آية الوضوء وحكم الأرجل
المصدر : الوضوء على ضوء الكتاب والسنّة ، تأليف : الشيخ جعفر السبحاني ، ص 19 ـ 38
________________________________________ الصفحة 19 ________________________________________
الفصل الثاني :
آية الوضوء وحكم الأرجل
إنّ الآية الكريمة لو عُرضت على عربيّ بعيد عن الأجواء الفقهيّة ، وعن اختلاف المسلمين في كيفيّة الوضوء وطُلِب منه تبيين ما فهمه لقال بوضوح : إنّ الوضوء : غسلتان ومسحتان ، دون أن يتردّد في أنّ الأرجل هل هي معطوفة على الرؤوس أو معطوفة على الوجوه ، فهو يدرك بأنّها تتضمّن جملتين صُرِّحَ فيهما بحكمين :
بُدئ في الجملة الأُولى : ( فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وأيْدِيَكُمْ إلى المَرافِق ) بغسل الوجوه ، ثم عطفت الأيدي عليها ، فوجب لها من الحكم مثل حكم الوجوه لأجل العطف.
ثم بُدئ في الجملة الثانية : ( وامْسَحُوا بِرُءُوسِكُم وأرْجُلَكُم إلى الكَعْبَيْنِ ) بمسح الرؤوس ، ثم عطفت الأرجل عليها ، فوجب أن يكون لها من الحكم مثل حكم الرؤوس لأجل العطف ، والواو تدل على مشاركة ما بعدها لما قبلها في الحكم.
والتفكيك بين حكم الرؤوس وحكم الأرجل ، لا يحتمله عربي صميم بل يراه مخالفاً لظهور الآية.
________________________________________ الصفحة 20 ________________________________________
فلو سئل عن كيفية الوضوء الواردة في الآية لصرّح أنّ هناك أعضاء يجب غسلها وهي : الوجوه والأيدي ، وأعضاءً يجب مسحها وهي : الرؤوس والأرجل ، ولو أُلفت نظره إلى القواعد العربيّة تجده لا يتردّد في أنّ الأرجل معطوفة على الرؤوس ، ولو سُئل عن عطفه إلى الأبعد ـ أي الوجوه ـ لاستغرب وتعجّب.
فإن كنت في شك ممّا ذكرناه ، فاعرض الآية على عربيّ أو خبير بالقواعد العربيّة ، فستجده يذهب إلى ما ذكرنا ولا حاجة بعد ذلك إلى استعراض أدلّة الطرفين في مسح الرجلين أو غسلهما ، وإلاّ فالحلّ الوحيد هو دراسة الآية على ضوء القواعد والذوق السليم والسنّة الصحيحة.
إنّ القول بمسح الرجلين أو غسلهما يرجع إلى تعيين ما هو العامل فيهما ، فإنّ في الآية عاملين ، وإن شئت قلت : فعلين كلّ يصلح في بدء النظر لأن يكون عاملاً فيهما ، إِنّمـا الكلام في تعيين ما هو العامل حسب ما يستسيغه الذوق العربي.
والعاملان هما :
فاغسلوا :
وامسحوا :
فلو قلنا : إنّ العامل هو الأوّل يجب غسلهما ، كما لو قلنا بأنّ العامل هو الثاني يجب مسحهما.
فملاك القولين عبارة عن كون المعطوف عليه هو الوجوه أو الرؤوس ، فعلى الأوّل : حكمهما الغسل ، وعلى الثاني : المسح.
ولا شك أَنّ الإمعان في الآية ـ مع قطع النظر عن كلّ رأي مسبق وفعل رائج بين المسلمين ـ يثبت أَنّ العامل هو الفعل الثاني ، أي : ( وامسحوا ) دون
________________________________________ الصفحة 21 ________________________________________
الأوّل البعيد.
وإن شئت قلت : إنّه معطوف على القريب أي الرؤوس لا على البعيد ، أعني : « وجوهكم » أو « أيديكم » ، فاستوضح ذلك بالمثال التالي :
لو سمعنا قائلاً يقول : أحبّ زيداً وعمراً ومررت بخالد وبكر من دون أن يُعْربَ « بكر » بالنصب والجر نحكم بأنّ « بكر » معطوف على « خالد » والعامل فيه الفعل الثاني وليس معطوفاً على « عمرو » حتى يكون العامل فيه هو الفعل الأوّل.
وقد ذكر علماء العربيّة أنّ العطف من حقّه أن يكون على الأقرب دون الأبعد ، وهذا هو الأصل ، والعدول عنه يحتاج إلى قرينة موجودة في الكلام ، وإلاّ ربّما يوجب اللّبس وصرف اللفظ عن المراد ، فلنفرض أنّ رئيساً قال لخادمه : أكرم زيداً وعمراً واضرب بكراً وخالداً ، فهو يميز بين الجملتين ويرى أنّ « عمراً » عطف على « زيداً » ، و « خالداً » عطف على « بكراً » ولا يدور بخلده خلاف ذلك.
