اجتهادات علماء السنة في قبال آية الوضوء
المصدر : الوضوء على ضوء الكتاب والسنّة ، تأليف : الشيخ جعفر السبحاني ، ص 39 ـ 74
________________________________________ الصفحة 39 ________________________________________
الفصل الثالث :
اجتهادات تجاه النص
إنّ آفة الفقه هو التمسّك بالاعتباريات والوجوه الاستحسانية أمام النصّ ، فإنّه يضاد مذهب التعبدية ، فالمسلم يتعبّد بالنص وإن بلغ ما بلغ ولا يُقدِّم رأيه عليه وهو آية الاستسلام أمام اللّه ورسوله وكتابه وسنته. قال سبحانه : ( يَا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللّهِ وَرَسُولِهِ واتَّقُواْ اللّهَ إنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) ( الحجرات ـ 1 ).
فإنّ تقديم الوجوه الاستحسانية على النص تقدم على اللّه ورسوله ولهذا فقد نهت عنه الآية المباركة.
وقد وقف غير واحد من أئمّة التفسير ، وغيرهم ، على أنّ ظاهر الآية يدلّ على مسح الرجلين لا غسلهما ، فافتعلوا أعذاراً لتثبيت رأيهم المسبق. وإنّما التجأوا إلى هذه الاجتهادات ، لأنّهم تبعوا أئمّتهم ، بدل اتباعهم للقرآن الكريم ، ولولا أنّهم نشأوا على هذه الفكرة منذ نعومة أظفارهم لما اختاروا هذه الاجتهادات حجّة بينهم وبين ربّهم ، أمام الكتاب العزيز الحاكم على خلافها. وإليك بيانها :
1. اجتهاد الجصاص :
زعم أبو بكر الجصاص ( المتوفّى 370 ه ) انّ آية الوضوء مجملة فلابد من العمل بالاحتياط ، وهو الغسل المشتمل على المسح أيضاً ، بخلاف المسح فإنّه
________________________________________ الصفحة 40 ________________________________________
خالٍ من الغسل.
قال : لا يختلف أهل اللغة أنّ كل واحدة من القراءتين محتملة للمسح بعطفها على الرأس ويحتمل أن يراد بها الغسل بعطفها على المغسول من الأعضاء.
لأنّ قوله : ( وأرجلكم ) بالنصب يجوز أن يكون مراده ( فاغسلوا أرجلكم ) ويحتمل أن يكون معطوفاً على الرأس فيراد بها المسح ، وإن كانت منصوبة فيكون معطوفاً على المعنى لا على اللفظ لأنّ الممسوح به ( برءُوسكم ) مفعول به ، كقول الشاعر :
معاوي اننا بشر فاسجــح فلسنا بالجبال ولا الحديدا
فَنُصِب الحديد وهو معطوف على الجبال بالمعنى.
ويحتمل قراءة الخفض أن تكون معطوفة على الرأس ، فيراد به المسح ويحتمل عطفه على الغسل ( وجوهكم ) ويكون مخفوضاً بالمجاورة.
فثبت بما وصفنا احتمال كل واحدة من القراءتين للمسح والغسل ، فلا يخلو حينئذ القول من أحد معان ثلاثة :
1. أمّا أن يقال أنّ المراد هما جميعاً مجموعان فيكون عليه أن يمسح ويغسل فيجمعهما.
2. أو أن يكون أحدهما على وجه التخيير يفعل المتوضّئ أيّـهما شاء ويكون ما يفعله هو المفروض.
3. أو يكون المراد أحدهما بعينه لا على وجه التخيير.
وغير جائز أن يكونا هما جميعاً على وجه الجمع لاتفاق الجميع على خلافه ،
________________________________________ الصفحة 41 ________________________________________
ولا جائز أيضاً أن يكون المراد أحدهما على وجه التخيير إذ ليس في الآية ذكر التخيير ولا دلالة عليه وإذا انتفى التخيير والجمع لم يبق إلاّ أن يكون أحدهما لا على وجه التخيير فاحتجنا إلى طلب الدليل على المراد منهما ، فالدليل على أنّ المراد الغسل دون المسح ، اتفاق الجميع على أنّه إذا غسل فقد أدّى فرضه وأتى بالمراد وأنّه غير ملوم على ترك المسح فثبت أنّ المراد الغسل (1).
يلاحظ عليه : أوّلاً : أنّه سبحانه في هذه الآية بصدد بيان ما هو الواجب على المصلّـي عند القيام إلى الصلاة ، فمقتضى المقام أن تكون الآية واضحة المعالم ، مبينّة المراد ، غير محتملة إلاّ لمعنى واحد والحكم على الآية بالإجمال أمر لا يحتمله المقام وإنّما حداه إلى القول بالإجمال إخضاع الآية لمذهبه وهو غسل الأرجل ، ولو نظر إلى الآية نظرة مجرّدة عن كل فكر مسبق لوقف على أنّها غير مجملة لا تحتمل إلاّ معنى واحداً.
وثانياً : أنّ تفسير قراءة النصب بالعطف على المحل أمر رائج ، وقد استشهد بالشعر وكان عليه أن يستشهد قبله بالقرآن الكريم ( التوبة ـ 3 ) كما سيأتي ، ولكن تفسير النصب بالعطف على وجوهكم تفسير خاطئ إذ لازمه الفصل بين المتعاطفين بجملة أجنبية ، وأين العطف على المحل من هذا الإشكال.
والعجب من أبي البقاء ( المتوفّى 616 ه ) حيث ادّعى جواز الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بجملة أجنبية ، وقال : وذلك جائز في العربية بلا خلاف. (2) وما أبعد بينه وبين ما نقله أبو حيان في ذلك المجال كما سيوافيك.
________________________________________
1. أحكام القرآن : 2/346.
2. التبيان في إعراب القرآن : 1/422.
________________________________________ الصفحة 42 ________________________________________
ولم يذكر أي شاهد على قوله ، وما اضطره إلى ذلك سوى محاولة فرض مذهبه على القرآن.
ولو سلّم جواز الفصل فهو يختص فيما إذا كان هناك أمن من الالتباس.
وثالثاً : أنّ تفسير قراءة الجر بالعطف على ظاهر ( برءُوسكم ) أمر لا سترة فيه ، وأمّا تفسير قراءة الجر عن طريق العطف بالجوار أمر غير مقبول ، لأنّ العطف بالجوار أمر شاذ ، ولو صح فإنّما هو فيما إذا لم يورث التباساً ، والقول به في الآية يوجب الالتباس. والشاهد هو كلام الجصاص حيث تحيّـر في فهم ما هو المراد من الآية وما هذا إلاّ لأجل تفسير الخفض بالجوار ، فلم يجد بدّاً من اللجوء الى الاحتياط والقول : بأنّ الغسل يشمل المسح أيضاً.
اجتهاد ابن حزم :
قال ابن حزم ( المتوفّى 456 ه ) : وممّا نسخت فيه السنّةُ القرآنَ ، قوله عزّ وجلّ : ( وامسحوا برءُوسكم وأرجلكم إلى الكعبين ) فإنّ القراءة بخفض أرجلكم وفتحها كليهما لا يجوز إلاّ أن يكون معطوفاً على الرؤوس في المسح ولابد ، لأنّه لا يجوز البتة أن يحال بين المعطوف والمعطوف عليه بخبر غير الخبر عن المعطوف عليه ، لأنّه إشكال وتلبيس وإضلال لا بيان ، لا تقول : ضربت محمداً وزيداً ، ومررت بخالد وعمراً ، وأنت تريد أنّك ضربت عمراً أصلاً ، فلمّا جاءت السنّة بغسل الرجلين صح أنّ المسح منسوخ عنهما.
وهكذا عمل الصحابة ( رض ) فانّهم كانوا يمسحون على أرجلهم حتى قال ( عليه السّلام ) : ويل للأعقاب والعراقيب من النار وكذلك قال ابن عباس : نزل القرآن بالمسح (1).
________________________________________
1. ابن حزم الأندلسي : الأحكام : 1/510.
________________________________________ الصفحة 43 ________________________________________
يلاحظ عليه أوّلاً : أنّ العمل بالسنّة تجاه القرآن الكريم وإن كان بزعم النسخ على خلاف ما أوصى به بعض الصحابة كعمر بن الخطاب حيث كتب إلى شريح بتقديم الكتاب ثم السنّة ، وإليك نص كلامه :
« ان اقض بما في كتاب اللّه ، فإن لم يكن في كتاب اللّه ، فبما في سنّة رسول اللّه ، فإن لم يكن في سنّة رسول اللّه ، فبما قضى به الصالحون » (1).
فقد أمر بتقديم الحكم بالكتاب على كلّ ما سواه ، فإن لم يوجد في الكتاب ووجد في السنّة لم يلتفت إلى غيرها ، وكلامه وإن كان وارداً في مورد القضاء ، لكن المورد غير مخصص ، بل المراد أَنّ مكانة القرآن أعلى من أن يعادلها شيء ويقدم عليها.
