مناظرة الشيخ المفيد مع أبي جعفر النسفي العراقي في حكم مسح الرجلين في الوضوء
في الاحكام
منذ 14 سنةسأل بعض أهل مجلس الشيخ أبي عبدالله ، محمد بن محمد بن النعمان رضي الله عنه ، أبا جعفر المعروف بالنسفي العراقي(1).
فقال له : ما فرض الله تعالى من الوضوء في الرجلين ؟
فقال : غسلهما .
فقال : ما الدليل على ذلك ؟
فقال : قول النبي صلى الله عليه وآله وقد توضأ ، فغسل وجهه ، وغسل ذراعيه ، ومسح برأسه وغسل رجليه ، وقال : هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلاّ به(2).
فقال له السائل : ما أنكرت على من قال : انّه لا حجة لك في الخبر ، لاَنّه من أخبار الآحاد ، لا يوجب علماً ولا عملاً .
فقال له أبو جعفر : أخبار الآحاد عندي موجبة للعمل ، وإن لم تكن موجبة للعلم ، وأنا إنّما أبني الكلام على أصلي دون أصل المخالف ، وتردد الكلام بينه وبين السائل في هذا المعنى تردداً يسيراً .
فقال الشيخ أبو عبدالله رضي الله عنه : أنا أسلّم لك العمل بأخبار الآحاد تسليم نظر ، وإن كنت لا أعتقد ذلك ، استظهاراً في الحجة ، وأبيّن أنه لا دليل لك في الخبر الذي تعلّقت به ، على ما تذهب إليه من فرض غسل الرجلين في الوضوء.
وذلك : إنّ قول النبي صلى الله عليه وآله إن صحّ عنه ـ : « هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلاّ به » مختص الحكم بذلك الوضوء ، الذي أشار إليه بقوله : « هذا » دون ما عداه من غيره ، أو فعل نفسه ؟
فالحكم بايجاب ذلك ، في أفعال غيره وأفعال نفسه ، لمن بعد ، حكم جائز لا حجة عليه .
فلم يبيّن أبو جعفر معنى هذا الكلام ، وقال ـ على ظن منه خلاف المراد فيه ـ : الوضوء إسم للجنس المشروع منه ، والتعلق بحكمه على العموم حقيقة لا مجاز .
فقال له الشيخ : هذا كلام من لم يتأمل معنى ما أوردته عليه ، وليس العبارة بالوضوء ، عن جنس مشروع يمنع مما ألزمتك في التعلق بقول النبي صلى الله عليه وآله ، وثبت أنّ حكمك به على كل وضوء يحدث ليس بمأخوذ من حقيقة الكلام ، وإنّما هو دعوى لا تثبت إلاّ ببرهان بنّاء في الخبر ، ويكون خارجاً عنه .
وذلك : أن قول النبي صلى الله عليه وآله : « هذا » لا يقع على معدوم ، ولا الاِشارة به إلاّ إلى موجود ، وإذا كان الاَمر على ما ذكرناه ، وجب أن يختص حكمه بنفس ذلك الوضوء الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وآله ، ويكون المراد بالصلاة المذكورة معه ما يقام به دون ما عداها ، فمن أين يخرج منه أن ما سوى هذا الوضوء ممّا يتجدد بفعل النبي صلى الله عليه وآله ؟ أو يكون وضوءاً لغيره ؟ فحكمه حكمه ؟ بقياس عليه ، أو بحجّة تعقل ، أو بمفهوم اللفظ ، وإذا لم يكن للقياس في هذا مجال ، ولا للعقل فيه مدخل ، ولم يُفده اللفظ ، لم يبق إلاّ الاقتراح فيه ، والدعوى له بغير البرهان .
فقال أبو جعفر : قد ثبت أنّه إذا كان حكم وضوء النبي صلى الله عليه وآله ذلك ، وأن الله تعالى لا يقبل صلاته إلاّ به ، وجب أن يكون حكم غيره كحكمه فيه ، إذ ليس في الاَمة من يفرق بين الاَمرين ، فزعم أنّ للنبي صلى الله عليه وآله وضوءاً على انفراده ، وللاَمة وضوء على حياله .
فقال الشيخ : هذا ذهاب عن وجه الكلام الذي أوردناه عليك ، مع استئنافك إياه ، وانتقالك عمّا كنت معتمداً عليه في الخبر ، ويكفي الخصم من خصمه ، والنظر أن يضطره إلى الانتقال عن معتمده إلى غيره ، وإظهار الرغبة إلى سواه .