فإذا كانت الحال كذلك ولم يجز الخروج عن القواعد في الأمثلة العرفيّة ، فأولى أن يكون كلام ربّ العزة على ذلك النمط.
فلماذا نتردّد في تعيين العامل ، أو تعيين المعطوف عليه ، أو نقضي على الخلاف بإخراجه من تحت العامل الثاني وإدخاله تحت العامل الأوّل ، أو عطفه على الأيدي دون الرؤوس.
وليس المثال منحصراً بما ذكرنا بل بإمكانك الإدلاء بأمثلة مختلفة شريطة أن تكون مشابهة لما في الآية.
وان أردتَ توضيح الكلام ، نقول : إنّ في لفظ : ( أرجلكم ) قراءتين :
قراءة بالخفض ، وقراءة بالنصب ، وعلى كلا التقديرين يجب المسح دون الغسل.
________________________________________ الصفحة 22 ________________________________________
أمّا الأوّل ، فقد قرأ بها : ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحمزة ، وأبو بكر ، عن عاصم ، وقرأ الباقون بالنصب.
فالقائل بالمسح ، يفسّـر كلتا القراءتين على ضوء القواعد العربيّة بلا شذوذ ، ويقول : إنّ أرجلكم معطوفة على الرؤوس ، فجرّها لعطفها على ظاهر الرؤوس ، ونصبها لعطفها على محلّ الرؤوس ، لأنّها مفعول لقوله : ( وامسحوا ) فكما أَنّ العطف على اللفظ جائز ، فكذا على المحلّ ، قال سبحانه : ( أنَّ اللّهَ بريءٌ من المشركينَ ورسولُهُ ) ( التوبة ـ 3 ) فإنّ قوله : ( ورسوله ) بالضم عطف على محل اسم انّ ، أعني : لفظ الجلالة ، لكونه مبتدأ ، وقد ملأت مسألة العطف على المحل كتب الأعاريب. (1) نظير قول القائل :
معاوي إنّنا بشر فاسجـح فلسنا بالجبـال ولا الحديدا
وأمّا القائل بالغسل ، فلا يستطيع أن يفسّـر الآية على ضوء القواعد ، لأنّه يفسّـر قراءة النصب بأنّها معطوفة على الوجوه ، في الجملة المتقدمة ، ويفسر قراءة الخفض بالجر بالجوار. وكلا الوجهين غير صحيحين.
أمّا الأوّل : فلأنّه يستلزم الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بجملة أجنبية ، وهي : ( وامسحوا برءُوسكم ) مع أنّه لا يفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بمفرد ، فضلاً عن جملة أجنبية. ولم يسمع في كلام العرب الفصيح قائلاً يقول : ضربت زيداً ومررت ببكر وعمراً بعطف « عمراً » على « زيداً ».
وأمّا الثاني : فهو يقول : بأنّه مجرور لأجل الجوار ، أي لوقوعه في جنب الرؤوس المجرورة ، نظير قول القائل : « جحر ضب خرب » فان « خرب » خبر « لجحر »
________________________________________
1. ابن هشام : مغني اللبيب : الباب الرابع مبحث العطف ، قال : الثاني : العطف على المحل ... ثم ذكر شروطه.
________________________________________ الصفحة 23 ________________________________________
فيجب أن يكون مرفوعاً لكنّه صار مجروراً لأجل الجوار.
لكنّه غير صحيح لاتّفاق أهل العربية على أنّ الإعراب بالمجاوَرة شاذّ نادر ، وما هذا سبيله لا يجوز حمل القرآن عليه من غير ضرورة يلجأ إليها.
قال الزجّاج : أمّا الخفض على الجوار فلا يكون في كلمات اللّه. (1) أضف إلى ذلك ، أَنّه لو صحّ الجر بالمجاورة ، فإِنّما يصح إذا لم يكن معها حرف عطف كما في الكلام السابق ، دون المقام ، فقد تصدّر قوله ( أرجلكم ) بحرف العطف.
وممّن نصّ على ذلك من أعلام السنّة « علاء الدين علي بن محمّد البغدادي » في تفسيره المسمّى ب « الخازن » قال : وأمّا من جعل كسر اللام في ( الأرجل ) على مجاورة اللفظ دون الحكم. واستدل بقولهم : « جحر ضب خرب » ، وقال : الخرب نعت للجحر لا للضب ، وانّما أخذ إعراب الضب للمجاورة فليس بجيد [ لوجهين ] :
1 ـ لأنّ الكسر على المجاورة إنّما يحمل لأجل الضرورة في الشعر ، أو يصار إليه حيث يحصل الأمن من الالتباس ، لأنّ الخرب لا يكون نعتاً للضب ، بل للجحر.