ثانياً : لو افترضنا صحّة نسخ الكتاب بالسنّة ، فإنّما هو بالسنّة القطعية التي هي وحي في المعنى وإن لم يكن وحياً في اللفظ فانّها واجبة الاتباع كالقرآن الكريم : ( وما أتاكُمُ الرسُولُ فَخُذُوهُ وما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) ( الحشر ـ 7 ).
قال الغزالي : يجوز نسخ القرآن بالسنّة والسنّة بالقرآن ، لأنّ الكل من عند اللّه عزّ وجلّ ، فما المانع منه ، ولم يعتبر التجانس مع أنّ العقل لا يمليه (2).
وكلامه هذا كما يعبر عنه قوله : لأنّ الكل من عند اللّه عزّ وجلّ ، انّما هو في السنّة القطعية التي لا غبار عليها ، لا في مثل المقام الذي تضاربت فيه الروايات واختلفت الأُمّة على قولين ، ففي مثل ذلك تكون السنّة مظنونة الصدق محتملة الكذب على لسان رسول اللّه ، فكيف يمكن أن تقدَّم على الدليل القطعي مثل القرآن الكريم ؟!
________________________________________
1. ابن القيم : أعلام الموقعين عن رب العالمين : 2/227.
2. الغزالي : المستصفى : 1/124.
________________________________________ الصفحة 44 ________________________________________
ثالثاً : اتفقت الأُمّة على أنّ سورة المائدة آخر ما نزلت على النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وانّها لم تنسَخْ آية منها ، وستوافيك كلمات العلماء في ذلك المضمار ، فكيف تكون آية الوضوء التي نزلت في أواخر عمره ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) منسوخة ؟!
رابعاً : انّ ما زعمه ناسخاً من حديث « ويل للأعقاب من النار » انّما ورد في غزوة من غزوات النبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) كما نقله ابن حيان الأندلسي في تفسيره (1).
ومن المعلوم أنّ النبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) لم يغز بعد تبوك التي غزاها في العام التاسع من الهجرة ، وقد نزلت سورة المائدة في أواخر العام العاشر أو أوائل العام الحادي عشر ، فكيف ينسخ القرآن المتأخر بالسنّة التي حدّث عنها النبي قبل نزول الآية.
فقد أخرج الطبراني في الأوسط ، عن ابن عباس أَنّه قال : ذكر المسح على القدمين عند عمر وسعد وعبد اللّه بن عمر ، فقال عمر : سعد أفقه منك. فقال عمر : يا سعد إنّا لا ننكر أنّ رسول اللّه مسح ( أي على القدمين ) ولكن هل مسح منذ أُنزلت سورة المائدة فإنّها أحكمت كل شيء وكانت آخر سورة نزلت من القرآن إلاّ براءة (2).
فيظهر من هذا الخبر أنّ النبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) كان يمسح على القدمين باعتراف عمر ، ويظهر أيضاً أنّ سورة المائدة آخر السور نزولاً ، وانّها محكمة لم تنسخ آياتها ، وقد ذكرنا بأنّ الآية على قراءة الجر والنصب تدل على لزوم المسح للرجلين كالرأس.
دراسة مكانة سورة المائدة من بين السور :
إنّ سورة المائدة هي آخر سورة نزلت على النبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) ، فقد أخرج أحمد وأبو
________________________________________
1. تفسير البحر المحيط : 3/434.
2. الدر المنثور : 3/29.
________________________________________ الصفحة 45 ________________________________________
عبيد في فضائله ، والنحاس في ناسخه ، والنسائي وابن المنذر والحاكم وابن مردويه ، والبيهقي في سننه عن جبير بن نفير ، قال : حججت ، فدخلت على عائشة ، فقالت لي : يا جبير تقرأ المائدة ؟ قلت : نعم ، فقالت : أما أنّها آخر سورة نزلت ، فما وجدتم فيها من حلال فاستحلّوه ، وما وجدتم فيها من حرام فحرّموه.
وأخرج أبو عبيد ، عن ضمرة بن حبيب وعطية بن قيس ، قالا : قال رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) المائدة من آخر القرآن تنزيلاً ، فأحلّوا حلالها وحرّموا حرامها.
وأخرج الفريابي وأبو عبيد وعبد بن حميد وابن المنذر وأبو الشيخ عن أبي ميسرة ، قال : في المائدة ثماني عشرة فريضة ليس في سورة من القرآن غيرها ، وليس فيها منسوخ ، وعدّ منها قوله : ( وإذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا ).
وأخرج أبو داود والنحاس كلاهما في الناسخ ، عن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل ، قال : لم ينسخ من المائدة شيء.
وأخرج عبد بن حميد قال : قلت للحسن : نسخ من المائدة شيء ؟ قال : لا (1).
كلّ ذلك يدل على أنّ سورة المائدة آخر سورة نزلت على النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فيجب العمل على وفقها وليس فيها أيّ نسخ.
وما ربّما يتصور أنّ عمل النبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) ناسخ ، لمفاد الآية ، خطأ واضح تردّه هذه النصوص ، ولو ثبت أنّ النبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) غسل رجليه في فترة من الزمن ، فالآية ناسخة له ؛ ولعلّ الاختلاف بين المسلمين في حكم الأرجل نشأ نتيجة ذلك ، فكان النبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) ـ حسب هذا الاختلاف ـ يغسل رجليه ، ورآه بعض الصحابة وحسبه حكماً ثابتاً وأصرّ عليه بعد نزول الآية الناسخة لما هو المفهوم من عمله.
________________________________________
1. السيوطي ، الدر المنثور : 3/3 ـ 4.
________________________________________ الصفحة 46 ________________________________________
أخرج ابن جرير ، عن أنس ، قال : نزل القرآن بالمسح ، والسنّة بالغسل وقال ابن عباس : أبى الناس إلاّ الغسل ، ولا أجد في كتاب اللّه إلاّ المسح (1).
ويريد من السنّة عمل النبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) قبل نزول القرآن ، ومن المعلوم أنّ القرآن حاكم وناسخ.
وبهذا يمكن الجمع بين عمل النبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) وبين ظهور الآية في المسح ، وأَنّ الغسل كان قبل نزول الآية.
ونرى نظير ذلك في المسح على الخفين ، فقد روى حاتم بن إسماعيل ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن علي أنّه قال : سبق الكتاب الخفين.
وروى عكرمة عن ابن عباس ، قال : سبق الكتاب الخفين. ومعنى ذلك انّه لو صدر عن النبي في فترة من عمره المسح على الخفين ، فقد جاء الكتاب على خلافه فصار ناسخاً له حيث قال : ( وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم ) أي امسحوا على البشرة لا على النعل ولا على الخف ولا الجورب (2).
القرآن هو المهيمن :
إنّ القرآن الكريم هو المهيمن على الكتب السماوية وهو ميزان الحق والباطل ، فما ورد في تلك الكتب يؤخذ به إذا وافق القرآن الكريم ولم يخالفه.
قال سبحانه : ( وَأنزَلْنا إلَيْكَ الكتابَ بالحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَينَ يَدَيهِ مِنَ الكِتابِ ومُهَيمِناً عَلَيهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِما أنزَلَ اللّهُ ولأتَتَّبِع أهواءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الحَقّ ) ( المائدة ـ 48 ).
________________________________________
1. الدر المنثور : 3/29.
2. عبد اللّه بن أبي شيبة : المصنف : 1/213 ، باب من كان لا يرى المسح ، الباب 217.
________________________________________ الصفحة 47 ________________________________________
فإذا كان هذا موقف القرآن الكريم بالنسبة إلى الكتب السماوية ، فأولى به أن يكون كذلك بالنسبة إلى السنن المأثورة عن النبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) ، فالكتاب مهيمن عليها فيؤخذ بالسنّة ما دامت غير مخالفة للكتاب (1). ولا يعني ذلك الاكتفاء بالكتاب وحذف السنّة من الشريعة فإِنّه من عقائد الزنادقة ، بل السنّة حجة ثانية للمسلمين بعد الكتاب العزيز بشرط أن لا تضادّ السند القطعي عند المسلمين.
فإذا كان القرآن ناطقاً بالمسح على الأرجل ، فما قيمة السنّة الآمرة بغسلها ، فلو أمكن الجمع بين القرآن والسنّة ـ على ما عرفت من كون القرآن ناسخاً لما كان رائجاً في فترة من الزمن ـ فهو المطلوب ، وإلاّ فتضرب عرض الجدار.
