بأن أصحاب الاتجاه الوضوئي الجديد ينسبون كلّ آرائهم في الوضوء إلى علي بن أبي طالب ، وطلحة ، والزبير ، وغيرهم من الصحابة المعارضين !!
وسنتعرض لبعض النماذج من ذلك في الصفحات القادمة ، إن شاء الله تعالى (10).
هذا وقد عدّ الترمذي أسماء الصحابة الذين رووا عن رسول الله وضوءاً بيانياً ، في باب « ما جاء في وضوء النبي كيف كان » فقال ـ بعد نقله حديثاً عن علي ـ :
وفي الباب عن عثمان ، وعبد الله بن زيد ، وابن عبّاس ، وعبد الله بن عمرو ، والربيع ، وعبد الله بن أنيس ، وعائشة رضوان الله عليهم (11).
وقد عرفت أخي المطالع حال ستّة من المذكورين آنفاً ، فلم يبق من العدد الذي ذكره الترمذي إذن سوى :
1 ـ عبد الله بن أنيس.
2 ـ عائشة.
فقد قال المباركفوري في شرحه على الترمذي ، بعد إرجاعه أحاديث الباب إلى مصادرها في الصحاح والسنن : وأما حديث عبد الله بن أنيس ، فلينظر من أخرجه ، وأما حديث عائشة ، فلم أقف عليه (12).
وبذلك أمكننا التعرف إجمالاً على أحاديث الباب (13) وأنه ينحصر في عثمان بن عفان وعبد الله بن عمرو بن العاص ، وستقف على دور عثمان في الوضوء وروايته لها ، مع أن المفروض أو المحتمل القريب ـ كما هو في غالب أحكام الدين ـ أن يروي الوضوء أصحاب النصيب الأوفر والمكثرون من الرواة والصحابة الأقدمون والمقرّبون من النبي (ص) ، لا أن يختصّ بعثمان وذلك النفر القليل جدّاً !
نعم .. لو كان البادئ بالخلاف الوضوئي هم الناس من الصحابة لاقتضى السير الطبيعي أن يقف رواة الحديث ـ من كبار الصحابة وفقهائهم ـ بوجههم فيروون ما رأوه من النبي (ص) وما سمعوه .. في حين لا نرى من مرويّات ذلك الرهط من الصحابة إلّا ما تخالف مرويّات عثمان أو لا تؤيّدها ، وهي بمجموعها لا تعادل عشر ما رواه عثمان بمفرده في الوضوء ! إذن في الأمر شيء !.. فما عساه أن يكون ؟
وهذه قائمة بأسماء الصحابة المكثرين من الرواية ، وعدد مرويّاتهم في الوضوء البياني ووصفهم لصفة وضوء رسول الله (ص) :
التسلسل اسم الصحابي ـ مجموع الأحاديث المروية عنه (ص) ـ مروياته في الوضوء البياني للنبي (ص) ـ الملاحظات
1 ـ أبو هريرة الدوسي 5374 / (14)
2 ـ عبد الله بن عمر بن الخطاب 2630 /
3 ـ أنس بن مالك 2286 /
4 ـ عائشة 1210 / نسبوا لها وضوءاً ، أنكر المباركفوري
كون المحكي وضوءاً بيانياً.
5 ـ عبد الله بن العباس 1660 ـ له عدّة أحاديث بعضها مسحي ، والباقية ضعيفة السند ، وملصقة به (15)
6 ـ أبو سعيد الخدري 1170 /
7 ـ جابر بن عبد الله الأنصاري 1540 /
8 ـ عبد الله بن مسعود 848 /
9 ـ عبد الله بن عمرو بن العاص 1700
10 ـ علي بن أبي طالب 537 ـ له عدّة أحاديث في الوضوء ، الصحاح منها مسحيّة ثنائيّة الغسلات ، والبواقي منسوبة إليه ضعيفة السند (16).
11 ـ عمر بن الخطاب 527 /
12 ـ أم سلمة أم المؤمنين 378 /
13 ـ أبو موسى الأشعري 360 /
14 ـ البراء بن عازب 305 /
15 ـ أبو ذر الغفاري 281 /
لتسلسل ـ اسم الصحابي ـ مجموع الأحاديث المروية عنه (ص) ـ مرويّاته في الوضوء - البياني للنبي (ص) ـ الملاحظات
17 ـ أبو أمامة الباهلي 250 /
18 ـ حذيفة بن اليمان 200 /
19 ـ سهل بن سعد 188 /
20 ـ عبادة بن الصامت 181 /
21 ـ عمران بن الحصين 180 /
22 ـ أبو الدرداء 179 /
23 ـ أبو قتادة 170 /
24 ـ بريدة الأسلمي 167 /
25 ـ أبي بن كعب 164 /
26 ـ معاوية بن أبي سفيان 163 /
27 ـ معاذ بن جبل 155 /
28 ـ عثمان بن عفان 146 ـ له أكثر من عشرين حديثاً في الوضوء.
29 ـ جابر بن سمرة الأنصاري 146 /
30 ـ أبو بكر 142 / (17)
الملاحظ في الجدول الإحصائي المذكور أن أحداً من المكثرين من الصحابة ، والخلفاء الثلاثة ـ أبي بكر وعمر وعلي ـ وأمّهات المؤمنين ، وموالي النبي .. لم يرو في الوضوء البياني ، إلّا علي بن أبي طالب ، وعبد الله بن عبّاس.
وأمّا عثمان صاحب الـ « 146 » حديثاً ، فيتصدر بـ « أكثر من عشرين رواية » (18) في الوضوء البياني !
نعم .. يتصدّر القائمة بتلك النسبة الهائلة ، مع قلّة مرويّاته بالنسبة لكبار الصحابة وفقهائهم ، الذين خالفوه في اتّجاهه ، وبذلك يرجح أن يكون عثمان هو المتبني والمروّج لفكرة الوضوء الثلاثي الغسلي دون بقيّة الصحابة والفقهاء.
وممّا يزيد المرء حيرة ودهشة هو زيادة روايات عثمان في الوضوء البياني حتّى على أبي هريرة صاحب الرقم الأعلى في المرويات « 5374 » (19) ، والمعروف بأنّه لم يترك شاردة ولا واردة ـ صغيرة كانت أم كبيرة ـ إلّا ورواها عن النبي الأكرم (ص) ، وزاد على ابن عمر ، صاحب لـ « 2630 » رواية ، وجابر بن عبد الله الأنصاري ، صاحب لـ « 1540 » رواية ، وعائشة ، صاحبة لـ « 1210 » رواية ، وأنس ، صاحب لـ « 2286 » رواية ، وأبي سعيد الخدري ، صاحب لـ « 1170 » رواية ، وعبد الله بن مسعود ، صاحب لـ « 848 » رواية ، وعمر بن الخطاب ، صاحب لـ « 527 » رواية ... الخ !
ولا نفهم من هذه الظاهرة إلّا التأكيد لما قلناه ، المتلخص في : تأسيس عثمان لاتّجاه وضوئي ما كان متعارفاً عليه قبله ، وصار من بعد ذلك مدرسة وضوئيّة مستقلّة تخالف ما كانت عليه سيرة المسلمين باتباعهم وضوء النبي (ص).
وقد حاول الإمام علي أثناء خلافته بكلّ ما يمكن بيان الوضوء الصحيح رواية ، وعملاً، وكتابة إلى عمّاله في الأمصار (20) ، لكنّه ـ مع كلّ ذلك ـ لم يصل في رواياته الوضوئيّة لذلك العدد الذي اختصّ به عثمان دون غيره !
نرجع قليلاً .. فنقول : لو أن « الناس » كانوا هم البادئين بالخلاف ، لاندفع الرواة المكثرون ـ بدافع الحرص على الدين ـ لتبيان وضوء النبي ، كما فعلوا ذلك من قبل مع مانعي الزكاة .. ولأسقطوا به التكليف عن الخليفة في مواجهتهم.
فقد وردت روايات كثيرة عن كبار الصحابة في ذكر عقوبة مانع الزكاة وحرمة منعه ، منهم : علي بن أبي طالب ، أبو هريرة الدوسي ، عبد الله بن مسعود ، جابر بن عبد الله الأنصاري ، أبو ذر الغفاري ، أنس بن مالك ، وغيرهم من مشاهير الصحابة .. وهي الحالة الطبيعيّة المتبعة في جميع الديانات والمذاهب على مرّ العصور ، وسارت عليها سيرة المسلمين في شتى مجالات الدين ، وبالخصوص في أبواب الفقه ومسائله الشرعيّة ، فلماذا نجد شذوذاً عن هذه القاعدة المتعارف عليها هنا ؟.. ألا تجعلنا نتّخذ موقف الشكّ والريبة وعدم الاطمئنان بمرويّات الخليفة وأنصاره ، وتدعونا بدافع الحرص والأمانة للوصول إلى حقيقة الحال.
فنقول : لو كان غيره البادئ بالخلاف ، لكان بوسع الخليفة بما له من قوّة تشريعيّة وتنفيذيّة أن يحسم النزاع بأحد طرق ثلاث :
الأولى : استعمال أسلوب الردع الحاسم.
فقد ثبت بين المسلمين أن من حقّ الإمام : ردع المخالفين ، وتأديب الخاطئين ، وتعزير المنحرفين بما يراه صلاحاً في الدنيا والدين.
الثانية : طلب النصرة.
بأن يستنصر المسلمين استنصاراً عاماً ليقضي على ما أدخله أولئك في الدين ، وإعلان ذلك على منبر النبوّة ، كما فعل ذلك أبو بكر بأهل الردة ومدعي النبوّة ، وأن لا يختصّ بجماعات صغيرة في الاشهاد ، أيّ يلزم على الخليفة الاستفادة من الفهم العرفي العام عند المسلمين لنبذ البدعة.
الثالثة : المطالبة بالدليل « المحاجة ».
بأن يطالب الخليفة « الناس » بأدلّتهم ، ليبيّن بذلك زيف ادّعائهم ، لأنّها ـ على فرض كونها بدعة ـ سيعوزها الدليل ويقف الجميع على عدم صلتها بالدين وبعدها عن جذور الشريعة ، وبذلك سوف يعيا أربابها أمام ما يدعيه المسلمون عامّة وستصبح أضحوكة وستمحى ، لتظافر السلطة مع عامة الصحابة ضدّها.
والمثير للدهشة هنا ، أن الخليفة الثالث لم يتّخذ أيّة من هذه الإجراءات الثلاثة ، بل والأغرب من ذلك .. نراه يلتجئ إلى طريقة معاكسة لما يفترض لعلاج مثل هذه المسألة ، فقد تصرف وكأنّه متّهم مشار إليه ، وذلك باتّخاذه موقف الدفاع ، والتشبث بكلّ صغيرة وكبيرة لدعم فكرته .. وكأن الوضوء ليس من العبادات الواضحة في الشريعة ، كما سترى لاحقاً !!
نعم ، قد اتّجه الخليفة إلى الطريقة الأولى ، ولكن لا كما تتطلبه مصلحة الدين والملّة ، بل لتحصين فكرته الخاصّة به ، فقد كانت القوّة طريقته المثلى باطراد لتثبيت أفكاره وإسكات معارضيه طيلة سني حكمه الاثنتي عشرة ، لأنّه يرى في القوّة الأسلوب الأنجح والأكثر ترويضا ، ولذا نراه قد استخدمه حتّى في أبسط وأقلّ المسائل أهميّة ، وسخره بنطاق واسع في قمع معارضيه الفكريين ، مع احتمال كونهم أقرب منه إلى الحقّ ، وهو أبعد عنه بمسافات شاسعة !
لو قلنا : إن كلا الفكرتين متوازيتان ، أو إن فكرة الخليفة هي الأرجح ، فأين وجه الصواب باستخدام القوّة بذلك النطاق الواسع ، مع وجود باب الحوار والنقاش مفتوحاً على مصراعيه ؟!
ونحن لا نريد بهذه العجالة أن نقدم جرداً إحصائياً عن سياسة العنف التي اتبعها الخليفة مع الصحابة ، بل ننوه إلى بعض المواقف :
منها : ما جاء في الكامل وغيره : بأن عثمان لما ولي الخلافة عفى عن عبيد الله بن عمر لقتله الهرمزان ، وقد احتج عليه بعض الصحابة ومنهم ، زياد بن لبيد البياضي الأنصاري.
والأخير أنشد عبيد الله بعض الأبيات ، فشكاه إلى عثمان ، فدعا عثمان زياداً فنهاه وشذبه (21).
وجاء في حوادث سنة « 26 هـ » بأن عثمان زاد في المسجد الحرام ووسعه واشترى الزيادة من قوم ، وأبى الآخرون .. فهدم عليهم ، ووضع الأثمان في بيت المال ، فصاحوا بعثمان ، فأمر بهم إلى الحبس (22).
ولم تقف سياسة العنف عنده بهذا الحدّ ، فقد سير في سنة « 33 هـ » نفراً من أهل الكوفة إلى الشام ، وذلك لاعتراضهم على سياسة سعيد بن العاص في تفضيل قريش وجعله السواد بستاناً لقريش (23).
وسير قبلها أبا ذر إلى الربذة ، ومنع ابن مسعود من القراءة ، وضرب عمّار بن ياسر وداس في بطنه حتّى أصابه الفتق (24).
وقيل : بأن عثمان ـ لما بلغه موت أبي ذر ـ قال : رحمه الله !
فقال عمّار بن ياسر : نعم ، فرحمه الله من كلّ أنفسنا.
فقال عثمان : يا عاض أير أبيه ، أتراني ندمت على تسييره ؟! وأمر ، فدفع في قفاه ، وقال : إلحق بمكانه ! فلمّا تهيّأ للخروج ، جاءت بنو مخزوم إلى علي فسألوه أن يكلّم عثمان فيه.
فقال له علي : يا عثمان ! اتّق الله فإنّك سيّرت رجلاً صالحاً من المسلمين فهلك في تسييرك ، ثمّ أنت الآن تريد أن تنفي نظيره ؟!
وجرى بينهما كلام ... حتّى قال عثمان : أنت أحقّ بالنفي منه !
فقال علي : رم ذلك إن شئت .. واجتمع المهاجرون ، فقالوا : إن كنت كلما كلمك رجل سيّرته ونفيته ! فإن هذا شيء لا يسوغ .. فكفّ عن عمّار (25).
نعم ، لولا مخالفة الإمام علي والمهاجرين لسياسته الضاغطة ، لما كف عن عمّار بن ياسر ، لأنّه قد اتّخذ من تلك السياسة طريقاً لفرض آرائه ، فإن كل تلك الشدّة والصرامة التي مارسها عثمان ضدّ كبار الصحابة وفقهائهم وعبادهم وزهادهم ومتّقيهم ، إنما جاءت لكونهم خالفوه في قضيّة قراءة القرآن ـ كما لوحظ في قضيّة ابن مسعود وكسر أضلاعه ـ ، أو في كيفيّة توزيع الأموال والفيء ـ كما هو المشاهد مع أبي ذر وغيره ـ ، أو لأن أحدهم خالف فتوى كعب الأحبار الموافقة لرأي الخليفة ـ كما جاء في ردّ أبي ذر لكعب وقوله له : يا ابن اليهوديّة ما أنت وما ... (26) ـ ، أو لأنّ أحدهم لا يرى فضلاً لبني العاص ، ناهيك عمّن ينال منهم أو يروي حديثاً ضدّهم ... وما إلى ذلك الكثير.
وبعد هذا .. لا نجد أحداً يشكّ بسياسة العنف التي مارسها عثمان ضدّ عظماء الصحابة وفضلائهم دفاعاً عن آرائه ، فإذ ثبت ذلك .. نتساءل :
لماذا لا نرى أيّة بادرة عنف من الخليفة تجاه مخالفيه في مسألة الوضوء ، على الرغم من ادّعائه أنّ وضوءه هو وضوء رسول الله (ص) ؟!
فلو صحّ .. للزم أن يكون وضوء المسلمين هو وضوء الخليفة ، وبذلك لاندحر الناس بوضوئهم ، ولكفى المسلمون الخليفة مؤنة الصراع معهم ، ولما تكلف ما تكلف.
ويزيد الاستنتاج وضوحاً ما نقل عن الخليفة من مراقبته لجزئيّات الوضع ـ فضلاً عن كلياته ـ ومعاقبة الظالمين والمنحرفين .. ومن ذلك ، أنه :
كان أوّل منكر ظهر بالمدينة حين غصت الدنيا بطيران الحمام والرمي على الجلاهقات ـ وهي قوس البندق ـ واستعمل عليها عثمان رجلاً من بني ليث سنة ثمان من خلافته ، فقص الطيور وكسر الجلاهقات (27).
وذات مرّة .. استخفّ رجل بالعبّاس بن عبد المطلب ، فضربه عثمان ، فاستحسن منه ذلك ، فقال : أيفخم رسول الله (ص) عمّه وأرخص في الاستخفاف به ! لقد خالف رسول الله (ص) من فعل ذلك ورضي به (28).
فكيف بنا نوفق بين غيرة الخليفة على الدين ، وشدّة محافظته على احترام عمّ النبي (ص) ـ لأنّه رأى النبي (ص) يعظمه ويفخمه ـ التي جعلته يحكم بأن الفاعل للاستخفاف ، والراضي به ، مخالف للرسول (ص) .. وبين ما نراه يفعل بالوضوء ؟!
فكيف بمن خالف أمراً دأب عليه رسول الله (ص) ثلاثاً وعشرين سنة من عمره الشريف ، وأكّد عليه مراراً وتكراراً ، وبلغ عن ربّه أنّه نصف الأيمان ، وأن الصلاة موقوفة عليه ؟ مع ضخامة المخالفة ، فالخليفة الثالث لم يتّخذ أيّ إجراء حاسم ضدّ من توضّأ بخلاف ما هو عليه ، على الرغم من أنّ هذه المعارضة الوضوئيّة كانت حديثاً شائعاً قد اندلعت ضدّه ، لقوله « إن ناساً يتحدّثون ... (29) !
نعم ، أنّه لم يتّخذ نفس الموقف الذي اتّخذه الخليفة الأوّل في تحشيد المسلمين ضدّ مانعي الزكاة ، ثمّ مقاتلتهم بلا هوادة ، حتّى نسبوا إلى الارتداد والخروج عن الدين .. فعادوا صاغرين لأداء الزكاة ـ رغبة أو رهبة ـ وتسليمها للخليفة الأوّل ، وذلك بعد أن أفهم أبو بكر المسلمين رأيه في ذلك ، وقف الكثير منهم إلى جانبه ، على الرغم ما لبعضهم كـ « مالك بن نويرة » من إذن من النبي (ص) في أخذ الزكاة والصدقات وتوزيعها على محتاجي قومه ومعوزيهم.
وإذا توغلنا في التاريخ بعين فاحصة فسنجد حتّى خاصّة عثمان ومؤيّديه في حكومته ، كزيد بن ثابت ، لم يتجرّؤوا أن ينقلوا وضوءات تشبه وضوء خليفتهم !
بل ولم ينقل عنهم أيّ ردّ فعل تجاه مدرسة الناس الآخرين في الوضوء النبوي ...
وبقي عثمان ـ مع نفر يسير ـ يؤكّد ما رآه من وضوء ، ونسبه عنوة لرسول الله (ص) ، وراح يضفي على اتّجاهه الوضوئي العناية والاهتمام ، بعد أن تمكن من تسخير هذه المجموعة الضئيلة لمصلحته ، وأنّها قد لا تكون في حساب الحقيقة والتأثير أيّ شيء في قبال ذلك المدّ العارم الذي وقف بوجهه متحدّياً وطالباً بكلّ قوّة وأمانة رجوعه إلى الكتاب والسنّة ...
ومع ذلك كلّه لم يقو عثمان على محاججة ولو شخص واحد من أتباع المدرسة الأخرى ، ليفند رؤيته الوضوئيّة على ملأ من المسلمين ، بل ولم يقو على التصريح باسم واحد منهم ليجعله محطّ ردود فعل المسلمين تجاه ما سيرويه عن النبي الأكرم (ص) !!
بعض أساليب عثمان في الإعلان عن الوضوء الجديد :
عن أبي علقمة ، عن عثمان بن عفان أنّه دعا يوماً بوضوء ، ثمّ دعا ناساً من أصحاب رسول الله (ص) ، فأفرغ بيده اليمنى على يده اليسرى وغسلها ثلاثاً ، ثمّ مضمض ثلاثاً ، واستنشق ثلاثاً ثمّ غسل وجهه ثلاثاً ، ثمّ غسل يديه ثلاثاً إلى المرفقين ، ثمّ مسح برأسه ، ثمّ غسل رجليه فأنقاهما ، ثمّ قال : رأيت رسول الله (ص) يتوضّأ مثل هذا الوضوء الذي رأيتموني توضأته ، ثمّ قال : من توضّأ فأحسن الوضوء ، ثمّ صلّى ركعتين ، كان من ذنوبه كيوم ولدته أمّه ، ثم قال:
أكذلك يا فلان ؟
قال : نعم.
ثمّ قال : أكذلك يا فلان ؟
قال : نعم.
حتّى استشهد ناساً من أصحاب رسول الله (ص) ، ثمّ قال : الحمد لله الذي افقتموني على هذا (30).
يوقفنا هذا النصّ على بعض الأساليب التي اتبعها عثمان في ترسيخ اتّجاهه الوضوئي وهو : دعوته لبعض من الصحابة في فترات متعاقبة ليريهم وضوءه !
وهنا .. نتساءل : هل الصحابة في حاجة لرؤية وضوء الخليفة ، أم أن الغاية من إشهادهم على الوضوء تتعلّق بإسكات أفواه المعارضة ؟
كيف يمكن لنا أن نتصوّر صحابيّاً لا يعرف وضوء النبي (ص) بعد مضي ما يقارب نصف قرن من ظهور الإسلام ؟!
وإذا فرضنا حصول ذلك ، فهل يجوز لنا أن نسمّيه صحابيّاً ؟
ثمّ .. لماذا ذلك السعي الحثيث من قبل عثمان لتعليم المسلمين وضوءه ؟
ولماذا لم يفعل ذلك كلّ من الخليفتين أبي بكر وعمر .. ألم يكونا أولى منه بتعليم الوضوء ، إن كان ضروريّاً ؟
نستفيد من النصّ المذكور أمرين آخرين :
الأوّل : قوّة معارضي عثمان ، وسعي الخليفة في الاستنصار ببعض أصحابه وخاصّته لتأييده فيما يرويه ويحكيه عن رسول الله (ص).
الثاني : ضعف موقف الخليفة وعجزه أمام « الناس !.. » ويستشف ذلك من نقطتين :
الأولى : اتّخاذه سياسة الدفاع ، لا الهجوم كما هو المشاهد في حديث حمران السابق ، بقوله : « لا أدري ما هي ؟! إلّا إنّي رأيت رسول الله يتوضّأ نحو وضوئي » ، وما رواه أبو علقمة : « دعا ناساً من أصحاب رسول الله » ، وقوله :
« الحمد لله الذي وافقتموني على هذا » ، وغيرها من النصوص الدالّة على الضعف ـ ممّا ستقف عليه لاحقاً ـ بالإضافة إلى تجنيده مواليه ـ كحمران وابن دارة ـ لنقل أخبار وضوئه للناس والتأكيد على أن ذلك هو وضوء رسول الله ، محاولاً بذلك إقناع الناس ، فقد روى البيهقي : عن محمّد بن عبد الله بن أبي مريم : إن ابن دارة سمع مضمضته ، فدعاه ليعلمه بوضوء الخليفة ، وقوله : إنّه وضوء رسول الله (31).
وأخرج الدارقطني بسنده إلى محمّد بن أبي عبد الله بن أبي مريم ، عن ابن دارة ، قال : دخلت عليه ـ يعني عثمان ـ منزله فسمعني وأنا أتمضمض ، فقال : يا محمّد !
قلت : لبّيك.
قال : ألا أحدّثك عن رسول الله (ص) ؟
قلت : بلى.
قال : رأيت رسول الله أتي بماء وهو عند المقاعد (32) فمضمض ثلاثاً ، ونثر ثلاثاً ، وغسل وجهه ثلاثاً ، وذراعيه ثلاثاً ثلاثاً ، ومسح رأسه ثلاثاً ، وغسل قدميه ثلاثاً ثلاثاً ، ثمّ قال : هكذا وضوء رسول الله (ص) أحببت أن أريكموه ! (33)
وفي حديث آخر عن عمر بن عبد الرحمن قال : حدّثني جدّي : إن عثمان بن عفان خرج في نفر من أصحابه حتّى جلس على المقاعد ، فدعا بوضوء ، فغسل يديه ثلاثاً ، وتمضمض ثلاثاً واستنشق ثلاثاً ، وغسل وجهه ثلاثاً وذراعيه ثلاثاً ، ومسح برأسه واحدة ، وغسل رجليه ثلاثاً ، ثمّ قال : هكذا رأيت رسول الله توضّأ ، كنت على وضوء ولكن أحببت أن أريكم كيف توضّأ النبي (ص) (34) هذا وقد نقلت المعاجم والصحاح أحاديث أخرى عن جلوس الخليفة عند المقاعد (35) وباب الدرب لتعليم المسلمين وضوء رسول الله !
