الاباظيّة
الشيخ جعفر السبحاني
منذ 13 سنةالاباظيّة
أتباع عبد الله بن اباض (1) م 86
وصفت الاباضيّة في كلام غير واحد بأنّهم أقرب الناس إلى أهل السنّة (2) وأنّهم هم الفرقة المعتدلة من الخوارج ، ولأجل هذا اُتيح لهم البقاء إلى يومنا هذا ، فهم متفرّقون في عمان وزنجبار وشمال أفريقيا ، فإذا كان البحث في سائر الفرق بحثاً في طوائف أبادهم الدهر وصاروا خبراً لِكانَ ، فالبحث عن الاباضيّة بحث عن فرقة موجودة من الخوارج ويعتبر مذهبهم ، المذهب الرسمي في عُمان ، وقد ذكرنا في بداية الكتاب النشاط الثقافي التي تقوم به وزارة الأوقاف عندهم. فنبحث أوّلاً عمّا يقول عنهم أصحاب المقالات والتاريخ ، ثمّ نرجع إلى كتبهم المنتشرة في هذه الأيّام لغاية التعريف بهم.
الاباضيّة في كتب المقالات والتاريخ :
عبد الله بن أباض المقاعسي المرّي التميمي من بني مرّة بن عبيد بن مقاعس ، رأس الاباضيّة وإليه نسبتهم ، وقد عاصر معاوية وعاش إلى أواخر أيّام عبد الملك بن مروان ، وكان ممّن خرج إلى مكّة لمنع حرم الله من مسلم بن عقبة المرّي (3) عامل يزيد بن معاوية.
اتّفق عبد الله بن اباض مع نافع وأصحابه على أن يسألا عبد الله بن الزبير عن رأيه في عثمان ، لأنّ الخوارج يومذاك كانوا ملتفِّين حول عبد الله بن الزبير ، فلمّا سألوه وجدوه ، مخالفاً للعقيدة فتفرّقوا من حوله ، وذهبت طائفة من الخوارج إلى اليمامة وعدّة اُخرى إلى البصرة ، منهم ابن الأزرق وعبد الله بن اباض وعبد الله بن الصفّار (4).
ثمّ إنّ ابن الأزرق خرج على ثلاثمائة رجل عند وثوب الناس بعبيد الله بن زياد ، وتخلّف عنه عبد الله بن صفّار وعبد الله بن اباض ورجال معهما على رأيه ، وكتب إليهما ما ألقاه لأصحابه في خطابته وهو :
« إنّ الله قد أكرمكم بمخرجكم ، وبصَّركم ما عمى عنه غيركم. ألستم تعلمون أنّكم إنّما خرجتم تطلبون شريعته وأمره ، فأمره لكم قائد ، والكتاب لكم إمام ، وإنّما تتّبعون سننه وأثره ؟ فقالوا : بلى ، فقال : أليس حكمكم في وليّكم حكم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في وليّه ، وحكمكم في وعدوّكم حكم النبي صلّى الله عليه وآله وسلم في عدوّه ، عدوّكم اليوم عدوّ الله وعدوّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كما أنّ عدوّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يومئذ هو عدوّ الله وعدوّكم اليوم ؟ فقالوا : نعم ، قال : فقد أنزل الله تبارك وتعالى :( بَرَاءَةٌ مِّنَ اللَّـهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ) وقال : ( وَلَا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ ) فقد حرّم الله ولايتهم ، والمقام بين أظهرهم ، وإجازة شهادتهم ، وأكل ذبائحهم ، وقبول علم الدين عنهم ، ومناكحتهم ومواريثهم. قد احتجّ الله علينا بمعرفة هذا ، وحقّ علينا أن نعلم هذا الدين الذين خرجنا من عندهم ، ولا نكتم ما أنزل الله ، والله عزّ وجلّ يقول : ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَىٰ مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ ۙ أُولَـٰئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّـهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ) (5).