3. اجتهاد الزمخشري :
إنّ الزمخشري ( المتوفّى 538 ه ) لما وقف على أَنّ قراءة الأرجل بالجر تدل على المسح بوضوح أراد توجيهها وتأويلها ، فقال : قرأ جماعة وأرجلكم بالنصب فدلّ على أنّ الأرجل مغسولة ، فإن قلت : فما تصنع بقراءة الجر ودخولها في حكم المسح. قلت : الأرجل من بين الأعضاء الثلاثة المغسولة تغسل بصبّ الماء عليها ، فكان مظنّة للإسراف المذموم المنهي عنه ، فعطفت على الثالث الممسوح لا لتمسح ولكن ليُنبّه على وجوب الاقتصاد في صب الماء عليها ، وقيل : إلى الكعبين (2).
يلاحظ عليه : أوّلاً : أنّ ما ذكره من الوجه إِّنما يصح إذا كانت النكتة مما تعيها عامة المخاطبين من المؤمنين ، وأين هؤلاء من هذه النكتة التي ابتدعها الزمخشري
________________________________________
1. قال النبي الأكرم ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) : « إذا روي لكم عنّي حديث فأعرضوه على كتاب اللّه فإن وافقه فاقبلوه وإلاّ فردوه » لاحظ التفسير الكبير : 3/252 ، ط سنة 1308.
2. الكشاف : 1/326.
________________________________________ الصفحة 48 ________________________________________
توجيهاً لمذهبه ؟!
وبعبارة أُخرى : إِنّما يصح ما ذكره من النكتة إذا أمن من الالتباس لا في مثل المقام الذي لا يؤمن منه ، وبالتالي يحمل ظاهر اللفظ على وجوب المسح غفلة عن النكتة البديعة للشيخ الزمخشري.
وثانياً : أنّ الأيدي أيضاً مظنّة للإسراف المذموم مثل الأرجل ، فلماذا لم ينبّه على وجوب الاقتصاد في صبّ الماء فيها أيضاً ؟!
كلّ ذلك يعرب عن أنّ هذه الوجوه توجيهات للمذهب الذي نشأوا وترعرعوا عليه ، ولولا ذلك لم تدر بخلد أحد منهم واحد من تلك الوجوه.
4. اجتهاد الرازي :
إنّ الإمام الرازي ( المتوفّى 606 ه ) لمّا وقف على دلالة الآية على المسح ، أخذ يعتذر بقوله :
واعلم أنّه لا يمكن الجواب عن هذا إلاّ بوجهين :
1 ـ انّ الأخبار الكثيرة وردت بإيجاب الغسل ، والغسل مشتمل على المسح ، ولا ينعكس ، فكان الغسل أقرب إلى الاحتياط ، فوجب المصير إليه.
وعلى هذا الوجه يجب القطع بأنّ غسل الرجل يقوم مقام مسحها.
2 ـ انّ فرض الرجلين محدود إلى الكعبين ، والتحديد انّما جاء في الغسل دون المسح (1).
وحاصل ما اعتذر عنه أمران :
ألف : الغسل يشتمل على المسح دون العكس.
ب : التحديد انّما جاء في الغسل دون المسح.
________________________________________
1. تفسير الرازي : 11/162.
________________________________________ الصفحة 49 ________________________________________
مناقشة اجتهاد الرازي :
أمّا الأوّل فإنّ من لاحظ الآية يقف على أنّ هناك تكليفين مختلفين لا يتداخلان.
أحدهما : الغسل لا المسح.
ثانيهما : المسح لا الغسل.
وعلى ضوء ذلك يجب على المتوضئ القيام بكلّ واحد منهما ، دون أن يتداخلا. إنّما المهم هو الوقوف على معنى الغسل والمسح.
زعم الرازي : أنّ الغسل عبارة عن إسالة الماء على العضو ، وأمّا المسح فهو عبارة عن إمرار اليد عليه ، فإذا أسال الماء على العضو باليد فقد قام بكلا الأمرين ، فحينئذٍ يشتمل غسل الأرجل على المسح.
لكن غاب عنه ، أنّ ما ذكره إنّما يتم لو جاء المسح مجرداً عن ذكر الغسل ، دون ما إذا جاءا متقابلين ، وحكم على بعض الأعضاء بالغسل ، والبعض الآخر بالمسح ، فإنّ مقتضى التقابل بين الغسل والمسح في الآية كونهما أمرين متبائنين لا يتداخلان ، وليس هو إلاّ تفسير الغسل بإسالة الماء على العضو سواء كان باليد ، أو بوضعها تحت المطر أو غيره ؛ وأمّا المسح المتقابل غير المتداخل ، فهو عبارة عن إمرار اليد على العضو بالماء المتبقّي في اليد عن غسل الأيدي ، لا على وجه الإسالة ، بل الامرار بنداوة اليد.
لا أقول إنّ المسح وضع لإمرار اليد على العضو بالرطوبة المتبقية ، بل هو موضوع لمطلق إمرار اليد ، سواء كانت اليد جافّة أو متبلّلة ، بشهادة قوله سبحانه : ( فَطَفِقَ مَسْحَا بِالسُّوقِ والأعْنَاقِ ) ( ص ـ 33 ) إذ أخذ سليمان يمسح بيده سوق الصافنات الجياد وأعناقهم ، وقال سبحانه : ( فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فامْسَحُوا بِوُجُوهِكُم وأيْدِيكُم مِنْه ) ( المائدة ـ 6 ).
________________________________________ الصفحة 50 ________________________________________
ولكنه سبحانه إذا خاطب مؤمناً بغسل وجهه ويديه ، ثم بالمسح على الرؤوس والأرجل ، يتبادر منه مسحه بالبلل الموجود في يديه ، لا باليد الجافّة ولا بالماء الخارج عن الوضوء ، فلا يكون الغسل مشتملاً على المسح الوارد في الآية ، وإن كان مشتملاً على المسح المطلق بالمعنى اللغوي العام.
وإن شئت قلت : إنّ النسبة بين الغسل والمسح عموم وخصوص من وجه ، فالأوّل عبارة عن إسالة الماء على العضو سواء كان بإمرار اليد أم لا ، والثاني عبارة عن إمرار اليد على العضو سواء كان هناك بلل عليها أم لا فيفترقان في موردين :
أ ـ إسالة الماء على العضو بلا إمرار لليد فيصدق الغسل دون المسح.
ب ـ إمرار اليد على العضو سواء كان مع بلل أم لا ، فيصدق المسح دون الآخر.
ويجتمعان فيما إذا كان هناك إسالة مع إمرار.
هذا إذا جرّد كلّ واحد منهما عن الآخر في مقام الاستعمال وأمّا إذا اجتمعا في كلام واحد ، كما في المقام فلا يتبادر منهما إلاّ إسالة الماء في الأوّل وإمرار اليد بالبلل المتبقي في الثاني.
والشاهد على أنّ المسح الوارد في الآية يقابل الغسل ويضادّه ولا يجتمع معه ـ مضافاً إلى التقابل الحاكي عن التخالف ـ تصريح عدّة من أعلام اللغة وإليك كلماتهم :
الغسل والمسح في المصطلح اللّغوي :
أمّا الغسل فقد عرّفه الراغب بقوله : غسلت الشيء غسلاً : أسلت عليه الماء فأزلت درنه ، والغسل الاسم (1).
وقال الجزري : وفي الحديث : واغسلني بماء الثلج والبرد أي طهّرني من
________________________________________
1.الراغب : المفردات : 361 ، مادة غسل.
________________________________________ الصفحة 51 ________________________________________
الذنوب ، والغسل الماء الذي يغتسل به (1).
وقال الفيومي : غسلته غسلاً من باب ضرب ، والاسم الغُسل بالضم وهو الماء الذي يتطهّر به.
وقال ابن القوطية : الغسل تمام الطهارة (2).
وقال الطريحي : غسل الشيء : إزالة الوسخ ونحوه عنه بإجراء الماء عليه (3).
وقال أبو البقاء : الغسل ـ بالفتح ـ الإسالة (4).
هذه النصوص وغيرها تدلّ على شرطية إسالة الماء في صدق الغسل ، ولا أقل من وجود مائع يتحقّق به الغسل كماء الورد.
وأمّا شرطية الدلك في صدق الغسل فليس شرطاً ولم يقل أحد بالشرطية فإنّ مقوم الغسل هو سيلان الماء على الشيء الذي يراد غسله سواء كان هناك دلك أم لا.
وأمّا المسح فواقعه هو إمرار اليد على الممسوح جافّة كانت أو مبلّلة.
قال ابن منظور : فلان يتمسّح بثوبه ، أي يمر بثوبه على الأبدان فيتقرّب به إلى اللّه (5).
وقال الطريحي : المسح إمرار الشيء على الشيء ، يقال : مسح برأسه وتمسّح بالأحجار والأرض (6).
________________________________________
1. الجزري : النهاية : 3/367 ـ 368.
2. الفيومي : المصباح المنير : 2/447 ، مادة غسل.
3. الطريحي : مجمع البحرين : مادة غسل.
4. أبو البقاء : الكليات : 1/311.
5. ابن منظور : لسان العرب : مادة مسح.