2 ـ ولأنّ الكسر بالجـوار انّما يكون بدون حرف العطـف ، أمّا مـع حرف العطف فلم تتكلّم به العرب. (2) وحاصل الوجه الأوّل : انّه لو صحّ تفسير العطف بالجوار ، فإِنّما يصح إذا لم يولّد الشبهة ، ولا يوجب اللبس ، كما في قوله : « جحر ضب خرب » إذ من المعلوم أنّ خرباً صفة للجحر ، دون الضّبّ ، بخلاف المقام ، فإنّ قراءة الأرجل بالجر ،
________________________________________
1. معاني القرآن وإعرابه : 2/153.
2. تفسير الخازن : 2/16.
________________________________________ الصفحة 24 ________________________________________
توجب كونه ممسوحاً لا مغسولاً ، إذ المتبادر منه أنّه معطوف على الرؤوس دون غيره ، مع أنّ المقصود حسب فرض الفارض غيره.
وأمّا الوجه الثاني فظاهر غنيّ عن البيان.
وقد خرجنا بهذه النتيجة : أَنّ كلتا القراءتين منطبقتان على القول بالمسح ، وغير منطبقتين على القول بالغسل.
فالكتاب العزيز يدعم ـ بلا مرية ـ القول بالمسح ، ومن أراد إخضاع الكتاب للقول بالغسل ، فقد فسّـره برأيه ، وجعل مذهبه دليلاً على تفسير الآية ، وحملها على أمرين غير صحيحين :
أ ـ الفصـل بين المعطوف والمعطـوف عليه بجملة أجنبية ، وهو موجب للالتباس إذا قرئ بالنصب.
ب ـ الجر بالجوار ، ولكنه لا يليق بكلام رب العزة إذا قرئ بالخفض.
وبما أنّ أكثر القائلين بالغسل اعتمدوا في تفسير قراءة الخفض على العطف بالجوار خصصنا البحث التالي له.
بحث حول الخفض بالجوار :
إنّ الخفض بالجوار أمر اختلفت فيه كلمة النحاة ، فمنهم من أنكره مطلقاً ، أو في خصوص القرآن الكريم ، قال الزجّاج : وقال بعض أهل اللغة : إنّ قوله : ( وأرجلكم ) جر على الجوار فأ ضاف ، أمّا الخفض بالجوار فلا يكون في كلمات اللّه. (1)
استدلّ القائلون بجواز الجر بالجوار بقول العرب : « جحر ضب خرب ».
________________________________________
1. معاني القرآن وإعرابه : 2/153.
________________________________________ الصفحة 25 ________________________________________
فظاهر الكلام أنّ « خرب » صفة « ضب » ، ومن المعلوم أنّه صفة « جحر » ولكنّه تبع في الإعراب جاره أعني « ضبٍّ ».
ثم إنّـهم استشهدوا بأبيات للشعراء منها :
قول أمرئ القيس :
كأنّ ثبيراً في عرانـين وَبْلِه كبير أُناس في بجاد مزمل
فإنّ مقتضى القياس رفع « مزمل » لأنّه وصف « كبير أُناس » وإنّما انخفض لأجل الجوار.
أقول : أمّا المثل فلأنّه لم يثبت متواتراً أنّ العرب تخفض « خرب » وان اشتهر في الألسن ولعلهم يقرأونه بالرفع خبراً ل « جحر ».
و لو ثبتت قراءة الجرّ لكن لا يمكن تفسير القرآن الكريم بهذا المثل الذي لم تثبت كيفية جرّه بنقل متواتر.
قال ابن هشام : أنكر السيرافي وابن جنّي الخفض على الجوار وتأوّلا قولهم « خَرِبٍ » بالجر على أنّه صفة لضب.
ثم قال السيرافي : الأصل خربٍ الجُحْر منه ، بتنوين خربٍ ورفع الجحر ، ثم حذف الضمير للعلم به ، وحُوِّل الاسنادُ إلى ضمير الضب ، وخفض الجحرُ ـ كما تقول « مررت برجلٍ حسنِ الوجه » بالإضافة ، والأصلُ حسنٍ الوجهُ منه ـ ثم أُتى بضمير الجُحر مكانه لتقدم ذكره فاستتر.
وقال ابن جنّي : الأصل خربٍ جحره ، ثم أنيب المضاف إليه عن المضاف فارتفع واستتر. (1)
________________________________________
1. مغني اللبيب : 896 ، الباب الثامن ، القاعدة الثانية.
________________________________________ الصفحة 26 ________________________________________
وأمّا الثاني : فلأنّ جر قوله « مزملاً » للإطلاق ، فإنّ القافية ـ في قصيدة امرئ القيس اللامية المعروفة بالجلجلية في جميع الأبيات ـ مجرورة فلم يكن له بد من الجر حفظاً للروي ، وهذا مطلع قصيدته المعروفة حيث يقول :
قفا نبك من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ بسقط اللوى بين الدخول فحوملِ
إلى أن يقول :
وتيماء لم يترك بها جذع نخلة ولا أطماً إلاّ مشيداً بجندل
كأنّ ثبيراً في عرانين وبله ...........................