والذي بعد فإنّ الذي طالبناك به هو أن يكون قوله صلى الله عليه وآله : « هذا وضوء » إشارة إلى ذلك الشيء الواقع دون غيره من أمثاله .
ولم نسلّم لك أن المراد به كلّ وضوء يحدثه النبي صلى الله عليه وآله في مستقبل الاَوقات فيبنى الكلام على ذلك ، ويستدلّ على مذهبك فيه بما خرّجته من الاِجماع ، فيجب أن تأتي بفصل ممّا ألزمناك ، وإلاّ فالكلام عليك متوجه مع انتقالك من دليل إلى دليل للاضطرار دون الاختيار .
فقال : هذا لا معنى له ، لاَنّه لم يكن النبي صلى الله عليه وآله في حال من الاَحوال ، قد أمر بوضوء لا يقبل الله صلاته إلاّ به ، ثمّ نقل عنه إلى غيره ، وإذا ثبت أن العبادة له كانت بوضوء استمر على الاَحوال والاَوقات ، لم يلزم ما أدخلت علي من الكلام.
فقال الشيخ رحمه الله : وهذا أيضاً ممّا لم يتأمل ، وسبق إلى وهمك منه ما لم نقصده في الاِلزام ، وذلك إنّا لم نرد بما ذكرناه في تخصيص وضوء النبي صلى الله عليه وآله الواقع منه في تلك الحال ما قدّرت من أنه كان مفروضاً عليه غسل الرجين للوضوء دون ما سواه ، وإنما أوردنا ذلك على التقدير .
فما أنكرت أن يكون غسل النبي صلى الله عليه وآله رجليه في ذلك الوضوء لاِماطة نجس كان بهما ، ففعل ذلك لما ذكرناه ، دون إقامة فرض الوضوء للصلاة على انفراده مما سمّيناه ، فيكون قوله صلى الله عليه وآله حينئذٍ : « هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلاّ به » مختصاً بذلك الوضوء الذي دخل فيه فرض إماطة النجاسة عن الرجلين ، دون ما عداه ، وهذا خلاف ظنك الذي أطلت فيه الكلام .
فقال أبو جعفر : هذا أيضاً غير لازم ، إماطة(3)النجاسة لا يطلق عليهاوضوء شرعي ، وقول النبي صلى الله عليه وآله : « هذا وضوء » لفظ شرعي يخص نوع الوضوء دون ما عداه .
فقال له : الاَمر كما وصفت من أنّه لا يطلق لفظ الوضوء إذا انفرد ذلك ممّا سواه ، لكنه ما أنكرت أن يطلق ذلك على الوضوء المشروع إذا فعل في جملته إماطة نجاسة عن الجسد أو الابعاض ، ولو لم تمط في حال الوضوء أو معه ، ووقعت على الانفراد لم يطلق عليها ذلك ، فيكون للاتصال من الحكم ما لا يكون للانفصال ، ويكون الاِشارة بقوله : « هذا وضوء » إلى أكثر الاَفعال التي وقعت مما هي وضوء في نفسه ، وإن يتخللها ما لا يسمى على الانفراد وضوءاً ، وهذا معروف في لغة العرب لا يتناكره منهم اثنان .
ألا ترى أنّه يسمّون الشيء بأسم مجاوره ، يستعيرون فيه اسم ما دخل في جملته ، ويعبّرون عنه بحقيقة اللفظ منه وإن تخلل أجزاءه ما ليس منه ، ولا خلاف مع هذا بينهم أن السمات قد تطلق على الاَشياء بحكم الاَغلب ، ويحكم عليها بالغلبة ، وإن كان فيها ما ليس من الاَغلب ، وهذا يبيّن عن وجه الكلام عليك ، وأنك ذهبت عنه مذهباً بعيداً .
فقال : لو جاز أن يعبّر عن إماطة النجاسة عن الرجل بالوضوء ، لجاز أن يعبّر عن إماطتها عن الثوب بذلك ، ويعبّر عن السترة في الصلاة بذلك ، ويعبّر عن التوجه والقبلة بالوضوء ، لاَنّ الصلاة لا تتم إلاّ بذلك كما لا تتم إلاّ بإماطة النجاسة عن القدمين وغيرهما من الجسد ، وهذا ما لا يقوله أحد .