6. الطريحي : مجمع البحرين : مادة مسح.
________________________________________ الصفحة 52 ________________________________________
وقال الفيروزآبادي : ومنه الحديث : « وتمسّحوا بالأرض فإنّها بكم برّة » ، أراد به التيمّم (1).
وقال الجزري : وفي حديث ابن عباس : « إذا كان الغلام يتيماً فامسحوا رأسه من أعلاه إلى مقدّمه » (2).
وقال الجوهري : مسح برأسه وتمسّح بالأرض ، ومسح الأرض مساحة أي ذرعها (3).
وقال الجرجاني : المسح هو إمرار اليد المبتلّة بلا تسييل (4).
وقال المطرزي : المسح : إمرار اليد على الشيء. يقال : مسح رأسه بالماء أو بالدهن ( يمسحه مسحاً ) (5).
وقال ابن جزي في تفسيره : المسح امرار اليدين بالبلل الذي يبقى من الماء والغسل امرار اليد بالماء ، وعند الشافعي امرار الماء وان لم يكن باليد (6).
وقال القاسمي : المسح احساس المحل الماء بحيث لا يسيل (7).
نعم ، ربّما يستعمل المسح في مورد الغسل بالقرينة كما إذا أُضيف إليه لفظة الماء ، يقال : مسحت يدي بالماء إذا غسلتها وتمسّحت بالماء إذا اغتسلت ، وأمّا إذا جرّد عن ذلك فيراد منه مجرّد الإمرار ، من غير فرق بين أن تكون يده مبتلّة أو جافّة.
________________________________________
1. الفيروزآبادي : القاموس المحيط : 1/95 ، مادة مسح.
2. الجزري : النهاية : 4/327.
3. الجوهري : الصحاح : 1/404.
4. الجرجاني : التعريفات : 272.
5. المطرزي : المغرب في ترتيب المعرب : 2/266.
6. تفسير ابن جزي : 149.
7. تفسير القاسمي : 6/102.
________________________________________ الصفحة 53 ________________________________________
ولكن لما جاء المسح بالرؤوس والأرجل في الآية المباركة بعد غسل الوجه واليدين يكون ذلك قرينة على إمرار اليد عليها بالبلّة الموجودة فيها.
وبذلك ظهر أنّ الآية المباركة تحتوي على واجبين : أحدهما : الغسل ، والآخر : المسح ، وكلّ يغاير الآخر ، فلا الغسل مشتمل على المسح ولا المسح على الغسل.
ومن حاول تفسير المسح في الآية بالغسل بحجّة انّ المسح يستعمل في الغسل فقد أخطأ ، فلأنّ المسح انّما يستعمل في الغسل إذا قيّد بلفظة الماء وإلاّ فلا يراد منه سوى الإمرار. وبذلك يظهر الخلط في كلام ابن قتيبة ، قال : كان رسول اللّه يتوضأ بمدّ ، وكان يمسح بالماء يديه ورجليه وحولها غاسل ، قال : ومنه قوله تعالى : ( و امسحوا برؤوسكم وأرجلكم ) والمراد بمسح الأرجل غسلها. ويستدل بمسحه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) برأسه وغسله رجليه ، بأنّ فعله مبيّـن وبأنّ المسح يستعمل في المعنيين المذكورين ، إذ لو لم نقل بذلك لزم القول بأنّ فعله ناسخ للكتاب وهو ممتنع ، وعلى هذا فالمسح مشترك بين معنيين ، فإن جاز إطلاق اللفظة الواحدة وإرادة كلا معنييها كانت مشتركة أو حقيقة في أحدهما ومجازاً في الآخر كما هو قول الشافعي ، فلا كلام. وإن قيل بالمنع فالعامل محذوف ، فالتقدير وامسحوا بأرجلكم مع إرادة الغسل ، وسُوِّغ حذفه لتقدّم لفظه وإرادة التخفيف (1).
يلاحظ عليه بوجهين :
الأوّل : أنّ ابن قتيبة أراد تفسير الآية بفعله وعمل رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وبما أنّه كان يغسل رجليه فهو دليل على أنّ المراد من مسح الأرجل هو الغسل ، ولكنه غفل عن أنّ معنى ذلك أنّ الآية مع أنّها بصدد بيان وظيفة المؤمنين بمختلف طبقاتهم ،
________________________________________
1. الفيومي : المصباح المنير : 2/571 ـ 572 ، مادة مسح.
________________________________________ الصفحة 54 ________________________________________
مجملة مردّدة بين أمرين ، وفعله ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) رافع لاجمالها ، ولكن مكانة الآية ترد ذلك الزعم.
الثاني : أنّ ابن قتيبة تحيّـر بين أمرين ، فمن جانب رأى أنّ الآية ظاهرة في مسح الأرجل ، ومن جانب آخر زعم صحّة الرواية وانّ رسول اللّه غسل رجليه ، فاختار أنّ الأثر مبيّن للآية ، وإلاّ يلزم أن يكون عمله ناسخاً للكتاب ، مع أنّ هناك طريقاً آخر للخلاص من هذا المأزق وهو الأخذ بالكتاب الحجّة القطعيّة من اللّه سبحانه وتأويل الأثر. وسيوافيك أنّ الروايات في فعله متعارضة ، فكما ورد أنّ رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) غسل رجليه ، ورد أيضاً أَنّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) مسحهما ، فعند ذلك فالكتاب هو المهيمن على تعيين الصحيح من الزائغ ، فيؤخذ بما وافق الكتاب ويضرب بالمخالف عرض الجدار ، لو لم يمكن تأويله.
وأمّا ما يلوكه بعض المتجرّئين من أنّ السنّة الصحيحة تنسخ الكتاب ، فهو مما لا يمكن المساعدة عليه ، فإنّ الكتاب قطعي السند ، واضح الدلالة ، لا يعادله شيء ، فمن أراد نسخ الكتاب بالسنّة غير المتواترة فقد حطّ من مقامه وأنزله منزلة الأدلّة الظنّية ، مع أنّه المهيمن على الكتب السماوية قاطبة ، فكيف بِهِ على الروايات المروية عبر الزمان ؟!
وأمّا الأمر الثاني : وهو أَنّ التحديد جاء في الغسل دون المسح ، فهو دليل على أنّ الأرجل بما اشتملت على التحديد إلى الكعبين مورد للغسل.
وهذا الدليل من الإمام الرازي بعيد جداً ، فإنّ الواجب في الوجه الوارد في الآية هو الغسل مع أنّه فاقد للتحديد ، فليس التحديد دليلاً على الغسل ، ولا عدمه دليلاً على المسح ، وإِنّما الحجة دراسة الآية والأخذ بظهورها.
________________________________________ الصفحة 55 ________________________________________
5. اجتهاد ابن قدامة :
إنّ الإمام موفق الدين ابن قدامـة ( المتوفّى 620 ه ) لمّا سلّم إنّ مقتضى عطف الأرجل على الرؤوس هو المسح ، أخذ يتفلسف ويجتهد أمام الدليل الصارم ، وقال : إنّ هناك فرقاً بين الرأس والرجل ، ولأجله لا يمكن أن يحكم عليها بحكم واحد ، وهذه الوجوه عبارة :
1 ـ انّ الممسوح في الرأس شعر يشق غسله والرجلان بخلاف ذلك فهما أشبه بالمغسولات.
2 ـ انّهما محدودان بحد ينتهي إليه فأشبها باليدين.
3 ـ انّهما معرّضتان للخبث لكونها يُوطّأ بها على الأرض بخلاف الرأس (1).
يلاحظ عليه : أنّه اجتهاد مقابل النص وتفلسف في الأحكام.
فأمّا الأوّل : فأي شق في غسل الشعر إذا كان المغسول جزءاً منه فإنّه الواجب في المسح ، فليكن كذلك عند الغسل.
وأمّا الثاني : فلأنّ التمسك بالشَبه ضعيف جداً ، إذ كم من متشابهين يختلفان في الحكم.
وأفسد منه هو الوجه الثالث فإنّ كون الرجلين معرّضتين للخبث لا يقتضي تعيّـن الغسل ، فإنّ القائل بالمسح يقول بأنّه يجب أن تكون الرِجل طاهرة من الخبث ثم تمسح.
ولعمري إنّ هذه الوجوه تلاعب بالآية لغاية دعم المذهب ، والجدير بالفقيه الواعي هو الأخذ بالآية سواء أوافقت مذهب إمامه أم لا. ولصاحب المنار كلمة
________________________________________
1. ابن قدامة : المغني : 1/124.
________________________________________ الصفحة 56 ________________________________________
قيمة في حق هؤلاء الذين يقدِّمون فتاوى الأئمّة على الكتاب العزيز والسنّة الصحيحة يقول : إنّ العمل عندهم على أقوال كتبهم دون كتاب اللّه وسنة رسوله (1).