فبعث بالكتاب إلى عبد الله بن صفار وعبد الله بن اباض ، فأتيا به ، فقرأه عبد الله بن صفار ، فأخذه ، فوضعه خلفه فلم يقرأه على الناس خشية أن يتفرّقوا ويختلفوا ، فقال له عبد الله بن اباض : مالك لله أبوك ؟ أيّ شيء أصبت ؟ أن قد اُصيب اخواننا ؟ أو اُسر بعضُهم ؟ فدفع الكتاب إليه ، فقرأه ، فقال : قاتله الله ، أيّ رأي رأى. صدق نافع بن الأزرق « لكن » لو كان القوم مشركين ، كان أصوب الناس رأياً وحكماً فيما يشير به ، وكانت سيرته كسيرة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في المشركين.
ولكنّه قد كذب وكذبنا فيما يقول : إنّ القوم كفّار بالنعم والأحكام ، وهم براء من الشرك ، ولا يحلّ لنا إلّا دماؤهم ، وما سوى ذلك من أموالهم فهو علينا حرام (6).
ثمّ إنّ المبرّد نقل كتاب ابن الأزرق إليهما بغير هذه الصورة ، والنقلان متّفقان في المادة ، وأضاف أنّ الكتاب ورد إلى أبي بيهس وعبد الله بن اباض ، فأقبل أبو بيهس على ابن اباض فقال : إنّ نافعاً غلا فكفر وانّك قصّرت فكفرت (7).
هذا هو عبد الله بن اباض ، وهذه زمالته مع نافع بن الأزرق وهذا فراقه له في مسألة تكفير المسلمين كفر ملّة ودين ، وهذه إباحته دماء المسلمين « بعد إتمام الحجّة » ولأجل هذه المرونة بين الاباضيّة ، يقول المبرّد : إنّ قول عبد الله بن اباض أقرب الأقاويل إلى أهل السنّة من أقاويل الضلال.
أوهام حول مؤسّس المذهب :
ثمّ إنّ هناك أوهاماً حول الرجل في كتب الفِرق والتواريخ :
1 ـ خرج ابن اباض في أيّام مروان بن محمّد (8) وهذا وهم فقد مات قبل أيّام مروان بأربعين عاماً.
2 ـ وقال الزبيدي : كان مبدأ ظهوره في خلافة مروان الحمار (9).
3 ـ وقال المقريزي : إنّه من غلاة المحكّمة وانّه خرج في أيّام مروان ، ثمّ قال : ويقال : إنّ نسبة الاباضيّة إلى اباض ـ بضمّ الهمزة ـ وهي قرية باليمامة نزل بها نجدة بن عامر (10).
وكلا الأمرين يدلّان على أنّه ظهر بين سنتي 127 ـ 132 ، أيّام حكم مروان وهو لا يتّفق مع ما عليه الاباضيّة على أنّ وفاته كانت في أيّام عبد الملك بن مروان.
وقال الشهرستاني : عبد الله بن اباض الذي خرج في أيّام مروان بن محمّد (11).
ولعلّ وجه اشتباههم هو : وقوع فتنة الاباضيّة في أواخر حكومة مروان بن محمّد ، وكان في رأس الفتنة عبد الله بن يحيى الجندي الكندي الحضرمي طالب الحقّ وكان اباضيّاً.
قال ابن العماد : وفي سنة 130 كانت فتنة الاباضيّة وهم المنسوبون إلى عبد الله بن اباض. قال : مخالفونا من أهل القبلة كفّار ، ومرتكب الكبيرة موحّد غير مؤمن ، بناءً على أنّ الأعمال داخلة في الإيمان ، وكفّروا عليّاً وأكثر الصحابة ، وكان داعيتهم في هذه الفتنة عبد الله بن يحيى الجندي الكندي الحضرمي « طالب الحق » ، وكانت لهم وقعة بقديد مع عبد العزيز بن عبد الله بن عمرو بن عثمان فقتل عبد العزيز ومن معه من أهل المدينة ، فكانوا سبعمائة أكثرهم من قريش منهم : تخرمة بن سليمان الوالبي ، روى عن عبد الله بن جعفر وجماعة ، وبعدها سارت الخوارج إلى وادي القرى ولقيهم عبد الملك السعدي فقتلهم ولحق رئيسهم إلى مكّة فقتله أيضاً ، ثمّ سار إلى تبالة ـ وراء مكّة بستّ مراحل ـ فقتل داعيتهم الكندي (12).