ثم إنّ الذين حاولوا إخضاع القرآن لمذهبهم ، استدلّوا على الخفض بالجوار ببعض الأبيات إلاّ أنّ تلك المحاولة تبدو عقيمة لأنّه لم تثبت القراءة فيها حسب ما يدَّعون ، وعلى فرض الثبوت لم يدل دليل على أنّ الخفض للجوار أو للضرورة ، وعلى فرض القبول لم يثبت إلاّ في الوصف والبدل لا في المعطوف كما في الآية وسيوافيك تفصيله ، فالأولى الإعراض عنها وصب الاهتمام على ما استشهدوا به من الآيات.
استشهادات أُخرى على الجر بالجوار :
واستشهد القائلون بالغسل للجر بالجوار بآيات :
1. قوله سبحانه : ( عذاب يوم محيط ) ( هود ـ 84 ).
بخفض محيط مع أنّه نعت للعذاب.
________________________________________ الصفحة 27 ________________________________________
2. وقوله تعالى : ( عذاب يوم أليم ) ( هود ـ 26 ).
أنّ الأليم صفة للعذاب وقد خفض للمجاورة.
3. وقوله تعالى : ( بل هو قـرآن مجيـد في لوح محفـوظ ) ( الـبــروج : 21 ـ 22 ).
على قراءة من قرأ بخفض محفوظ فقد جُرّ لأجل المجاورة.
يلاحظ عليه : أنّ لفظة ( محيط ) صفة ليوم لا لعذاب ، فإنّ قوله ( محيط ) ؛ كقوله : ( عظيم ) وصفان ليوم ، بشهادة قوله سبحانه : ( فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم ) ( مريم ـ 37 ) وقوله سبحانه : ( إلا يظن هؤلاء أنّهم مبعوثون ليوم عظيم ) ( المطففين : 4 ـ 5 ).
وبذلك يظهر أنّ لفظة ( محيط ) في الآية ونظائرها وصف ليوم لا لعذاب.
وأمّا الآية الثانية فلا دليل على أنّ ( أليم ) صفة ( لعذاب ) ، بل لقوله ( يوم ) ، نظير قولك : نهارك صائم وجدّه جده ، كما ذكره الزمخشري في الكشاف.
وأمّا الآية الثالثة فقد قرأ نافع بالرفع وصفاً لقرآن ، والباقون بالجر ، ولكن الجر لا للجوار بل لأجل كونه وصفاً للوح ، وقد كثر على ألسنتهم اللوح المحفوظ.
فالقرآن محفوظ واللوح الذي فيه القرآن أيضاً محفوظ ، فلا دليل على أنّ اللفظ ( محفوظ ) وصف للقرآن بل وصف للّوح الذي هو وعاء القرآن.
________________________________________ الصفحة 28 ________________________________________
شرط الجر بالجوار :
لو افترضنا صحة الجر بالجوار فليست الصحّة على إطلاقها ، وإنّما هي مشروطة بشرطين :
الشرط الأوّل : انّ الجر بالجوار إنّما يصح إذا لم يكن موجباً للّبس وكان المتكلم والمخاطب في أمن من الالتباس ، كما في المثل : « جحر ضب خرب » إذ من الواضح أنّ « خرب » صفة « جحر » لا « ضب ».
وكما في شعر أمرئ القيس الماضي ، فإنّ « مزمل » بمعنى الملفف بالثياب صفة « كبير أُناس » وليس صفة « بجاد » وهو كساء ، والجمع البجد ، كأنّه قال : كبير أُناس مزمل في كساء مخطط ، بخلاف الآية فإنّ جرها بالجوار يورث الالتباس لأنّ الأرجل كما يمكن أن تكون مغسولة يمكن أن تكون ممسوحة ، فجرها بالجوار يجعلها في ذهن المخاطب ممسوحة وليست هناك أي قرينة على أنّها مغسولة.
وهناك من يدّعي وجود قرينة على رفع اللبس ، وهو أنّ التحديد إلى الكعبين علامة الغسل وقد اعتمد على هذا الوجه كثير من المفسرين.
قال ابن الجوزي في وجه غسل الرجلين : إنّ حد الكعبين دليل على أنّ الغسل ينتهي إليهما ويدل على وجوب الغسل التحديد بالكعبين كما جاء في تحديد اليد ( إلى المرفقين ) ولم يجئ في شيء من المسح تحديد (1).
يلاحظ عليه : أنّ كلاً من المغسول والممسوح جاء في الآية محدّداً وغير محدّد ، فالوجوه في الآية تغسل ولم تحدّد ، والأيدي تغسل وقد حدّدت إلى المرافق ، فيعلم من ذلك أنّ الغسل تارة يكون محدّداً وأُخرى غير محدّد فلا التحديد دليل على
________________________________________
1. ابن الجوزي : زاد المسير في علم التفسير : 2/178.