6. اجتهاد الخازن :
وقال علاء الدين علي بن محمد البغدادي الشهير بالخازن ( المتوفّى 725 ه ) :
وهل فرض الرجلين المسح أو الغسل ، فروي عن ابن عباس أنّه قال : الوضوء غسلتان ومسحتان؛ ويروى ذلك عن قتادة أيضاً ، ويروى عن أنس ، أنّه قال : نزل القرآن بالمسح والسنّة بالغسل.
وعن عكرمة ، قال : ليس الغسل في الرجلين ، إنّما نزل فيهما المسح.
وعن الشعبي أنّه قال : إنّما هو المسح على الرجلين ، ألا ترى أنّ ما كان عليه الغسل جعل عليه التيمّم ، وما كان عليه المسح أهمل.
إلى أن قال : أما قراءة النصب فالمعنى فيها ظاهر لأنّه عطف على المغسول لوجوب غسل الرجلين على مذهب الجمهور ، ولا يقدح فيه قول من خالف.
وأمّا قراءة الكسر فقد اختلفوا في معناها والجواب عنها ، ثم ذكر وجهين :
1. قال أبو حاتم وابن الأنباري : الكسر عطف على الممسوح غير أنّ المراد بالمسح في الأرجل الغسل.
2. جعل كسر اللام في الأرجل على مجاورة اللفظ دون الحكم ، واستدل
________________________________________
1. محمد رشيد رضا ، المنار : 2/386.
________________________________________ الصفحة 57 ________________________________________
بقولهم : « جحر ضب خرب » والخرب نعت للجحر لا للضب ، وإنّما أخذ إعراب الضب للمجاورة.
ثم رد عليه بقوله : لأنّ الكسر على المجاورة إنّما يحمل لأجل الضرورة في الشعر أو يصار إليه حتى يحصل الأمن من الالتباس ، لأنّ الخرب لا يكون نعتاً للضب بل للجحر ، ولأنّ الكسر بالجوار إنّما يجوز بدون حرف العطف وأمّا معها فلم تتكلم به العرب (1). يلاحظ على كلامه بأمرين :
1. أنّ تفسير قراءة النصب بالعطف على ( وجوهكم ) غير خال من التعسّف ، لاستلزامه الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بجملة أجنبية ، وهو ممنوع ، وكان عليه أن يفسرها بالعطف على محل ( برءُوسكم ).
2. أنّ تفسير قراءة الخفض ـ مع القول بأنّها معطوفة على ( برءُوسكم ) ـ بأنّ المراد من المسح هو الغسل ، يوجب كون اللفظين مترادفين ، مع أنك عرفت أنّ المسح غير الغسل ويكفي في الأوّل إمرار اليد المغسولة على الممسوح ، وان لم يجرِ الماء بخلاف الثاني فيلزم فيه جريان الماء فكيف يكون المراد من المسح هو الغسل ؟!
ولعمري إنّ هذا النوع من التفسير لعب بظواهر القرآن ، وتقديم للمذهب على صريحه.
________________________________________
1. تفسير الكشاف : 1/325 ـ 326.
________________________________________ الصفحة 58 ________________________________________
7. اجتهاد ابن تيمية :
لمّا وقف ابن تيمية ( المتوفّى 728 ه ) على أنّ الخفض بالجر يستلزم العطف على الرؤوس فيلزم حينئذٍ مسح الرجلين لا غسلهما ، التجأ إلى تأويل النص ، وقال :
« ومن قرأ بالخفض فليس معناه وامسحوا أرجلكم كما يظنه بعض الناس لأوجه : أحدها : انّ الذين قرأوا ذلك من السلف ، قالوا : عاد الأمر إلى الغسل » (1).
يلاحظ عليه : أنّه لو صحّ ما ذكره لزم القول بأنّ السلف تركوا القرآن وراء ظهورهم وأخذوا بما لا يوافق القرآن ولو كان رجوعهم لأجل نسخ الكتاب فقد عرفت أنّ القرآن لا ينسخ بخبر الواحد. ولو سلّمنا جواز النسخ فسورة المائدة لم يُنْسَخْ منها شيءٌ.
ومن العجب انّ ابن تيميّة ناقض نفسه فقد ذكر في الوجه السابع ما هذا نصه : « إنّ التيمم جُعل بدلاً عن الوضوء عند الحاجة فحذف شطر أعضاء الوضوء وخف الشطر الثاني وذلك فإِنّه حذف ما كان ممسوحاً ومسح ما كان مغسولاً » (2).
فلو كان التيمّم على أساس حذف ما كان ممسوحاً فقد حذف حكم الأرجل في التيمّم فلازم ذلك أن يكون حكمه هو المسح حتى يصح حذفه فلو كان حكمه هو الغسل لم يحذف.
8. اجتهاد أبي حيان :
وقال أبو حيان ( المتوفّى 754 ه ) في تفسيره ( البحر المحيط ) ما هذا
________________________________________
1. ابن تيمية : التفسير الكبير : 4/48.
2. المصدر نفسه : 4/50.
________________________________________ الصفحة 59 ________________________________________
ملخّصه : ( وأرجلِكُم ) قرأ ابن كثير وأبو عمر وحمزة وأبو بكر بالجرّ ، وهي قراءة أنس وعكرمة والشعبي وأبي جعفر الباقر ، وهو مذهب الإمامية من الشيعة.
( ومقتضى تلك القراءة هو مسح الأرجل ) لكن من أوجب الغسل تأوّل أنّ الجرّ هو خفض على الجوار ، وهو تأويل ضعيف جداً ، ولم يرد إلاّ في النعت حيث لا يلبس.
أو تأوّل على أنّ الأرجل مجرورة بفعل محذوف يتعدّى بالباء أي « وافعلوا بأرجلكم الغسل » وحذف الفعل وحرف الجر. وهذا تأويل في غاية الضعف.
أو تأوّل على أنّ الأرجل من بين الأعضاء الثلاثة المغسولة مظنّة الإسراف المذموم المنهي عنه فعطف على الرابع الممسوح ، لا لتمسح ولكن لينبَّه على وجوب الاقتصاد في صب الماء عليها (1).
وقرأ نافع والكسائي وابن عامر وحفص ( وأرجلكم ) بالنصب ، واختلفوا في تخريج هذه القراءة ، فقيل هو معطوف على قوله وأيديكم إلى المرافق وأرجلكم إلى الكعبين ، وفيه الفصل بين المتعاطفين بجملة.
قال الاستاذ أبو الحسن بن عصفور في الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه : و أقبح ما يكون بالجمل ، فدل قوله هذا على أنّه ينزّه كتاب اللّه عن هذا التخريج ، وهذا تخريج من يرى أنّ فرض الرجلين هو الغسل وأمّا من يرى المسح فيجعله معطوفاً على موضع برؤوسكم ويجعل قراءة النصب كقراءة الجر دالة على المسح.
وقيل : إنّه مفعول لفعل محذوف قدّر في الآية ، أي واغسلوا أرجلكم ، نظير
________________________________________
1. لا يخفى على القارئ الكريم أنّ ما ذكره من الوجه تفلسف لتصحيح مذهبه لا يلتفت إليه جلّ من خوطب بالقرآن الكريم. وقد أخذه من الزمخشري.
________________________________________ الصفحة 60 ________________________________________
قول الشاعر :
علفتها تبناً وماءً بارداً (1).
يلاحظ عليه : أنّه أوَّل الجرّ بالعطف على اللفظ دون المشاركة في الحكم وهو تفلسف لا طائل تحته ، وأمّا تأويل النصب بتقدير الفعل فيرد عليه بوجود الفارق بين الآية والمثال إذ القرينة العقلية دالة على حذف الفعل لأنّ التبن يعلف به دون الماء وإنّما يسقى به ، فكأنّه قال علفتها تبناً وسقيتها ماءً بارداً.
وأمّا الأرجل فهي قابلة للمسح والغسل ، فلا وجه لتقدير الفعل مع إمكان عطفه على الرؤوس.
قال السيد المرتضى : إنّ جعل التأثير في الكلام القريب أولى من جعله للبعيد ، فنصب الأرجل عطفاً على الموضع أولى من عطفها على الأيدي والوجوه ، على أنّ الجملة الأُولى المأمور فيها بالغسل قد نقضت وبطل حكمها باستئناف الجملة الثانية ، ولا يجوز بعد انقطاع حكم الجملة الأُولى أن يعطف على ما فيها ، فإنّ ذلك يجري مجرى قولهم : ضربت زيداً وعمراً وأكرمت خالداً وبكراً ، فإنّ رد بكر إلى خالد في الإكرام هو الوجه في الكلام الذي لا يسوغ سواه ولا يجوز رده إلى الضرب الذي قد انقطع حكمه (2).
9. اجتهاد البروسوي :
وقال الشيخ إسماعيل حقي البروسوي ( المتوفّى 1137 ه ) : وأرجلكم إلى الكعبين بالنصب عطفاً على وجوهكم ، ويؤيده السنّة الشائعة وعمل الصحابة
________________________________________
1. تفسير البحر المحيط : 3/437 ـ 438.