الثانية : عدم جرأة الخليفة على طعن الناس بالكذب أو البدعة أو الإحداث ، بل اكتفى بقول : « لا أدري » ، لعلمه بأن وضوء أولئك هو وضوء رسول الله وأن في تحدثهم عنه (ص) دلالة واضحة على مشروعيّة فعلهم ، وأنّه هو ذات العمل الذي كان في عهد النبي (ص).
ولو كان عثمان يملك دليلاً واحداً ـ وإن كان ضعيفاً ـ لما توانى عن طعنهم وردهم بأقسى ردّ ، ولما اضطرّ لقول « لا أدري » وهو في حال صراع دائم معهم !
أليس من الغريب أن يقول « لا أدري » وهو الذي عاش مع النبي (ص) مدّة طويلة في المدينة ؟
وعليه .. يلزم اعتبار تجاهل الخليفة دليل ضعفه في قبال قوّة معارضة !!
فاتّضح ممّا سبق أن الخليفة عثمان بن عفان لم ينتهج منطق القوّة والعنف ـ الذي مارسه ضدّ معارضيه عموماً تجاه معارضيه في مسألة الوضوء ، وإنما نراه في منتهى الليونة والوداعة معهم ، مع كونهم من ألد خصومه ، وبيدهم ما يمكن إثارة الرأي العامّ ضدّه ، فنراه يطير فرحاً ويحمد الله إذا ما وافقه أحد الصحابة على وضوئه ، وحسبما نقلنا في صدر هذه الدراسة بأنّه توضّأ وذيل وضوءه بقول النبي (ص) : « من توضّأ فأحسن الوضوء ، ثمّ صلّى ركعتين ، كان من ذنوبه كيوم ولدته أمّه » ، ثمّ قال : أكذلك يا فلان ؟ قال : نعم. ثم قال : أكذلك يا فلان ؟ قال : نعم .... حتّى استشهد ناساً من أصحاب رسول الله (ص) ، ثمّ قال : الحمد لله الذي وافقتموني على هذا (36).
وقد كان ديدن الخليفة دائماً تذييل ما يحكيه من صفة وضوء رسول الله (ص) ! وتثير هذه الظاهرة روح التحقيق عند الباحث .. إذ لماذا كلّ هذا التأكيد ؟ ولماذا لم نلاحظ هذا التذييل في المرويات البيانية الأخرى المنقولة عن غيره من الصحابة في الوضوء ؟ فما سرّ ذلك الاختصاص به دون غيره يا ترى ؟
أما مطالبته أرباب المدرسة المخالفة له بأدلّتها ـ وهي الطريقة الثالثة للردع والرد ـ فقد تغاضى عنها وأحجم ، لعلمه أنّهم يمثلون تياراً فكريّاً قويّاً وكبيراً نوعاً وكما من جهة ، وأن لا طاقة له على محاججتهم من جهة أخرى .. فأعلام المدرسة المخالفة للخليفة على منزلة من الصحبة والسابقة والقدم والتفقّه ، وقد رأوا بأمّ أعينهم كيفيّة وضوء رسول الله (ص) منذ بداية التشريع حتّى انتقاله (ص) إلى بارئه عزّ وجلّ ، ونقلوا ذلك للمسلمين ، وداوموا على فعله على الرغم من مخالفة الخليفة لذلك.
والأكثر غرابة .. أن الخليفة لم يقدم أدلّته وبراهينه للمسلمين على صحّة وضوئه وسلامة فهمه ، بل اكتفى في نقله لوضوء رسول الله (ص) ، ولجأ إلى عمليّة إشهاد من يوافقه على صحّة نقله ! وقد يحتمل أن يكون ألزم معارضيه
بالشهادة على ذلك قسرا !
كلّ ذلك ينبئ عن كون الخليفة في موقف المفكر الطارح لفكرة يعارضه عليها جمع غفير ..
فهو يشهد ويدلل ، ويعضد وضوءه بمرويّات متسالم عليها بين المسلمين ، في محاولة منه لنقلهم من شيء معلوم إلى إثبات مجهول.
فعن حمران ، قال : أتيت عثمان بوضوء ، فتوضّأ للصلاة ، ثمّ قال : سمعت رسول الله (ص) يقول : من توضّأ فأحسن الطهور ، كفّر عنه ما تقدّم من ذنبه ، ثمّ التفت إلى أصحابه فقال : يا فلان ! أسمعتها من رسول الله ؟.. حتّى أنشد ثلاثة من أصحابه ، فكلّهم يقول : سمعناه ووعيناه (37).
وعن عمرو بن ميمون ، قال : سمعت عثمان ... يقول : قال رسول الله : من توضّأ كما أمر ، وصلّى كما أمر ، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمّه .. ثمّ استشهد رهطاً من أصحاب النبي ، يقول : هذا ؟ قالوا : نعم (38).
ويقعد عثمان في المقاعد (39) ويتوضّأ ويذيل وضوءه بأحاديث عن إسباغ الوضوء وإحسانه ، ويكرّر ذات الفعل في باب الدرب ، ويشهد على ذلك من يرى رأيه وفقهه ، وبذلك ليقنع المشاهد بأنّ وضوءه هو الإحسان أو الإسباغ الذي أمر به الرسول (ص).
وإنّما تدلّ تلكم المؤشرات على أن عثمان بن عفان هو المخترع للفهم الجديد والاستحسان الفريد ، وأنّ الأدلّة الشرعيّة التي طرقت فهمه وجعلته يعطي للوضوء أبعاداً جديدة ما كانت في ذهن المسلمين من قبل !
وراحت فكرة عثمان وأطروحته الوضوئيّة تتحرّك بين أوساط المسلمين ، فلاقت قبولاً من البعض وذلك لما فيها من ظاهر « النظافة » ومن مبالغة في « القدسيّة » ومن عناية زائدة في الوضوء وغسلاته ومسحاته !
ولا يكشف ستار السرّ عن سبب ضحك الخليفة الثالث وتبسّمه قبل وبعد وضوءاته الثلاثيّة المسبغة غاية الإسباغ ، ولا في استدعائه الحاضرين ليسألوه عن سبب ضحكه ، والحال أنّهم لا يرون له مبرراً لا من قريب ولا من بعيد .. نعم ، لا يكشف الستار إلّا إذا فهمنا أن الخليفة الثالث كان يريد استغلال الفرص ليلفت أنظار الحاضرين إلى وضوئه ، حتّى يسألوه عن مدى صحّة ما يرتأيه في ذلك ..
ومن ثمّ يأتي دور إجاباته التي يروم بها كسب أكبر عدد ممكن من المؤيّدين لمدرسته الوضوئيّة.
فعن حمران ، قال : دعا عثمان بماء فتوضّأ ، ثمّ ضحك .. فقال : ألا تسألوني ممّ أضحك ؟
قالوا : يا أمير المؤمنين ، ما أضحكك ؟!
قال : رأيت رسول الله توضّأ كما توضّأت ، فمضمض ، واستنشق ، وغسل وجهه ثلاثاً ، ويديه ثلاثاً، ومسح برأسه وطهر قدميه (40).
وعن حمران ، قال : كنت عند عثمان ، فدعا بوضوء فتوضّأ ، فلمّا فرغ قال : توضّأ رسول الله (ص) كما توضّأت ، ثمّ تبسّم ، وقال : أتدرون ممّ ضحكت ؟ قلنا : الله ورسوله أعلم !
قال : إنّ العبد المسلم إذا توضّأ فأتمّ وضوءه ، ثمّ دخل في صلاته فأتمّ صلاته خرج من الذنوب كما خرج من بطن أمّه (41).
وعن حمران ، قال : رأيت عثمان دعا بماء ، فغسل كفّيه ثلاثاً ، ومضمض ، واستنشق ، وغسل وجهه ثلاثاً وذراعيه ثلاثاً ، ومسح برأسه وظهر قدميه ، ثمّ ضحك.
فقال : ألا تسألوني ما أضحكني ؟
قلنا : ما أضحكك يا أمير المؤمنين ؟!
قال : أضحكني ، أن العبد إذا غسل وجهه حطّ الله عنه بكلّ خطيئة أصابها بوجهه ، فإذا غسل ذراعيه كان كذلك ، وإذا مسح رأسه كان كذلك ، وإذا طهر قدميه كان كذلك (42).
تدلّ هذه النصوص على أنّ الخليفة ولحد صدور هذه الأخبار عنه أنه كان يمسح برأسه وظهر قدميه ، وسنعضد هذا المدعى بروايات أخرى لاحقاً إن شاء الله تعالى.
أمّا موضوع تبسّم الخليفة وضحكه فهو لا ينبئ فيما ترى عن فرحه بما للوضوء من أجر عند الله ـ كما ادّعاه ويفهم من سياق الحديث وقول الخليفة ـ بل إن في كلامه إشارة إلى أمر خفي أراد أن يختبر به أولئك الصحابة ، وذلك بإحداثه بعض الشيء في الوضوء .. فرأى منهم السكوت !
وسؤاله يحمل عامل إثارة .. فما هو ذلك ؟
ربّما تكون النصوص السابقة ، وما جاء في صدر الدراسة « إن ناساً » هي المنعطف في تاريخ الوضوء ، وبمثابة المقدّمة للإحداث الكلّي فيه ، فالخليفة أراد أن يختبر أثر ما رآه ورواه عن رسول الله ، باختراعه الغسلة الثالثة في غسل الأعضاء وجعلها جزءاً من وضوء رسول الله لما في ذلك من تعمّق وزيادة في الوضوء.
نعم ، أراد أن يتعرف على تأثير هذا الإحداث ومدى تقبل الصحابة له ، فهل سيواجه بانتقادهم له أم لا ؟؟ وإذا ما كانت الأمور مهيّأة له فسيلحقه بغسل الأرجل وغيرها !!
إن المطالع في مصنّف ابن أبي شيبة ـ السالف الذكر ـ يتأكّد بأن ضحك الخليفة لم يكن لأجل ما للمؤمن من أجر ، إذ ما جاء فيها لم يذيل بذلك ... ولذا ، فلا يمكننا الحكم جزماً بأن سبب ضحك الخليفة هو من حطّ الذنوب عن المتوضّئ وذلك لما عرفنا من ملابسات الأمور !!
ولا ندري ما هو جواب عثمان فيما لو سئل عن سبب وسرّ ضحكه ، وعن علاقة الربط فيما بين الضحك والوضوء ؟!
ثمّ لماذا لا يذيل باقي الصحابة الناقلين لصفة وضوء رسول الله رواياتهم بألفاظ « الإسباغ » و « الإحسان » و ... ؟
ولماذا لا نراهم يشهدون أحداً على وضوءاتهم ؟!
وكيف بهم لا يتبسمون ـ ناهيك عن الضحك ـ قبل وبعد الوضوء ؟!
ولم يختصّ عثمان بنقل ضحك رسول الله دون غيره في أحاديث الوضوء ؟
هذا وقد أورد أحمد في مسنده ـ وكما قلنا ـ روايتين عن عثمان ، نسب عثمان فيهما ضحكه إلى أنّه قد رأى النبي (ص) ضحك بعد وضوئه وقال لأصحابه : « ألا تسألوني ما أضحكني » مبرّرا بذلك ضحكه ودافعاً لكلّ إيهام قد يردّ في ذهن السامع ، وإنّا نعلم بأن نقل عبارة « إن العبد إذا دعا بوضوء فغسل وجهه حطّ الله عنه كل خطيئة أصابها ، فإذا غسل ذراعيه كان كذلك ، وإن مسح برأسه كان كذلك ، وإذا طهر قدميه كان كذلك » ... لا يستوجب الضحك ، وأن تعليل ضحك الخليفة رأى النبي (ص) قد ضحك في البقعة التي توضّأ فيها ، مبالغة في التأكيد على شرعيّة الغسل الثلاثي وتبريراً لضحكاته وتبسماته وتذييلاته اللاتي تنبئ المشاهد الذكي بأنه بصدد إحداث شيء في الوضوء وجرّ الأنظار إلى فكرته الوضوئيّة.
وهناك نقطة أخرى ينبغي الإشارة إليها ، وهي اختصاص أغلب الروايات المنقولة عن الخليفة ـ والصحاح منها بطبيعة الحال ـ بحمران بن أبان ، كما لم يكن الناقلون عن حمران من المحدّثين الكبار ، ولم تنقل عنهم بطرق متعدّدة وأسانيد قوية معتمدة ، كما هو الشأن في غالب الضروريّات الدينية المنقولة عن الخلفاء وكبار الصحابة والتابعين ، وهذا إنما يؤكّد ويدعم الرأي الذاهب إلى أن عثمان هو المؤسّس لفكرة الوضوء الجديدة ، وأن الملتفين حوله من متأخّري الصحبة وصغارهم ، ممّن لا حول لهم ولا قوّة ، كحمران وابن دارة و ... ، قد أخذوا على عاتقهم التزام الفكرة ومحاولة بثّها بين صفوف المحدّثين ، بإخبارهم هذا وذاك بما شاهدوا عن عثمان ، ونقلهم لصفة وضوء رسول الله !
فقد ثبت ولحدّ الآن : إن عثمان بن عفان هو صاحب المدرسة الوضوئيّة الجديدة ، وأن « الناس » لم يكونوا البادئين بالخلاف ، وإنما كانوا يظهرون غير ما يريده الخليفة ، فاندفع الخليفة بكلّ قواه الفكريّة والدعائيّة لكسب قاعدة تؤيّده فيما رآه أو سمعه عن رسول الله !!
ما هو السرّ ؟
بقي شيء ، وهو : ما السرّ في تخصيص عثمان حمران بقوله : « إنّ ناساً يتحدّثون .. » في حين لا نرى الأخير يشكّك أو يسأل الخليفة عن مشروعيّة الوضوء الجديد ، أو نراه يطرح أو يستنصر لوضوء الناس ، وهم الخط المخالف للخليفة في الوضوء !
بل كلّ ما في الأمر إن حمران أتى بماء لعثمان ، فتوضأ ثمّ قال « إنّ ناساً يتحدّثون ... » فما هو السبب في إثارة الخليفة هذا الخبر دون سابق إنذار ؟!
توصلنا من خلال البحوث السابقة إلى أن الخليفة عثمان كان يمسح على رجليه ، وقد مرّ عليك بعض النصوص الدالّة على ذلك ممّا هو مذكور في الصحاح والمسانيد ، وأغلبها عن طريق حمران ، وقلنا بأن الخليفة أراد بضحكه أن يتعرف على موقف الصحابة في غسله للأعضاء وهل أنّهم سيعارضون أم لا ؟ ودللنا كذلك بأنّه كان يشهد الصحابة على وضوئه ويذيل أحاديثه بما سمعه أو رآه من رسول الله .. وغيرها ، وأن هذه المواقف كغيرها كانت تؤذي بعض الصحابة ، لأنّهم ما كانوا قد رأوا ولا سمعوا بذلك من رسول الله ، مواقف الصحابة في اتمام الخليفة الصلاة بمنى وغيرها.
فالمسلمون قد اضطرّوا لموافقة الخليفة في تلك المواقف إمّا خوفاً أو حفاظاً على وحدة الصف الإسلامي ، وحتّى أن الناس قد طلبوا من علي بن أبي طالب أن يكلّم الخليفة في احداثاته المتكرّرة والكثيرة ، فدخل عليه وقال له : « إن الناس ورائي ، وقد استسفروني بينك وبينهم ، ووالله ما أدري ما أقول لك ؟ ما أعرف شيئاً تجهله ، ولا أدلك على شيء تعرفه.
إنّك لتعلم ما نعلم ، ما سبقناك إلى شيء فنخبرك عنه ، ولا خلونا بشيء فنبلغكه ، وقد رأيت كما رأينا ، وسمعت كما سمعنا ، وصحبت رسول الله كما صحبنا ، وما ابن أبي قحافة ولا ابن الخطاب أولى بعمل الحقّ منك ، وأنت أقرب إلى رسول الله (ص) وشيجة رحم منهما ، وقد نلت من صهره ما لم ينالا ، فالله الله في نفسك فإنك والله ما تبصر من عمى ، ولا تعلم من جهل ، وأن الطرق لواضحة ، وأن أعلام الدين لقائمة.
فاعلم أنّ أفضل عباد الله عند الله إمام عادل هدي وهدى ، فأقام سنة معلومة ، وأمات بدعة مجهولة ، وأن السنن لنيرة لها أعلام ، وأن البدع لظاهرة لها أعلام .. وأن شرّ الناس عند الله إمام جائر ضلّ وضلّ به ، فأمات سنة مأخوذة ، وأحيا بدعة متروكة ، وأنّي سمعت رسول الله (ص) يقول : يؤتى يوم القيامة بالإمام الجائر وليس معه نصير ولا عاذر ، يلقى في نار جهنم فيدور فيها كما تدور الرحى ، ثم ترتبط في قعرها (43).
وهناك نصوص أخرى تدلّ على هذه الحقيقة وأن أصحاب رسول الله أقدموا على قتل عثمان ابتغاء لمرضاة الله وجزاء لما أحدثه في الدين ، وقد ذكر الطبري كتاب أصحاب رسول الله إلى بعضهم .. أن أقدموا ، فإن كنتم تريدون الجهاد فعندنا الجهاد ، كثر الناس على عثمان ، ونالوا منه أقبح ما ينال من أحد ، وأصحاب رسول الله يرون ويسمعون وليس فيهم أحد ينهي ولا يذب (44).
وبهذا يمكننا أن نرجح صدور أخبار المسح الصادرة عن الخليفة في السنوات الستّ الأوائل من خلافته والتي لم يذكر فيها شيء عن إحداثه الديني ، أمّا أخبار الغسل فإنّها صدرت في الأعوام الستّة الأخيرة التي رماه الأصحاب فيها بالإحداث والإبداع ، وأنّا سنشير لاحقاً إلى أسباب تغيير سياسة الخليفة في النصف الثاني من خلافته ودواعي احداثه للوضوء الجديد (45).
وعلى ضوء ما تقدّم ، نحتمل أن يكون الخليفة إنّما أراد من توجيه الخطاب إلى حمران أن يدفع الدخل المقدر في ذهنه ـ حسبما يقوله الأصوليّون ـ أيّ : يرفع التساؤل الذي من المحتمل أن يطرح في مخيّلته ويختمر في ذهنه وهو : كيف يصحّ للخليفة أن يغسل رجليه اليوم وقد عهدناه حتّى الأمس القريب يمسحهما ؟! .. فالخليفة أراد أن يدفع الاحتمال المقدر والمكنون في نفس حمران بقوله : « إن ناساً يتحدّثون في الوضوء بأحاديث لا أدري ما هي ، ألا إنّي رأيت رسول الله يتوضّأ نحو وضوئي هذا » فإن جملة « ألا إنّي رأيت رسول الله يتوضّأ نحو وضوئي هذا » إشارة إلى أنّه يطلب أمراً لمشروعيّة عمله الجديد والذي أقدم عليه خلافاً لسيرة الصحابة ، وما كان يعمله في السنوات الستّ الأوائل من خلافته !
بعد كلّ ما تقدّم .. يمكننا الجزم بأن منشأ الخلاف ومسوغات استفحاله إنما تعود بالكامل إلى الخليفة الثالث عثمان بن عفان ، فهو الذي راح يعرض ويصرح بمخالفيه ، وأجهد نفسه في شتى المناسبات لبيان أدلّته على صحّة وضوئه ـ بعد نسبته إلى النبي الأكرم (ص) ـ كقوله : سمعت رسول الله يقول : ... أسبغوا الوضوء ... ، و ... أحسنوا الوضوء ... وما شابهها من العبارات التي من الممكن تسخيرها في دعم فكرة تكرار الغسل ثلاث مرّات ، باعتبار أن تكرار الغسل هو غاية الإسباغ ومن إحسان الوضوء ، وهكذا الأمر في ابدال مسح الرجلين بغسلهما لأنه يرى أن الوضوء هو النظافة ، والإسباغ هو المبالغة في النظافة ، وأن غسل الرجلين يكفي عن المسح ، لأنّه مسح وزيادة !
ومحصلة المقال : إنّ نزاعاً قد وقع بين عثمان والصحابة في قضيّة الوضوء ، وأن الذي وضع لبنة ذلك النزاع هو عثمان نفسه.
لم الإحداث في الوضوء ؟
والآن فلنعاود ما طرحناه سابقاً :
كيف يتخطّى الخليفة سيرة رسول الله ويأتي بوضوء يغاير وضوء المسلمين ؟ وما هو السبب الداعي لاتّخاذه هذا القرار مع علمه بأن ذلك يسبّب معارضة الصحابة له ، وربّما أدّى إلى أمور لا تحمد عقباها ؟
للإجابة عن هذا السؤال لا بد من التمهيد للموضوع بمقدّمة وإشارة ـ ولو إجمالاً ـ إلى دواعي اختلاف المسلمين في عهد عثمان وأسباب مقتل الخليفة.
فقد أجمع المؤرّخون على أن مقتل عثمان جاء لإحداثاته ، ثمّ فسّروا تلك الإحداثات بإيثاره لأقربائه وإعطائهم الحكم والمال ، وأمور أخر ، منها :
1 ـ إنّه أرجع الحكم بن العاص إلى المدينة بعد أن نفاه رسول الله (ص) وممانعة الشيخين عن إرجاعه ، وأعطاه مائة ألف درهم.
2 ـ وكذا الحال بالنسبة إلى مروان ، فقد أعاده مع والده ، وزوجه من ابنته أمّ أبان ، ثمّ اتّخذه وزيراً ومنحه هدايا كثيرة منها خمس إفريقيّة.
3 ـ أعطى الحارث بن الحكم ـ أخا مروان ـ ثلاثمائة ألف درهم ، والمهروز (46).
4 ـ أعطى عبد الله بن أبي سرح ـ أخاه من الرضاعة ـ جميع ما أفاء الله عليه من فتح إفريقيّة بالمغرب ، من طرابلس إلى طنجة ، من غير أن يشاركه فيها أحد من المسلمين.
5 ـ وصل أبا سفيان بمائتي ألف في اليوم الذي أمر فيه لمروان بمائة ألف من بيت المال.
6 ـ قسم ما أتى به أبو موسى الأشعري من أموال العراق على أهله وأقاربه من بني أميّة.
7 ـ زوج عبد الله بن خالد بن أسيد من ابنته وأمر له بستمائة ألف درهم ، وكتب إلى عبد الله بن عامر أن يدفعها إليه.
وغيرها من الهدايا والمنح التي خصّ بها قومه وأقاربه. ولم ينحصر إيثاره لهم في المال فقط بل منحهم الحكم كذلك :
1 ـ فقد ولى الوليد بن عقبة ـ أخاه لأمّه ـ الكوفة ، وعزل عنها سعد بن أبي وقّاص ، وقد اعترض الناس على هذا التنصيب بقولهم :
بئسما استقبلنا به ابن عفان ، أمن عدله أن ينزع عنّا ابن أبي وقّاص الهين اللين ، القريب ، ويبعث بدله أخاه الوليد الأحمق الماجن الفاجر (47) !
وقال الآخر : أراد عثمان كرامة أخيه بهوان أمة محمّد (48) !
2 ـ وزاد عبد الله بن أبي سرح ـ أخاه من الرضاعة ـ ولاية مصر بعد أن ولّاه عمر الصعيد فقط.
3 ـ وكذا نراه يضيف الشام كلّها إلى ملك معاوية ، بعد أن كان والياً على دمشق وحدها أيّام عمر.
4 ـ عزل أبا موسى الأشعري عن البصرة ، وعثمان بن أبي العاص عن فارس وولّى عليهما عبد الله بن عامر ـ ابن خاله ـ.
وغيرها كثير ، ولا نريد أن نقدم إحصائيّة عن إحداثات الخليفة عثمان والتعليق عليها ، لأن ذلك يخرجنا عن أصل الدراسة ، ولكن أحببنا معرفة حقيقة طالما تسترت عليها صفحات التاريخ ، وهي : هل أن الإحداثات المذكورة لعثمان في كتب التاريخ هي وحدها كانت السبب في مقتله ؟
أم أن هناك عوامل أخرى لم يذكرها المؤرّخون ؟
قال ابن أبي الحديد في شرحه للنهج ، وهو في معرض حديثه عن إحداثات عثمان : إنّها وإن كانت إحداثاً ، إلّا أنّها لم تبلغ الحدّ الذي يستباح به دمه ، وقد كان الواجب عليهم أن يخلعوه من الخلافة ، حيث لم يستصلحوه لها ، ولا يعجلوا بقتله (49) ، فإذا ثبت ذلك ، فما هو السبب إذن ؟
في الوقت الذي لا ننكر فيه ما للدوافع المالية والسياسيّة من أثر في توسيع رقعة الخلاف وإثارة الأمّة ضدّ الخليفة ، إلّا أنّنا ـ ومع ذلك ـ نحتمل وجود سبب آخر ـ ومن وراء الكواليس ـ لم يبحثه الباحثون ولم يحقّقوا فيه.