________________________________________ الصفحة 29 ________________________________________
وجوب الغسل ولا عدم التحديد دليل على وجوب المسح.
وهكذا الحال في الممسوح فيمكن أن يكون محدّداً إلى الكعبين وغير محدّد كما في الرأس ، فجعل التحديد علامة للغسل أشبه بجعل الأعم دليلاً على الأخص. وما ذكره من « أنّه لم يجئ في شيء من المسح تحديد » أوّل الكلام وهو من قبيل أخذ المدعى في الدليل.
ولو قلنا بهذه الاستحسانات ، فالذوق الأدبي يقتضي أن تكون الأرجل ممسوحة لا مغسولة ، قال المرتضى : إنّ الآية تضمّنت ذكر عضو مغسول غير محدود وهو الوجه وعطف عليه مغسول محدود وهما اليدان ، ثم استُوَنف ذكر عضو ممسوح غير محدود وهو الرأس فيجب أن تكون الأرجل ممسوحة وهي محدودة ومعطوفة عليه دون غيره لتتقابل الجملتان في عطف مغسول محدود على مغسول غير محدود ، وفي عطف ممسوح محدود على ممسوح غير محدود (1).
الشرط الثاني : أن يكون خالياً من حرف العطف ، فإنّ من جوز ذلك فإنّما يجوز مع هذا الشرط وكل ما استشهد به على الإعراب بالمجاورة فلا حرف فيه حائل بين هذا وذاك.
قال ابن هشام ـ بعد ما نقل الجر بالجوار في الآية ـ : والذي عليه المحقّقون أنّ خفض الجوار يكون في النعت قليلاً كما في قول الشاعر :
كأنّ ثَبيراً في عرانين وَبْلِــه كَبيرُ أُنـاسٍ في بِجادٍ مُزَمَّلِ
فإنّ « مزمل » وصف لقوله كبير أُناس.
________________________________________
1. الانتصار : 24.
________________________________________ الصفحة 30 ________________________________________
وفي التوكيد نادراً كقوله :
يا صاح بلغ ذوي الزوجات كُلّهمُ ان ليس وصل إذا انحلت عرى الذنب
قال الفراء : أنشدنيه أبو الجراح بخفض « كلهم » مع أنّه تأكيد لذوي.
ولا يكون في النسق لأن العاطف يمنع من التجاور (1).
نعم حاول بعض أن يثبت خلاف ذلك وانّ العطف بالجار يجوز مع حرف العطف أيضاً ، واستشهد على ذلك بقراءة أبي جعفر وحمزة والكسائي ، في الآية التالية : ( يطوف عليهم ولدان مخلدون * بأكوابٍ وأباريق وكأس من معين * لا يصدعون عنها ولا ينزفون * وفاكهة مما يتخيرون * ولحم طير مما يشتهون * وحور عين * كأمثال اللؤلؤ المكنون * جزاءً بما كانوا يعملون ) ( الواقعة : 17 ـ 24 ).
فالقراءة المعروفة المتواترة التي عليها عامة المسلمين في جميع الأجيال هي قراءة ( وحور عين ) بالرفع عطفاً على قوله : ( ولدان مخلدون ) والمعنى : يطوف عليهم ولدان مخلدون وحور عين.
لكن في قراءة من ذكرنا أسماءهم هما مجروران ، قالوا وليس الجر إلاّ لأجل الجوار أي كونهما مجاورين لقوله : ( بأكوابٍ وأباريق ).
وهذا الاستدلال لا يصمد أمام النقاش إذ هناك احتمالات أُخرى تحول دون الأخذ ببناء قراءتهم على الخفض بالجوار.
أ. أنّه معطوف على جنات في الآية المتقدمة ، أي في جنات النعيم ، وفي معاشرة ومصاحبة حور عين.
________________________________________
1. مغني اللبيب : 895 ، الباب الثامن ، القاعدة الثانية.
________________________________________ الصفحة 31 ________________________________________
ب. انّه مفعول لفعل محذوف أي جزيناهم بحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون جزاء بما كانوا يعملون ، فحذف الفعل والجار لأجل الاستغناء عنه بما بعده أي جزاء بما كانوا يفعلون.
ج. أنّه إذا قرئ بالرفع فهو مبتدأ لخبر محذوف أي فيها حور عين ، ولو قرئ بالجر فقد حذف مضافه بمعنى ونساء حور عين فحذف الموصوف اختصاراً ، وأُقيمت الصفة مقامه : فإنّ عين صفة لحور.
قال ابن هشام : وقيل العطف على « جنات » ، وكأنّه قيل : المقربون في جنات وفاكهة ولحم طير وحورٍ (1)
فهذه هي الوجوه التي يمكن أن تذكر لهذه القراءة فإذا وجدنا أنّها لا تتلاءم مع الذوق السليم فنستكشف أنّ القراءة مختلقة وإنّ الرسول لم يقرأ إلاّ بقراءة واحدة وهي قراءة الرفع.