ومن الأوهام ما ذكره ابن نشوان الحميري عن أبي القاسم البلخي المعتزلي : انّ عبد الله لم يمت حتّى ترك قوله أجمع ، ورجع إلى الاعتزال (13) ، والرجل توفّي ولم يكن للإعتزال أيّ أثر ، فإنّ رأس الإعتزال هو واصل بن عطاء الذي ولد عام 80.
ثمّ إنّ الاباضيّة انقسمت إلى فرق خرجوا عن الإعتدال والمرونة ومالوا إلى التطرّف والشدّة ، ولكن جمهور الاباضيّة على الاعتدال. يقول الأشعري :
وجمهور الاباضيّة يتولّى المحكّمة كلّها إلّا من خرج ، ويزعمون أنّ مخالفيهم من أهل الصلاة كفّار ، وليسوا بمشركين ، حلال مناكحتم وموارثتهم حلال غنيمة أموالهم من السلاح والكراع عند الحرب ، حرام ماوارء ذلك ، وحرام قتلهم وسبيهم في السرّ ، إلّا من دعا إلى الشرك في دار التقيّة ودان به ، وزعموا أنّ الدار ـ يعنون دار مخالفيهم ـ دار توحيد إلّا عسكر السلطان ، فإنّه دار كفر ـ يعني عندهم ـ.
وحكي عنهم أنّهم أجازوا شهادة مخالفيهم على أوليائهم ، وحرّموا الإستعراض إذا خرجوا ، وحرّموا دماء مخالفيهم حتّى يدعوهم إلى دينهم ، فبرأت الخوارج منهم على ذلك ، وقالوا : إنّ كلّ طاعة إيمان ودين ، وإنّ مرتكبي الكبائر موحّدون وليسوا بمؤمنين (14).
وقريب من ذلك ما ذكره البغدادي في كتابه ، يقول : افترقت الاباضيّة فيما بينها فرقاً يجمعها القول بأنّ كفّار هذه الاُمّة ـ يعنون بذلك مخالفيهم من هذه الاُمّة ـ براء من الشرك والإيمان ، وانّهم ليسوا مؤمنين ولا مشركين ولكنّهم كفّار ، وأجازوا شهادتهم وحرّموا دماءهم في السرّ واستحلّوها في العلانية ، وصحّحوا مناكحتهم ، والتوارث منهم ، وزعموا أنّهم في ذلك محاربون لله ولرسوله ، لا يدينون دين الحقّ ، وقالوا باستحلال بعض أموالهم دون بعض ، والذي استحلّوه الخيل والسلاح ، فأمّا الذهب والفضّة فإنّهم يردّونهما إلى أصحابهما عند الغنيمة.
ثمّ افترقت الاباضيّة فيما بينهم أربع فرق : الحفصيّة ، والحارثيّة ، واليزيديّة ، وأصحاب طاعة لا يراد الله بها.
ثمّ قال : واليزيديّة ، منهم غلاة لقولهم بنسخ شريعة الإسلام في آخر الزمان (15).
ولأجل تصريح عبد الله بن اباض بأنّ المراد من الكفر هو الكفر بالنعم لا محيص عن تفسير الكفر فيما نقله البغدادي عنه بالكفر بالنعم ، نعم بعض الفرق منهم خرجوا عن الإعتدال وحكموا بكفر المسلمين كفراً حقيقيّاً.
هذا ما يقوله أصحاب المقالات عنهم ولكنّهم في كتبهم المنتشرة في السنوات الأخيرة يقولون خلاف ذلك ، وانّهم لا يختلفون مع جماهير المسلمين إلّا في مسألة التحكيم ، وأمّا ما سواه فهم وغيرهم سواسية ، وينكرون وجود هذه الفرق التي نسبها إليهم الأشعري ثم البغدادي (16). ولأجل ذلك يجب دراسة مذهبهم من كتبهم.
الاباضيّة في كتب أعلامهم :
قد تعرّفت على المذهب الاباضي وترجمة مؤسّسه على ما في كتب الفرق والتاريخ ، غير أنّ كُتّاب الاباضيّة في العصر الحاضر وما قبله يتحرّجون من أن يُعَدُّوا من فرق الخوارج ، وإن كانوا يتّفقون معهم في بعض المبادئ ولكن يخالفونهم في كثير من المبادئ والعقائد ، ويعتقدون أنّه مذهب نجم في أواخر القرن الأوّل بيد مؤسّسه عبد الله بن اباض وجابر بن زيد العماني ، فكأنّ الأوّل قائداً مخطّطاً والثاني قائداً دينيّاً ، وانّ الخوارج هم المتطرّفون كالأزارقة الذين كانوا يكفّرون المسلمين ويعدّونهم مشركين ويستبيحون أموالهم ويستحيون نسائهم ويقتلون أولادهم ، وأمّا غيرهم الذين لا يعتنقون هذا المبدأ وما شابه فليسوا من الخوارج.