إذ أن سوء سيرة الخليفة المالية ـ وكما قلنا ـ لا تستوجب القتل ، وقد ثبت عن عثمان أنّه كان يغدق الأموال بشكل وفير على الجميع ، حتّى احتمل البعض بأن لينه ، وسماحة طبعه وكرمه هما اللذان أدّيا إلى مقتله ، وأن إغداقه على أعدائه ليس بأقلّ ممّا خصّ به أقرباءه ، فقد روي بأن طلحة قد اقترض منه خمسين ألفاً ، فقال لعثمان ذات يوم : قد تهيّأ مالك فأرسل من يقبضه ، فوهبه له (50).
وفي مكان آخر : وصل عثمان طلحة بمائتي ألف ، وكثرت مواشيه وعبيده ، وقد بلغت غلته من العراق وحدها ألف دينار يومياً.
يقول ابن سعد في طبقاته : لما مات طلحة كانت تركته ثلاثين مليوناً من الدراهم ، وكان النقد منها مليونين ومائتي ألف درهم ومائتي ألف دينار.
فمن البعيد أن يكون طلحة ـ ذلك المنتفع ـ من المخالفين لسياسة عثمان المالية ، فما هو السبب يا ترى ؟ هل هو الطمع في الحكم ، أم الغيرة على الدين ؟
أنا لست من أنصار الشقّ الثاني من السؤال ، بل أرى أن الطمع في كرسي الحكم هو وراء موقف طلحة ، وهذا ما كانت تتوقّعه عائشة كذلك.
أمّا بخصوص عبد الرحمن بن عوف ، فقد حاول عثمان استمالته بأن وعده بالحكم ، وقد أشار الإمام علي في كلام له مع ابن عوف إلى هذه الحقيقة ، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى .. فالمعروف عن ابن عوف أنّه كان صاحب ثروة هائلة وأموال وفيرة بلغت : ألف بعير، ومائة فرس ، وعشرة آلاف شاة ، وأرضاً كانت تزرع على عشرين ناضحاً ، وخرجت كلّ واحدة من الأربع بنصيبها من المال الذي تركه ، فكان أربعة وثمانين ألفاً (51).
أمّا حال الزبير بن العوام وأمواله .. فقد قال عنه الدكتور طه حسين :
والناس يختلفون في مقدار ما قسم على الورثة من تركة الزبير ، فالمقلون يقولون : إن الورثة اقتسموا فيما بينهم خمسة وثلاثين مليونا ، والمكثرون يقولون : إنّهم اقتسموا اثنين وخمسين مليونا ، والمعتدلون يقولون : إنهم اقتسموا أربعين مليوناً (52).
وعليه .. لا يمكن حمل انتقاد ابن عوف لعثمان على طمعه في الحكم والمال ، وإن كنّا لا نستبعد طمع الشيخين طلحة والزبير في الحكم !
فالمال مبذول بما يرضي الكثير ، وعثمان هو أوّل من أقطع الأرضين ، فقد أقطع لعبد الله بن مسعود ، وسعد بن أبي وقاص ، وطلحة ، والزبير ، وخباب بن الأرت ، وخارجة ، وعدي بن حاتم ، وسعيد بن زيد ، وخالد بن عرفطة وغيرهم ، حتّى نقل عن ابن سيرين قوله : لم تكن الدراهم في زمان أرخص منها من زمان عثمان ، وإن الجارية كانت تباع بوزنها ، وقد بلغ ثمن الفرس خمسين ألفاً (53).
فلو صحّ ذلك .. فما دافع المنتفضين يا ترى ؟
إن قيل : الطمع في الحكم ، فيعقل تصوّره في البعض ، أمّا طمع الكلّ فمحال يقيناً ، مضافاً إلى أن الطامعين يلزم أن يستندوا على أمور لإثارة الرأي العام ، فالإحداثات المالية وتقريب بني أعمامه لا توجب الثورة ، فما هي الركائز التي استند عليها المعارضون له يا ترى ؟!
يظهر لنا أن ثمة أموراً جعلت من الطبري وغيره يتخوف من بيانها « رعاية » لحال العامة !
قال الطبري : قد ذكرنا كثيراً من الأسباب التي ذكر قاتلوه أنّهم جعلوها ذريعة إلى قتله ، فأعرضنا عن ذكر كثير منها لعلل دعت إلى الإعراض عنها (54).
وقال في مكان آخر : إن محمّد بن أبي بكر كتب إلى معاوية لما ولي ، فذكر مكاتبات جرت بينهما ، كرهت ذكرها لما فيه ما لا يتحمل سماعها العامة (55).
وقال ابن الأثير ـ عن أسباب مقتل عثمان ـ : قد تركنا كثيراً من الأسباب التي جعلها الناس ذريعة إلى قتله لعلل دعت إلى ذلك (56).
والآن .. نعاود السؤال ، ولا نريد به إثارة رأي العامة ـ كما ادّعاه الطبري ـ أو نقل ما يكرهونه .. بل للوقوف على الحقيقة ومعرفتها ، بعيداً عن الأحاسيس والعواطف ، إذ يلزم أن تدرس الأحداث التاريخيّة كما هي ، ولا ينبغي أن يكون دور للأهواء والعواطف فيها ، وأحببنا أن لا نكون كالطبري وابن الأثير ، وأمثالهما ممّن ينقل الحدث مبتوراً لأسباب مخفيّة ، ولا يبالون بالبتر حتّى وإن أوجب ذلك تحريفاً للواقع وتشويها للحقيقة !
قال أبو جعفر الطبري في تاريخه :
وفي هذه السنة أعني سنة ثلاثين ، كان ما ذكر من أمر أبي ذر ومعاوية وإشخاص معاوية إيّاه من الشام إلى المدينة ، وقد ذكر في سبب إشخاصه إيّاه منها إليها أمور كثيرة كرهت ذكر أكثرها.
فأمّا العاذرون معاوية في ذلك ، فإنّهم ذكروا في ذلك قصّة ، كتب بها إلي السري ، يذكر أن شعيباً حدثه سيف بن عمر (57) ... الخبر.
وقال ابن الأثير : وقد ذكر في سبب ذلك أمور كثيرة من سبّ معاوية إيّاه ، وتهديده بالقتل ، وحمله إلى المدينة من الشام بغير وطاء ، ونفيه من المدينة على الوجه الشنيع ، لا يصحّ النقل به ولو صحّ لكان ينبغي أن يعتذر عن عثمان ، فإن للأمام أن يؤدّب رعيته ، وغير ذلك من الأعذار ، أن يجعل ذلك سبباً للطعن عليه (58).
فما يعني نقل الطبري لكلام العاذرين معاوية وخبر سيف بن عمر دون الأسباب الكثيرة الأخرى ؟
وكيف لا يرتضي ابن الأثير نقل خبر أبي ذر ، وسبّ معاوية وتهديده بالقتل ، وحمله إلى المدينة من الشام بغير وطاء ، وقد تواتر نقله عن جميع المؤرخين.
ألم تكن تلك المواقف منهم في خدمة السلطان ، وإبعاد الأمّة من الوقوف على الحقيقة ؟
وماذا يستنتج القارئ لو قاس النصّين ـ ما جاء في مقتل عثمان وما جاء في تسيير أبي ذر ـ في تاريخ الطبري وابن الأثير ، ألم يكن منحازاً إلى جهة دون أخرى ، إذ نراه لا يذكر بقيّة الأسباب في مقتل عثمان خوفاً من العامة ، أمّا هنا فلا يرتضي نقل أسباب تسيير أبي ذر لنفس العلّة ، لكن الطبري ذكر أخبار العاذرين لمعاوية بحذافيرها ، كأنّه أراد ترجيح كفّتهم.
فلماذا فعل ذلك ؟
وهل يمكن بعد وقوفنا على هذه النصوص أن نطمئنّ بمبررات الطبري وغيره في عدم نقلهم لأسباب مقتل عثمان ؟!!
نعم إن تعارض أهداف تلك النصوص جعلتنا نشكّك بكلام الطبري وغيره ، وأثارت فينا روح الاستطلاع والبحث عن وجود أسباب أخر غير ما تناقله المؤرّخون.
إذ إن الثورة بنظرنا لم تكن مالية بحتة ـ وإن كان لها الدور الكبير ـ بل كانت تستبطن أمراً دينيّاً ، وحتّى قضيّة إيثاره لأقربائه وعشيرته لم تكن لأجل كونهم أقاربه بل لعدم نزاهة أولئك المقرّبين وتخوف الصحابة من وقوع مستقبل الشريعة بيد هؤلاء الطلقاء الفاسقين البعيدين عن روح الإسلام وأهدافه.
قال ابن سعد : ولي عثمان اثنتي عشرة سنة ، فلم ينقم عليه الناس مدّة ستّ سنين ، بل كان أحبّ إلى قريش من عمر ، لأنّ عمر كان شديداً عليهم ، فلمّا ولي عثمان لأن لهم ووصلهم ثمّ توانى في أمرهم ، واستعمل أقاربه وأهل بيته في الستّ الأواخر وأعطاهم المال متأوّلاً في ذلك الصلة التي أمر الله بها ، وقال : إن أبا بكر وعمر تركا من ذلك ما كان لهما ، وإنّي أخذته فقسّمته في أقربائي ، فأنكر عليه ذلك (59).
نعم ، إن تقريبه لأقاربه لم يكن لأجل كونهم أقاربه بل لعدم نزاهتهم ودعوتهم الناس إلى أمور لم ينزل الله بها من سلطان ، وإليك اعتراضات بعض الصحابة ومنها يستشم موارد النقمة على عثمان وإنّها لم تكن مالية بحتة. وأخيراً سنذكر رأياً آخر في سبب مقتل عثمان لم يطرح لحدّ الآن.
وإليك بعض الإحداثات :
1 ـ الوليد بن عقبة ، وشربه الخمر :
عرفنا سابقاً بأن الخليفة عثمان بن عفان قد عزل سعد بن أبي وقّاص وولّى مكانه أخاه الوليد عليها ، والأخير شرب الخمر ودخل المسجد فصلّى بالناس ركعتين ثمّ قال : أزيدكم ؟
فقال له ابن مسعود (60) : لا زادك الله خيراً ، ولا من بعثك إلينا ، وأخذ حفنة حصى فضرب بها وجه الوليد ، وحصبه الناس ، فدخل القصر والحصباء تأخذه وهو يترنح.
فخرج رهط من أهل الكوفة في أمره إلى عثمان ، منهم : أبو زينب ، وجندب بن زهير ، وأبو حبيبة الغفاري ، والصعب بن جثامة ، فأخبروا عثمان خبره ..
فقال ابن عوف : ما له ؟ أجن ؟
قالوا : لا ، ولكنّه سكر.
فقال عثمان لجندب : أنت رأيت أخي يشرب الخمر ؟
قال : معاذ الله ، ولكن أشهد أنّي رأيته سكران يقلسها من جوفه ، وأنّي أخذت خاتمه من يده وهو لا يعقل.
فقال عثمان : لماذا يا أهل الكوفة تفسقون من ولاكم ؟ ثمّ أوعدهم ..
فخرجوا منه وأتوا عائشة ، فأخبروها بما جرى بينهم وبين عثمان ، وأن عثمان زجرهم ، فنادت عائشة : إن عثمان أبطل الحدود وتوعد الشهود ... !
وأجابها عثمان : أما يجد مراق أهل العراق وفسّاقهم ملجأ إلّا بيت عائشة ؟
فرفعت عائشة نعل رسول الله وقالت : تركت سنّة رسول الله ، صاحب هذا النعل ؟ (61)
فتسامع الناس فجاءوا حتّى ملأوا المسجد ، فمن قائل : أحسنت عائشة ، ومن قائل: ما للنساء ولهذا ؟! حتّى تحاصبوا وتضاربوا بالنعال ، وكان أوّل قتال بين المسلمين بعد النبي (ص).
ودخل رهط من أصحاب رسول الله على عثمان وكان فيهم علي وطلحة والزبير و ... فوبخاه على ما فعل بالشهود ، وقالوا له : اتّق الله ولا تعطل الحدّ واعزل أخاك عنهم ، فعزل الوليد عنهم ، ولم يرض بجلده حتّى قدم علي وانهال عليه ضرباً ، فاعترضه عثمان قائلاً : ما لك وهذا ؟ فقال علي (62) : وشر من ذلك ، حتّى أتمّ جلده (63).
كان هذا أحد موارد اعتراض الأمّة على الخليفة ، وهي كما ترى ، تستبطن أموراً دينيّة كثيرة منها :
1 ـ تولية فاسق لأمرة المسلمين.
2 ـ إيعاد الخليفة الشهود.
3 ـ عدم ارتضاء الخليفة إجراء الحدّ على من استحقّ حدّاً شرعيّا.
4 ـ عدم ارتضاء عزل وال لا يصلح لهذا المنصب الجليل.
كلّ هذه الأمور كانت حقوقاً إسلاميّة يحقّ للمسلمين المطالبة بها.
2 ـ نظرة الولاة في أموال المسلمين !
ولّى الخليفة عثمان سعيد بن العاص الكوفة مكان الوليد بن عقبة ، وحين قدومه إليها استخلص من أهلها قوما يسمرون عنده ، فقال سعيد يوماً : إن السواد بستان لقريش وبني أميّة .. فاعترض مالك الأشتر النخعي على هذه الرؤية الخاطئة فقال : أتزعم أن السواد الذي أفاءه الله على المسلمين بأسيافنا بستان لك ، ولقومك ؟! فقال صاحب شرطته : أترد على الأمير مقالته !
فهم النخعيون بصاحب الشرطة بحضرة سعيد ، وجروا برجله ، فغلظ ذلك على سعيد ، فكتب إلى عثمان في أمر هؤلاء ، فأمر بتسييرهم إلى الشام (64).
ومعاوية لم يطق محاججتهم ، واتّهمهم بأنّهم يتكلّمون بألسنة الشياطين ويغيّرون المفاهيم القرآنيّة ، وطلب من عثمان إرجاعهم إلى الكوفة ، وفعل الأخير ذلك.
وبذلك فقد عرفت أن سبب تسيير هؤلاء هو مخالفتهم رؤية كان الوالي « سعيد بن العاص » يحملها عن بيت مال المسلمين.
هذا وقد روى أبو مخنف والواقدي ، أنّ الناس أنكروا على عثمان إعطاءه سعيداً مائة ألف درهم ، وجاء علي ، والزبير ، وطلحة ، وسعد ، وعبد الرحمن بن عوف فيمن جاؤوه ، فقال : إنّ له قرابة ورحما.
قالوا : فما كان لأبي بكر وعمر قرابة ورحم ؟
قال : إنّ أبا بكر وعمر يحتسبان في منع قرابتهما ، وأنا أحتسب في إعطاء قرابتي (65).
وفي هذا الإحداث كذلك أمور لو تدبّر الباحث فيها لعرفها.
3 ـ عثمان والنداء الثالث يوم الجمعة.
ذكر البلاذري في الأنساب ، عن السائب بن يزيد : كان رسول الله إذا خرج للصلاة أذن المؤذّن ، ثمّ يقيم ، وكذلك الأمر على عهد أبي بكر وعمر وفي صدر من أيّام عثمان ، ثمّ إن عثمان نادى النداء الثالث في السنة السابعة ، فعاب الناس ذلك ، وقالوا : بدعة (66).
وقد لاحظنا اعتراضات الصحابة عليه لأنّه قد أتى بأمور لم تكن على عهد الرسول الأكرم (ص) والشيخين.
فقد روى ابن أبي شيبة من طريق ابن عمر ، أنه قال : الأذان الأوّل يوم الجمعة بدعة (67).
وروى الزهري قوله : إنّ أوّل من أحدث الأذان الأوّل عثمان ، يؤذن لأهل السوق (68).
وفي لفظ : فأحدث عثمان التأذينة الثالثة على الزوراء ليجمع الناس (69).
وذكر اليعقوبي في تاريخه ، قال : صعد عثمان المنبر وجلس في الموضع الذي كان يجلس فيه رسول الله (ص) ولم يجلس أبو بكر ولا عمر فيه ، جلس أبو بكر دونه بمرقاة ، وجلس عمر دون أبي بكر بمرقاة ، فتكلّم الناس في ذلك ، فقال بعضهم : اليوم ولد الشرّ ، وكان عثمان رجلاً حيياً فأرتج عليه ، فقام مليا لا يتكلّم ، ثمّ قال ، إنّ أبا بكر وعمر كانا يعدان لهذا المقام مقالاً ، وأنتم إلى إمام عادل أحو ج منكم إلى إمام يشقّق الخطب ، وإن تعيشوا فسيأتيكم الخطبة ثمّ نزل (70).
يستشم ممّا سبق ومن اعتراضات الصحابة على الخليفة توجههم إلى أمر شرعي ، وأنّه قد أحدث أمراً لم يكن متعارفاً في عهد رسول الله والشيخين. وهذا يؤيّد ما ادّعيناه بأن الثورة عليه كانت تستبطن أمراً دينيّا.
4 ـ عثمان والصلاة بمنى.
ومن إحداثاته أيضاً ، أنّه أتمّ الصلاة بمنى ، فاعترض عليه جمع من الصحابة ، منهم : عبد الرحمن بن عوف .. فقد أخرج الطبري وابن كثير وابن الأثير وغيرهم .. عن عبد الملك بن عمرو بن أبي سفيان الثقفي ، عن عمّه ، قال : صلّى عثمان بالناس بمنى أربعاً ، فأتى آت عبد الرحمن بن عوف فقال : هل لك في أخيك ؟ قد صلّى بالناس أربعاً !
فصلّى عبد الرحمن بأصحابه ركعتين ، ثمّ خرج حتّى دخل على عثمان ، فقال له : ألم تصل في هذا المكان مع رسول الله (ص) ركعتين ؟
قال : بلى.
قال : ألم تصل مع أبي بكر ركعتين ؟
قال : بلى.
قال : ألم تصل مع عمر ركعتين ؟
قال : بلى.
قال : ألم تصل صدراً من خلافتك ركعتين ؟
قال : بلى.
قال ـ عثمان ـ : فاسمع منّي يا أبا محمّد ، إنّي أخبرت أن بعض من حجّ من أهل اليمن وجفاة الناس قد قالوا في عامنا الماضي : إنّ الصلاة للمقيم ركعتان ، هذا إمامكم عثمان يصلّي ركعتين ، وقد اتّخذت بمكّة أهلاً ، فرأيت أن أصلّي أربعاً لخوف ما أخاف على الناس ، وأخرى قد اتّخذت بها زوجة ، ولي بالطائف مال فربّما أطلعته فأقمت فيه بعد الصدر.
فقال عبد الرحمن بن عوف : ما من هذا شيء لك فيه عذر .. أمّا قولك :
اتّخذت أهلاً ، فزوجتك بالمدينة ، تخرج بها إذا شئت ، وتقدم بها إذا شئت ، إنما تسكن بسكناك.
وأمّا قولك ، ولي مال بالطائف ، فإن بينك وبين الطائف مسيرة ثلاث ليال ، وأنت لست من أهل الطائف.
وأما قولك : يرجع من حجّ من أهل اليمن وغيرهم ، فيقولون : هذا إمامكم عثمان يصلّي ركعتين ، وهو مقيم ، فقد كان رسول الله (ص) ينزل عليه الوحي والناس يومئذ الإسلام فيهم قليل ، ثمّ أبو بكر مثل ذلك ، ثمّ عمر ، فضرب الإسلام بجرانه ، فصلّى بهم عمر حتّى مات ركعتين.
فقال عثمان : هذا رأي رأيته (71).
وجاء في أنساب الأشراف : حدّثني محمّد بن سعد عن الواقدي عن محمّد ابن عبد الله عن الزهري عن سالم بن عبد الله عن أبيه قال : صلّيت مع رسول الله بمنى ركعتين ومع أبي بكر وعمر ومع عثمان صدراً من خلافته ثم أتمّها أربعاً ، فتكلّم الناس في ذلك فأكثروا وسئل أن يرجع عن ذلك فلم يرجع (72).
وروى الطبري في تاريخه وغيره ، ـ واللفظ له ـ : حجّ بالناس في هذه السنة ـ أيّ سنة 29 ـ فضرب بمنى فسطاطا ، فكان أوّل فسطاط ضربه عثمان بمنى ، وأتمّ الصلاة بها وبعرفة.
وذكر الواقدي عن عمر بن صالح بن نافع ، عن صالح ـ مولى التوءمة ـ ، قال : سمعت ابن عبّاس يقول : إن أوّل ما تكلّم الناس في عثمان ظاهراً .. أنّه صلّى بالناس بمنى في ولايته ركعتين ، حتّى إذا كانت السنة السادسة أتمّها ، فعاب ذلك غير واحد من أصحاب النبي (ص) ، وتكلّم في ذلك من يريد أن يكثر عليه ، حتّى جاءه علي فيمن جاءه ، فقال : والله ما حدث أمر ولا قدم عهد ، ولقد عهدت نبيّك (ص) يصلّي ركعتين ، ثمّ أبا بكر ، ثمّ عمر ، وأنت صدراً من ولايتك ، فما أدري ما ترجع إليه ؟!
فقال : رأي رأيته (73).
5 ـ إعطاء الخليفة فدكاً وخمس إفريقيّة لمروان بن الحكم :
عدّ ابن قتيبة في المعارف (74) والبلاذري في الأنساب (75) ممّا نقم على عثمان إقطاعه فدكاً لمروان ، وقد اعتبر المسلمون هذا الإحداث مخالفاً لعمل الشيخين والأدلّة الثابتة ، إذ أن فدكاً لو كانت فيئاً للمسلمين ـ كما ادّعاه أبو بكر ـ فما وجه تخصيصها بمروان ؟ وإن كانت ميراثاً لآل الرسول ـ كما احتجت به الزهراء في خطبتها ـ فكيف يمنعون بني الزهراء عنها ؟!!
وكذا الأمر بالنسبة لخمس إفريقيّة ، فما هو وجه تمليكه إيّاها ؟
وقد جاء في رواية أبي مخنف ، وقاله البلاذري في الأنساب (76) .. بأن مروان ابتاع الخمس بمائتي ألف دينار ، فكلّم عثمان فوهبها له ، فأنكر الناس ذلك على عثمان.
وعليه ، فإن لهذا الاعتراض ـ وكما سبق ـ وجهاً دينيّاً ، إذ نرى الناس يعترضون على الخليفة وكذا على ولاته لما أحدثوا من أفكار وأصول ونفيهم لأخرى ، وهي ممّا لم يسن في شريعة الرسول ولم يعمل به الشيخان.
كانت هذه بعض الأمور ، نقلناها ليتّضح للقارئ وجه آخر ، تتجلّى فيه معالم نقمة المسلمين على الخليفة الثالث عثمان بن عفان والتي استبطنت أموراً دينيّة ..
وإن طرح أمثال هذه الاعتراضات لا ترضي الطبري وابن الأثير ، بل تركا ذكرها رعاية لحال العامّة ! ومن يستقري مواقف الصحابة من سياسة عثمان وإحداثاته يقطع بنقمتهم عليه واستيائهم من خلافته ، وإليك بعض ما ورد عنهم في المقام :
مواقف الصحابة من سياسة عثمان وإحداثاته :
1 ـ طلحة بن عبد الله :
ذكر البلاذري : إن طلحة قال لعثمان : أنّك أحدثت أحداثاً لم يكن الناس يعهدونها (77).
وأخرج الثقفي في تاريخه ، وابن الأعثم في فتوحه : إن طلحة قام إلى عثمان ، فقال له : إن الناس قد جمعوا لك ، وكرهوا البدع التي أحدثت ولم يكونوا يرونها ولا يعهدونها ، فإن تستقم فهو خير لك ، وإن أبيت لم يكن أحد أضرّ بذلك منك في دنيا ولا آخرة (78).
وروي أن طلحة قال لمالك بن أوس : يا مالك ، إنّي نصحت عثمان فلم يقبل نصيحتي ، وأحدث إحداثاً ، وفعل أموراً ، ولم يجد بدا من أن يغيّرها (79).
2 ـ الزبير بن العوام :
جاء في شرح النهج : إن الزبير كان يقول : اقتلوه فقد بدّل دينكم.
فقالوا : إن ابنك يحامي عنه بالباب.
فقال : ما أكره أن يقتل عثمان ولو بدئ بابني ... (80).
3 ـ عبد الله بن مسعود :
جاء في أنساب الأشراف (81) : إنّ ابن مسعود لما ألقى مفاتيح بيت المال إلى الوليد بن عقبة ، قال : من غيّر غيّر الله ما به ومن بدّل أسخط الله عليه ، وما أرى صاحبكم إلّا وقد غيّر وبدّل ، أيعزل سعد بن أبي وقاص ويولي الوليد بن عقبة ؟
وكان يتكلّم بكلام لا يدعه ، وهو « إن أصدق القول كتاب الله ، وأحسن الهدى هدى محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتها ، وكلّ محدث بدعة ، وكلّ بدعة ضلالة ، وكلّ ضلالة في النار » (82).