فقال الشيخ رضي الله عنه : هذا أيضاً كلام على غير ما اعتمدناه ، ولو تأملت ما ذكرناه لاَغناك عن تكلّف هذا الخطاب ، وذلك أنا لم نقل أن إماطة النجاسة عن القدمين بغسلهما يقال لهما وضوء ، ولا حكمنا انّ النبي صلى الله عليه وآله قصد ذلك بقوله : « هذا وضوء » ولا عناه ، وإنما قلنا إنه عنى الوضوء المشروع مع دخول ما ليس من جنسه ونوعه .
وليس كذلك غسل الثوب ، لاَنّه لا يدخل في جملة الوضوء ، ولا يتخلل أجزاء الفعل منه ، ولو اتفق دخوله بالعرض ، وتخلل أجزاء الفعل منه لا سيّما على أصلك في ترك موالاة الوضوء ، لم يجز أن يعبّر عن الوضوء وعنه جميعاً بالعبارة عن الوضوء المطلق ، كما عبّر بذلك عن غسل الرجلين ، لما ذكرناه في الفرض من قبل أن لفظ الوضوء في اللغة إنما هو موضوع على تنظيف الجسد ، وتحسينه دون غيره ، ولذلك قيل : فلان وضيء الوجه ، ولم يقولوا : فلان وضيء الثوب ، وإن كان الثوب في نفسه حسناً .
فلا ينكر استعمال العبارة فيما ليس بوضوء شرعي مع الوضوء الشرعي ، بما وضعت له عبارة الوضوء في الاَصل ، من التحسين للجسد ، والتنظيف له .
بل لو استعملت هذه العبارة في تنظيف الجسد المفرد من الوضوء الشرعي لكانت جارية على الاَصل من اللغة ، فكيف إذا وضعت في موضوع الشرع واللغة ، وقصد بها ما هي موضوعة له في الشريعة ، مع ما تخلّله مما يطلق عليه في اللغة ، فأما السترة في الصلاة ، والتوجه ، والقبلة ، والنية فليس من هذا في شيء لاَمرين :
أحدهما : أن كلّ واحد من هذه لا يتخلل أجزاء الوضوء .
والثاني : أنّه مما لا يطلق عليه هذه العبارة مجاز اللغة .
فاقتضى بعض الحاضرين الموافقة لاَبي جعفر على الانتقال .
فقال الشيخ رحمه الله : أما الانتقال من أبي جعفر فكثير في هذا المجلس ، وأصل الانتقال منه تركه الخبر جانباً إلى الاستدلال من مقتضى الخبر ، فليسأل عن التعلق بالظاهر منه بعد اعتماده ، ثم تركه جانباً إلى غيره .
فقال أبو جعفر : ليس هذا نُقلة عندي ، لاَنني إنما صرت إلى ما صرت إليه عند الزيادة على ما لم يرد في السؤال الاَول .
فقال الشيخ رضي الله عنه : سواء انتقلت بالزيادة أو بغيرها ، فقد خرجت عن حدّ النظر ، وأظهرت الرغبة عمّا كنت عليه لضعفه عندك ، ولجأت إلى غيره .
وبعد : فكيف نقلتك الزيادة التي تدّعيها ؟ وإنما طولت بوجه البرهان من الخبر فرمته ، فلما لم تجد إليه سبيلاً عدلت إلى سواه ، وهو أنك جعلت قول النبي صلى الله عليه وآله : « هذا وضوء لا يقبل الصلاة إلاّ به » حكماً سارياً عليّ ، فلما بيّنا بطلان ذلك جعلته خاصاً للنبي صلى الله عليه وآله في وضوء بعينه .
فإن كنت أجبت السائل عن مسألة عامة فاعتمادك ـ على خاصّ ـ الجواب باطل ، وإن كنت أجبته عن خاص من سؤاله ، فقد عدلت عما اقتضاه السؤال بالاتفاق .
فقال أبو جعفر : ليس لاَحد أن يمنع المجيب عن سؤال عام بجواب خاص ودليل مختص ، ولا يعنّته بذلك ، إذا بنى كلامه فيما يسري إلى العموم عليه .
فقال الشيخ رحمه الله : فهذا لو بدأت به أولاً كانت لك حجة شبهة وإن سقطت ، ولكنك لم تفعل ذلك ، بل أجبت بجواب عام ، فقلت : فرض الله في الاَرجل على العموم الغسل ، ثم دللت على ذلك عند نفسك بظاهر لفظ النبي صلى الله عليه وآله (فإن) ذلك طعناً في دليلك ، فركنت إلى التعويل على وضوء واحد للنبي صلى الله عليه وآله ، وضممت إلى ذلك الاِجماع بحسب ما توهمت من إلزامنا لك ، فبيّنا لك خلافه .