د. انّ الجر بالجوار كما يحكي عنه لفظ « الجوار » إنّما يتصور فيما إذا كانت الكلمتان متجاورتين فربّما يستحسن الذوق الوحدة في الإعراب ، كما في قول الشاعر :
لم يبق إلاّ أسير غير منفلت وموثق في عقال الأسر مكبول
حيث خفض « موثق » بالمجاورة للمنفلت وحقه الرفع عطفاً على « أسير » ، وكما في قول الآخر :
فهل أنت ـ إن ماتت أتانك ـ راحل إلى آل بسطام بن قيس فخاطب
________________________________________
1. مغني اللبيب : 895 ، الباب الثامن ، القاعدة الثانية.
________________________________________ الصفحة 32 ________________________________________
فجر « فخاطب » للمجاورة وهو « قيس » وحقه الرفع عطفاً على « راحل ».
فلو صلح العطف بالجوار في هذين البيتين واعتمدنا على النقل ، فإنّما هو في إطار خاص وهو المجاورة ، وأين هو من قوله سبحانه : ( وحور عين ) ، بالنسبة إلى قوله : ( بأكواب وأباريق ) حيث وقع الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بثلاث آيات.
ومهما يكن من أمر فإنّ العطف بالجوار إمّا لضرورة في الشعر ، أو لأجل استحسان الطبع المماثلة بين اللفظين المتجاورين المتقاربين وكل من الوجهين غير موجود في الآية.
وخلاصة القول :
أوّلاً : لم يثبت الخفض بالجوار في الكلام الفصيح.
ثانياً : الخفض بالجوار ـ على فرض ثبوته ـ إنّما يتم في النعت والتوكيد لا في العطف.
ثالثاً : وعلى فرض ثبوته في العطف ، فإنّما هو فيما إذا كان اللفظان متجاورين لا متباعدين كما في الآية.
كلمات أعلام السنّة حول الآية :
إنّ لفيفاً من علماء أهل السنّة فسّـروا الآية بما ذكرناه ، وأثبتوا أنّ ظاهر الآية يدلّ على المسح دون الغسل ، وإنّما رجعوا إلى الغسل ترجيحاً للسنّة على ظاهر الكتاب ونصّه. وسيوافيك أنّ الرواية إذا كانت معارضة للقرآن الكريم يضرب بها عرض الجدار ، إذ نستكشف أنّها موضوعة ، أو مدسوسة ، أو مؤوّلة فضلاً عمّـا إذا كانت نفس السنّة متضادّة كما في المقام ؛ فإنّ السنّة وإن وردت في الغسل ، لكنّها وردت في المسح أيضاً. وإليك عباراتهم :
________________________________________ الصفحة 33 ________________________________________
1. كلمة لابن حزم ( المتوفّى 456 ه ) :
قال ابن حزم حول مسح الرجلين : « وأمّا قولنا في الرجلين فإنّ القرآن نزل بالمسح ، قال اللّه تعالى : ( وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم ) وسواء قرئ بخفض اللام أو بفتحها ، هي على كل حال عطف على الرؤوس ، إمّا على اللفظ ، وإمّا على الموضع ، لا يجوز غير ذلك ، لأنّه لا يجوز أن يحال بين المعطوف والمعطوف عليه بقضية مبتدأة. وهكذا جاء عن ابن عباس : نزل القرآن بالمسح ، يعني في الرجلين في الوضوء » (1).
2. كلمة للإمام البغوي ( المتوفّى 516 ه ) :
قال الإمام أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي : ومن قرأ بالخفض فقد ذهب قليل من أهل العلم إلى أنّه يمسح على الرجلين ، وروي عن ابن عباس أنّه قال : الوضوء غسلتان ومسحتان ، ويروى ذلك عن عكرمة وقتادة.
وقال الشعبي : نزل جبرئيل بالمسح ، وقال : ألا ترى : المتيمّم يمسح ما كان غسلاً ويلغي ما كان مسحاً (2).
3. كلمة للرازي ( المتوفّى 606 ه ) :
قال الرازي : « اختلف الناس في مسح الرجلين ، وفي غسلهما ، فنقل القفال في تفسيره ، عن ابن عباس وأنس بن مالك وعكرمة والشعبي وأبي جعفر محمد بن علي الباقر : أنّ الواجب فيهما المسح ، وهو مذهب الإمامية من الشيعة ، وقال جمهور الفقهاء ، والمفسرين : فرضهما الغسل. وقال داود الاصفهاني : يجب الجمع بينهما.
________________________________________
1. المحلى : 2/56 برقم 200.
2. تفسير البغوي : 2/16.
________________________________________ الصفحة 34 ________________________________________
وهو قول الناصر للحق ، من أئمّة الزيدية. وقال الحسن البصري ، ومحمد بن جرير الطبري : المكلف مخيّـر بين المسح والغسل.