4 ـ عمّار بن ياسر :
ذكر المؤرخون أنّ عمّاراً خطب يوم صفين ، فقال : ... انهضوا معي عباد الله إلى قوم يطلبون ـ فيما يزعمون ـ بدم الظالم لنفسه الحاكم على عباد الله بغير ما في كتاب الله ، إنّما قتله الصالحون ، المنكرون للعدوان ، الآمرون بالإحسان ، فقال هؤلاء الذين لا يبالون إذا سلمت دنياهم ولو درس هذا الدين : لم قتلتموه ؟ فقلنا : لأحداثه ... (83).
وجاء في كتاب صفين ما دار بين عمرو بن العاص وعمّار ، وفيه : قال عمرو :
فلم قتلتموه ؟
قال عمّار : أراد أن يغيّر ديننا فقتلناه.
فقال عمرو : ألا تسمعون ، قد اعترف بقتل عثمان.
قال عمّار : وقد قالها فرعون قبلك، لقوله ... ألا تسمعون (84).
5 ـ عمرو بن العاص :
أمّا ابن العاص فإنّه على الرغم من استنصاره لعثمان بعد مقتله فكان ينتقده ، وقد صدر عنه هذا النصّ لما ضرب عثمان عمّاراً : هذا منبر نبيّكم ، وهذه ثيابه ، وهذا شعره لم يبل وقد بدّلتم وغيّرتم ، فغضب عثمان حتّى لم يدر ما يقول (85).
6 ـ سعد بن أبي وقاص :
روى ابن قتيبة ما أجاب به سعد بن أبي وقاص حول دوافع قتل عثمان ، قال سعد : ... وأمسكنا نحن ، ولو شئنا دفعناه عنه ، ولكن عثمان غيّر وتغيّر ، وأحسن وأساء ، فإن كنّا أحسنا فقد أحسنا ، وإن كنّا أسأنا فنستغفر الله (86) ....
7 ـ هاشم المرقال :
قال لشاب شامي : وما أنت وابن عفان ؟ إنما قتله أصحاب محمّد وأبناء أصحابه وقراء الناس حيث أحدث الإحداث وخالف حكم الكتاب ، وأصحاب محمّد هم أهل الدين وأولى بالنظر في أمور المسلمين منك ومن أصحابك ، وما أظنّ أن أمر هذه الأمّة ولا أمر الدين عناك طرفة عين قط (87).
8 ـ مالك الأشتر :
جاء في كتاب من الأشتر إلى عثمان : من مالك بن الحارث ، إلى الخليفة المبتلى الخاطئ ، الحائد عن سنّة نبيّه ، النابذ لحكم القرآن وراء ظهره .. أمّا بعد ... (88).
وقوله : إن عثمان قد غيّر وبدّل (89)
9 ـ عائشة :
اشتهر قولها بعدما صنع بعمّار ما صنع : ما أسرع ما تركتم سنّة نبيّكم ، وهذا شعره ونعله لم يبل بعد ؟! (90).
وقولها ، بعدما جاءها وفد أهل العراق : تركت سنّة رسول الله صاحب هذا النعل ؟! (91).
وقال أبو الفداء : كانت عائشة تنكر على عثمان مع من ينكر عليه ، وكانت تخرج قميص رسول الله وتقول : هذا قميصه وشعره لم يبل وقد بلي دينه .. (92)
وفيما أخرجه ابن أبي الحديد : هذا ثوب رسول الله لم يبل وعثمان قد أبلى سنّته ! (93)
وعائشة أوّل من سمّى عثمان نعثلاً ـ رجل يهودي طويل اللحية كان بالمدينة ـ وحكمت بقتله (94).
10 ـ محمّد بن أبي بكر :
ذكر ابن سعد ، وابن عساكر ، وابن كثير ، والبلاذري ، وغيرهم : قال محمّد بن أبي بكر لعثمان : على أيّ دين أنت يا نعثل ؟
قال : على دين الإسلام ، ولست بنعثل ولكنّي أمير المؤمنين.
قال : غيّرت كتاب الله !
فقال : كتاب الله بيني وبينكم.
فتقدم إليه ، وأخذ بلحيته وقال : إنا لا يقبل منّا يوم القيامة أن نقول : ربّنا إنّا أطعنا ساداتنا وكبراءنا فأضلّونا السبيل .. وشحطه بيده من البيت إلى الدار ، وعثمان يقول : يا ابن أخي ! ما كان أبوك ليأخذ بلحيتي ... (95).
11 ـ كعب بن عبدة :
حينما ادّعى عثمان أنّه أعرف بكتاب الله منه ، قال له : يا عثمان ! إن كتاب الله لمن بلغه وقرأه ، وقد شركناك في قراءته ، ومتى لم يعمل القارئ بما فيه كان حجّة عليه (96).
12 ـ أبو ذر الغفاري :
نقل عنه أنّه قال : والله ، لقد حدثت أعمال ما أعرفها ! والله ما هي في كتاب الله ، ولا سنّة نبيّه ! والله إنّي لأرى حقّاً يطفأ ، وباطلاً يحيى ، وصادقاً يكذب !
وأثرة بغير تقى ، وصالحاً مستأثراً به (97).
13 ـ عبد الرحمن بن عوف :
قال لعثمان مرة : لقد صدقنا عليك ما كنّا نكذب فيك (98) ، إشارة إلى إخبار الإمام علي في يوم الشورى وقوله : أمّا أنّي أعلم أنّهم سيولون عثمان ، وليحدثن البدع والإحداث ، ولئن بقي لأذكرنك وإن قتل أو مات ليتداولها بنو أميّة بينهم ، وإن كنت حيّاً لتجدني حيث تكرهون (99).
وقوله لعلي : إذا شئت فخذ سيفك ، وآخذ سيفي ، إنه ـ عثمان ـ قد خالف ما أعطاني (100).
استنتاج
اتّضح بجلاء من النصوص الآنفة الذكر أن الصحابة غير راضين عن عثمان وسلوكه العملي ، كما أنّهم على خلاف رؤاه الفكرية وآرائه التشريعيّة ، ولذلك رموه بالإبداع والإحداث في الدين وإتيانه بأشياء ليست هي في كتاب الله ولا سنّة نبيّه أو سيرة الشيخين والصحابة هم أهل الفقه واللغة ، وهم أعلم من غيرهم باصطلاحات الرسالة وعباراتها ومنقولاتها الشرعيّة.
فلفظ « البدعة » ولفظ « الإحداث » يدلّان على إيجاد شيء لم يكن من قبل ولم يعهده المسلمون من الشريعة المحمديّة ، وكذا الحال بالنسبة لتعبيرهم : إنّه أتى بأمور ليست في كتاب الله ولا سنّة نبيّه.
فسوء التقسيم المالي من قبل عثمان ، وإيثاره لأقربائه ، وأخطاؤه السلوكيّة الأخرى ـ كما قلنا ـ لا تسمّى « بدعا » ولا « إحداثا » في الاصطلاح ، وإنّما تسمّى مخالفات ، أو عدم التزام ديني ، أو إعراضاً عن السيرة ، أو ما شاكل ذلك من الألفاظ والتعابير.
وإذا سلمنا بصحّة إطلاق لفظ « البدعة » و « الإحداث » على تلك التصرّفات ، فمن باب أولى أن يشمل اللفظ المذكور تلك الآراء العثمانيّة الجديدة وأطروحاته الفقهيّة التي أتى بها ، مثل : إتمام الصلاة بمنى ، وتقديم خطبة صلاة العيدين على الصلاة ، وغيرها من الآراء الفقهيّة التي ما كانت معهودة من قبله ولا ممّن عايشه من الصحابة !
إن شدّة عبارات الصحابة في عثمان ، برميهم إيّاه بالابتداع والإحداث في الدين ، بالإضافة إلى فتح باب الفتنة على مصراعيه ، وأخيراً قتله .. لتدلّ بما لا يقبل الشكّ والترديد على اقتناع الرأي العام بضرورة عزل عثمان عن الخلافة وعدم قناعتهم باجتهاداته ، ولما لم يرضخ لإرادة الأمّة والتخلّي عن الخلافة قائلاً « لن أنزع قميصاً كسانيه الله » جوزت الأمّة قتله ورأت نفسها في حلّ من دمه ، وفي عصمة من خطابات الشارع المقدّس ، مثل : ... ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ... (101) ، ... من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ... (102) ، ومن يقتل مؤمناً متعمّداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعدّ له عذاباً عظيماً (103) ...
بل وإصرارهم على عدم دفنه ، كقول أحدهم : لا والله لا تدفنوه في بقيع رسول الله على الرغم من علمهم بتأكيد النبي (ص) على دفن موتى المؤمنين وتغسيلهم وتكفينهم والصلاة عليهم ، وعلى أن حرمة الميّت كحرمة الحي !
ونحن أمام ما جرى ، لا يسعنا إلّا أن نقول إمّا بعدول جميع الصحابة عن جادة الصواب وتهاونهم بالأمور ، لأنّهم لم يعملوا بأوامر القرآن ووصايا الرسول (ص) وإمّا أن نذهب إلى انحراف الخليفة وخروجه عن رأي الجماعة ، ولا ثالث.
فإذا قلنا بعدالة الصحابة وعدم اجتماعهم على الخطأ ، لزم القول بالرأي الثاني ، خصوصاً إذا ما شاهدنا بين المعارضين رجالاً قيل عنهم إنّهم من العشرة المبشرة ، أمثال : سعد بن أبي وقاص ، طلحة ، الزبير ، وغيرهم من كبار الصحابة الذين ورد فيهم نصّ صريح بجلالة قدرهم وعظيم منزلتهم ، أمثال : ابن مسعود ، أبي ذر ، عمّار.
أمّا لو قلنا بطهارة ساحة الخليفة الثالث .. فهذا القول يستلزم فسق الصحابة ، وهذا ما لا يقبل به المحقّقون قطعاً ، إذ من المعقول أن تخطئ فردا مع الجزم بأنّه غير معصوم ، ولكن اتّهام الكثيرين من الصحابة بالفسق والضلالة بعيد عن المنطق والوجدان ، خصوصاً وثمة أفراد بين أولئك ممّن ورد بحقّه نصّ يشير إلى أنّه مع الحقّ ، وممّن بشر بالجنّة كعمّار وأبي ذر و ....
فإن قيل بأن الصحابة لم يتّفقوا على قتل عثمان حتّى يصح المدّعى ، بل إن ذلك كان من فعل بعض البغاة ؟
فنقول : إن دفاع أشخاص لا يتجاوز عددهم عدد الأصابع ، لا يخرق إجماع المسلمين ، ولو راجع المرء قائمة أسماء الثائرين ، ودرس أحوالهم ، وعلم كم من بدري فيهم .. لوافقنا في استنتاجنا ، وخصوصاً لو ثبت لديه بأنّه ترك ثلاثة أيّام من غير دفن (104) في بلد كانوا يقدّسون فيه منصبه ومكانته ويعتبرونه خليفة المسلمين ، فما يعني إهمالهم له مع وجود كبار الصحابة في المدينة ، ووجود قريش وغيرها من القبائل العربيّة ، وبني أميّة وسائر مواليهم ؟!
وقد نقلنا سابقاً ما جاء في تاريخ الطبري ـ حوادث 34 ـ « لما كانت سنة أربع وثلاثين كتب أصحاب رسول الله بعضهم إلى بعض ، أن أقدموا ، فإن كنتم تريدون الجهاد فعندنا الجهاد.
وكثر الناس على عثمان ونالوا منه أقبح ما نيل من أحد ، وأصحاب رسول الله (ص) يرون ويسمعون ، ليس فيهم أحد ينهي ولا يذب إلّا نفير ، منهم : زيد بن ثابت ، ـ الذي جمع عثمان الصحابة على قراءته ـ ، أبو أسيد الساعدي ، كعب بن مالك ، وحسان بن ثابت ، فاجتمع الناس وكلّموا علي بن أبي طالب ، فدخل على عثمان فقال : الناس ورائي وقد كلّموني فيك ، والله ما أدري ما أقول لك ، وما أعرف شيئاً تجهله ولا أدلك على أمر لا تعرفه ، إنّك لتعلم ما نعلم ... » إلى آخر كلامه الذي مرّ عليك قبل عدّة صفحات.
إذن ، المعترضون على عثمان كانوا الناس ، وأنّهم كانوا يطلبون الجهاد ضدّه ، فأخذ يكتب البعض منهم إلى الآخر بذلك ، وليسوا بنفر قلائل جاءوا من مصر والبصرة والكوفة ـ كما يدعيه البعض ـ ، وعلى فرض كونهم كذلك .. فهل من المعقول أن يسكت جميع الصحابة عن مواجهتهم وهم يرون خليفة المسلمين في خطر ، وليس منهم أحد ينهي ويذبّ عنه ؟
وألم يكن ذلك ازدراء بالصحابة ، الذين أبلوا بلاء حسناً مع الرسول في حروبه ؟
وكيف يهابون ذلك الجمع القليل مع ما لهم من صفحات ومواقف مشرفة في الجهاد عبر تاريخهم الإسلامي ؟!!
إن وراء ترك نصرة الخليفة شيئاً خطيراً ، وهو تركه العمل بكتاب الله وسنّة نبيّه وسيرة الشيخين !
عثمان ومبررات تغيير سياسته في الستّ الأواخر من يتابع سيرة الخليفة عثمان بن عفان بتجرّد يمكنه أن يصل إلى ما توصلنا إليه ، وهو : أنّ الخليفة وخصوصاً في الستّ الأواخر من خلافته أخذ يرى أن الناس ينتقصونه ولا يعطونه تلك المنزلة والهالة التي منحوها للشيخين ، بل ينظرون إليه بمنظار المتبع لنهج الشيخين والمطبق لما سنّ في عهدهما وليس له العمل إلّا بما عمل في عهدهما ، وقد طلب الخليفة بالفعل ـ في بدء خلافته ـ من المحدّثين أن لا يحدّثوا إلّا بما عمل به الشيخان ، لأنّ ذلك كان في ضمن ما عاهد عليه ابن عوف في الشورى.
بيد أن الخليفة وبعد مرور الأعوام الستّة من خلافته بدأ يتساءل مع نفسه :
كيف يحقّ لعمر أن يشرع أو ينهي لمصلحة كان يقدرها ـ كما في صلاة التراويح ومتعة النساء ـ ولا يحقّ لي ذلك ؟!
وكيف يقبل الناس اجتهادات عمر وسيرته ولا يرتضون أفعالي ؟!
وما الذي كان لهما واختصّا به دوني ؟!
ولماذا يجب أن أكون تابعا لسياسة واجتهاد الشيخين ولا يحقّ لي رسم بعض الأصول ؟!
هل كانوا في سابقتهم في الإسلام ودرايتهم بالأمور ومكانتهم من رسول الله أخصّ منّي وأقرب ؟!
أم إن ما بذلوه من مال ووقفوه من مواقف لنصرة الدين كانت أكثر ممّا فعلت ؟!
فإن كان الشيخان قد حظيا وشرفا برابط من نور مع رسول الله وذلك بإعطاء كلّ منهما بنتا لرسول الله ، فعثمان قد ارتبط برسول الله من جهتين وتزوّج بنتين ، وهو ذو النورين ؟!
بعد هذا كيف يتحتم عليه أن يكون تابعاً لنهج الشيخين ولا تكون له تلك الشخصيّة الاستقلاليّة ؟!
وقد أكّد عثمان على هذا الأمر وأشار إلى أنّه أعزّ نفراً بل هو أقرب ناصراً وأكثر عدداً من عمر ، لقربه من بني أميّة !
فقال مخاطباً المعترضين : ألا فقد والله عبتم عليّ بما أقررتم لابن الخطاب بمثله ، ولكنّه وطئكم برجله ، وضربكم بيده ، وقمعكم بلسانه ، فدنتم له على ما أحببتم أو كرهتم ، ولنت لكم ، وأوطأت لكم كتفي وكففت يدي ولساني عنكم ، فاجترأتم عليّ ، أما والله لأنّا أعزّ نفراً وأقرب ناصراً وأكثر عدداً وأقمن إن قلت هلم أتي إليّ ، ولقد أعددت لكم أقرانكم ، وأفضلت عليكم فضولاً وكشرت لكم عن نابي وأخرجتم منّي خلقاً لم أكن أحسنه ، ومنطقاً لم أنطق به (105).
نعم ، كانت هذه التساؤلات تراود الخليفة ، إذ يرى الناس قد أطاعوا عمر في كلّ شيء وتعبدوا بسيرة الشيخين وارتضوا بنهجهم ، فلم لا يقبلون بأفعاله وتوليته لولاته ولماذا يعتبرونها بدعا وإحداثات ، مع أنّه قد وسع المسجد الحرام (106) والمسجد النبوي (107) واتّخذ للأضياف منازل (108) وزاد في أعطية الناس (109) ورد على كلّ مملوك بالكوفة من فضول الأموال ثلاثة كلّ شهر ، يتّسعون بها من غير أن ينقص مواليهم من أرزاقهم (110) ، وغيرها من المواقف التي جاءت لنفع الناس.
وقد جاء في تاريخ الطبري وغيره أنه قال ـ للذين هدم بيوتهم ولم يقبلوا ثمنها عند توسعته للمسجد الحرام ـ : أتدرون ؟! ما جرأكم عليّ إلّا حلمي ، قد فعل هذا بكم عمر فلم تصيحوا به (111).
فالناس المعترضون على سياسة عثمان ، مضافاً إلى ارتيابهم وعدم قناعتهم بأفعال الخليفة كانوا يتّهمونه بتغيير سنّة رسول الله.
فقد جاء عن عثمان أن الناس قالوا له عندما أراد توسعة المسجد النبوي الشريف « يوسع مسجد رسول الله ويغيّر سنّته » (112).
إن الخليفة ـ وكما قلنا ـ كان يعيش حالة نفسيّة متأزمة ، فإنّه من جهة كان يسمع اعتراضات الناس عليه في حين قد شاهدهم بالأمس قد سكتوا عن اجتهادات عمر ، بل إنّهم قد ارتضوها وجعلوها منهج الحياة رغم كون بعضها أشدّ ممّا شرعه وأجرأ.
فحقّ للخليفة أن يتساءل ويقول مع نفسه : مالذي كان لعمر وليس لي ؟ ولماذا يطيعونه ويخالفوني ؟ هذا من جهة.
ومن جهة أخرى كان لا يمكنه تخطّي سيرة الشيخين ، لأنّه كان قد عاهد ابن عوف والمسلمين في الشورى على أن يسير بنهج الشيخين ، أمّا اليوم فإنّه غير مستعدّ نفسيّاً لتطبيق ذلك ، حيث إن الاعتراض أخذ يردّ عليه الواحد تلو الآخر ، فسعى الخليفة ـ وفي السنوات الستّ الأخيرة من عهده ـ إلى تغيير سياسته واتّباع نهج معيّن ، وأخذ يطرح آراء فيها ما يخالف سيرة الشيخين وسنّة رسول الله مواصلاً سياسة العنف السابقة ، معتقداً بأن طرحه لهذه الإحداثات سيلهي الناس عن الخوض في ذكر سوء سياسته وتوليته خاصّته وأقاربه ، واختصاصهم بالحكم والمال دون المسلمين ؟ وسيشغل المسلمين في مناقشة اجتهاداته ، وسيحصل على رصيد عند بسطائهم لأنّه قد أخذ جانب القدسيّة والزهد والتعمّق في إحداثاته ، فكان الطابع الغالب على تلك الإحداثات هو الزيادة ، فالصلاة بمنى والنداء الثالث يوم الجمعة والوضوء وغيرها لحظ فيها الزيادة ، وأن عامة الناس يرتاحون إلى الأعمال التي فيها زيادة معتقدين بأن ذلك زيادة في القدسيّة وخصوصاً لو دعم بآراء استحسانيّة مقبولة في ظاهرها عند العقلاء.
إن المسلم العادي لا ينظر إلى أصول المسألة ومشروعيّتها في الكتاب والسنّة بقدر ما ينظر إلى الوجوه الاستحسانيّة فيها ، فإذا كان الوضوء هو الإنقاء فالإنقاء يحصل بالغسل أكثر من المسح ، أو ما قالوه عن الغسل بأنّه مسح وزيادة وما شابه ذلك من الوجوه الاستحسانيّة.
هذا وقد كان الأمويّون وعلى رأسهم مروان بن الحكم وراء أفكار عثمان أو المسير له ، فقد مرّ عليك ما جاء في تاريخ الطبري وغيره : إن عبد الرحمن بن عوف دخل على عثمان فقال له : ألم تصل في هذا المكان ـ يعني منى ـ مع رسول الله ركعتين ؟
قال : بلى.
قال : أفلم تصلّ مع أبي بكر ركعتين ؟
قال : بلى.
قال : أفلم تصلّ مع عمر ركعتين ؟
قال : بلى.
قال : أفلم تصلّ شطراً من خلافتك ركعتين ؟
قال : بلى.
إلى أن يقول ، فقال عثمان : هذا رأي رأيته (113).
وهنا سؤال يطرح نفسه : علام يمكن حمل كلام عثمان هذا مع علمه بأن رسول الله والشيخين قد قصرا بمنى ، وكان قد قصر هو شطراً من خلافته فيه ؟!
ألا يعني هذا النصّ وأمثاله أنّه كان يريد تشكيل اتّجاه في الإسلام له معالم خاصّة به ، فتراه يجتهد قبال النصّ مع علمه بأن رسول الله والشيخين قد فعلا خلاف فعله ؟!
ألا ترى أنّه يصحّ بعد هذا وينطبق ما قلناه عنه ؟
فعثمان كان يتساءل مع نفسه : كيف يحقّ للشيخين أن يقولا « برأي رأيته » ويشرعا وينهيا عن مصلحة ، ولا يحق لي ذلك.
وممّا يؤيّد أن الأمويين وأتباع الخليفة كانوا وراء تنفيذ المخطّط الجديد ، هو ما حكاه جعفر بن محمّد عن أبيه : إن عثمان بن عفان اعتلّ وهو بمنى فأتى علي فقيل له : صلّ بالناس فقال : إن شئتم صلّيت لكم صلاة رسول الله ـ يعني ركعتين ـ قالوا : لا ، إلّا صلاة أمير المؤمنين ـ يعنون عثمان ـ أربعاً ، فأبى.
ومخالفة عثمان لنهج الشيخين لم تقتصر على صلاته بمنى ، بل هناك موارد كثيرة أخرى كتقديمه الخطبة على الصلاة في العيدين :
ذكر البخاري ومسلم وأحمد وابن ماجة والبيهقي والترمذي والنسائي وغيرهم : إنّ النبي وأبا بكر وعمر ، وفي بعضها : وعثمان شطراً من خلافته ، كانوا يصلّون في العيدين قبل الخطبة.
قال ابن حجر : إنّ أوّل من خطب قبل الصلاة عثمان ، صلّى بالناس ثمّ خطبهم فرأى ناساً لم يدركوا الصلاة ففعل ذلك ، أي صار يخطب قبل الناس (114). وعلى ضوء ما سبق عرفنا بأنّ الخليفة كان يريد بناء مدرسة جديدة لها أفكارها وأصولها وقد كان الأمويّون وراء تطبيق تلك الأفكار والأهداف (115).
وجاء عن أبي سعيد الخدري أنّه قال : أخرج مروان المنبر يوم العيد فبدأ بالخطبة قبل الصلاة ، فقام رجل فقال : يا مروان خالفت السنّة ، أخرجت المنبر يوم عيد ولم يكن يخرج به ، وبدأت بالخطبة ولم يبدأ بها.
فقال مروان : ذلك شيء قد ترك.
وكذا الحال بالنسبة إلى الأذان الثالث ، فتراه يخالف فيه رسول الله والشيخين.
كانت هذه بعض إحداثات الخليفة عثمان بن عفان المخالفة لسنّة رسول الله وسيرة الشيخين وأنّه قد أتى بها معتقدا بأنّها ستنجيه ممّا هو فيه من اعتراضات القوم ، لكن إحداثاته ـ بنظرنا ـ كانت هي السبب الأهمّ في قتله ، وأن قول نائلة الكلبية ـ زوجة عثمان ـ حين طاف المهاجمون على عثمان يريدون قتله : إن تقتلوه أو تتركوه ، فإنّه كان يحيي الليل كلّه يجمع القرآن (116) ، أو قولها : إنّه ليحيي الليلة بالقرآن في ركعة ، لتؤكّد على أن هجوم المنتفضين عليه كان له بعد ديني وهو التشكيك في صلاحيّته ولياقته في إدارة الأمّة الإسلاميّة ، وأن قول نائلة جاء لنفي هذا الشكّ ، فأكّدت بأنّه كان يجمع القرآن ويحي الليل كلّه في ركعة !
تأكيد عثمان على وضوئه
والآن لنذكر دور عثمان البنائي في الوضوء.