وقد بذلت الاباضيّة في هذه العصور الأخيرة جهوداً في تنزيههم عن كونهم من هذه الطائفة وانّ المقصود منه غيرهم ، وإليك بعض نصوصهم وتحليلاتهم :
هل الاباضيّة من الخوارج ؟ :
1 ـ قد عمد البعض من الخوارج بعد وقعة النهروان إلى سلوك طريق لا يتّفق مع الاُصول الصحيحة للشريعة الغّراء وأحدثوا في الإسلام حدثاً كبيراً بما استحلّوا من استعراض المسلمين بالسيف وتكفير أهل القبلة الذين لا يذهبون مذهبهم ، وتفرّق هؤلاء الخارجون إلى فرق عديدة كان منها الأزارقة والنجدات والصفريّة ... وهؤلاء هم الذين أصبحوا يعرفون بالخوارج ، ويعني وصفهم بذلك أنّهم خارجون عن الدين ومارقون بما استحلّوا من المحرّمات وما خالفوا فيه من الأحكام الصحيحة للإسلام.
أمّا الاباضيّة ـ وهم عرفوا بجماعة المسلمين أهل الحقّ والاستقامة ـ فهم لا يرون رأي هؤلاء الخوارج بل يرونهم مارقين خارجين عن الدين ، ورغم أنّهم يوالون المحكّمة الاُولى ـ وعلى رأسهم عبد الله بن وهب الراسبي ـ إلّا أنّهم لم يوافقوا الأزارقة و من والاهم من بعده بل تبّرأوا منهم ولم يذهبوا مذهبهم.
وعلى ذلك فالخوارج هم غير الاباضيّة ولا يمكن اعتبار الاباضيّة احدى فرقهم ، وإلّا فكيف نجمع بين النقيضين في صعيد واحد ، وكيف نصف من يتمسّك بصحيح الإسلام ، ولا يكفّر أصحاب القبلة ، ولا يستحلّ دماء المسلمين ولا أموالهم إلّا دفعاً لبغي أو ردّاً لعدوان ؟ ...كيف نصف هؤلاء بأنّهم من الخوارج الذين أبوا إلّا مفارقة الجماعة والخروج عليهم واستعراض المسلمين بالسيف ، واستحلال دمائهم وأموالهم بغير حقّها ، وذهابهم إلى تكفير هؤلاء ، وإذا كانت الاباضيّة قد والوا المحكّمة الاُولى إلّا أنّ ولاءهم لم يكن لمن خرج من بعد ذلك على الدين ، وكان سلوكهم مروقاً وعصياناً (17).
2 ـ الاباضيّة لم يجمعهم جامع بالصفريّة والأزارقة ومن نحا نحوهم إلّا انكار الحكومة بين علي ومعاوية ، وأمّا استحلال الدماء والأموال من أهل التوحيد ، والحكم بكفرهم كفرَ شرك ، فقد انفرد به الأزارقة والصفريّة والنجديّة ، وبه استباحوا حمى المسلمين ولمّا كان مخالفونا لا يتورّعون ، ولا يكلِّفون أنفسهم مؤونة البحث عن الحقّ ، ليقفوا عنده ، خلطوا بين الاباضيّة الذين لا يستبيحون قطرة من دم موحّد بالتوحيد الذي معه ، وبين ما استحلّوا الدماء بالمعصية الكبيرة حتّى قتلوا الأطفال تبعاً لآبائهم ، مع أنّ الفرق كبير جدّاً كالفرق بين المستحلّ والمحرّم.
ثمّ قال: إنّ تسمية الخوارج لم تكن معهودة في أوّل الأمر ، وإنّما هي انتشرت بعد استشراء أمر الأزارقة ولم تعرف هذه التسمية في أصحاب عليّ ، المنكرين للتحكيم والراضين به ، ولعلّ أوّل ما ظهر هذا اللفظ بعد ثبوت الأمر لمعاوية والإستقرار ولم يفرّقوا في ذلك بين المتطرف وغيره (18).