وبعد ، فما الفرق بينك وبين من سئل عن مسألة في شيء مخصوص فأجاب عن غيره ؟ ثمّ دلّ على شيء سوى ما أجاب به ، واعتمد في ذلك ؟
فإن قال : إنما فعلت ذلك لاَبني عليه ما يكون جواباً للسؤال فلم يأت بفصل يذكر .
ثمّ قال الشيخ رضي الله عنه : وفرغنا من الكلام على خبرك ، ونحن نقابلك بالاَخبار التي رواها أصحابك في نقيضه ، لنستوي في الكلام معك من هذا الوجه أيضاً فما تصنع فيما رواه أصحاب الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله أنه : « قام على سباطة(4) قوم قائماً ، ثمّ استدعى ماء ، فجاءه بعض أصحابه بأداوة فيها ماء ، فاستبرأ ، وغسل وجهه وذراعيه ، ومسح برأسه ، ومسح برجليه وهي في النعلين »(5)
وكيف تجمع بين هذا الحديث ، وبين مذهبك في أن من لم يغسل رجليه في الوضوء لم يقبل الله صلاته حسب ما رويته في حديثك ؟
بل كيف تصنع فيما رواه أصحاب الحديث في نفس حديثك : « إنّ النبي صلى الله عليه وآله توضأ بالماء ثلاثاً ثمّ غسل رجليه وقال : هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلاّ به ».
فقال أبو جعفر : هذان الحديثان لا أعرفهما هكذا ، وإنما روينا أن النبي صلى الله عليه وآله بال في سباطة قوم ثمّ توضأ .
وروينا أنه توضأ بالماء ثلاثاً وقال : « هذا وضوئي ووضوء الاَنبياء من قبلي ووضوء خليلي إبراهيم »(6).
فقال له الشيخ رحمه الله : ينبغي لك أن تنصف وترضى لغيرك بما ترضاه لنفسك ، نحن سلّمنا حديثك وما رويناه قط ، ولا صححه أحد منّا ، ثمّ كلمناك عليه ، وقابلناك بأخبار رواها شيوخك ، فدفعتها بألواح ، وقد كان يسعنا دفع حديثك في أول الاَمر ، ومطالبتك بالحجة على صحّته ، فلم نفعل .
فيجب إذا كنت تعمل بأخبار الآحاد أن تنقاد إلى ما تقتضيه ، ولا تلجأ في إطراح العمل بها ، إلى القول بإنك لا تعرفها ، فيسقط بذلك عن خصمك قبول ما ترويه إذا لم يعرفه ، وهذا إسقاط لنفس احتجاجك ، واجتناب لاَصله .
فقال أبو جعفر : الحديث في أنّه توضأ بالماء ثلاثاً فلا أعرفه إلاّ فيما رويته أنا ، وأما الرواية عن النبي صلى الله عليه وآله أنه توضأ ومسح على رجليه ، فقد ثبتت ، لكنها لم تزد على الرواية بأنه بال .
وليس يمتنع أن يتوضأ الاِنسان وضوءاً يمسح فيه رجليه ، ويكون وضوءه ذلك عن غير حدث ، كما روينا عن علي بن أبي طالب عليه السلام أنه توضأ ومسح على رجليه ، وقال : « هذا وضوء من لم يحدث »(7)
فقال الشيخ رحمة الله عليه : طالبناك بالاِنصاف في أخبار الآحاد التي رواها أصحابك ، لاحتجاجك بها ، لا سيما مع تديّنك بإيجاب العمل بها ، وأريناك أن دفاعك لها يبطل احتجاجك على خصومك ، وقد مرّ عليه ، فأجبنا إلى ذلك ، ثمّ قبلت أخباراً رويتها أنت من ذلك ، ودفعت ما رويناه ، وهذا رجوع إلى الاَول في التحكم والمناقضة .
وبعد فإن أكثر الذي رويته عن النبي صلى الله عليه وآله في مسح الرجلين يكفي في الحجة عليك ، وتأولك له بأنّه وضوء عن غير حدث يقابله أن غسل النبي صلى الله عليه وآله رجليه في ذلك الوضوء إنما كان لرفع النجس ، فيقابل التأويلان ويتكافأ الاِحتجاج بالحديثين .