فقد صدرت عنه روايات كثيرة حكاها عن رسول الله وفي أغلبها إشارة إلى ترسيخه لفكرة الوضوء الجديدة ، وإليك بعض الروايات :
1 ـ عن حمران بن أبان ـ مولى عثمان ـ إن عثمان توضّأ فمضمض واستنشق وغسل وجهه ثلاثاً ويديه ثلاثاً ومسح برأسه وغسل رجله ثلاثاً ، ثمّ قال: من توضّأ وضوئي هذا ثمّ صلّى ركعتين لا يحدث نفسه فيهما غفر له ما تقدّم من ذنبه (117).
2 ـ وفي البخاري بعد إخراجه للحديث السابق وذكره غسل رجله ثلاثا :
رأيت النبي يتوضّأ نحو وضوئي هذا ، وقال : من يتوضّأ نحو وضوئي هذا ثمّ صلّى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه ، غفر الله له ما تقدّم من ذنبه (118).
3 ـ أخرج أبو داود والبيهقي والنسائي في سننهم ، عن حمران قال : رأيت عثمان بن عفان توضّأ فأفرغ على يديه ثلاثا فغسلهما ، ثمّ تمضمض واستنشق ، ثمّ غسل وجهه ثلاثاً ، وغسل يده اليمنى إلى المرافق ثلاثاً ، ثمّ اليسرى مثل ذلك ، ثمّ مسح رأسه ، ثمّ غسل قدمه اليمنى ثلاثاً ، ثمّ اليسرى مثل ذلك ، ثمّ قال : رأيت رسول الله توضّأ مثل (119) وضوئي هذا ، ثمّ قال : من توضّأ مثل (120) وضوئي هذا ثمّ صلّى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه ، غفر الله ما تقدّم من ذنبه (121).
4 ـ وفي نصّ آخر : رأيت رسول الله توضّأ وضوئي هذا ، ثمّ قال : من توضّأ مثل وضوئي هذا ثمّ قام فصلّى ركعتين لا يحدث نفسه بشيء ، غفر الله له ما تقدّم من ذنبه (122).
5 ـ وفي البيهقي : رأيت رسول الله توضأ مثل ما رأيتموني توضأت (123).
6 ـ وأخرج مسلم والدارقطني بسندهما عن عطاء بن يزيد الليثي عن حمران ـ واللفظ للدارقطني ـ : إن عثمان دعا يوماً بوضوء فتوضّأ ، فغسل كفّيه ثلاث مرّات ، ثمّ غسل يده اليسرى مثل ذلك.
وفي مسلم والبيهقي زيادة « ثمّ مسح رأسه ، ثمّ غسل رجله اليمنى إلى الكعبين ثلاث مرّات ، ثمّ غسل اليسرى مثل ذلك » (124).
ثمّ قال : رأيت رسول الله توضّأ نحو وضوئي هذا ، ثمّ قال رسول الله : من توضّأ نحو وضوئي هذا ثمّ قام فركع ركعتين لا يحدث فيهما نفسه ، غفر الله له ما تقدّم من ذنبه (125).
7 ـ وقد مرّ عليك سابقاً وفي أوّل عهد عثمان ما أخرجه مسلم من كلام عثمان عن وضوء الناس المغاير له ، وقوله : ألا إنّي رأيت رسول الله توضّأ مثل وضوئي هذا ، ثمّ قال : من توضّأ هكذا غفر له ما تقدّم من ذنبه ، وكانت صلاته ومشيه إلى المسجد نافلة (126).
في النصوص السابقة عدّة نقاط يمكن الاستفادة منها لتأييد ما ادّعيناه من أن الخليفة كان يريد تشكيل مدرسة وضوئيّة جديدة ضمن مخططه الكلّي في الشريعة.
الأولى : إن جملة عثمان « رأيت رسول الله توضّأ نحو وضوئي هذا » أو قوله « مثل وضوئي هذا » والمتكرّرة في عدّة أحاديث ، فيها دلالة على أن عثمان قد أحدث وضوءاً جديداً ، وأنّه قد جعل عمله هو المقياس والضابط في الوضوء حتّى تراه يقول « رأيت رسول الله توضّأ نحو وضوئي هذا » ولم يقل توضّأت كما رأيت رسول الله توضّأ !
فلو كانت المسألة عادية ، ولم يكن في التشريع عناية لقال الخليفة : توضّأت كما رأيت رسول الله يتوضّأ ، وما شابه ذلك من العبارات.
إن طرح عبارات كهذه على لسان الخليفة فيها إشارة نفسيّة خفيّة إلى أنه يريد التأكيد على وضوئه ، فتراه يرجع فعل الرسول إلى فعله !!!
الثانية : ما نقله من كلام عن رسول الله ، وقوله « من توضّأ مثل وضوئي هذا » أو « نحو وضوئي هذا » تعني أن له (ص) أكثر من وضوء واحد ، فنتساءل : هل كان النبي (ص) يتوضّأ بأكثر من طريقة في الوضوء ؟ ولماذا نرى تأكيده (ص) على الوضوء الثلاثي بالذات حتّى يجعله ممّا تغفر به الذنوب دون غيره ؟
في حين نعلم أن ابن عمر قد روى عن رسول الله ، أنّه قال عن وضوء المرّتين : « من توضّأ مرّتين أعطاه الله كفلين » ثمّ أعقبه ببيان الوضوء الثلاثي « هو وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي » ، ومعنى ذلك أن الفعل الثلاثي ليس له تعميم لجميع المؤمنين ، بل يختصّ بالرسول والأنبياء من قبله ، وقد يحتمل أن يكون من مختصات النبوّة ، وعليه فإن توقف الغفران على الوضوء الثلاثي دون غيره فيه تأمّل ، كما هو واضح.
الثالثة : في جملة « لا يحدث فيهما نفسه بشيء » تحمل تزكية للخليفة وصيانة له ، فهو يريد إلزام المؤمن المسلم بقبول وضوئه المقترح والأخذ به دون تحديث النفس بشيء أو التشكيك في مشروعيّته ، وأن مثل هذا التعبّد يوجب غفران الذنوب !!
هذا وقد أكّد أتباع الخليفة عثمان بن عفان على الوضوء الثلاثي الغسلي بكلّ الوسائل ، ومن ذلك ما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص :
روى عمرو بن شعيب عن أبيه ، عن جدّه ، عن النبي ، أنّه قال بعد أن توضّأ الوضوء الثلاثي الغسلي قوله (ص) : « فمن زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم ، أو ظلم وأساء » (127).
وفي ابن ماجة : « فقد أساء أو تعدى أو ظلم » (128).
ففي هذا النصّ كغيره من النصوص السابقة إشارة إلى دور المحدّثين وأنصار الخليفة في التأكيد على وضوء عثمان ، فلو قبلنا بأن الزيادة على الغسلة الثالثة في الوضوء هي تعدّ وظلم ، فما معنى قوله : أو نقص ؟!
ألم يتواتر عنه (ص) وروى صحابة أمثال ابن عبّاس ، وعمر ، وجابر ، وبريدة ، وأبي رافع ، وابن الفاكه : أنّه (ص) توضّأ مرّة مرّة ؟
وألم يرو أبو هريرة ، وجابر ، وعبد الله بن زيد ، وابن عبّاس وغيرهم : أن رسول الله توضّأ مرّتين مرّتين ؟
وما معنى ما رواه ابن عمر عن رسول الله ، بأنّه قال عن المتوضئ مرّة : « هذا وضوء من لا تقبل له صلاة إلّا به » ، وعن المرّتين : « هذا وضوء من من يضاعف له الأجر مرّتين ».
أو قوله (ص) في حديث آخر عن الوضوء الثلاثي : « ومن توضّأ دون هذا كفاه ».
فما معنى « أو نقص فقد أساء وظلم » إذن ؟!!
فمن جهة نراه (ص) يقول عن المرة : « لا تقبل الصلاة إلّا به » ، وعن المرّتين : « يضاعف له الأجر مرّتين » وفي آخر : « كفلين » ، ومن جهة أخرى نرى عمرو بن شعيب يروي عن أبيه عن جدّه عبد الله بن عمرو العاص عن النبي أنّه قال : « أو نقص فقد أساء أو ظلم ».
فكيف يمكن الجمع بين هذه الروايات ؟
ألم يتوضّأ رسول الله بعض وضوئه مرّتين وبعضه الآخر ثلاثاً ـ كما في حديث عبد الله بن زيد بن عاصم ـ ، وألم يرو أهل العلم عدم البأس في ذلك ؟
فكيف تتطابق هذه الأحاديث مع قوله : أو نقص ؟ وهل أن رسول الله ـ والعياذ بالله ـ قد ساء وظلم ؟!
نعم ، إن الذي نحتمله هو : إنّ هذه الأحاديث وضعت من قبل أنصار الخليفة لترسيخ وضوء عثمان بن عفان والأخذ به دون زيادة أو نقيصة وعدم تحديث النفس بشيء أو التشكيك في مشروعيّته.
ومن يطالع أحاديث الوضوء يتساءل مع نفسه : لماذا تذيل حكايات عثمان لصفة وضوء رسول الله بالذات بذيل مروي عنه (ص) ولا نلاحظ ذلك فيما حكاه غيره من الصحابة عن وضوء رسول الله ؟!!
ولماذا لا تذيل أحاديث عثمان بهذا الذيل فيما حكاه عنه (ص) في الوضوء المسحي ؟!!
إن ما طرحناه من الشواهد لو قرن بعضها إلى بعض لدلّ على ما نريد الإشارة إليه ، وهو أن الخليفة ومن معه كانوا يسعون لبناء مدرسة وضوئيّة جديدة ، بل الأحرى بناء مدرسة فقهيّة جديدة.
وقد سبق في طوايا البحوث السابقة أن نبهنا ودللنا على ضعف فقه الخليفة وسوء فهمه وسنعقبه بالمزيد إن شاء الله.
النتيجة
بهذا يمكننا حصر أهمّ دواعي الخليفة الإتيان بالوضوء الجديد بما يلي :
1 ـ إن عثمان كان يرى لنفسه أهليّة التشريع ووجوب الاقتداء به كأبي بكر وعمر ، وكان يتساءل مع نفسه ، كيف يحقّ لعمر أن يشرع أو ينهي مصلحة ، ولا يحقّ لي ذلك ؟
2 ـ لما كان عثمان من أتباع مدرسة الاجتهاد والرأي ، كان يرى لنفسه المبرر لطرح ما يرتئيه من أفكار وتشريعها للمسلمين ، وقد طبق بالفعل ما ارتآه من فعل الرسول ـ حسب ما حكاه هو ـ واعتبره سنة ، في حين أن ما نقله ينبئ بأن الفعل الثلاثي في الوضوء كان من مختصاته (ص) لقوله : « هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي » ، إذ أنه قد بين وضوء المرّة وقال عنه : « هذا وضوء لا تقبل الصلاة إلّا به » ، وعن المرّتين : « هذا وضوء من يضاعف له الأجر مرّتين » ، أمّا الثالثة فقال عنها : « هي وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي » ، أيّ أنّه (ص) كان يعني بأن هذا الفعل ـ على فرض صحّة صدوره عنه ـ هو مختصّ به وبالأنبياء وليس حكماً عاماً للمسلمين ، بل وضوء المرّتين هو ما يضاعف به الأجر ، ويمكن للمسلمين العمل به.
أمّا عثمان فقد جاء ليعمم هذه الرؤية ويجعلها سنّة رسول الله يجب الاقتداء بها وفقاً لرأيه.
3 ـ المعروف عن عثمان أنّه كان من المتشدّدين في الدين ذلك التشدّد المنهي عنه ، حتّى قيل عنه بأنّه كان يغتسل كلّ يوم خمس مرّات ، وكان لا يرد على سلام المؤمن إذا كان في حالة الوضوء ، وقال هو عن نفسه بأنّه لا يمدّ يده إلى ذكره منذ بايع رسول الله ، وغيرها من الأخبار المنقولة.
ومن البين أن مثل هذه الحالة النفسيّة الميالة إلى التزيد والمبالغة في التطهر تجعل صاحبها مهيأ للتزيد في عدد غسلات الوضوء ، ولتفضيل الغسل على المسح ما دام يحقّق مزيداً من الأنقاء ، وقد تفتح هذه الحالة أمامه باباً للإكثار والتزيد لا يكاد يوصد.
4 ـ أشرنا سابقاً إلى أن الثورة على عثمان كانت تستبطن أمراً دينيّاً ، وأن المنتفضين كانوا يطلبون من الخليفة العمل بالكتاب وسنّة رسول الله ، وأن مواقفهم ضدّه توحي بأنّهم كانوا يشكّكون في إيمانه ، وأن الخليفة جاء ليؤكّد لهم على إيمانه ويذكرهم بمواقفه في الإسلام كقوله لهم :
أنشدكم الله هل علمتم أنّي اشتريت رومة من مالي يستعذب بها ، فجعلت رشائي منها كرشاء رجل من المسلمين ! قال : قيل : نعم
قال : فما منعني أن أشرب منها حتّى أفطر على ماء البحر !
قال : أنشدكم الله ، هل علمتم أنّي اشتريت كذا وكذا من الأرض فزدته في المسجد ؟
قيل : نعم.
قال : فهل علمتم أحداً من الناس منع أن يصلّي فيه قبلي !
قال : أنشدكم الله ، هل سمعتم منّي ...
فالخليفة وبتذكيره المسلمين هذه الأمور أراد الإشارة إلى قداسته ، وأراد إبعاد نيران الثورة عنه.
5 ـ إشغال الناس بالخلافات الفقهيّة والفرعيّة ، وذلك دفعاً لهم عن الخوض في ذكر مساوئ سياسته المالية والإدارية ، وأن ابن عوف وابن أبي وقاص وعليّاً وغيرهم من كبار الصحابة قد اهتمّوا بالفعل لمناقشة آراء الخليفة الجديدة وقد كلفهم ذلك كثيراً من الجهد والوقت.
6 ـ من أكبر الدوافع وأعمقها في تغيير سياسة عثمان ، هو التفاف بني أميّة حوله وابتعاد كبار الصحابة من التعاون مع الخليفة ، ممّا خلق لدى الخليفة فجوة واسعة وفراغاً فقهيّاً وعقائديّاً لم يسدّ إلّا بالأمويين ومروان بن الحكم وكعبالأحبار.
كانت هذه من أهمّ النقاط التي أفرغت الخليفة والخلافة من محتواها وأبهتها وقداستها ، وحدت بالخليفة أن يلتزم آراء فقهيّة مغلوطة وسياسات غير منهجية ، فكان نتاجها تخطّي سيرة الرسول وترك العمل بالكتاب.
عود على بدء
بهذا .. فقد عرفنا بأن النقمة على عثمان كانت تستبطن أمراً دينيّاً ، ملخصه عدم عمل الخليفة بكتاب الله وسنّة نبيّه بل إحداث أمور لم تسن على عهد الرسول ولم يعمل بها الشيخان ، ولذا نراهم يطالبونه ـ مؤكّدين عليه ـ بالرجوع إلى الكتاب والعمل بسنّة رسوله والشيخين ، ويخصّون على العمل بسيرة الشيخين بمزيد من التأكيد لأنّه كان قد عاهدهم على ذلك من قبل.
فقد أخرج الواقدي بإسناده عن صهبان ـ مولى الأسلميين ـ في حديث طويل : قال أبو ذر لعثمان : اتبع سنّة صاحبيك لا يكن لأحد عليك كلام.
فقال له عثمان : مالك وذلك لا أمّ لك !
فقال له أبو ذر : والله ما وجدت عذراً إلّا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فغضب عثمان ، وقال : أشيروا عليّ في هذا الشيخ الكذّاب ، إمّا أن أضربه ، أو أحبسه ، أو أقتله .. فإنّه قد فرق جماعة المسلمين ، أو أنفيه من الأرض !
أجابه أبو ذر بقوله : أما رأيت رسول الله ورأيت أبا بكر وعمر ؟ .. هل رأيت هذا هديهم ؟! ... إنّك لتبطش بي بطش جبّار !
فقال عثمان : أخرج عنّا من بلادنا !
فقال أبو ذر : ما أبغض إلى جوارك ، أين أخرج ... (129) ـ الخبر.
كانت هذه سياسة عثمان مع الصحابة ، فإن النصيحة تستوجب النقمة والأبعاد ، وتهمة تفريق جماعة المسلمين وراء من يريد النصح لله !
أولم تكن رغبة الناصح هي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؟ .. أولم يقل أبو بكر لجموع المسلمين : قوموني ، فلست بأعلمكم .. أو : بخيركم ؟ .. أو قوله :
فإن أحسنت فأعينوني ، وإن أسأت فقوموني ؟
ثمّ .. أولم يتبع عمر أبا بكر في سيرته بهذا الشأن ؟
فلماذا لا يقبل الخليفة الثالث نهج من سبقه ، ولماذا لا نراه يستشير الصحابة في الأحكام الشرعيّة ، كما كان الشيخان ، بل يريد أن يحدث في الأحكام ويشرع دون أن يقف أمامه أحد ؟
فالصحابة كانوا يسعون للحفاظ على وحدة الصف دوما ، لكن الخليفة استغلّ ذلك التعاطف الديني ، وتصرّف بالأمور من أجل ترسيخ دعائم سياسته الخاصّة !
فقد نقل عن ابن عوف ـ على رغم مخالفته لعثمان ـ بأنّه عندما خرج من عند عثمان ، يوم اعترض عليه في اتمامه الصلاة بمنى ، لقي ابن مسعود فقال ابن مسعود : الخلاف شرّ ، قد بلغني أنه صلّى أربعاً فصلّيت بأصحابي أربعاً.
فقال عبد الرحمن بن عوف : قد بلغني أنّه صلّى أربعاً ، فصلّيت بأصحابي ركعتين ، أمّا الآن فسوف يكون الأمر الذي تقول ، يعني نصلّي معه أربعاً (130).
وقيل لابن مسعود : ألم تحدثنا أن النبي صلّى ركعتين ، وأبا بكر صلّى ركعتين ؟
فقال : بلى ، وأنا أحدثكموه الآن .. ولكن عثمان كان إماماً فما أخالفه ، والخلاف شر (131).
وقيل لابن عمر : عبت على عثمان ثمّ صليت أربعاً !
قال : الخلاف شر (132).
وجاء في طبقات ابن سعد : إن ناساً من أهل الكوفة قالوا لأبي ذر ـ وهو بالربذة ـ : إن هذا الرجل فعل بك ما فعل ، هل أنت ناصب لنا راية ـ يعني نقاتله ـ ؟
قال : لا ، لو أن عثمان سيرني من المشرق إلى المغرب ، سمعت وأطعت (133).
كانت هذه حالة الصحابة مع عثمان في السنوات الستّ الأولى ، أما عندما رأوا أن الدين على خطر ، فقد تغيّرت سياستهم العامة ووقفوا بوجهه وأفتوا بقتله ، كما صدر عن السيّدة عائشة : اقتلوا نعثلاً ، فقد كفر.
وقد أخرج الثقفي في تاريخه عن سعيد بن المسيب ، قال : لم يكن مقداد وعمّار يصلّيان خلف عثمان ، ولا يسمّيانه بأمير المؤمنين.
وعليه .. فالثورة ـ بنظرنا ـ لم تكن لأسباب شخصيّة ، ولا تنحصر في اختلاس ذوي رحم الخليفة من بيت المال ، وتولية الفساق ، والتنكيل بالصحابة ، وإرجاع المطرودين ، وغيرها من الإحداثات المذكورة ، بل يمكن عزو الثورة إلى عامل ديني وهو : عدم العمل بالكتاب والسنّة النبويّة ، وإتيان ما لم يكن في الشريعة.
وهذا هو الذي جعل البعض من الصحابة يوجب على نفسه التقرّب إلى الله بدم عثمان .. بل ونرى من الصحابة من يوصي بعدم صلاة عثمان عليه بعد وفاته (134) ، وثالث ورابع ... و جاء في تاريخ المدينة المنورة (135) : بأن عبد الله بن مسعود قال : ما سرني أنّي أردت عثمان بسهم فأخطأه وأن لي مثل أحد ذهبا.
وقوله : إن دم عثمان حلال (136).
وقال الحجاج بن غزية الأنصاري : والله لو لم يبق بين أجله إلّا ما بين العصر إلى الليل لتقرّبنا إلى الله بدمه (137).
وروى شعبة بن الحجاج ، عن سعد بن إبراهيم ، عن عبد الرحمن بن عوف قال : قلت له : كيف لم يمنع أصحاب رسول الله عن عثمان ؟
فقال : إنّما قتله أصحاب رسول الله (138).
وروي عن أبي سعيد الخدري ، إنّه سئل عن مقتل عثمان : هل شهده أحد من أصحاب رسول الله (ص) ؟ فقال : نعم ، شهده ثمانمائة ، أو قوله لعلي : فإذا شئت فخذ سيفك وآخذ سيفي ، إنه خالف ما أعطاني (139).
وقال ابن عمر ـ كما روى الواقدي عنه ـ : والله ما فينا إلّا خاذل أو قاتل (140).
وقال سعد بن أبي وقاص : وأمسكنا نحن ولو شئنا دفعناه عنه.
وفي النصّين الأخيرين إشارة إلى إمكان نصرته ، لكنّهم أحجموا ! لماذا ؟!
ونحن أمام هذا الواقع .. إمّا أن نجرّد سعداً وابن عمر من الحمية الدينيّة أو نقول بمشروعيّة جواز قتل الخليفة ، ولا ثالث.
ومن المؤشرات الدالّة على أن الثورة على عثمان كانت ذات دافع ديني ما مر من رسالة من بالمدينة من أصحاب محمّد ، إلى من بالآفاق ، التي جاء فيها : إنكم إنما خرجتم أن تجاهدوا في سبيل الله ، تطلبون دين محمّد، فإن دين محمّد قد أفسده من خلفكم ـ وفي الكامل : خليفتكم ـ ، وترك ... فهلموا ، فأقيموا دين محمّد (141).
وجاء في كتاب المهاجرين الأولين إلى من بمصر من الصحابة والتابعين : أمّا بعد : أن تعالوا إلينا ، وتداركوا خلافة رسول الله قبل أن يسلبها أهلها .. فإن كتاب الله قد بدل ، وسنّة رسول الله قد غيّرت ، وأحكام الخليفتين قد بدلت ، فننشد الله من قرأ كتابنا من بقيّة أصحاب رسول الله والتابعين بإحسان إلّا أقبل إلينا وأخذ الحقّ لنا وأعطاناه .. فأقبلوا إلينا إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ، وأقيموا الحقّ على النهج الواضح الذي فارقتم عليه نبيّكم وفارقكم عليه الخلفاء.
وقد روي من طرق مختلفة وبأسانيد كثيرة أن عمّاراً كان يقول : ثلاثة يشهدون على عثمان بالكفر وأنا الرابع ، وأنا أشد الأربعة لقوله تعالى : وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّـهُ فَأُولَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ وأنا أشهد الله إنّه قد حكم بغير ما أنزل الله.
وروي عن زيد بن أرقم من طرق مختلفة إنّه قيل له : بأيّ شيء كفرتم عثمان ؟
فقال : بثلاث ، جعل المال دولة بين الأغنياء ، وجعل المهاجرين من أصحاب رسول الله بمنزلة من حارب الله ورسوله ، وعمل بغير كتاب الله (142).
وهناك الكثير من هذه النصوص التي تشير إلى ترك الخليفة الثالث العمل بكتاب الله وسنّة نبيّه وسيرة الشيخين ، ممّا لها الدور الأكبر في قتله ، فعدم العمل بكتاب الله وسنّة نبيّه لا يمكن تخصيصه بتقريبه لأهله غير المنزهين ، وإن كانت تدخل ضمن عدم العمل بكتاب الله.
وما ذكره الطبري في حوادث « 35 » من دفاعيات عثمان عن إحداثاته تؤكد بأن الثورة عليه ـ كما قلنا ـ كانت دينيّة ، إذ أن الإشكاليّات المطروحة على لسان الخليفة لتؤكّد ذلك.
قال عثمان : أتمّ الصلاة في السفر وكانت لا تتمّ ، ألا وأنّي قدمت بلداً فيه أهلي ، أو كذلك ؟!!
قالوا : نعم. أو كذلك ؟!!
قالوا : نعم.
ـ قال عثمان ـ وقالوا : كان القرآن كتبا ، فتركها إلا واحداً ، وأن القرآن واحد ، جاء من عند واحد ، وإنما أنا في ذلك تابع لهؤلاء ، أكذلك ؟
قالوا : نعم.
وقالوا : إنّي رددت الحكم وقد سيره رسول الله ، والحكم مكّي ، سيره رسول الله من مكّة إلى الطائف ثمّ ردّه رسول الله ، فرسول الله (ص) ردّه ، أكذلك ؟!!
قالوا : اللهم نعم.
إلى آخر الإشكاليات المطروحة ضدّ الخليفة ومناقشته لها.
هذا وربّ سائل يسأل بعد كلّ ما قدمناه :
كيف يمكن الاطمئنان إلى استنتاجكم ، ونحن نرى الإمام علي بن أبي طالب يقول في خطبته ، عن قتل عثمان :
1 ـ لو أمرت به لكنت قاتلاً ، أو نهيت عنه لكنت ناصراً (143).
