مناظرة الشيخ المفيد مع بعضهم رداً على الحشوية والمعتزلة
في الإمامة
2013 Apr 2سأله بعض أصحابه فقال له : إن المعتزلة والحشوية يدعون أن جلوس أبي بكر وعمر مع رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ في العريش كان أفضل من جهاد أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ (١) بالسيف لانهما كانا مع النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ في مستقره يدبران الامر معه ولولا أنهما أفضل الخلق عنده لما اختصهما بالجلوس معه ، فبأي شي يدفع هذا ؟
فقال له الشيخ ـ ادام الله عزه ـ : سبيل هذا القول أن يعكس وهذه القصة أن تقلب وذلك أن النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ لو علم أنهما لو كانا في جملة المجاهدين بأنفسهما يبارزان الاقران ويقتلان الابطال ويحصل لهما جهاد يستحقان به الثواب ، لما حال بينهما وبين هذه المنزلة التي هي أجل وأشرف وأعلى وأسنى من القعود على كل حال بنص الكتاب حيث يقول الله سبحانه : ( لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلاً وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما ) (٢).
فلما رأينا الرسول ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ قد منعهما هذه الفضيلة وأجلسهما معه ، علمنا أن ذلك لعلمه بأنهما لو تعرضا للقتال أو عرضا له لافسدا ، إما بأن ينهزما أو يوليا الدبر ، كما صنعا في يوم أحد (٣) ، وخيبر (٤) ، وحنين (٥) ، فكان يكون في ذلك عظيم الضرر على المسلمين ولا يؤمن وقوع الوهن فيهم بهزيمة شيخين من جملتهم ، أو كانا لفرط ما يلحقهما من الخوف والجزع يصيران إلى أهل الشرك مستأمنين أو غير ذلك من الفساد الذي يعلمه الله تعالى ، ولعله لطف للامة بأن أمر نبيه ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ بحبسهما عن القتال.
فأما ما توهموه من أنه حبسهما للاستعانة برأيهما فقد ثبت أنه كان كاملاً وأنهما كانا ناقصين عن كماله ، وكان معصوما وكانا غير معصومين ، وكان مؤيدا بالملائكة وكانا غير مؤيدين ، وكان يوحى إليه وينزل القرآن عليه ولم يكونا كذلك ، فأي فقر يحصل له مع ما وصفناه إليهما لولا عمى القلوب وضعف الرأي وقلة الدين ، والذي يكشف لك عن صحة ما ذكرناه آنفا في وجه إجلاسهما معه في العريش قول الله سبحانه : ( إنَّ الله اشترى من المؤمنين أَنفُسَهُم وأموالهم بأن لهُمُ الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلُون ويُقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والانجيل والقرآن ) (٦).
فلا يخلو الرجلان من أن يكونا مؤمنين أو غير مؤمنين ، فإن كانا مؤمنين ، فقد اشترى الله أنفسهما منهما بالجنة ، على شرط القتال المؤدي إلى القتل منهما لغيرهما أو قتل غيرهما لهما ، ولو كانا كذلك لما حال النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ بينهما وبين الوفاء بشرط الله عليهما من القتل ، وفي منعهما من ذلك دليل على أنهما بغير الصفة التي يعتقدها فيهما الجاهلون ، فقد وضح بما بيّناه أن العريش وبال عليهما ودليل على نقصهما وأنه بالضد مما توهموه لهما والمنة لله (٧).
____________
(١) وادّعى ذلك أيضا الجاحظ أبو عثمان وقال : إن فضل أبي بكر بمقامه في العريش مع رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ يوم بدر أعظم من جهاد علي ـ عليه السلام ـ ذلك اليوم وقتله أبطال قريش.
وقد تصدى للردّ عليه أبو جعفر الاسكافي كما ذكر ذلك ابن أبي الحديد في شرح النهج ج١٣ ص٢٨١ وإليك جوابه نصا :
وكيف يقول الجاحظ : لا فضيلة لمباشرة الحرب ، ولقاء الأقران ، وقتْل أبطال الشرك ! وهل قامت عُمَدُ الاسلام إلاّ على ذلك ! وهل ثبت الدِّينُ واستقرّ إلا بذلك ! أتراه لم يسمع قول الله تعالى : ( إنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذيِنَ يُقاَتِلُونَ في سبيله صفّا كأنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ ) سورة الصف : الاية ٤ ، والمحبّة من الله تعالى هي إرادة الثواب ؛ فكلُّ مَنْ كان أشدّ ثبوتا في هذا الصفّ ، وأعظم قتالاً ، كان أحبّ إلى الله ؛ ومعنى الافضل هو الاكثر ثوابا ، فعلي ـ عليه السلام ـ إذا هو أحبُّ المسلمين إلى الله ، لانّه أثبتُهم قدماً في الصفّ المرصوص ، لم يفرّ قطُّ بإجماع الامّة ، ولا بارزه قرْنٌ إلا قتله.