2. الانتصار : 23.
________________________________________ الصفحة 61 ________________________________________
وقول أكثر الأئمّة والتحديد. إذ المسح لم يعهد محدوداً وإنّما جاء التحديد في المغسولات (1).
أقول : وقد أيّد الغسل في كلامه هذا بالوجوه التالية :
أ. قراءة النصب. وقد عرفت أنّ قراءة النصب مشترك بين الغسل والمسح فكما يجوز عطفها على الوجوه ( مع الإغماض عمّـا فيه من تخلّل الجملة الأجنبية بين المعطوف والمعطوف عليه ) يجوز عطفها على محل ( برءُوسكم ).
ب. السنّة الشائعة. وستعرف اختلاف السنّة في مسألة المسح والغسل وترجيح ما يدل على المسح.
ج. عمل الصحابة. وسيوافيك أنّ عمل الصحابة لم يكن على وتيرة واحدة.
د. أنّ المسح لم يعهد محدوداً وإنّما جاء التحديد في المغسولات. وقد عرفت ما فيه ، في كلام ابن الجوزي.
10. اجتهاد العجيلي الشافعي :
قال الشيخ سليمان بن عمـر العجيلـي الشافعي ( المتوفّى 1206 ه ) في الفتوحات الإلهية :
أمّا قراءة الجر ففيها تخاريج.
أ. الخفض على الجوار ثم ردَّ أنّ التخريج عليه ضعيف ، لأنّ الخفض على الجوار إنّما ورد في النعت لا في العطف ، وقد ورد في التوكيد قليلاً في ضرورة الشعر.
________________________________________
1. روح البيان : 2/351.
________________________________________ الصفحة 62 ________________________________________
ب. معطوف على رؤوسكم لفظاً ومعنى ثم نسخ ذلك بوجوب الغسل وهو حكم باق.
ج. جرت للتنبيه على عدم الإسراف في استعمال الماء فيها ، لأنّها مظنّة لصب الماء كثيراً فعطفت على الممسوح والمراد غسلها.
د. مجرور بفعل محذوف أي « وافعلوا بأرجلكم » غسلاً (1).
أقول : لقد تكفّل القائل برد الوجه الأوّل ، وأمّا الثاني فيرده أنّ سورة المائدة آخر سورة نزلت على النبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) ولم يكن بعد نزولها أي نسخ.
وأمّا الثالث ، فقد عرفت أنّه تفلسف من الزمخشري ، ولا يخطر ببال المخاطبين بالقرآن.
وأمّا الرابع ، فتقدير الفعل تخريج باطل لا يدل عليه أي قرينة من الآية.
كل هذه التخاريج دليل على أنّ الجر لا يمكن تفسيره إلاّ بالمسح.
وهناك تخريج آخر فاته ذكره وهو لما كانت الآية صريحة ـ حسب الذوق العربي ـ في المسح حاول ابن العربي في « القبس » تأويله بأنّه سبحانه أراد المسح على الخفين ، وهذا هو الذي صحّحه ابن حزم في أحكامه (2).
ولما كان التأويل من الوهن بمكان علّق عليه الشيخ عبد الرحمن الثعالبي في كتابه « الجواهر الحسان » ما هذا نصه :
وما رجّحه ابن العربي هنا مرجوح بل تكلف وتحميل للنص ما لا يحتمل ، إذ لو كان الخف مقصوداً بالمسح ، لما كان لذكر الكعبين حدّاً للمسح معنى ، إذ ليس
________________________________________
1. الفتوحات الإلهية : 1/199.
2. الأحكام : 2/572.
________________________________________ الصفحة 63 ________________________________________
للخف كعبان ! فتعيّـن أنّ المسح مسح الرجل لا مسح الخف ـ وما ذهب إليه الإمام ابن جرير الطبري من التخيير بين الغسل أو المسح ، يحدّ من شطط المذهبيين الذين يتركون قطعي الثبوت والدلالة إلى روايات أقصى ما تفيده الظن (1).
11. اجتهاد الآلوسي :
وقد أوجب تطبيق الآية على المذهب وقوع الكثير من المفسرين في مأزق عجيب وهو جعل القراءتين المتواترين المتعارضتين كأنّهما آيتان متعارضتان.
يقول الآلوسي ( المتوفّى 1270 ه ) : إنّ القراءتين متواترتان بإجماع الفريقين بل بإطباق أهل الإسلام كلّهم ، ومن القواعد الأُصولية عند الطائفتين أنّ القراءتين المتواترتين إذا تعارضتا في آية واحدة فلهما حكم آيتين ، فلابدّ لنا أن نسعى ونجتهد في تطبيقهما أوّلاً ، مهما أمكن لأنّ الأصل في الدلائل ، الإعمال دون الإهمال كما تقرر عند أهل الأُصول ، ثم نطلب بعد ذلك الترجيح بينهما ، ثم إذا لم يتيسير لنا الترجيح بينهما نتركهما ونتوجه إلى الدلائل الأُخر من السنّة (2).
يلاحظ عليه : أنّ من الغرائب أن نجعل القراءتين متعارضتين ثم نسعى في رفع التعارض بأحد الطرق التالية :
أ. السعي والاجتهاد في التوفيق بينهما بحجة أنّ الأصل في الدلائل الإعمال.
ب. إذا لم يمكن التطبيق نطلب بعد ذلك الترجيح بينهما.
ج. إذا لم يتيسر الترجيح بينهما نترك القراءتين ونتوجه إلى الدلائل الأُخر من
________________________________________
1. الجواهر الحسان : 1/417.
2. روح المعاني : 6/74.
________________________________________ الصفحة 64 ________________________________________
السنّة.
فإنّ هذه المضاعفات رهن فرض المذهب على القرآن وتطبيقه عليه ، وإلاّ فالقراءتان ليس فيهما أيُّ تعارض وتهافت وكلتاهما تهدفان إلى أمر واحد وهو مسح الرجلين ، لأنّ الرجلين على كلا القراءتين عطف على موضع واحد وهو رؤوسكم إمّا عطفاً على المحل أو عطفاً على الظاهر.
وبذلك يعلم أنّ ما ذكره الآلوسي في الجمع بين المذهبين ، شيء لا يعتمد عليه ، حيث قال : لو فرض أنّ حكم اللّه تعالى المسح على ما يزعمه الإمامية من الآية ، فالغسل يكفي عنه ، وان كان هو الغسل لا يكفي المسح عنه ، فبالغسل يلزم الخروج عن العهدة بيقين دون المسح ، وذلك لأنّ الغسل محصِّل لمقصود المسح من دون وصول البلل وزيادة (1).
يلاحظ عليه : أنّ المسح والغسل أمران متضادان ، وقد سمعت عن غير واحد من العلماء التفريق بينهما ، فإنّ المسح عبارة عن إمساس المحل الماء بحيث لا يسيل ، أو هو عبارة عن البلل الذي يبقى من الماء ، والغَسْل إمرار اليد بالماء ، فلو كان المأمور به هو ما جاء في هذين التعريفين وهو الإمساس بلا سيلان أو إمرار اليد بلا جريان فكيف يكفي عنه الغسل ؟!
وإن شئت قلت : إنّ الغسل مشروط بشرط شيء ( السيلان ) والمسح مشروط بشرط لا ( أي عدم السيلان ) فلا يغني أحدهما عن الآخر ، ولو كان مغنياً لاقتصر سبحانه بلفظ الغسل في الجميع.
ولعمر القارئ انّ هذه التشبّثات أشبه بتمسك الغريق بالطحلب ، فالمفسّـر الواعي من يتجرّد عن كل رأي مسبق وينظر إلى القرآن نظرة موضوعية كي يأخذ
________________________________________
1. روح المعاني : 6/78.
________________________________________ الصفحة 65 ________________________________________
مذهبه من القرآن لا أن يفرض مذهبه على القرآن.
وأعجب من كل ذلك أنّ الآلوسي التزم بأنّه لا مانع من القول بإجمال الآية ، فإنّها لم تنزل لبيان الوضوء وإنّما نزلت لبيان أحكام التيمم ، حيث يقول : ولم تنزل الآية لتعليمهم بل سوقها لإبدال التيمم من الوضوء والغسل ، وذكر الوضوء قبل التيمم للتمهيد (1) انظر كيف أخرج الآية عن هدفها السامي من تعليم وظيفة المصلّـي وضوءاً وتيمّماً.
12. اجتهاد القاسمي :
قال جمال الدين القاسمي ( 1283 ـ 1332 ه ) : لا يخفى أنّ ظاهر الآية صريح في أنّ الواجب المسح ، كما قاله ابن عباس وغيره ، وإيثار غسلهما في المأثور عنه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) إنّما هو للتزيد في الفرض والتوسع فيه حسب عادته ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) فانّه سنّ في كل فرض سنناً تدعمه وتقويه في الصلاة والزكاة والصوم والحج ، وكذا في الطهارات كما لا يخفى.