فأمّا روايته عن أمير المؤمنين عليه السلام فهو حجة عليك لا لك ، وذلك أن قوله عليه السلام وقد مسح رجليه : « هذا وضوء من لم يحدث » يفيد الخبر عن إحداث الغسل الذي لم يأت به كتاب ، بل جاء بنقيضه ، ولم تأت به سنة ، فصار الفاعل له بدلاً من المسح المفروض محدثاً بدعة في الدين ، ولو لم يكن المراد فيه ما ذكرناه على القطع لكفى أن يكون محتملاً له ، لاَنّ الحدث غير مذكور في اللفظ ، وإنما هو مقدر في التأويل ، فكأنكم تقولون أنّ المضمر : لم يحدث ما ينقض الوضوء ، والمقدّر عندنا فيه : من لم يحدث غير مشروع في الوضوء .
وبقي عليك الحديث الذي روي أن النبي صلى الله عليه وآله توضأ فمسح على رجليه ولم يفصل فارتج عليه الكلام في قول أمير المؤمنين عليه السلام : « هذا وضوء من لم يحدث » ولجلج فيه ، ولم يدر ما يقول ، فأضرب عن ذكره صفحاً وقال : فأنا أقبل الحديث أيضاً أنّ النبي صلى الله عليه وآله قام فتوضأ ومسح على رجليه وهما في النعلين ، فأقول : إنهما كانا في جوربين ، والجوربان في النعلين ، كما أقول في القراءة بالخفض : إنها تفيد مسح الخفّين إذا كانت الرجلان فيهما .
فقال الشيخ رضي الله عنه : هذا كلام بعيد من الصواب ، متعسّف في تأويل الاَخبار ، وذلك أنّ الراوي لم يذكر جوربين ولا خفين ، فلا يجب أن يدخل في الحديث ما ليس فيه ، كما أنّا لمّا سلّمنا حديثك لم ننقض منه ما تضمنه ، ولم تزد فيه شيئاً يسهّل سبيل دفاعك عن الاِحتجاج به ، ولو قلنا كما قلت إنّ النبي صلى الله عليه وآله توضأ ومسح على رجليه وقال : هذا وضوء لا يقبل الصلاة إلاّ به ، ثمّ غسلهما بعد ذلك لكنا في صورتك وحالك في الزيادة في الاَخبار ، بل لو قلنا أنه غسل رجليه أولاً ثمّ استأنف الوضوء ، وإن لم يرو ذلك الراوي لكان كقولك إن كان في رجليه جوربان لم يذكرهما الراوي ، وكنا نحن أولى بالتأويل الذي ذكرناه منك ، وفاق أفعال رسول الله صلى الله عليه وآله ظواهر القرآن ، وتأولك أنت أقواله ، وحملك فعاله على نقيض القرآن ، والزيادة في ألفاظ الاَخبار ما لم يذكره أحد بحال ، على أنه لا يعبّر بالجوربين عن الرجلين ، ولا بالخفين عنهما في حقيقة اللغة ، ولا في مجازها ، ولم يرو ذلك أعجمي ، فيكون لك تعلق به ، بل رواه عربي فصيح اللسان ، فبطل أيضاً حملك الخبر عليه حسب ما بيّناه .
فترك الكلام على ذلك كلّه ، وقال : العرب تقول لمن داس شيئاً برجله وفيها جورب أو خف : قد داس فلان برجله كذا وكذا ، وهذه العامة كلّها على ما ذكرناه لا يمتري فيه منهم اثنان .
فقال الشيخ : ليس مثالك بنظير لدعواك ، وبينهما عند أهل العقول واللغة أعظم الفرقان ، وذلك أن الدائس برجله وهي في الجورب أو الخف معد فعل رجله إلى الدوس ، وليس الماسح على الخف والجورب معدّياً فعله إلى الرجل بالمسح على الاتفاق ، فأي نسبة بين ذلك وبين ما تأولت به الخبر على غير مفهوم اللسان ؟
فقال أبو جعفر : والله ما أدري ما التعدي والاعتماد ، وهذا من كلام المتكلمين ، وانقطع الكلام على إخباره عن نفسه بأنه لم يفهم غرض الكلام.