حجّة من قال بوجوب المسح مبني على القراءتين ، المشهورتين في قوله : ( وأرجلكم ) فقرأ ابن كثير وحمزة وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر عنه « بالجر » ، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم في رواية حفص عنه « بالنصب » ، فنقول :
أمّا القراءة بالجر فهي تقتضي كون الأرجل معطوفة على الرؤوس ، فكما وجب المسح في الرأس فكذلك في الأرجل.
فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال : هذا كسر على الجوار كما في قوله : « جحر ضب خرب ». وقوله : « كبير أناس في بجاد مزمل » ؟
قلنا : هذا باطل من وجوه :
الأوّل : أنّ الكسر على الجوار معدود من اللّحن الذي قد يتحمل لأجل الضرورة في الشعر ، وكلام اللّه يجب تنزيهه عنه.
وثانيها : أنّ الكسر إِنّما يصار إليه حيث يحصل الأمن من الالتباس ، كما في قوله : « جحر ضب خرب » ، فإنّ من المعلوم بالضرورة أَنّ « الخرب » لا يكون نعتاً « للضبّ » بل للجحر ، وفي هذه الآية الأمن من الالتباس غير حاصل.
وثالثها : أنّ الكسر بالجوار إِنّما يكون بدون حرف العطف ، وأمّا مع حرف العطف فلم تتكلم به العرب.
وأمّا القراءة بالنصب فقالوا ـ أيضاً ـ : إنّها توجب المسح. وذلك لأنّ قوله : ( وامسحوا برءُوسكم ) فرؤوسكم في محل النصب ، ولكنّها مجرورة بالباء ، فإذا عطف الأرجل على الرؤوس ، جاز في الأرجل ، النصب عطفاً على محل الرؤوس ، والجر عطفاً على الظاهر ، وهذا مذهب مشهور النحاة.
________________________________________ الصفحة 35 ________________________________________
إذا ثبت هذا فنقول : ظهر أنّه يجوز أن يكون عامل النصب في قوله : ( وأرجلكم ) هو قوله : ( وامسحوا ) ويجوز أن يكون هو قوله : ( فاغسلوا ) لكنّ العاملين إذا اجتمعا على معمول واحد كان إعمال الأقرب أولى ، فوجب أن يكون عامل النصب في قوله : ( وأرجلكم ) هو قوله : ( وامسحوا ) فثبت أنّ قراءة ( وأرجلكم ) بنصب اللام توجب المسح أيضاً ، فهذا وجه الاستدلال بهذه الآية على وجوب المسح ، ثم قالوا : ولا يجوز دفع ذلك بالأخبار ، لأنّها بأسرها من باب الآحاد ، ونسخ القرآن بخبر الواحد لا يجوز » (1).
4. كلمة للقرطبي ( المتوفّى 671 ه ) :
وروي أنّ الحجاج خطب بالأهواز فذكر الوضوء ، فقال : اغسلوا وجوهكم وأيديكم وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم ، فإنّه ليس من ابن آدم أقرب من خبثه من قدميه ، فاغسلوا بطونهما وظهورهما وعراقيبهما.
فسمع ذلك أنس بن مالك ، فقال : صدق اللّه وكذب الحجاج ، قال اللّه تعالى : ( وامسحوا برءُوسكم وأرجلكم ) قال : وكان إذا مسح رجليه بلّهما ، وروي عن أنس أيضاً أنّه قال : نزل القرآن بالمسح ، والسنّة بالغسل ، وكان عكرمة يمسح رجليه ، وقال : ليس في الرجلين غسل إنّما نزل فيهما المسح.
وقال عامر الشعبي : نزل جبرئيل بالمسح ألا ترى أنّ التيمم يمسح فيه ما كان غسلاً ويُلغى ما كان مسحاً.
وقال قتادة : افترض اللّه غسلتين ومسحتين. (2)
________________________________________
1. التفسير الكبير : 11/161.
2. الجامع لأحكام القرآن : 6/92.
________________________________________ الصفحة 36 ________________________________________
5. كلمة لأبي حيان الأندلسي ( المتوفّى 754 ه ) :
قال أبو حيان الأندلسي : ومن ذهب إلى قراءة النصب في ( وأرجلكم ) عطف على قوله فاغسلوا وجوهكم وأيديكم ، وفصل بينهما بهذه الجملة التي هي قوله : ( امسحوا برءُوسكم ) فقوله بعيد لأنّ فيه الفصل بين المتعاطفين بجملة انشائية ، وقراءة ( وأرجلكم ) بالجر تأبى ذلك (1).