أتراه لم يسمع قول الله تعالى : ( وفضَّل الله المُجاهدين على القاعِدِين أجْرا عظيما ) ، سورة النساء : الاية ٩٥ وقوله : ( إنَّ الله اشتَرى مِنَ المُؤمِنِينَ أنفُسهُمْ وأموَالهُمْ بأنَّ لهُمُ الجنَّة يُقاتِلُون في سبيل الله فيقتُلُونَ ويُقْتَلُونَ وعدا عليْهِ حقّا في التَّورَاةِ والانجيل والْقُرآنِ ) ، ثم قال سبحانه مؤكِّدا لهذا البيع والشراء : ( وَمَنْ أوفى بعهدِهِ مِنَ الله فاستبشرُوا ببيعكُمُ الَّذي بايعتُمْ به وذلك هُو الفوزُ العظيمُ ) سورة التوبة الاية ١١١ ، وقال الله تعالى : ( ذلك بأنَّهُم لا يُصيبُهُم ظمأ ولا نصبٌ ولا مخمصةٌ في سبيل الله ولا يطؤُون موطئا يغيظُ الكُفَّار ولا ينالُون من عدُوٍّ نيلاً إلاكُتب لهُمْ به عملٌ صالحٌ ) سورة التوبة : الاية ١٢٠.
فمواقف النَّاس في الجهاد على أحوال ؛ وبعضهم في ذلك أفضلُ من بعض ؛ فمن دلف إلى الاقران ، واستقبل السُّيُوف والاسنّة ؛ كان أثقل على أكتاف الاعداء ، لشدّة نكايته فيهم ، ممّـن وقـف في المعركة ، وأعان ولم يُقدم ، وكذلك من وقف في المعركة ، وأعان ولم يُقـدم ؛ إلا أنه بحيث تنالُه السهام والنّبل أعظم عناء ، وأفضل ممّن وقف حيث لا يناله ذلك ، ولو كان الضَّعيف والجبان يستحقَّان الرياسة بقلّة بسط الكفّ وترك الحرب ؛ وأنّ ذلك يشاكل فعل النبيّ ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ ، لكان أوفر النّاس حظّا في الرياسة ، وأشدّهم لها استحقاقا حسّان بن ثابت ، وإن بطل فضلُ عليّ ـ عليه السلام ـ في الجهاد ؛ لانّ النبيّ ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ كان أقلَّهم قتالاً ، كما زعم الجاحظُ ليبطلنّ على هذا القياس فضلُ أبي بكر في الانفاق ، لانّ رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ كان أقلّهم مالاً !... الخ.
(٢) سورة النساء : الاية ٩٥.
(٣) فرار أبي بكر يوم أحد :
راجع : شرح نهج البلاغة ج١٣ ص٢٩٣ ، طبقات ابن سعد ج٢ ص٤٦ ـ ٤٧ ، السيرة النبوية لابن كثير ج٣ ص٥٨ ، تاريخ الخميس ج١ ص٤٣١ ، البداية والنهاية ج٤ ص٢٩ ، كنز العمال ج١٠ ص٢٦٨ وص٢٦٩.
فرار عمر يوم أحد :
راجع : شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج١٥ ص٢٠ وص٢٣ وص٢٤ ، حياة محمد لهيكل ص٢٦٥ ، كنز العمال ج٢ ص٢٤٢ ، حياة الصحابة ج٣ ص٤٩٧ ، المغازي للواقدي ج١ ص١٩٩ ، الكامل في التاريخ ج٢ ص١٤٨.
وقال الفخر الرازي في تفسيره ج٩ ص٥٠ في ذيل تفسير قوله تعالى : ( إنّ الّذين تولّوا منكم يوم التقى الجمعان إنّما استزلّهم الشيطانُ ببعض ما كسبُوا ) سورة آل عمران : الاية ١٥٥ ، قال : ومن المنهزمين ـ يعني يوم أُحد ـ عمر ، إلا أنه لم يكن في أوائل المنهزمين...
ومنهم : عثمان ، انهزم مع رجلين من الانصار يقال لهما : سعد وعقبة ، انهزموا حتى بلغوا موضعا بعيدا ، ثمَّ رجعوا بعد ثلاثة أيّام ، فقال لهم النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ : لقد ذهبتم فيها عريضة.
(٤) فرار أبي بكر وعمر يوم خيبر :
راجع : اُسد الغابة ج٤ ص٢١ ، مسند أحمد ج٦ ص٣٥٣ ، البداية والنهاية ج٤ ص١٨٦ ، مجمع الزوائد ج٩ ص١٢٢ وص١٢٤ ، الكامل لابن الاثير ج٢ ص٢١٦ ، المستدرك للحاكم ج٣ ص٣٧.
(٥) فرار أبي بكر يوم حنين :
راجع : شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج١٣ ص٢٩٣ ، الصحيح من سيرة النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ ج٣ ص٢٨٢.
فرار عمر يوم حنين :
راجع : صحيح البخاري ج٦ ص٨٠ ، كتاب التفسير باب قوله تعالى : ( ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم ) سورة التوبة : الاية ٢٥ ، سيرة المصطفى لهاشم معروف الحسيني ص٦١٨.
(٦) سورة التوبة : الاية ١١١.
(٧) الفصول المختارة ص١٤ ـ ١٦ ، بحار الانوار ج١٠ ص٤١٧ ح٧.
التعلیقات