قال الشيخ رحمه الله : وقلت بعد انفصال المجلس لبعض أصحابنا في حل كلام أمير المؤمنين عليه السلام من قوله : هذا وضوء من لم يحدث ، زيادة لم أوردها على الخصم ، لاَنني لم أوثر اتفاقه عليها في الحال ، ولم يكن لي فقر إليها في الحجاج ، وهي معتمدة في برهان الحق ـ والمنة لله ـ وذلك أنّ قوله عليه السلام وقد توضأ فغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ومسح برأسه ورجليه : هذا وضوء من لم يحدث ، لا يجوز حمله إلاّ على الوجه الذي ذكرناه ، في حكم الوضوء المشروع ، الذي لم يحدث فيه ما ليس بمشروع مِن قِبل أنه لو كان على ما تأوله للخصوص من أنه أراد به وضوء من لم يحدث ما يوجب الوضوء ، لكان لمن لم يجب عليه الوضوء وضوء مخصوص لا يتعدى إلى غيره ، كما أن لمن توضأ ـ عن حدث ـ وضوءاً مخصوصاً لا يجوز تعديه إلى سواه .
ولما أجمعوا على أن له أن يتعدى ذلك إلى غسل الرجلين ، ويكون وضوءاً لمن لم يحدث ، كما يكون المسح وضوءاً له ، بطل تأويلهم إذ ما يختص لا يقع غيره موقعه ، وفي إجماعهم على ما بيّناه من أن من لم يحدث ليس له وضوء بعينه مشروع بطلان ما تعلقوا به في تأويل كلام أمير المؤمنين عليه السلام ، ودليل صحة ما ذكرناه منه .
والحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على محمد النبي وآله الطاهرين وسلم تسليماً كثيراً(8).
____________
(1) هو : أبو جعفر محمد بن أحمد بن محمود النسفي ، القاضي عالم الحنفية في زمانه ، أخذ الفقه عن أبي بكر الرازي ، وصنف تعليقة في الخلاف مشهورة ، وكان فقيراً متزهداً ، بات ليلة قلقاً مكروباً لما به الفقر والحاجة ، فعرض له فكر في فرع من الفروع كان أشكل عليه ، فانفتح له ، فقام يرقص ويقول : أين الملوك ؟ وأبناء الملوك ؟ فسألته امرأته عن خبره فأعلمها بما حصل له ، فتعجبت من شأنه ، توفي في شعبان سنة 414 هـ . راجع ترجمته في المنتظم في تاريخ الاُمم والملوك لابن الجوزي : ج 15 ص 162 ترجمة رقم : 3121 ، البداية والنهاية لابن كثير : ج 12 ص 17 ، الكامل لابن الاَثير : ج 9 ص 334 ، الجواهر المضيّة في طبقات الحنفية : ج 3 ص 67 ـ 68 ترجمة رقم : 1205 .
(2) لم أجد هذا الحديث بهذه الكيفية في كتب الحديث ، وسوف يأتي قريب منه باختلاف كما في بعض المصادر .
(3) أي إزالة النجاسة . راجع : مجمع البحرين : ج 4 ص 274 مادة (ميط) .
(4) السباطة ـ بضم السين ـ ملقى الكناسة ، الموضع الذي يرمى فيه التراب والاَوساخ وما يكنس من المنازل . النهاية : ج 2 ص 335 مادة (سبط) .
(5) روى مسلم في صحيحه : ج1 ص228 ح73 عن حذيفة قال : كنت مع النبي صلى الله عليه وآله فانتهى إلى سباطة قوم ... قائماً ، فتنحيت ، فقال : ادنه ، فدنوت حتى قمت عند عقبيه ، فتوضأ فمسح على خفيه ، وفي ح75 قال : فغسل وجهه ويديه ، ومسح برأسه ، ثمّ مسح على الخفّين.
(6) راجع : سنن ابن ماجة : ج 1 ص 145 ح 419 و 420 بلفظ آخر .
(7) جامع الاصول : ج 5 ص 72 ح 3081 ، كنز العمال ج 9 ص 474 ح 27030 عن مسند علي عليه السلام : « عن عبد خير قال : رأيت علياً دعى بالماء ليتوضأ فمسح يديه مسحاً ومسح على قدميه وقال : هذا وضوء من لم يحدث » . ورواه أحمد بن حنبل في مسنده : ج 1 ص 114 ، وروى أحمد بن حنبل أيضاً في نفس المصدر السابق وفي ص 95 أيضاً بسنده عن عبد خير عن عليّ عليه السلام قال : كنت أرى ان باطن القدمين أحق بالمسح من ظاهرهما حتى رايت رسول الله صلى الله عليه وآله يمسح ظاهرهما .
(8) مصنفات الشيخ المفيد المجلد التاسع (مجموعة رسائل حققها الشيخ مهدي نجف :ص17ـ 30) (المسح على الرجلين) .
التعلیقات