2 ـ ما قتلت عثمان ، ولا مالأت على قتله (144).
3 ـ قتله الله وأنا معه (145).
فإن هذه الكلمات لا توافق ما توصلتم إليه ، إذ لو كان عثمان قد أحدث في الدين ولزم ما يوجب خلعه ، لتصدّي الإمام لقتله ، ولما قال ما قال فيه ، وكذا المشهور في كتب التاريخ من أنه أرسل الحسن والحسين للدفاع عنه لما كان محاصراً ، فبم تعللون ذلك ؟
نلخص جواب ذلك في أربع نقاط :
الأولى : لا تدلّ النصوص الثلاثة على تفاعل الإمام مع عثمان وعدم تجويز قتله ، وأن لجملة « ما قتلت عثمان » معنى سنشير له ، بل نرى في جملة « أو نهيت عنه لكنت ناصراً » عكس ذلك ، حيث يعدّ الدفاع عنه نصرة له ، وهذا ما لا يرتضيه ، وبذلك يكون دم عثمان بنظره من الأمور المباحة ، إذ نراه لا يأمر به ولا ينهى عنه ، فقد قال بذلك لما رأى تعاضد المدنيين مع الوافدين من الأمصار لقتل عثمان وتشكيلهم جبهة ضدّه .. فأسقطوا ما في ذمّة الإمام من واجب ، إذ أن تنحية الحاكم الفاسد أمر كفائي ، فلو تصدّى له جمع سقط عن الآخرين ، ولو لم يكن هناك من يقدم على عزل عثمان ، لتدخل الإمام ـ ولو بمفرده ـ وحسم أمر الخليفة.
الثانية : إن في جملة الإمام « ما قتلت عثمان، ولا مالأت على قتله » تنويهاً بأن الجموع المقدّمة على قتل الخليفة كثيرة ، بحيث قال ابن عمر : « ما منا إلا خاذل أو قاتل » ، وأن إقدام الجموع أسقطت الواجب عن الإمام ، ونفت لزوم إقدامه ، ولم توجب إصداره لمثل ذلك القرار ، وإن كان يرى هذا العمل ويرتضيه.
فالإمام ـ وعلى فرض المحال ـ لو أراد نصح المنتفضين لما استجابوا له ، إذ أنه قد أخذ المواثيق الغليظة ـ المرة تلو الأخرى ـ من عثمان ، لكنّه نقضها في جميع الحالات وواصل طريق إحداثاته (146).
وعليه .. فالإمام لم يكن آمراً بقتل عثمان ، ولا داعياً له ـ بهذا المعنى ـ وإن كان يرتضي ذلك قلبا.
الثالثة : إن في جملة « قتله الله وأنا معه » إشارة إلى أن الله حكم بقتله ، لإحداثاته المتكرّرة وأوجبه عليه ، وأنا مع حكم الله ، لأن من المعلوم أن الله تعالى لم يقتله على الحقيقة ، فإضافة القتل إليه لا تكون إلّا بمعنى الحكم والرضا ، وليس بممتنع أن يكون ممّا حكم الله تعالى به ما لم يقله ـ علي ـ بنفسه ، ولا آزر عليه ولا شايع فيه.
وقد جاء هذا المعنى صريحاً فيما رواه الضبيعي ، قال : قلت لابن عبّاس : إن أبي أخبرني أنّه سمع عليّاً يقول : ألا من كان سائلي عن دم عثمان ، فإن الله قتله وأنا معه. فقال : صدق أبوك ، وهل تدري ما معنى قوله !... إنما عنى : الله قتله وأنا مع الله (147).
الرابعة : أمّا ما قلتموه بأن علياً أرسل الحسن والحسين للدفاع عنه ، فقد اختلف المؤرّخون فيه .. فمنهم من شكّك في صحّة الخبر ، ومنهم من نفاه عنه وعلى فرض الصحّة ، فعلي بن أبي طالب إنّما أرسل ابنيه لايصال الماء والغذاء إليه ، وهذا خلق إسلامي لا يستبعد صدوره من الإمام.
علماً بأن المستحق للقتل أو الخلع ، لا يحلّ منع الطعام والشراب عنه ، وأن أمير المؤمنين لم يمنع أهل الشام من الماء في صفين مع تمكّنه من منعهم (148).
وعليه .. فقد تأكّد أن الإمام كان من المجيزين لقتل عثمان وإن لم يكن من الداعين إلى ذلك ، ويمكن أن تضاف أقواله هذه إلى ما سردناه من نصوص ومواقف للصحابة من قبل.
والآن ندع هذه المقدّمة لنواصل الدراسة ، راجين أن لا نكون بدرجنا لما سبق قد أغضنا أحداً ، بل إنّها كانت رؤية ألزمنا الطبري وابن الأثير وغيرهم من المؤرّخين بطرحها ، ونحتمل أن تكون هي إحدى تلك الأسباب التي تخوفوا من نقلها رعاية لحال العامة !!
لكنّا وكما قلنا سابقاً نعتقد أن مناقشة النصوص والوقوف على الحقيقة ، ضرورة علميّة ينبغي متابعتها في جميع الأخبار التاريخيّة ، وأن طرح رأي أوترجيح آخر في مثل تلك الدراسات لا يعاب من الباحث ، إذ الأدلّة هي التي تلزمه الطرح أو الترجيح.
أمّا تصوّر ذلك عند المؤرّخين ـ كما رأيناه عند الطبري وابن الأثير وذكرهم لخبر العاذرين لمعاوية في نفيه لأبي ذر مع وجود أخبار أخرى ، أو استبعاد ابن الأثير صدورها مع تواتر النقل فيها ، فنراه هو القبح بعينه ، لأنّهم مؤرّخون ، والمؤرّخ من شأنه أن لا ينحاز في نقله للأحداث إلى جهة دون أخرى ، هذا وإن رسالة من بالمدينة من أصحاب محمّد إلى من بالآفاق ، ورسالة المهاجرين إلى من بمصر من الصحابة ، وكلمات الصحابة ومواقفهم من إحداثات عثمان ، والتقرّب بدمه إلى الله ، وغيرها ... إنما يعضد بعضها البعض ويرجح ما توصلنا إليه من أن الثورة على الخليفة عثمان كانت تستبطن أمراً دينيّاً ، وأنّه قتل لإحداثاته تلك وإن كنّا لا ننكر ما للدوافع المالية والاقتصادية من دور في الأمر.
علماً بأنّه لم يقل أحد في سبب قتل عمر بن الخطاب أو علي بن أبي طالب إنّه كان بسبب إحداثهما ، بل نرى المسلمين يبكون عليهما ويشيّعونهما ويصلون عليهما ويوارونهما التراب بحزن وأسى ، وألقوا القبض على قتلتهما ، ولم ترهم يفعلون ذلك مع عثمان بل كفروه لما فعله في الستّ الأواخر من حياته ورموه بالابتداع والإحداث وزهدوا فيه بعد قتله ، فلم يواروه التراب إلّا بعد ثلاثة أيّام !
ونحن لا نريد من طرحنا لما سبق إلزام الآخرين بما نقوله ، فلهم الخيار في قبوله أو طرحه.
من هم « الناس » في الوضوء وما هي منزلتهم ؟
تناولنا فيما سبق تحديد زمن النزاع وتعيين أطرافه ، واستكمالاً للبحث لا بدّ من التعرف على « الناس » المعني بهم في حديث الوضوء وعلى قيمتهم .. فهل هم يا ترى من غمار الصحابة ، أم من كبارهم ؟؟
إن البت بذكر أسمائهم صعب جدّاً ، لكن الشواهد والقرائن تدلّنا على كونهم من الرعيل الأوّل ، ومن فقهاء الصحابة الذين يعتنى بآرائهم ، وممّن عارضوا عثمان في أكثر من فكرة وموقف.
وسنتعرّف على أسماء بعض أولئك « الناس » وفق المقدّمات والقرائن ، التالية :
1 ـ طرحنا ـ وبشكل إجمالي (149) ـ بعض اجتهادات عثمان في قضايا مختلفة ، ثمّ حصرنا أسماء المعارضين له في تلك القضايا.
2 ـ جردنا أسماء المخالفين لاجتهادات عثمان من الصحابة ، ثمّ وقفنا على أسماء المخالفين المكثرين من تخطئته ومن أطرد منهم في ذلك.
3 ـ النظر إلى أولئك « الناس » وهل أنّهم قد رووا ما يوافق عثمان في الوضوء ، أم كانوا من مخالفيه ؟ !
« الناس » في الإحداثات الأخرى ؟!!
1 ـ الصلاة بمنى :
ذكرنا أكثر من مرّة خبر إتمام عثمان الصلاة بمنى وغيرها من إحداثاته ، لكنّا بإعادتنا الأخبار هنا نريد الوقوف على أسماء مخالفيه في تلك القضايا ثمّ تطبيقها على ما نحن فيه.
لقد ناقشه في رأيه الجديد عبد الرحمن بن عوف وفند مزاعمه في حديث طويل (150) ، وكذا أبو هريرة وابن عمر وحتّى عائشة قد رووا أنّ الصلاة في السفر ركعتان ، لكن عائشة وكما ستقف أتمت الصلاة وربعتها بعد مقتل عثمان (151). وعن ابن جريح ، قال : سأل حميد الضمري ابن عبّاس فقال : إنّي أسافر فأقصر الصلاة في السفر أم أتمّها ؟
فقال ابن عبّاس : « لست تقصرها ولكن تمامها وسنّة رسول الله ، خرج رسول الله آمناً لا يخاف إلّا الله فصلّى اثنتين حتّى رجع ، ثمّ خرج أبو بكر لا يخاف إلّا الله فصلى اثنتين حتّى رجع ، ثمّ فعل ذلك عثمان ثلثي إمارته أو شطرها ثمّ صلّاها أربعاً » (151).
وعن عروة : « إنّ رسول الله صلّى الرباعيّة بمنى ركعتين ، وإن أبا بكر صلّاها بمنى ركعتين وإن عمر بن الخطاب صلّاها بمنى ركعتين ، وإن عثمان صلّاها بمنى ركعتين شطر إمارته ثمّ أتمّها بعد » (152).
وقد اعترف عثمان ـ على أثر اعتراض الناس ـ بأنّ هذه الصلاة ليست بسنّة رسول الله ولا سنّة صاحبيه.
فعن حميد عن عثمان : إنّه أتمّ الصلاة بمنى ثمّ خطب فقال : « أيّها الناس إن السنّة سنّة رسول الله وسنّة صاحبيه ولكنّه حدث العام من الناس فخفت أن يستنوا » (153) وعليه ، فقد تمخض الرأي الجديد الذي طرحه عثمان في صلاة المسافر عن مخالفة كلّ من :
علي بن أبي طالب ، عبد الرحمن بن عوف ، عبد الله بن مسعود ، وأبي هريرة ، وكان من قبلهم : النبي (ص) ، والشيخان ، بل عثمان نفسه في صدر خلافته .. حيث إنّهم قد صلّوها قصراً ، وبذلك يمكن عدّهم من المخالفين لرأيه الجديد.
وخالفه أيضاً من وجوه الصحابة ، كلّ من :
عبد الله بن عباس (153) ، عبد الله بن عمر (154) ، عمران بن حصين (155) ، أنس بن مالك (156) ، حفص بن عمر (157) ، وعروة بن الزبير (158) ، وعائشة (159).
فتحصل : إنّ المخالفين لعثمان في رأيه الفقهي المستحدث في إتمام الصلاة هم :
النبي الأكرم (ص).
أبو بكر.
عمر بن الخطاب.
علي بن أبي طالب.
عبد الرحمن بن عوف.
عبد الله بن عباس.
أبو هريرة.
عبد الله بن مسعود.
عبد الله بن عمر.
أنس بن مالك.
عروة بن الزبير.
عمران بن حصين.
حفص بن عمر.
عائشة بنت أبي بكر.
فالأحاديث المعارضة لرأي عثمان الصلاتي كثيرة جدّاً ، قد يصعب استقصاؤها وحصرها ، وقد اعتبرنا رواة قصر النبي الصلاة بمنى من مخالفي عثمان الفقهيين ، وكذا الحال بالنسبة إلى فعل النبي والشيخين.
ولم تقف حدود الاعتراض على رأي الخليفة الجديد عند هذا الحدّ ، بل تعدته حتّى صارت عامة الناس تنقم عليه ..
قد مرّ في حديث ابن عبّاس ، قوله :
فعاب ذلك غير واحد من أصحاب النبي ، حتّى جاءه علي فيمن جاءه (162) ... الخ.
وقال ابن حجر العسقلاني : أخرج أحمد والبيهقي من حديث عثمان : وأنه لما صلّى بمنى أربع ركعات ، أنكر الناس عليه (163) ....
فالمخالفون لعثمان إذن هم « ناس » كثيرون من الصحابة والتابعين يشكلون تيّاراً قويّاً قبال التوجه الجديد للخليفة ، لكن تسلم عثمان لزمام أمور السلطة وشدّته في مواجهة معارضيه ، جعلت بعض مخالفيه من الصحابة الفقهاء يتّخذون موقف الصمت ، أو مسايرة الخليفة في بعض آرائه خوفاً من بطشه ، أو من سراية الخلاف إلى نتائج لا تحمد عقباها على المدى البعيد ومستقبل الرسالة ، ولذا نراهم قد صلّوا مثل صلاته ، على الرغم من علمهم الجازم ببطلان دعوى عثمان وسقوط مستندها ، كلّ ذلك إمّا خوفاً على أنفسهم ، أو توقياً للفتنة ، إذ الخلاف شر (164) ، أو أنّه كان يظن بنفسه ـ بعد أن أجلس في هذا المكان المقدّس ـ يستطيع أن يشرع ما يحلو له فراح يسمّ غير إبله !!
وإن في اعتراضات الصحابة على عثمان إشارة إلى أنّهم كانوا لا يرون للخليفة حقّ الإحداث في الدين وتشريع ما لم يكن سائغاً في شريعة المسلمين وإن كانوا يسايرونه رهبة أو رغبة أو ....
وحتّى أولئك الذين سايروا عثمان في إحداثاته السابقة لا نراهم يوافقونه فيما رواه عن رسول الله في الوضوء بل نر اختصاص تلك الأخبار بنفر يسير لا يتجاوز الأربعة أشخاص ، وعلى رأسهم حمران بن أبان. ولا نريد أن نخوض في المسألة أكثر ممّا قلناه ، لعلمنا بكفايته لمن رأى وبصر ، وعاش فخبر (165).
وثمة عثرات فقهيّة أخرى للخليفة تؤكّد إيماننا بملازمات النتائج التي تمخض عنها بحثنا في الوضوء ، ومن جملتها نصل إلى :
1 ـ إنّ فقه الخليفة غير مستمد من فقه الرسول وكتاب الله ومخالف لما كان عليه الشيخان.
2 ـ ضعف حجج الخليفة ووهنها الظاهر.
3 ـ ثبوت مخالفته لرهط كبير من كبراء أصحاب النبي (ص).
2 ـ العفو عن عبيد الله بن عمر :
إن القصاص وقتل القاتل ـ مثلاً ـ من أهمّ الحدود التي أكّدت عليها الشريعة لإقامة العدل وردع المعتدين ، وقد بيّنه الكتاب صراحة ، وأكّدته السنّة قولاً وعملاً ، ولا خلاف فيه بين اثنين ، ناهيك عن رأي الصحابة في هذا الحكم المسلم الثابت.
قال عمر ـ عندما نقلوا له فعل ابنه عبيد الله ، واستفتوه فيه ـ : انظروا إذاً أنا مت ، فاسألوا عبيد الله البيّنة على الهرمزان ، هو قتلني ؟ فإن أقام البيّنة ، فدمه بدمي ، وإن لم يقم البيّنة ، فأقيدوا عبيد الله من الهرمزان (166).
وكان عثمان يذهب إلى ذات الرأي الفقهي ـ قبل أن تناط به الخلافة ـ فقد روي أنّه : أقبل عثمان ـ وذلك في ثلاثة أيّام الشورى قبل أن يبايع له ـ حتّى أخذ برأس عبيد الله بن عمر ، وأخذ عبيد الله برأسه ، ثمّ حجز بينهما (167).
وروي عن أبي وجزة ، عن أبيه ، قال : رأيت عبيد الله يومئذ وأنّه ليناصي عثمان ، وأنّ عثمان ليقول :
قاتلك الله ، قتلت رجلاً يصلّي ، وصبية صغيرة ـ بنت أبي لؤلؤة ـ ، وآخر في ذمة رسول الله ـ جفينة ـ ؟! ما في الحق تركك (168).
بعد ذلك بدا لعثمان أن يتريث ولا يجمع قتل عمر وابنه معاً ، ولأنه ـ حسب مدعاه الفقهي ـ ولي الدم .. عفا عن عبيد الله ، ولم يقتص منه (169) ! وجعل ديته في بيت المال.
والذي دفعه لاتّخاذ هذا الرأي القصاصي هو عمرو بن العاص ، بحجّة إن الحادث وقع قبل خلافته ، وقد نسب البعض ذلك إلى جمع آخر من المهاجرين ، إلّا أن المعاصرين لعثمان من الصحابة والتابعين لم يروا ذلك إلّا من تدخل عمرو بن العاص (170) وبهذا فقد خالف عثمان في ذلك كلّ من :
عمر بن الخطاب (171).
علي بن أبي طالب (172).
المقداد بن عمرو (173).
زياد بن لبيد البياضي الأنصاري (174).
سعد بن أبي وقاص (175).
والأكابر من أصحاب رسول الله (ص) (176).
والمهاجرون والأنصار (177).
والمهاجرون الأوّلون (178).
والناس (179).
وقد مرّ عليك أن عثمان نفسه كان له رأي مخالف لرأيه الذي ارتآه فيما بعد !
3 ـ ردّه للشهود وتعطيل الحدود :
ولهذا الرأي الفقهي الجديد من قبل الخليفة الثالث ، نظير في الحدود أيضاً ، حيث إنّه قام بتعطيل الحدود ، ورد الشهود الذين شهدوا على الوليد بن عقبة بشرب الخمر ، وقد خالفه في ذلك كلّ من :
علي بن أبي طالب (180).
طلحة (181).
الزبير (182).
عائشة (183).
عبد الله بن مسعود (184).
جندب بن زهير (185).
أبو حبيبة الغفاري (186).
ورهط من أصحاب رسول الله (187).
والناس (188).
كشفت لنا جملة هذه الآراء الفقهيّة في الوضوء ، والصلاة ، والقصاص ، والحدود عن وجود عدد مخالف كبير من الصحابة والتابعين ، وقد عبر عنهم في ألفاظ الرواة والمؤرّخين ، في أحايين كثيرة ، بلفظ « الناس » إشعاراً منهم بضخامة الكم المعارض لفقه عثمان وآرائه الفقهيّة.
وكان أولئك المعارضون يقدمون الأدلّة القاطعة ، ويحتجون على الخليفة بتعطيل الحدود ، ومخالفة نظره ورأيه لما ثبت عن رسول الله وجاء في القرآن.
فالنماذج المقدّمة تشير بوضوح إلى جملة من آراء الخليفة الثالث الفقهيّة ، وإلى الدور الذي لعبه كبار الصحابة في معارضة تلك الآراء ، ويعد بعض كبار الصحابة من المعارضين المطردين معه ، كعلي ، وعبد الله بن عبّاس ، وطلحة ، والزبير ، وعبد الله بن عمر ، وعائشة ، والأخيران قبل خلافة علي !
وكان هؤلاء أكثر من ورد عنهم في تقويم فقه الخليفة ومعارضته .. وإذا ما أصرّ الخليفة في مواقفه تلك ، فهم بين تارك له ناقم ، وبين ساكت عنه غير راض.
فإذن قد وقفت على أن الأخبار لم تنقل لنا إحصاء دقيقاً ، ولا ذكراً مفصّلاً لأسماء من عارض الخليفة من الصحابة الآخرين ، ولكن الروايات والنقولات قد أشارت إليهم بألفاظ مختلفة ، مثل :
الناس.
ناس من أصحاب النبي (ص). ،
رهط من أصحاب النبي (ص).
جمع من الأنصار والمهاجرين ... ، وما شاكلها من عبارات.
ومن خلال تتبعنا الدقيق للمرويّات ، تمكنا من تشخيص بعض أفراد تلك العبارات العامة.
فقد نقل من طريق الزهري : إن ابن شاس الجذامي قتل رجلاً من أنباط الشام ، فرفع إلى عثمان ، فأمر بقتله ، فكلّمه الزبير وناس من أصحاب رسول الله ، فنهوه عن قتله ، قال : فجعل ديته ألف دينار (189).
وهذا النصّ كما ترى لم يذكر من أسماء الناس المخالفين ، إلّا الزبير بن العوام ، أمّا الباقون فقد درجهم جميعاً في عبارة « ناس من أصحاب رسول الله » ، لكن التتبع يدلّنا على أن الراوين لحديث النبي (ص) القائل : « لا يقتل مسلم بكافر » ، أو الذين نقلوا ما يوافقه معنى عن النبي (ص) أو الصحابة ، أو الذين التزموا بذلك هم :
عمر بن الخطاب (190).
علي بن أبي طالب (191).
مالك الأشتر (192).
قيس بن سعد بن عبادة (193).
عائشة (194).
عبد الله بن عباس (195).
عبد الله بن عمرو بن العاص (196).
عبد الله بن عمر بن الخطاب (197).
عمران بن الحصين (198).
فالمظنون أن بعض هؤلاء كانوا ممّن كلّم عثمان ورده عن قتله المسلم بالذمي ، لأن عينة الراوين للحديث هم هؤلاء الصحابة ، وقد كلّم ناس من أصحاب الرسول (ص) عثمان في ذلك ، فلا يعقل أن يكون المكلّمون له ليسوا من رواة هذا الأثر النبوي والمعتقدين به ، إذ لا معنى لتكليمهم وردعهم بلا حجّة يحملونها عن رسول الله (ص).
ولم تقتصر آراء عثمان الفقهيّة على رأيه الثلاثي الغسلي في الوضوء ، ورأيه الإتمامي في الصلاة ، ورأيه التسامحي في القصاص ، ورأيه الإبطالي في الحدود ، ورأيه في قتل المسلم بالذمي ، بل امتدت إلى : خطبة صلاة العيدين أيضاً ! .. فقد قدمها الخليفة الثالث على الركعتين :
4 ـ تقديم الخطبة على الصلاة في العيدين
روى ابن المنذر ، عن عثمان ، بإسناد صحيح إلى الحسن البصري ، قال : أوّل من خطب قبل الصلاة عثمان ، صلّى بالناس ، ثمّ خطبهم ، فرأى ناساً لم يدركوا الصلاة ، ففعل ذلك ، أيّ : صار يخطب قبل الصلاة (199).
هذا ، مع أن الثابت روايته من فعل النبي (ص) هو صلاة الركعتين ثمّ الخطبة.
ومن الذين رووا فعل النبي (ص) ذلك :
علي بن أبي طالب (200).
عبد الله بن عباس (201).
عبد الله بن عمر (202).
أبو سعيد الخدري (203).
جابر بن عبد الله الأنصاري (204).
أنس بن مالك (205).
عبد الله بن السائب (206).
البراء بن عازب (207).
بالإضافة إلى عثمان نفسه ، حيث كان أولا يصلّي ثمّ يخطب ، كما تقدم.
السبئية والوضوء
ربّ قائل يقول : إن المعارضين لعثمان في الوضوء وغيره هم أتباع ابن سبأ اليهودي ومن الذين انخدعوا بدعايته ومذهبه ، فلا يمكن إذن تخطئة الخليفة لمعارضة صحابة من هذا الطراز ؟!
إذ أن قائدهم رجل يهودي جاء من صنعاء اليمن وأظهر الإسلام في عصر عثمان ، واندسّ بين صفوف المسلمين ، وأخذ يتنقل في بلادهم : الشام ، الكوفة ، البصرة ، مصر ، مبشراً بأن للنبي محمّد رجعة كما لعيسى بن مريم ، وأن جبرائيل أخطأ بنزوله على محمّد ، حيث كان مأموراً بالنزول على علي ! والى غيرها الكثير ...
وقد نسبوا إلى عبد الله بن سبأ ـ ذلك الرجل اليهودي ـ آراء كثيرة واعتبروه داعية الإلحاد والشرك ، والناشر للمبادئ اليهوديّة والعقائد الزردشتيّة.
وقد ادّعى الأستاذ أحمد أمين أن أبا ذر قد تأثر بأفكار ابن سبأ التي هي أفكار مزدك المجوسي ، لما فيها من الزهد والتقوى .. وادّعى الآخر بأنّ حرب الجمل كانت من صنع ابن سبأ ، إذ دسّ جماعات منه في صفوف كلّ من علي وعائشة، ففزع الجيشان ظناً منهم بأن الخصم قد دسّ في صفوفه ، فاندلع القتال ... وغيرها الكثير من الحكايات والقصص.