وممّا يدل على أنّ واجبها المسح تشريع المسح على الخفين والجوربين ولا سند له إلاّ هذه الآية ، فإنّ كل سنّة أصلها في كتاب اللّه منطوقاً أو مفهوماً فاعرف ذلك واحتفظ به واللّه الهادي (2).
أقول : إنّ القائل يعترف بأنّ صريح الآية هو المسح ، أفيصح لنا العدول عن حكم متواتر قطعي بالروايات المتعارضة ؟! فانّه روي عنه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) المسح كما روي عنه الغسل ، فهل هنا ملجأ بعد التعارض إلاّ الذكر الحكيم.
________________________________________
1. روح المعاني : 6/75.
2. محاسن التأويل : 6/112.
________________________________________ الصفحة 66 ________________________________________
13. اجتهاد صاحب المنار :
قال السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار ( المتوفّى 1354 ه ) إنّ فقهاء أهل السنّة فسّـروا الكعبين بالعظمين الناتئين من جانبي الساق ، ومن يقول بالمسح يفسّـر الكعب بمفصل الساق والقدم.
وعلى الأوّل : ففي كل رجل كعبان ، وعلى الثاني : ففي كل رجل كعب واحد كالمرفق ، فلو كان المراد هو الثاني كان اللازم أن يقال إلى الكعاب كقوله إلى المرافق ، وبما انّه قال إلى الكعبين ، يعلم أنّ المراد هو العظمان الناتئان في جانبي القدم (1).
يلاحظ عليه : أوّلاً : أنّه لا ملازمة بين تفسير الكعبين بالعظمين الناتئين والقول بالغسل ، أو تفسيرهما بمفصل الساق والقدم والقول بالمسح ، إذ من الممكن أن يقول القائل بالمسح بأنّه يجب مسح ظاهر القدم إلى العظمين الناتئين ، كما انّ القائل بالغسل يمكن أن يقول بأنّ الواجب هو غسل الرجل إلى المفصل ، فلا يكون تفسير الكعب بأي معنى قرينة على أحد القولين.
ومجرّد أنّ القائلين بالغسل يجعلون الغاية العظمين ، والقائلين بالمسح يجعلون الغاية المفصل ، لا يكون دليلاً على الملازمة ، إذ يمكن أن يكون القائل صائباً في تفسير الكعبين وخاطئاً في مسألة المسح والغسل.
وثانياً : أنّ الظاهر عند أهل اللغة انّ الكعب هو مفصل القدم ، وإطلاقه على الطرفين الناتئين نادر لا يحمل عليه الكتاب ، ولذلك يقول الأصمعي : الطرفان الناتئان يسميان المنجمين لا الكعبين. وإليك نص كلمات أهل اللغة :
________________________________________
1. المنار : 6/234 ، وقد سبقه الرازي في تفسيره ، وابن تيمية أيضاً في التفسير الكبير : 4/48 ـ 50 ، وكان على الأُستاذ التنبيه على ذلك.
________________________________________ الصفحة 67 ________________________________________
فهذا ابن منظور يفسّـر الكعب بقوله : كلّ مفصل للعظام ، وبالعظم الناشز فوق قدمه الذي يقال له « مشط القدم وقبتها » ، ثم يقول : وقيل الكعبان في الإنسان العظمان الناشزان من جانبي القدم (1).
وقال الراغب : كعب الرجل العظم الذي عند ملتقى القدم والساق ، وكل ما بين العقدتين من القصب والرمح يقال له كعب تشبيهاً بالكعب للفصل بين العقدتين ، كمفصل الكعب بين الساق والقدم (2).
ترى أنّه لم يفسره إلاّ بالمفصل ، ولم يفسره بالمنجمين الناتئين في جانبي الرجل.
وقال الزبيدي : الكعب العظم لكل ذي أربع ، وهو كل مفصل للعظام ، ومن الانسان ما أشرف فوق رسغه ، عند قدمه ، وكل شيء علا وارتفع فهو كعب (3).
فالرسغ في قوله « ما أشرف فوق رسغه » عبارة : عن عظم واقع بين مشط القدم والساق ، فما ارتفع عليه هو الكعب ولا يريد المنجمين ، لأنّهما ليسا فوق الرسغ.
وقال الفيومي : الكعب عند ابن الاعرابي وجماعة هو المفصل بين الساق والقدم.
نعم نقل عن أبي عمرو بن العلاء والأصمعي : انّه العظم الناشز في جانب (4) القدم عند ملتقى الساق والقدم ، فيكون لكل قدم كعبان عن يمنتها وميسرتها (5).
________________________________________
1. لسان العرب : مادة كعب.
2. الراغب الاصفهاني : المفردات : مادة كعب.
3. الزبيدي : تاج العروس : مادة كعب.
4. الصحيح : « جانبي ».
5. الفيومي : المصباح المنير : مادة كعب.
________________________________________ الصفحة 68 ________________________________________
وما نقله يخالف ما نقله الرازي عن الأصمعي ، أَنّه كان يقول : الكعب هو مفصل الساق والقدم ، وهو قول محمد بن الحسن ( ره ) وكان الأصمعي يختار هذا القول ، ويقول : الطرفان الناتئان يسمّيان المنجمين (1).
وقال الفيروز آبادي : الكعب كل مفصل للعظام ، والعظم الناشز فوق القدم ، والناشزان في جانبيها (2).
تجد انّه يذكر الأقوال الثلاثة ويذكر المفصل ، وقبة القدم ، قبل الثالث.
وأمّا الجزري : فقد ذكر كلا القولين : العظمان الناتئان عند مفصل الساق والقدم من الجانبين ، ثم قال : وذهب قوم إلى أنّهما العظمان اللّذان في ظهر القدم (3).
وقال ابن فارس : كعب الرجل وهو طرف الساق عند ملتقى القدم والساق (4).
وقال المطرزي : الكعب : العقدة بين الانبوبين في القصب (5).
وقال النسفي : الكعب : هو العظم المربع الذي عند معقد الشراك. والتكعب : التربع ، وسمّيت الكعبة بها لتربعها (6).
إلى غير ذلك من كلمات أئمّة اللغة حيث ترى أنّ أكثرهم فسروه بالمفصل أو بقبّة القدم ، وعلى ذلك فليس لنا العدول عمّـا اتفقوا عليه إلى ما اختلفوا فيه.
________________________________________
1. الفخر الرازي : التفسير الكبير : 11/162.
2. الفيروزآبادي : القاموس المحيط : مادة كعب.
3. الجزري : النهاية : 4/178.
4. أحمد بن فارس بن زكريا : مجمل اللغة : 3/787.
5. المطرزي : المغرب في ترتيب المعرب : 2/222.
6. النسفي : طلبة الطلبة : 13.
________________________________________ الصفحة 69 ________________________________________
وثالثاً : أنّ تثنية الكعبين لا تدلّ على أنّ المراد هما العظمان في جانبي الساق ، وذلك لأنّه لو كان المراد من الكعب هو المفصل فتكون التثنية باعتبار أَنّ لكل إنسان كعبين ، ففي كلّ رِجْل كعب واحد فيكون فيهما كعبان ، وعند ذلك لا تكون التثنية دليلاً على أنّ المراد هو العظمان في جانبي الساق.
ثم إنّ القائل لما تخيّل أَنّ المراد من الكعب هو العظم المستدير تحت عظم الساق ، اعترض بأنّ العظم المستدير في المفصل شيء خفيّ لا يعرفه إلاّ المتخصّص بعلم التشريح ، والعظمان الناتئان في طرفي الساق محسوسان معلومان لكلّ واحد ، ومناط التكليف يجب أن يكون أمراً ظاهراً لا أمراً خفياً.
يلاحظ عليه : أنّ المراد من الكعب هو نفس مفصل الساق أو قبة القدم لا العظم المستدير المستتر تحته ، وهما ظاهران لكلّ إنسان.
14. اجتهاد ابن عقيل الظاهري :
ذكر الشيخ أبو عبد الرحمن بن عقيل الظاهري في مجلة « الفيصل » العدد 235 صفحة 48 ، أَنّ عطف الأرجل بالنصب على الأيدي جائز لأُمور :
أوّلها : أنّ الفصل بين المتعاطفات جاء بجملة معترضة وهي المسح بالرؤوس ، والاعتراض بالجمل جائز.
ثانيها : أنّ هذا الاعتراض لم يأت عبثاً ، بل اقتضته ضرورة ترتيب العمل في أعضاء الوضوء ومسح الرؤوس قبل غسل الأرجل.
ثالثها : أنّ الاعتراض بمسح الرؤوس اعتراض يناسب أحكام الأرجل بعض الأحيان ، لأنّها تغسل تارة وتمسح أُخرى ، ويمسح ما عليها ثالثة (1).