6. كلمة للشيخ الحلبي ( المتوفّى 956 ه ) :
قال الشيخ إبراهيم الحلبي عند تفسير الآية : « قرئ في السبعة بالنصب والجر ، والمشهور انّ النصب بالعطف على وجوهكم ، والجر على الجوار ؛ والصحيح أنّ الأرجل معطوفة على الرؤوس في القراءتين ، ونصبها على المحل ، وجرّها على اللفظ ، وذلك لامتناع العطف على وجوهكم ، للفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بجملة أجنبية ، هي ( وامسحوا برءُوسكم ) والأصل أن لا يفصل بينهما بمفرد ، فضلاً عن الجملة ، ولم يسمع في الفصيح نحو « ضربت زيداً ومررت ببكر وعمراً » بعطف « عمراً » على « زيداً » وأمّا الجر على الجوار ، فإنّما يكون على قلّة في النعت ، كقول بعضهم : « هذا جحر ضب خرب » ، أو في التأكيد ، كقول الشاعر :
يا صاح بلغ ذوي الزوجات كلّهم أن ليس وصل إذا انحلت عرى الذنب
بجر كلهم ، على ما حكاه الفرّاء.
وأمّا في عطف النسق فلا يكون ، لأنّ العاطف يمنع المجاورة » (2).
________________________________________
1. تفسير النهر الماد : 1/558.
2. غنية المتملّـي في شرح منية المصلي ، المعروف بحلبي كبير : 16.
________________________________________ الصفحة 37 ________________________________________
7. كلمة للشيخ علي بن برهان الدين الحلبي ( 975 ـ 1044 ه ) :
ينقل علي بن برهان الدين الحلبي ، أنّ جبرئيل عندما علّم الرسول الوضوء أمره بالمسح ، يقول : إنّ جبرئيل أوّل ما جاء النبي بالوحي ، توضّأ فغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ومسح رأسه ورجليه إلى الكعبين ، وسجد سجدتين ، ففعل النبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) كما يرى جبرئيل يفعله. وقال : وفي كلام الشيخ محيي الدين مسح الرجلين في الوضوء بظاهر الكتاب ، وغسلهما بالسنّة المبينة للكتاب (1).
وما ذكره أخيراً من كون السنّة مبيّنة للكتاب ، لا يعوّل عليه ، إذ ليس الكتاب مجملاً مبهماً ، حتى يحتاج إلى التوضيح من جانب المسح.
8. كلمة للشيخ السندي الحنفي ( المتوفّى 1138 ه ) :
وقال أبو الحسن الإمام محمد بن عبد الهادي المعروف بالسندي الحنفي في حاشيته على سنن ابن ماجة ( بعد أن جزم بأنّ ظاهر القرآن هو المسح ) ما هذا لفظه : « وإِنّما كان المسح هو ظاهر الكتاب ، لأنّ قراءة الجرّ ظاهرة فيه ، وحمل قراءة النصب عليها ، بجعل العطف على المحل ، أقرب من حمل قراءة الجر على قراءة النصب ، كما صرّح به النحاة ( قال ) لشذوذ الجوار واطراد العطف على المحل ( قال ) وأيضاً فيه خلوص عن الفصل بالأجنبي بين المعطوف والمعطوف عليه ، فصار ظاهر القرآن هو المسح » (2).
9. كلمة للإمام محمد عبده ( 1266 ـ 1323 ه ) :
وقال الإمام عبده : « قال تعالى : ( وأرجلكم إلى الكعبين ) قرأ نافع وابن
________________________________________
1. السيرة الحلبية : 1/28.
2. في تعليقته على ما جاء في غسل القدمين : 88 من الجزء الأوّل من شرح سنن ابن ماجة.
________________________________________ الصفحة 38 ________________________________________
عامر وحفص والكسائي ويعقوب ( وأرجلكم ) بالفتح ، أي واغسلوا أرجلكم إلى الكعبين ، وهما العظمان الناتئان عند مفصل الساق من الجانبين؛ وقرأها الباقون ـ ابن كثير وحمزة وابن عمرو وعاصم ـ بالجرّ؛ والظاهر أنّه عطف على الرأس ، أي وامسحوا بأرجلكم إلى الكعبين. ومن هنا اختلف المسلمون في غسل الرجلين ومسحهما؛ فالجماهير على أنّ الواجب هو الغسل وحده. والشيعة الإمامية أنّه المسح. وقال داود بن علي والناصر للحق من الزيدية : يجب الجمع بينهما. ونقل عن الحسن البصري ومحمد بن جرير الطبري : أنّ المكلّف مخيّـر بينهما. وستعلم أنّ مذهب ابن جرير الجمع.
أمّا القائلون بالجمع ، فأرادوا العمل بالقراءتين معاً ، للاحتياط ، ولأنّه المقدّم في التعارض إذا أمكن. وأمّا القائلون بالتخيير ، فأجازوا الأخذ بكلّ منهما على حدته. وأمّا القائلون بالمسح ، فقد أخذوا بقراءة الجر ، وأرجعوا قراءة النصب إليها. وذكر الرازي ، عن القفال : أنّ هذا قول ابن عباس وأنس بن مالك وعكرمة والشعبي وأبي جعفر محمد بن علي الباقر » (1).
( إنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبيّاً لَعَلّكُمْ تَعْقِلُونَ )
( الزخرف : 3 )
________________________________________
1. تفسير المنار : 6/228.
التعلیقات