ولا أدري كيف يمكن تصديق هذه الأخبار ، وهي أخبار شواذ انفرد بها الطبري عن سيف ، وعنه أخذ ابن الأثير وابن كثير وابن خلدون وغيرهم (208) ؟
وكيف يمكن ليهودي أسلم في زمان عثمان أن يؤثر إلى هذا المدى على صحابة أجلاء ويخدعهم ، كأبي ذر ، الذي قال فيه رسول الله : « ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر » (209) !
أو كعمار ، الذي قال عنه (ص) : « إنّ عمّاراً ملئ إيماناً من قرنه إلى قدمه » (210).
وهل يصحّ أن نجعل عبد الله بن مسعود ، ذلك الصحابي الذي قال فيه رسول الله ، بعد أن مسح على رأسه : « إنّك غلام معلّم » (211) من الذين تأثروا بابن سبأ ، واعتبار موقفه من عثمان إنه كان بتأثير منه ؟
وما معنى فتوى عائشة : اقتلوا نعثلاً، فقد كفر (212) ؟ فهل كانت عائشة من أتباع ابن سبأ أيضاً ؟!
وإن ارتضينا أن هؤلاء من أتباع ابن سبأ ، فماذا يمكننا أن نقول عن موقف عمرو بن العاص وهو الداهية ، الذي كان يؤلب الناس على عثمان بسبب توليته عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، الذي حكم النبي (ص) بقتله ولو تعلق بأستار الكعبة ! ويقول : والله إن كنت لألقى الراعي فأحرضه عليه (213) ـ أيّ على قتله ـ ؟
وكذا قول عبد الله بن عمر عن عثمان : ما منّا إلّا خاذل له أو قاتل !
هل يعقل أن يكون كلّ هؤلاء من الشيعة والرافضة وأتباع ابن سبأ ؟!!
ولو سلّمنا جدلاً إن هؤلاء من شيعة علي .. فماذا يمكننا أن نفعل برسالة من بالمدينة من أصحاب محمّد إلى من بالأمصار ، وقولهم فيها : أقدموا ! فقد غير من خلفكم ـ أو خليفتكم ـ دين محمّد (214) ؟
أو : إن كنتم تريدون الجهاد فعندنا الجهاد أو كانوا يريدون الجهاد ... (215) ، وغيرها ؟
ولو ثبت ذلك.. نتساءل : هل حقّاً بأن معارضي الخليفة فئة قليلة وهم أتباع ابن سبأ ـ كما يرسمه كثير من المؤرّخين ـ أم أنّهم أصحاب محمّد وقراء الأمّة و ... ؟
وهل أنّهم أحدثوا الشقاق ، أم أن إحداثات الخليفة الدينية والمالية هي التي أوجبت شقّ الصفّ الإسلامي ووحدة المسلمين وأدّت إلى مقتله ؟
وهل تصدق بأن يؤثر شخص يهودي أسلم متأخّراً على كبار أصحاب النبي ويؤلب الناس ضد الخليفة ، مع كونه نازحاً غريباً ولم تسنده عشيرة في الحجاز ؟
وإذا صحّ أن عبد الله بن سبأ هو زعيم الرافضة ، فلماذا لا نرى له حديثاً واحداً في كتبهم وصحاحهم ؟!
وكيف يعقل أن يسكت عثمان عن شخص كابن سبأ وهو يراه يؤلب الناس ضدّه ؟ وقد قرأنا مواقفه ضد الصحابة ونفيه بعضهم إلى الربذة وضربه صحابيّاً آخر حتّى أصابه بالفتق ؟!!
وماذا نفعل بالمجهزين على عثمان ، وفيهم الكثير ممّن شهدوا بدراً ؟
وهل يعقل أن يكون كلّ هؤلاء قد تأثروا بابن سبأ ؟
ولو صحّ ما قيل ، فهل يعقل أن يسكت الإمام علي عن ابن سبأ وهو يراه يروج لأفكار مزدك واليهوديّة ؟
وغيرها الكثير من التساؤلات .. نتركها خوفاً من الإطالة ، ونقتصر على تحليل الدكتور طه حسين في الموضوع .. فإنه قال في كتابه الفتنة الكبرى :
... وهناك قصّة أكبر الرواة المتأخّرون من شأنها ، وأسرفوا فيها
حتّى جعلها كثير من القدماء مصدراً لما كان من الاختلافات على عثمان ، ولما أورث هذا الاختلاف من فرقة بين المسلمين لم تمح آثاره ، وهي قصّة عبد الله بن سبأ الذي يعرف بابن السوداء.
قال الرواة : كان عبد الله بن سبأ يهوديّاً من أهل صنعاء حبشي الأم ، فأسلم في أيّام عثمان ، ثمّ جعل يتنقل في الأمصار يكيد للخليفة ويغري به ويحرض عليه ، ويذيع في الناس آراء محدثة أفسدت عليهم رأيهم في الدين والسياسة جميعاً.
وإلى ابن السوداء يضيف كثير من الناس كلّ ما ظهر من الفساد والاختلاف في البلاد الإسلاميّة أيّام عثمان ، ويذهب بعضهم إلى أنّه أحكم كيده إحكاماً ، فنظم في الأمصار جماعات خفية تستتر بالكيد ، وتتداعى بينها إلى الفتنة ، حتّى إذا تهيّأت لها الأمور وثبت على الخليفة ، فكان ما كان من الخروج والحصار وقتل الإمام.
ويخيل إليّ أن الذين يكبرون من أمر ابن سبأ إلى هذا الحدّ يسرفون على أنفسهم وعلى التاريخ إسرافاً شديداً ، وأوّل ما نلاحظه أنا لا نجد لابن سبأ ذكراً في المصادر المهمّة التي قصّت أمر الخلاف على عثمان ، فلم يذكره ابن سعد حين قصّ ما كان من خلافة عثمان أو انتفاض الناس عليه ، ولم يذكره البلاذري في أنساب الأشراف ، وهو فيما أرى أهمّ المصادر لهذه القصّة وأكثرها تفصيلاً ، وذكره الطبري عن سيف بن عمر ، وعنه أخذ المؤرّخون الذين جاؤوا بعده فيما يظهر.
ولست أدري أكان لابن سبأ خطر أيّام عثمان أم لم يكن ؟ ..
ولكنّي أقطع بأن خطره ـ إن كان له خطر ـ ليس ذا شأن ، وما كان المسلمون في عصر عثمان ليعبث بعقولهم وآرائهم وسلطانهم طارئ من أهل الكتاب أسلم أيّام عثمان !!
ومن أغرب ما يروى من أمر عبد الله بن سبأ هذا أنه هو الذي لقن أبا ذر نقد معاوية فيما يقولون من أن المال هو مال الله ، وعلمه أن الصواب أن يقول : إنّه مال المسلمين ! .. ومن هذا التلقين إلى أن يقال : إنّه هو الذي لقن أبا ذر مذهبه كلّه في نقد الأمراء والأغنياء ....
فالذين يزعمون أن ابن سبأ قد اتّصل بأبي ذر فألقى إليه بعض مقاله .. يظلمون أنفسهم ، ويظلمون أبا ذر ، ويرقون بابن السوداء هذا إلى مكانة ما كان يطمع في أن يرقى إليها.
والرواة يقولون : إن أبا ذر قال ذات يوم لعثمان بعد رجوعه من الشام إلى المدينة : لا ينبغي لمن أدّى زكاة ماله أن يكتفي بذلك حتّى يعطي السائل ، ويطعم الجائع ، وينفق في سبيل الله.
وكان كعب الأحبار حاضراً هذا الحديث ، فقال : من أدّىالفريضة فحسبه .. فغضب أبو ذر وقال لكعب : يا ابن اليهوديّة ! ما أنت وهذا ! أتعلمنا ديننا ؟! .. ثمّ وجأه بمحجنه.
فأبو ذر ينكر على كعب الأحبار أن يعلمه دينه ، بل أن يدخل في أمور المسلمين حتّى بإبداء الرأي ، مع أن كعب الأحبار مسلم أقرب عهداً بالإسلام من ابن سبأ وكان مجاوراً في المدينة.
وأكبر الظنّ أن عبد الله هذا إن كان كلّ ما يروى عنه صحيحاً ، إنما قال ما قال ودعا إليه بعد أن كانت الفتنة ، وعظم الخلاف ، فهو قد استغلّ الفتنة ولم يثرها ، وأكبر الظنّ كذلك إن خصوم الشيعة أيّام الأمويين والعباسيين قد بالغوا في أمر عبد الله بن سبأ هذا ليشككوا في بعض ما نسب من الإحداث إلى عثمان وولاته من ناحية ، وليشنعوا على علي وشيعته من ناحية أخرى ، فيردّوا بعض أمور الشيعة إلى يهودي أسلم كيداً للمسلمين.
إلى أن يقول :
... هذه كلّها أمور لا تستقيم للعقل ، ولا تثبت للنقد ، ولا ينبغي
أن تقام عليها أمور التاريخ ...
ثمّ يأخذ الدكتور في بيان أسباب الثورة على عثمان.
وقال الأستاذ كرد علي في خطط الشام ، في معرض تفسيره للفظ الشيعة :
عرف جماعة من كبار الصحابة بموالاة علي ـ إلى أن يقول ـ أمّا ما ذهب إليه بعض الكتاب من أن أصل مذهب التشيّع من بدعة عبد الله بن سبأ فهو وهم وقلّة علم بحقيقة مذهبهم ، ومن علم منزلة هذا الرجل عند الشيعة وبراءتهم منه ومن أقواله وأعماله ، وكلام علمائهم في الطعن فيه بلا خلاف بينهم في ذلك ، علم مبلغ هذا القول من الصواب (216).
وبعد هذا .. نقول : إن القرائن السابقة وغيرها تدلّل على أن قضيّة ابن سبأ كانت قضيّة سياسيّة أملتها السياسات الأمويّة والعباسيّة ، وخصوصاً الأمويّة منها ، إذ أنهم كانوا يدعون إلى فقه عثمان وقد تبنوا منهجيّته وقضيّته ، وإسكاتاً للتساؤلات والأقوال التي قد يواجهونها سعوا إلى تغيير بعض المفاهيم ، محاولين تأصيل أخرى مكانها ! ومن تلك المحاولات :
1 ـ القول بأن الثورة على عثمان إنما جاءت بسبب تأثيرات حزبيّة يهوديّة ، تزعمها رجل يهودي جاء من صنعاء ، وأنّه قد أثّر في الصحابة وأوجب النقمة على عثمان ، وبذلك أرادوا أن يبعدوا الصبغة الجماهيريّة للثورة على عثمان عن أذهان الناس ، والإيحاء بأنّها بادرة حزبيّة سياسيّة !
2 ـ محاولة حصر مخالفي عثمان في علي وأتباعه ، لتقوية الرؤية المطروحة في كون الحركة ضدّ عثمان كانت سياسيّة بحتة ، وفي نفس الوقت لانتقاص علي وتبرير حملاتهم ضده.
3 ـ بذر فكرة عبد الله بن سبأ لتكون نواة للخلاف الدائمي بين المسلمين وإمكان استغلالها من قبل الحكّام بين الآونة والأخرى عند حاجتهم إليها في تغيير الأجواء والظروف العامة للمسلمين.
4 ـ القول بأن عليّاً وأصحابه هم الذين أحدثوا الشقاق في الصف الإسلامي ، وخصوصاً في يوم الدار ، لكن الباحث المنصف يعرف بأن اجتهادات عثمان هي التي أشعلت الخلاف بين المسلمين ، وأن الضرب بالنعال بدأ في عهده ، ثمّ تطوّر حتّى صار بالسيوف في عهد علي ، واليوم نرى صراع العصبية بالطائرات
والصواريخ.
وبعد هذا فقد عرفت بأن المخالفين لعثمان كانوا من الصحابة ولم يكونوا من الذين قد تأثروا بابن سبأ كما يذهب إليه غالب الكتاب ، وستقف على أسمائهم لاحقاً.
أمّا الآن ، فنعود إلى النصوص السابقة ، لنستشف منها واقع حال الثورة ..
فهل كان حقّاً ذا بعد حزبي ضيق ، أم جماهيري امتاز بالجذريّة والشمول .. :
فقد قال له علي : عطلت الحدود ، وضربت قوماً شهدوا على أخيك ، فقلبت الحكم.
ونادت عائشة : إن عثمان أبطل الحدود ، وتوعد الشهود (217).
وقالت له ـ وقد رفعت نعل رسول الله (ص) ـ : تركت سنّة رسول الله (ص) صاحب هذا النعل (218).
وقال يزيد بن قيس الأرحبي ، ومعقل بن قيس الرياحي : لقد أراد عثمان كرامة أخيه بهوان أمّة محمّد (ص).
ودخل رهط من أصحاب رسول الله (ص) على عثمان ، فقالوا له : اتّق الله ! لا تعطل الحد.
وقال الناس : عطلت الحدود ، وضربت الشهود.
وأن طلحة والزبير أنبأ عثمان ، فقالا له : قد نهيناك عن تولية الوليد شيئاً من أمور المسلمين فأبيت ، وقد شهد عليه بشرب الخمر والسكر ، فاعزله (219).
بعد نقلنا بعض آراء الخليفة الثالث عثمان بن عفان ، وأسماء مخالفيه من الصحابة البارزين ، وكشفنا عن آراء الخليفة الفقهيّة التي عاكست فقه سائر الصحابة ، اتّضح لنا أن المراد من لفظ « الناس » في روايات الوضوء هم بعض أولئك الصحابة العظام وأمثالهم ، وأنّ عثمان هو مؤسّس المدرسة الوضوئيّة الجديدة ، وأن ابن سبأ ليس له دور مشهود في قتله ـ كما يرسمه الكتاب ـ.
نعم ، بعد كلّ ما تقدّم .. يرتفع الاستبعاد والاستغراب في نسبتنا لعثمان الابتداع في الوضوء وغيره ويمكننا أن نقول قولاً قاطعاً : إنّ فقه الخليفة الثالث لم يكن يتمشى مع فقه الصحابة ، وأنّه قد أخطأ في الفهم ، والاستنباط ، ورد الفروع إلى الأصول ، وأنّ علله المستنبطة ، ووجوهه الاستحسانيّة لم تلق التأييد والاعتناق ، إلّا من نفر قليل دفعتهم إلى ذلك دوافع مختلفة ، فقهيّة وسياسيّة ، واجتماعيّة ، وعشائريّة وغيرها ممّا سوف تقف على المزيد منه لو واصلت معنا البحث حتّى أواخر الكتاب.
فلا بدع أن خالفه كبار الصحابة في وضوئه ، ممّا اضطره لأن يدعم وضوءه بأساليبه الآنفة الذكر ..
لكن بعض الصحابة المقرّبين من عثمان قد حاولوا التكيف مع مستجداته محاولين بثّ ذلك بين أوساط المسلمين ، وبمرور الأيّام تطبع بعض المسلمين على تلك المنهجيّة الجديدة ، وما أن وصلت الأيّام لمعاوية بن أبي سفيان وأنصاره ، ـ وقد قاموا بدور لتوسيع دائرة الفقه العثماني ـ حتّى صارت أفكار ونظرات الخليفة الثالث مدرسة فقهيّة ضخمة ، أرسى قواعدها عثمان ، وأقام بناءها ـ فيما بعد ـ الأمويّون ، ونظرها دعاتهم ، وسار على نهجها ما لا يحصى من المسلمين.
ترشح ممّا سبق بروز أسماء لامعة من الصحابة المعارضين لرأي عثمان قد تكون مطردة المخالفة معه ، عاملة بدأب وإخلاص من أجل إيصال الفقه الذي استقته من رسول الله (ص) إلى جميع الناس ، رافضة لكلّ ما يأتي من الخليفة الثالث ومن سار على نهجه ـ من استنتاجات فقهيّة جديدة ـ .. وإن على رأس تلك
المجموعة :
علي بن أبي طالب.
عبد الله بن عباس.
طلحة بن عبيد الله.
الزبير بن العوام.
سعد بن أبي وقاص.
عبد الله بن عمر.
عائشة بنت أبي بكر.
ومن هؤلاء خرج الذين أفتوا بقتل عثمان ، وجوّزوه ، ومنهم من كان لا يصلّي خلفه ، ولا يسمّيه بأمير المؤمنين ، وقد أوصى البعض ـ كعبد الرحمن بن عوف ، وابن مسعود ، و ... ـ أن لا يصلّي عليه عثمان بعد وفاته ، وأن الجموع الهاجمة عليه قد منعت من دفنه ـ والصلاة عليه ـ في البقيع ...
قد صار كلّ ذلك بسبب إحداثات عثمان المتكرّرة في الدين ، فدراسة مجريات الأحداث بتأمّل وموضوعية وتجرّد عن العصبيّة ، تجعلنا نستبعد أن يكون أولئك الصحابة وبتلك الممارسات والمواقف إنّما ثاروا على عثمان بسبب تدهور الأوضاع الاقتصاديّة ، أو بسبب سوء النظام الإداري ـ كما يدعي ذلك غالب الكتاب ـ .. فالسبب كان دينيّاً ، ونستمد هذا التوجيه من نصوصهم التي اطلعنا على بعضها ، وها نحن نعيد الجمل تارة أخرى لايضاح المطلب بشكل أدق :
قال هاشم المرقال : إنما قتله أصحاب محمّد ، وقراء الناس ، حيث أحدث أحداثاً ، وخالف حكم الكتاب ، وأصحاب محمّد هم أصحاب الدين ، وأولى بالنظر في أمور المسلمين (220).
وقول عمّار لعمرو بن العاص ، عندما سأله : لم قتلتموه ؟
قال : أراد أن يغيّر ديننا (221).
أو قوله : إنّما قتله .. الصالحون ، المنكرون للعدوان ، الآمرون بالإحسان (222).
أو قول الزبير بن العوام : اقتلوه ، فقد بدّل دينكم (223).
أو قول عائشة : اقتلوا نعثلاً فقد كفر.
روايات مفتعلة :
وضع أنصار مدرسة عثمان أحاديثاً على لسان مخالفي الخليفة المطردين !
ليمكنهم بذلك الاستنصار لوضوئه ، ومن تلك الأحاديث ما رواه أبو النضر ، حيث قال :
إن عثمان دعا بوضوء ، وعنده طلحة والزبير وعلي وسعد ، ثمّ توضّأ وهم ينظرون .. فغسل وجهه ثلاث مرّات ، ثمّ أفرغ على يمينه ثلاث مرّات ، ثم أفرغ على يساره ثلاث مرّات ، ثم رش على رجله اليمنى ، ثمّ غسلها ثلاث مرّات ، ثم رش على رجله اليسرى ، ثمّ غسلها ثلاث مرّات ، ثمّ قال للذين حضروا :
أنشدكم الله، أتعلمون أن رسول الله (ص) كان يتوضّأ كما توضّأت الآن ؟ قالوا : نعم.
وذلك لشيء بلغه عن وضوء رجال (224).
وهذه الرواية .. زيادة على سقوطها سنداً ، بانقطاعها بأبي النضر ، كما قال البوصيري (225) فإنّها ساقطة المتن ، لأنّ الوضوء المنقول فيها خال عن مسح الرأس ، وهو وضوء غير مجز باتّفاق المسلمين ، فكيف يشهد على ذلك أربعة من أكابر الصحابة ، فالمرجح قويّاً ـ بعد احتمال سقوط المتن ـ أن يكون الخبر اعلاميّاً وسياسيّاً إذ نرى الراوي يؤكّد على الفعل الثلاثي وغسل الأرجل ويتناسى حكم الرأس ، لأنّ النزاع بين هؤلاء الأربعة وعثمان كان فيهما.
وكذا توحي العبارة بأن طلحة والزبير وعليّاً وسعداً هم المعنيّون بجملة « وذلك لشيء بلغه عن وضوء رجال » !
وعليه فنسبة هذا الخبر إلى هؤلاء الصحابة جاء للتقليل من أهميّة القضيّة ، لأنّهم ـ وكما عرفت ـ من المخالفين المطردين لفقه عثمان ، ومن جملة « الناس » المخالفين للخليفة الثالث في وضوئه ..
ومن ذلك ما أخرجه النسائي بسنده عن شيبة : إنّ محمّد بن علي « الباقر » أخبره ، قال : أخبرني أبي علي « زين العابدين » أن الحسين بن علي قال : دعاني أبي علي بوضوء فقربته له ، فبدأ فغسل كفّيه ثلاث مرّات قبل أن يدخلهما في وضوئه ، ثمّ مضمض ثلاثاً واستنشق ثلاثاً ، ثمّ غسل وجهه ثلاث مرّات ، ثمّ غسل يده اليمنى إلى المرافق ثلاثاً ، ثمّ اليسرى كذلك ، ثمّ مسح برأسه مسحة واحدة ، ثمّ غسل رجله اليمنى إلى الكعبين ثلاثاً ، ثمّ اليسرى كذلك ، ثمّ قام قائماً فقال : ناولني ، فناولته الإناء الذي فيه فضل وضوئه فشرب من فضل وضوئه قائماً ، فعجبت ، فلمّا رآني ، قال: لا تعجب فإنّي رأيت أباك النبي (ص) يصنع مثل ما رأيتني صنعت يقول لوضوئه هذا وشرب فضل وضوئه قائماً (226).
إنّ علامات الوضع بارزة على هذا الخبر ، ولا أكلّف نفسي مؤنة الجواب عنه ، لأنّ الصفحات القادمة ستثبت أنّ وضوء علي بن الحسين ومحمّد بن علي وجعفر بن محمّد وابن عبّاس وغيرهم من أولاد علي هو غير المنقول هنا.
ولا أدري ما معنى قوله : « فعجبت ، فلمّا رآني قال : لا تعجب ، فإنّي ... » ؟
وهل أن الحسين بن علي كان يعتقد أن شارب فضل ماء الوضوء واقفاً مبدع ، كما ترى تعجّبه ؟!!
أم أنّه كان من أولئك المحدّثين في الدين ، والذين ستقف على حالهم في عهد علي بن أبي طالب ؟
أم أنّه تعجّب من وضوء أبيه والذي كان غير معهود له ولا هو بالمتعارف في ذلك البيت ؟!!
نعم ، إنّ ظاهرة الافتعال والتزوير قد تفشت ولقيت رواجاً في العهد الأموي ، وستقف على ذلك بمزيد من التفصيل لاحقاً.
والأنكى من هذا ، ذلك الخبر المفتعل الذي ينصّ على ذهاب علي إلى ابن عباس من أجل أن يعلم ابن عبّاس وضوء رسول الله !!
فقد أخرج أبو داود ، وصاحب كنز العمال ، وغيرهما .. عن ابن عبّاس ، إنّه قال : دخل علي علي ـ يعني ابن أبي طالب ـ وقد أهراق الماء ، فدعا بوضوء ..
فأتيناه بتور فيه ماء ، حتّى وضعناه بين يديه ، فقال : يا ابن عبّاس ! ألا أريك كيف كان يتوضّأ رسول الله (ص) ؟
قلت : بلى .. ، فأصغى الإناء على يده فغسلها ... ـ الخبر ـ (227) ، فأتى بوضوء عثمان عن النبي (ص) !
والآن ، نتساءل : هل يصحّ هذا الخبر مع ما عرفنا من موقف علي باعتباره الرائد والمعيد لمدرسة الوضوء الثنائي المسحي كيانها ؟
وهل كان ابن عبّاس ـ حقّاً ـ بحاجة إلى معرفة الوضوء .. وهو حبر الأمّة ؟!
بل ، كيف نوفق بين هذا الخبر مع ما نقل عن ابن عبّاس في اعتراضه على الربيع بنت معوذ ، بقوله : أبى الناس إلّا الغسل ، ولا أجد في كتاب الله إلّا المسح ، وقوله : الوضوء مسحتان وغسلتان ، و ... ؟! (228)
وعليه .. فإنّنا نرجح أن يكون « الناس » الذين يتحدّثون عن رسول الله (ص) في حديث الوضوء ، هم من المخالفين المطردين ..
ونستند في ترجيحنا على ما يلي :
1 ـ مخالفتهم لعثمان في أغلب اجتهاداته ـ كما مرّ عليك ـ.
2 ـ عدم ورود أسمائهم في قائمة الراوين للوضوء الثلاثي الغسلي الذي وضع عثمان لبنة تأسيسه.
3 ـ ورود أسماء بعضهم في قائمة الراوين للوضوء الثنائي المسحي (229).
فالقرائن المدرجة أعلاه توصلنا إلى أن « الناس » هم المعارضون المطردون لعثمان.
تلخص ممّا سبق :
ـ وحدة الوضوء في زمن النبي (ص) والشيخين.
ـ ظهور الخلاف في زمن عثمان بن عفان.
ـ اختلاف عثمان مع « ناس » هم من أعاظم الصحابة.
ـ البادئ بالخلاف : عثمان.
ـ عدم ارتضاء الصحابة لرأي عثمان.
ـ مخالفة عثمان بن عفان لسنّة رسول الله (ص) وسيرة الشيخين.
ـ المخالفون لعثمان ليسوا من أتباع ابن سبأ بل هم من كبار الصحابة وقد قتلوه لأجل إحداثاته الدينيّة.