________________________________________
1. ستوافيك الأحكام الثلاثة عند نقد هذا الوجه ( الثالث ).
________________________________________ الصفحة 70 ________________________________________
رابعها : أنّ قراءة النصب تحتمل العطف على الرؤوس في المسح من ناحية الموضع لا اللفظ ، فلما جاء البيان الشرعي القطعي أَنّ الأرجل تغسل علم يقيناً أَنّ المراد ، العطف على الأيدي والوجوه في الغسل ، فكان هذا بياناً يمنع من اللّبس الذي قد يحدثه الاعتراض بجملة.
يلاحظ على الأوّل : لو سلم أَنّ الفصل بين المتعاطفات جائز ، فإنّما هو إذا لم يُحدث اللّبس ، خصوصاً أنّ الأقرب ( الرؤوس ) يمنع الأبعد ( الأيدي ) ، وبالأخصّ إذا كان هناك فصل بالفعل ، حيث قال تعالى بعد بيان حكم الغسل : ( وَامْسَحُواْ بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْن ) ، إذن لا يشكّ القارئ في أنّها عطف على الأقرب وهي الرؤوس ، فلو كان معطوفاً على الأيدي عادت الآية على وجه يكون الظاهر غير مراد ، والمراد غير ظاهر.
ويلاحظ على الثاني : أنّه يمكن الجمع بين بيان ترتيب العمل في أعضاء الوضوء وعدم إيقاع المخاطب في اللّبس بتكرار الفعل ، بأن يقول : وامسحوا برؤوسكم واغسلوا أرجلكم إلى الكعبين ، فلو كان المراد هو الغسل ، فلماذا لم يجمع بين وضوح البيان وبيان الترتيب ؟
ويلاحظ على الثالث : أنّ الكاتب حاول تفسير الآية ، الواضحة الدلالة والناصعة البيان ، بالفتاوى المتضاربة لا لشيء إلاّ لأجل الموقف المسبق له في كيفيّة الوضوء ، وجعل يفسّـرها بالفتاوى المختلفة حول الأرجل ، وهي الغسل تارة ، والمسح أُخرى ، والمسح على الخفين ثالثة ، ومعنى ذلك أنّه تلقّى الآية مجملة ، فعاد يطلب توضيحها بفتاوى أئمّة الفقه ، وهذا بخس لحقّ الآية ، وإليك ملخّص كلامه :
انّ للأرجل أحكاماً ثلاثة :
________________________________________ الصفحة 71 ________________________________________
أ ـ تغسل تارة ولا يجوز غير الغسل.
ب ـ يجوز الغسل والمسح كما في الوضوء بعد وضوء غسلها فيه ولم ينقض وضوءه الأوّل بناقض.
ج ـ يمسح ما عليها كالخفين.
فبما لها من الأحكام الثلاثة المختلفة ، صارت الأرجل موضوعاً متوسطاً بين الوجوه والأيدي التي لا يعدل عن غسلها إلى غيره وبين الرؤوس التي لا يعدل عن مسحها إلى غيره ، فعند ذلك ناسب الاعتراض أي وقوع مسح الرؤوس بينما يتعين غسله كالوجوه والأيدي وما له حالات من الغسل والمسح ومسح ما عليها.
ولما كان مبنى التيمم على التخفيف فقد بقيت الأعضاء الأبلغ وهي الوجه واليدان يمسح عليها في التيمم ، وسقطت الأعضاء الأخف وهي الرأس والرجلان.
يلاحظ عليه : أنّه تفسير للآية بالظنون والوجوه الاستحسانية التي كانت مغفولة عنها للمخاطبين عند نزول الآية ، فإنّ هذه الأحكام الثلاثة للأرجل على فرض صحّتها لم تكن معلومة للمخاطبين بهذه الآية وما كانوا يعلمون من أحكام الأرجل إلاّ ما جاء في الآية.
وأمّا الحكم الثاني والثالث فانّما وردا في كلام الصحابة بعد رحيل رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ).
أمّا المسح في الوضوء بعد وضوء غسلها فيه ولم ينقض وضوءه الأوّل بناقض فقد نقل عن علي ( عليه السّلام ) وغيره كما سيوافيك.
وأمّا المسح على الخفين فحدّث عنه ولا حرج فقد تضاربت فيه الأقوال :
________________________________________ الصفحة 72 ________________________________________
1 ـ جائز على الإطلاق.
2 ـ يجوز في السفر دون الحضر.
3 ـ عدم الجواز مطلقاً.
قال ابن رشد ، بعد نقله هذه الأقوال : والأقاويل الثلاثة مرويّة عن الصدر الأوّل ، وعن مالك ، والسبب في اختلافهم ما يظن من معارضة آية الوضوء الوارد فيها الأمر بغسل الأرجل ، للآثار التي ورد فيها الأمر بالمسح ، مع تأخر آية الوضوء ، وهذا الخلاف كان بين الصحابة في الصدر الأوّل ، فكان منهم من يرى أنّ آية الوضوء ناسخة لتلك الآثار ، وهو مذهب ابن عباس.
واحتجّ القائلون بجوازه ، بما رواه مسلم ، انّه كان يعجبهم حديث جرير ، وذلك انّه روى أنّه رأى النبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) يمسح على الخفّين ، فقيل له : إنّما كان ذلك قبل نزول المائدة ، فقال : ما أسلمت إلاّ بعد نزول المائدة (1)
وقال المتأخرون القائلون بجوازه : ليس بين الآية والآثار تعارض ، لأنّ الأمر بالغسل انّما هو متوجه إلى من لا خفّ له ، والرخصة انّما هي للابس الخف.
وأمّا من فرّق بين السفر والحضر ، فلأنّ أكثر الآثار الصحاح الواردة في مسحه ( عليه السّلام ) انّما كانت في السفر (2).
على أنّ الدليل على جواز المسح على الخفين بعد نزول سورة المائدة هو حديث جرير ، وما روي انّه أسلم بعد نزول المائدة متعارض بحضوره حجة الوداع.
________________________________________
1. سيوافيك انّه أسلم قبل نزول سورة المائدة.
2. بداية المجتهد : 1/19.
________________________________________ الصفحة 73 ________________________________________
ففي الصحيحين عنه أنّ النبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) قال له : « استنصت الناس في حجة الوداع » ، وجزم الواقدي بأنّه وفد على النبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) في شهر رمضان سنة عشر وانّ بعثه إلى ذي الخلصة كان بعد ذلك ، وانّه وافى مع النبي حجة الوداع من عامه.
ويؤيد ذلك أنّ جريراً روى عن النبي أنّ رسول اللّه قال : إنّ أخاكم النجاشي قد مات ، فهذا يدلّ على أنّ إسلام جرير كان قبل سنة عشر لأنّ النجاشي مات قبل ذلك (1).
مع أنّ قسماً من آيات المائدة نزلت في حجة الوداع باتفاق العلماء ، أعني : قوله سبحانه : ( اليَوْمَ أكمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأتْمَمْتُ عَلَيْكُم نِعمَتِي ورَضِيتُ لَكُمُ الإسلامَ دِيناً فَمَنِ اضطُرَّ فِي مَخْمصَةٍ غَيرَ مُتَجَانِفٍ لإثْمٍ فإنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيم ) ( المائدة ـ 3 ).
روى الرازي : قال أصحاب الآثار : إنّه لما نزلت هذه الآية على النبي لم يعمّر بعد نزولها إلاّ أحداً وثمانين يوماً أو اثنين وثمانين يوماً ، ولم يحصل في الشريعة بعدها زيادة ولا نسخ ولا تبديل (2).
فالعقل السليم يدفعنا إلى القول بأنّ الآية واضحة الدلالة لا نحتاج في فهم مدلولها إلى وجوه استحسانية.
وأمّا الوجه الرابع الذي استند إليه الشيخ عبد الرحمن الظاهري فيرجع لبّه إلى أنّ الآية مجملة محتملة للوجهين حيث يحتمل عطفها على الأيدي والوجوه فلازمه الغسل كما يحتمل أنّه عطف على الرؤوس فلازمه المسح ، فعند ذلك جاء البيان الشرعي القطعي فأثبت الأوّل.
________________________________________
1. الاصابة : 1/233 ـ 234.
2. الرازي : التفسير الكبير : 3/369.
________________________________________ الصفحة 74 ________________________________________
يلاحظ عليه : بأنّ معنى ذلك كون الآية من المجملات مع أَنّها من أوضح المحكمات ، وما حكم الكاتب على إجمالها إلاّ لِصيانة مذهبه الفقهي في حكم الأرجل ولولا هذا الأمر لتلقّى الآية واضحة الدلالة ، ناصعة البيان.
( يَا اَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لأ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللّهَ اِنَّ اللّهَ سَميعٌ عَليمٌ )
( الحجرات ـ 1 )
التعلیقات