الهوامش
1. صحيح البخاري 1 : 52 ، صحيح مسلم 1 : 204 / 52.
2. كنز العمال 9 : 443 / 26890.
3. صحيح مسلم 1 : 207 / 8 ، كنز العمال 9 : 423 / 26797.
4. أنظر الصفحة 84 من هذا الكتاب.
5. في الصفحات 66 ـ 58 من هذا الكتاب.
6. ستقف على أسمائهم في الصفحات 115 إلى 140.
7. سيمرّ بك من الآن فصاعداً مصطلحان :
الأوّل : الوضوء الثلاثي الغسلي = وضوء الخليفة عثمان.
الثاني: الوضوء الثنائي المسحي = وضوء الناس المخالفين لعثمان.
وإنّا قد انتزعنا هذين المصطلحين من إشهاد الخليفة للصحابة عليهما ، وستقف على تفاصيله في آخر الباب الأوّل من هذا المدخل.
8. المصنف 1 : 18 / 4.
9. كنز العمال 9 : 432 / 26837.
10. منها ما جاء في الصفحة 137 من هذا الكتاب.
11. سنن الترمذي 1 : 34 ذيل حديث 48.
12. تحفة الأحوذي لشرح الترمذي 1 : 136.
13. ولنا وقفة أخرى في الفصل الأول « الوضوء والسنة النبوية » .. نتعرض لكلّ تلك المرويّات سنداً ودلالة ونسبة.
14. تشير العلامة « / » إلى معنى : لا يوجد.
15. ندرسها في الفصل الأول من هذه الدراسة « الوضوء والسنّة النبويّة » إن شاء الله تعالى.
16. سنبحث عنها في الفصل الأوّل أيضاً.
17. التسلسل المذكور ، عن كتاب : أسماء الصحابة الرواة وما لكلّ واحد منهم من العدد ، لابن حزم الأندلسي ، أمّا مرويّاتهم في الوضوء البياني فتابع لجردنا.
18. سنفصل ذلك في الفصل الأوّل من هذه الدراسة.
19. سنذكر حديثه في مبلغ حلية المؤمن وكيفيّة وضوئه في الفصل الثاني من هذه الدراسة « الوضوء في الكتاب ».
20. بحثنا هذه الأمور في الصفحات 143 إلى 165 من هذا الكتاب.
21. تاريخ الطبري 4 : 240 ، الكامل في التاريخ 3 : 76.
22. تاريخ الطبري 4 : 251 ، الكامل في التاريخ 3 : 87 ، المنتظم 4 : 360.
23. تاريخ الطبري 4 : 318 ، الكامل في التاريخ 3 : 137 ، البداية والنهاية 7 : 173.
24. أنساب الأشراف 5 : 48 ـ 49 ، شرح النهج لابن أبي الحديد 3 : 47 و 49 و 50.
25. أنساب الأشراف 5 : 55.
26. انظر : تاريخ الطبري 4 : 284 ، الكامل في التاريخ 3 : 115 ، وشرح النهج لابن أبي الحديد 3 : 54.
27. تاريخ الطبري 4 : 398 ، الكامل في التاريخ 3 : 181 ، البداية والنهاية 7 : 224 ، المنتظم 4 : 338.
28. تاريخ الطبري 4 : 400 ، الكامل في التاريخ 3 : 182.
29. ّوبهذا نعرف أن الخليفة لم يستنصر المسلمين استنصاراً عاماً ـ كما هو المتوقع ـ بل استنصر أفراداً واختص بهم ، شأن من يبذر فكرة جديدة ويريد الاستنصار له ، فالاشهاد هنا يختلف عن الاشهاد في الملأ العام ، وأن الاستنصار الجزئي يختلف عن الاستنصار العام الشامل !!
30. كنز العمال 9 : 441 / 26883 ، عن الدارقطني 1 : 85 / 9.
31. سنن البيهقي 1 : 62 ـ 63.
32. جاء في هامش صحيح مسلم 1 : 270 المقاعد : قيل هي دكاكين عثمان. وقيل : درج وقيل : موضع بقرب المسجد اتّخذه للقعود فيه لقضاء حوائج الناس والوضوء ونحو ذلك.
33. سنن الدارقطني 1 : 91 / 4.
34. سنن الدارقطني 1 : 93 / 8.
35. منها ما في سنن الدارقطني 1 : 85 / 10 ، وسنن البيهقي 1 : 62.
36. كنز العمال 9 : 441 / 26883 ، سنن الدارقطني 1 : 85 / 9.
37. كنز العمال 9 : 424 / 26800.
38. كنز العمال : 9 : 424 / 26802.
39. انظر كنز العمال 9 : 442 / 26885 ، 26887.
40. كنز العمال 9 / 436 / 26863.
41. كنز العمال 9 : 439 / 26872 « كر ».
42. كنز العمال 9 : 442 / 26886 « حم والبزاز حل ع وصحح ».
43. نهج البلاغة 2 : 84 خ 159 ، البداية والنهاية 175 : 7 ، أنساب الأشراف 5 : 60 ، الكامل في التاريخ 3 : 151 ، المنتظم : 5 : 45.
44. تاريخ الطبري 4 : 336.
45. انظر الصفحة 92 من هذا الكتاب.
46. وهو سوق بالمدينة تصدّق بها رسول الله.
47. أنساب الأشراف 5 : 30 ، شرح ابن أبي الحديد 3 : 17.
48. أنساب الأشراف 5 : 32.
49. شرح نهج البلاغة ، لابن أبي الحديد 1 : 199 ـ 200.
50. تاريخ الطبري 4 : 405.
51. مروج الذهب 2 : 333.
52. الفتنة الكبرى 1 : 147.
53. تاريخ المدينة 3 : 1019 ـ 1023.
54. تاريخ الطبري 4 : 365.
55. انظر : معالم المدرستين ، للسيّد العسكري نقله عن طبعة أوربا.
56. الكامل في التاريخ 3 : 167.
57. تاريخ الطبري 4 : 283.
58. الكامل لابن الأثير 3 : 113 ـ 114.
59. الطبقات الكبرى 3 : 64 وعنه في الصواعق المحرقة : ص 115 ـ 116 ..
60. جاء في أنساب الأشراف 5 : 32 إن عتاب بن علاق قال له ذلك وليس ابن مسعود.
61. انظر : أنساب الأشراف 5 : 34.
62. وفي الطبري 4 : 276 بأن عثمان أمر سعيد بن العاص فجلده ، وفي صحيح مسلم 3 : 1131 / 38 إن عثمان وافق على إقامة الحد وأوعز إلى علي ليجلده ، ونحوه في الإمامة والسياسة 1 : 37.
63. أنساب الأشراف 5 : 33 ، وفي ص 35 ، والإمامة والسياسة 1 : 37 « قالها علي لعبد الله بن جعفر ».
64. الأنساب ، للبلاذري 5 : 40 ، تاريخ الطبري 4 : 322 ـ 323 ، شرح نهج البلاغة ، لابن أبي الحديد 3 : 21 ، الكامل في التاريخ 3 : 137 ـ 141.
65. الأنساب ، للبلاذري 5 : 25 ، 28 ، شرح النهج ، لابن أبي الحديد 3 : 35.
66. المنتظم 5 : 7 ـ 8 ، الأنساب للبلاذري 5 : 39.
67. المصنف ، لابن أبي شيبة 2 : 48 / 3.
68. المصنف ، لابن أبي شيبة 2 : 48 / 4.
69. المصنف ، لابن أبي شيبة 2 : 48 / 6.
70. تاريخ اليعقوبي 2 : 162 ـ 163.
71. أنساب الأشراف 5 : 39 ، تاريخ الطبري 4 : 268.
72. أنساب الأشراف 5 : 39.
73. تاريخ الطبري 4 : 267.
74. المعارف : 112.
75. انظر أنساب الأشراف 5 : 25 ، الإمامة والسياسة 1 : 35.
76. الأنساب 5 : 28.
77. أنساب الأشراف 5 : 29.
78. انظر: الفتوح ، لابن أعثم 1 : 35 ، وبحار الأنوار ـ قسم الملاحم والفتن.
79. المصدر السابق ، وفي الإمامة والسياسة 1 : 40 إن طلحة أجاب عثمان فيما أشهده : لأنك بدّلت وغيّرت.
80. شرح نهج البلاغة ، لابن أبي الحديد 9 : 36.
81. أنساب الأشراف 5 : 36.
82. أنساب الأشراف 5 : 36 ، شرح نهج البلاغة ، لابن أبي الحديد 3 : 42 ، حلية الأولياء 1 : 138 بتفاوت يسير.
83. كتاب صفين : 319.
84. كتاب صفين : 338 ، شرح نهج البلاغة ، لابن أبي الحديد 8 : 22.
85. أنساب الأشراف 5 : 89.
86. الإمامة والسياسة 1 : 48.
87. تاريخ الطبري 5 :43 عن كتاب صفين.
88. أنساب الأشراف 5 : 46 ، الفتوح ، لابن أعثم 1 : 40.
89. أنساب الأشراف 5 : 45 ، الإمامة والسياسة 1 : 38.
90. أنساب الأشراف 5 : 48 ، شرح ابن أبي الحديد 3 : 49 ، الفتوح ، لابن أعثم 1 : 64.
91. أنساب الأشراف 5 : 48.
92. المختصر في أخبار البشر 1 : 172.
93. شرح ابن أبي الحديد 3 : 9.
94. بقولها : اقتلوا نعثلا فقد كفر ، الفتوح ، لابن أعثم 1 : 64.
95. طبقات ابن سعد 3 : 73 ، البداية والنهاية 7 : 193 ، الكامل 3 : 178 ، أنساب الأشراف 5 : 82 ، 92 و 98 ، شرح النهج 2 : 157 ، الإمامة والسياسة 1 : 44 قريب منه.
96. أنساب الأشراف 5 : 42.
97. أنساب الأشراف 5 : 53 ، شرح النهج 3 : 55.
98. شرح النهج ، لابن أبي الحديد 1 : 196.
99. تاريخ الطبري 4 : 230.
100. أنساب الأشراف 5 : 57 ، الفتوح ، لابن الأعثم 1 : 6.
101. الأنعام : 151.
102. المائدة : 32.
103. النساء : 93.
104. أنساب الأشراف 5 : 83 ، المنتظم 5 : 58 ، شرح النهج ، لابن أبي الحديد 2 : 158 و 3 : 64 وكذا في الطبري والكامل والفتوح ، وقد رواه عن الواقدي ، وفيه : وروي إن أهل المدينة منعوا الصلاة عليه حتّى حمل بين المغرب والعتمة ، ولم يشهد جنازته غير مروان وثلاثة من مواليه ، ولما أحسوا بذلك رموه بالحجارة وذكروه بأسوأ الذكر.
105. تاريخ الطبري 4 : 339.
106. تاريخ الطبري 4 : 267.
107. تاريخ الطبري 4 : 273.
108. تاريخ الطبري 4 : 274.
109. تاريخ الطبري 4 : 245.
110. تاريخ الطبري 4 : 274.
111. تاريخ الطبري 4 : 251.
112. راجع : المجلّد الخامس من أنساب الأشراف ، للبلاذري.
113. تاريخ الطبري 4 : 268.
114. فتح الباري 2 : 261.
115. سيتأكد هذا في الباب الثاني من المدخل والفصل الثاني من هذه الدراسة.
116. حلية الأولياء 1 : 57.
117. سنن الدارمي 1 : 176 ، سنن البيهقي 1 : 53 و 56 و 58.
118. صحيح البخاري 1 : 51.
119. في صحيح البخاري 1 : 51 بدل مثل « نحو ».
120. في صحيح البخاري 1 : 51 بدل مثل « نحو » أيضا.
121. سنن أبي داود 1 : 106 ، سنن البيهقي 1 : 48 ، سنن النسائي 1 : 64.
122. سنن النسائي 1 : 65 ، سنن البيهقي 1 : 48.
123. سنن البيهقي 1 : 47.
124. صحيح مسلم 1 : 205 ، سنن البيهقي 1 : 68.
125. سنن الدارقطني 1 : 83 / 14 ، صحيح مسلم 1 : 205.
126. صحيح مسلم 1 : 207.
127. سنن البيهقي 1 : 79 ، سنن أبي داود 1 : 33 / 135.
128. سنن ابن ماجة 1 : 146 / 422.
129. الفتوح ، لابن أعثم 1 : 11 ، شرح نهج البلاغة ، لابن أبي الحديد 3 : 57.
130. الكامل في التاريخ 3 : 104 ، البداية والنهاية 7 : 228.
131. سنن البيهقي 3 : 144 ، البداية والنهاية 7 : 228.
132. نفس المصدر السابق.
133. الطبقات 4 : 227 ، أنساب الأشراف 5 : 56.
134. وقد جاء في أنساب الأشراف 5 : 57 وشرح النهج لابن أبي الحديد 3 : 28 بأن عبد الرحمن أوصى بأن لا يصلّي عليه عثمان ، فصلّى عليه الزبير أو سعد بن أبي وقاص ، وقد كان حلف لما تتابعت أحداث عثمان ألا يكلّمه أبدا.
وقد أوصى ابن مسعود مثل ذلك ، انظر : شرح النهج لابن أبي الحديد 3 : 42.
135. تاريخ المدينة المنوّرة 3 : 1052.
136. أنساب الأشراف 5 : 36.
137. أنساب الأشراف 5 : 90.
138. شرح النهج لابن أبي الحديد 3 : 27 ـ 28.
139. شرح النهج لابن أبي الحديد 3 : 28 ، أنساب الأشراف 5 : 57.
140. شرح النهج لابن أبي الحديد 3 : 8.
141. تاريخ الطبري 4 : 367 ، الكامل في التاريخ 3 : 168.
142. انظر : شرح النهج لابن أبي الحديد 3 : 51.
143. نهج البلاغة 1 : 71 / 29.
144. تاريخ المدينة المنوّرة 4 : 1263 ـ 1265.
145. تاريخ المدينة المنورة 4 : 1259 ، 1268.
146. انظر: أنساب الأشراف 5 : 63 ـ 64 وغيره من كتب التاريخ.
147. شرح النهج ، لابن أبي الحديد 3 : 66.
148. انظر : شرح النهج لابن أبي الحديد 3 : 15 وغيرها من كتب التاريخ.
149. كنا قد درسنا المسألة ، بصورة تفصيليّة واستقرائيّة ، لكنّنا تركنا عرضها هنا تجنباً الإطالة.
150. مرّ عليك في ص 79.
151. انظر زاد المعاد 1 : 130 صلاته « ص » في السفر ، وقد قال ابن حجر : وأما فعل عثمان وعائشة فإنّهما تأوّلا تأويلاً خالفهما فيه غيرهما من الصحابة.
152. كنز العمال 8 : 238 / 22720.
153. الموطأ 1 : 402 / 201.
154. سنن البيهقي 3 : 144.
155. انظر : كنز العمال 8 : 238 / 22720.
156. انظر : المحلى ، لابن حزم 4 : 270 ، صحيح مسلم 1 : 482 / 17.
157. انظر : سنن البيهقي 3 : 155 ، أحكام القرآن ، للجصاص 2 : 254.
158. انظر : البخاري 2 : 53 ، مسلم 1 : 481 / 15 ، مسند أحمد 3 : 190 ، سنن البيهقي 3 : 136 و 145 ، ومجمع الزوائد 2 : 155.
159. انظر : مسند أحمد 3 : 159 ، مجمع الزوائد 2 : 155.
160. انظر : الموطأ 1 : 402 / 201.
161. مجمع الزوائد 2 : 154.
162. تاريخ الطبري 4 : 267 سنة 29 ، المنتظم 5 : 5.
163. فتح الباري 2 : 456.
164. نظر: سنن البيهقي 3 : 144 ، الكامل في التاريخ 3 : 104 ، تاريخ الطبري 4 : 268.
165. سنفصل ذلك بالشواهد في الفصول اللاحقة إن شاء الله.
166. سنن البيهقي 8 : 61 ـ 62.
167. طبقات ابن سعد 5 : 15 ، أنساب الأشراف 5 : 24.
168. سنن البيهقي 8 : 61 ، طبقات ابن سعد 5 : 16 ، تاريخ الطبري 4 : 239.
169. السنن الكبرى 8 : 61 ـ 62 ، طبقات ابن سعد 5 : 15 ـ 17 ، الطبري 4 : 239.
170. تاريخ الطبري 4 : 239 ، في طبقات ابن سعد ( 5 : 16 ) : وفيه قول والد أبي وجزة : فعجبت لعثمان حين ولي كيف تركه ، ولكن عرفت أن عمرو بن العاص كان دخل في ذلك فلفته عن وذهب إلى ذلك المطلب بن عبد الله ، وذهب إليه الزهري أيضاً ، كما في الطبقات 5 : 16 ـ 17.
وذكر الطبري : إن عمرو بن العاص هو الذي حثه على العفو 4 : 239 ، وانظر الرياض ، لمحب الدين الطبري 3 : 87 ، الإصابة ، لابن حجر 3 : 619.
وذهب إلى ذلك سعيد بن المسيب ، وعبد الرحمن بن أبي بكر ، كما في أدب القضاء ، للكرابيسي ، والطبري 4 : 240 ، وابن حجر في الإصابة 3 : 619.
171. سنن البيهقي 8 : 61 ، شرح النهج لابن أبي الحديد 3 : 60.
172. أنساب الأشراف 5 : 24 ، طبقات ابن سعد 5 : 17 ، الطبري 4 : 239 ، الكامل في التاريخ 3 : 75 ، وفي الأنساب : فقال علي : أقد الفاسق ، فإنه أتى عظيماً ، قتل مسلماً بلا ذنب.
173. تاريخ اليعقوبي 2 : 163 ـ 164 ، وفيه : إن المقداد قال لعثمان : إن الهرمزان مولى لله ولرسوله ، لك أن تهب ما كان لله ولرسوله ، قال : فننظر ، وتنظرون.
174. تاريخ الطبري 4 : 239 ، الكامل في التاريخ 3 : 75.
175. طبقات ابن سعد 5 : 16 ، تاريخ الطبري 4 : 239.
176. طبقات ابن سعد 5 : 16 ـ 17 ، عن المطلب بن عبد الله بن حنطب.
177. طبقات ابن سعد 5 : 17 ، عن الزهري ، وفيه : فأجمع رأي المهاجرين والأنصار على كلمة واحدة يشجعون عثمان على قتله.
178. طبقات ابن سعد 5 : 15 ، قوله : فاجتمع المهاجرون الأوّلون فأعظموا ما صنع عبيد الله من قتل هؤلاء واشتدّوا عليه ، وزجروه.
179. تاريخ اليعقوبي 2 : 163 ، طبقات ابن سعد 5 : 17 ، شرح النهج لابن أبي الحديد 3 : 60.
180. أنساب الأشراف 5 : 33 ، عن الواقدي.
181. أنساب الأشراف 5 : 33 ـ 35 ، أخرج من عدة طرق.
182. المصدر السابق نفسه.
183. المصدر السابق نفسه ، عن أبي إسحاق ، والواقدي.
184. تاريخ الطبري 4 : 274 ، السيرة الحلبية 2 : 284 ، الكامل في التاريخ 3 : 106 ، تاريخ الخلفاء : 154.
185. أنساب الأشراف 5 : 34 ، عن أبي مخنف ، وغيره.
186. المصدر السابق نفسه.
187. انظر الأغاني ، عن الزهري.
188. الكامل في التاريخ 3 : 106 ، تاريخ الطبري 4 : 277.
189. الأم 7 : 321 ، السنن الكبرى 8 : 33.
190. نيل الأوطار 7 : 151 ، وفيه: ما رويناه عن عمر أنه كتب في مثل ذلك أن يقاد به ، ثمّ ألحقه كتاباً ، فقال: لا تقتلوه ، ولكن اعتقلوه.
191. صحيح البخاري 9 : 16 ، سنن الدارمي 2 : 190 ، سنن ابن ماجة 2 : 887 / 2658 ، سنن النسائي 8 : 23 ، سنن البيهقي 8 : 28 ، صحيح الترمذي 2 : 432 ، مسند أحمد 1 : 79 ، الأم 6 : 38 و 105 ، أحكام القرآن للجصاص 1 : 143 ، أحكام القرآن للشافعي 1 : 275.
192. مسند أحمد 1 : 119 و 122 ، سنن أبي داود 4 : 180 / 4530 ، سنن النسائي 8 : 24 ، أحكام القرآن 1 : 65 ، نيل الأوطار 7 : 150.
193. سنن البيهقي 8 : 29 ، مسند أحمد 1 : 122.
194. سنن البيهقي 8 : 30.
195. سنن ابن ماجة 2 : 888 / 2660.
196. سنن أبي داود 4 : 181 / 4531 ، مسند أحمد 2 : 211 ، سنن الترمذي 2 : 433 / 1434 ، سنن ابن ماجة 2 : 887 / 2659 ، أحكام القرآن للجصاص 1 : 142 ، نيل الأوطار 7 : 150.
197. أحكام القرآن للجصاص 1 : 142.
198. الأم 7 : 322 ، سنن البيهقي 8 : 29.
199. فتح الباري 2 : 361 ، نيل الأوطار 3 : 362 ، تاريخ الخلفاء : 164 ـ 165 ، محاضرة الأوائل : ص 145.
200. الموطأ 1 : 179 / ذيل الحديث 5 ، وفيه : عن أبي عبيد ، مولى ابن أزهر ، قال : شهدت العيد مع علي بن أبي طالب وعثمان محصور ، فجاء فصلّى ، ثمّ انصرف فخطب.
201. صحيح البخاري 2 : 23 ، صحيح مسلم 2 : 602 / 1 ، 2 ، سنن أبي داود 1 : 297 / 1142 ، سنن ابن ماجة 1 : 406 / 1273 ، سنن النسائي 3 : 184 ، سنن البيهقي 3 : 296.
في العيدين قبل الخطبة. ثمّ روى الشافعي بعدها بأن معاوية قدم الخطبة.
203. سنن ابن ماجة 1 : 406 / 1275 ، 409 / 1288 ، سنن البيهقي 3 : 296 ـ 297 ، المدونة الكبرى 1 : 169 ، صحيح البخاري 2 : 23.
204. البخاري 2 : 22 مسلم 2 : 603 / 403 ، أبي داود 1 : 297 / 1141 ، النسائي 3 : 186 ، البيهقي 2 : 296 ، 298.
205. المدونة الكبرى ، لمالك 1 : 169.
206. ابن ماجة 1 : 410 / 1290 ، أبي داود 1 : 300 / 1155 ، البيهقي 3 : 301.
207. صحيح البخاري 2 : 23 ، سنن النسائي 3 : 185.
208. حقق ذلك العلامة العسكري في كتابه « عبد الله بن سبأ » فراجع.
209. أنساب الأشراف 5 : 54 ، سنن الترمذي 5 : 334 / 3889.
210. مجمع الزوائد 9 : 295 ، حلية الأولياء 1 : 139 ـ 140.
211. سير أعلام النبلاء 1 : 465 ، أسد الغابة 3 : 256 ، المنتظم 5 : 30 ، وما جاء فيها ـ فتعلم ـ غلط.
212. انظر « أحاديث أم المؤمنين عائشة » عن الطبري وابن الأثير وابن الأعثم وابن أبي الحديد.
213. أنساب الأشراف 5 : 74 ، الكامل في التاريخ 3 : 163 ، شرح النهج لابن أبي الحديد 2 : 144.
214. تاريخ الطبري 4 : 336 ، الكامل في التاريخ 168 :3.
215. انظر أنساب الأشراف 5 : 60.
216. خطط الشام 6 : 246.
217. أنساب الأشراف 5 : 34.
218. أنساب الأشراف 5 : 48 ـ 49 ، تاريخ أبي الفداء 1 : 172 ، وتاريخ اليعقوبي وغيره.
219. مصادر النصوص المذكورة مرّ ذكرها.
220. تاريخ الطبري 5 : 43 عن كتاب صفين لنصر بن مزاحم.
221. كتاب صفين : 338 ـ 339 ، شرح النهج لابن أبي الحديد 8 : 22.
222. كتاب صفين : 319 عنه في الطبري والكامل.
223. انظر شرح النهج لابن أبي الحديد ، وقد مرّ سابقاً في ص 84.
224. كنز العمال 9 : 447 / 26907 ، ومثله في ص 439 / 26876 عن أبي النضر ، بلفظ: فتوضّأ ثلاثاً ، ثم قال : أنشدكم ... الخ.
225. كنز العمال 9 : 448 / 26907.
226. سنن النسائي 1 : 69 ـ 70.
227. سنن أبي داود 1 : 29 / 117 ، كنز العمال 9 : 459 / 26967 وفيه بتفاوت.
228. سنبحث موضوع دور حكومة بني أميّة في إشاعة التحريف والوضع في الحديث النبوي الشريف ، وكذا العباسيين ، فتابع معنا.
229. وستقف على أسمائهم لاحقاً إن شاء الله تعالى.
مقتبس من كتاب : [ وضوء النبي (ص) ] / المجلّد : 1 / الصفحة : 40 ـ 141
التعلیقات