3 ـ إنّ الاباضيّة رغم اعتدالهم من الناحية المذهبيّة والفقهيّة إلّا أنّهم كانوا في عداء سياسي مع دولة بني اُميّة ودولة بني العبّاس لأنّهم كانوا يقولون بأنّ الإمامة أو الخلافة حقّ لأيّ مسلم صالح ، فلا تكون قاصرة على قريش ، ولا على بطونها المختلفة من الأموييّن أو العباسييّن أو العلوييّن، ولمّا كان هذا الموقف السياسي للاباضيّة يلتقي من الناحية النظريّة ومن الناحية الفكريّة البحتة مع الخوارج : الأزارقة والنجدات والصفريّة ، فقد عمّم كُتاب الفرق القول ووضعوا الاباضيّة ضمن هؤلاء الخوارج واعتبروهم فرقة رابعة من فرقهم ، والاباضيّة أنفسهم كما هو موجود في كتبهم القديمة والحديثة يتبرّؤون من هؤلاء الخوارج كلّ البراءة بل ويقاتلونهم بأشدّ قتال.
إنّ المذهب الاباضي لم يعرف بهذا الاسم إلّا منذ الربع الأخير من القرن الثالث للهجرة حينما غلب على أصحابه هذا الاسم واشتهروا به ، وانّما أصحابه قبل ذلك يعرفون باسم جماعة القعدة وهو اسم له دلالته السياسيّة ، وقد أطلقه عليهم جماعات الخوارج من الأزارقة وغيرهم احتقاراً لهم ورفضاً لمبدئهم : ذاك في القعود ، فقد وضع هؤلاء القعدة لأنفسهم مبدأ المسالمة وعدم اشتهار السيف في وجه اخوانهم من المسلمين ، وأجازوا لأنفسهم البقاء تحت حكم الجبابرة ، وقالوا بعدم جواز قتل أطفال مخالفيهم ولا قتل نسائهم ولا استحلال أموالهم وأخذوا يعملون على نشر مبادئهم السياسيّة في سرّيّة وكتمان ، ودخلوا في مرحلة كتمان طويلة امتدّت منذ أن تأسّس المذهب على يد جابر بن زيد في أواخر القرن الأوّل للهجرة حتّى هاجر معظم علماء المذهب وآخر أئمّة الكتمان أبو سفيان محبوب بن الرحيل إلى عمان في أواخر القرن الثاني للهجرة (19).
4 ـ إنّ مذهب الاباضيّة لم يعرف بهذا الاسم في المصادر الاباضيّة إلّا في الربع الأخير من القرن الثالث للهجرة وقد قبلت الاباضيّة بهذا الاسم منذ ذلك التاريخ لأنّه غلب عليهم بمرور الزمن وصار علماً يلتفّون حوله ، وإنّما يطلقون على أنفسهم قبل ذلك اسم « جماعة المسلمين » أو « أهل الدعوة » أو « أهل الإستقامة » وقد سمّاهم أعداؤهم من الخوارج المتطرّفين باسم « القعدة » احتقاراً لهم ، لأنّهم طبقاً لوجهة نظر هؤلاء الخوارج ، قعدوا عن الجهاد في سبيل الله بمحاربة الولاة والحكّام الظالمين.
وكان هؤلاء القعدة قد رأوا القعود عن الحرب ، وعن رفع السيف ضدّ إخوانهم المسلمين عقب موقعة النهروان التي وقعت بين الإمام علي بن أبي طالب وجماعة المحكّمة الذين عارضوه لقبوله التحكيم ، وقالوا : « لا حكم إلّا لله » واشتهروا باسم « المحكّمة » أو « الشراة » أو « الحروريّة » وأطلق عليهم خصومهم من أرباب الدولة الأمويّة اسم الخوارج (20).
5 ـ إنّ الصفريّة اتّخذت الخروج بالسيف على الدولة وسيلة لتحقيق أهدافهم ، فإنّ الصفريّة في بلاد المغرب اتّبعوا هذا الاُسلوب في هذه المنطقة النائيّة ، ولذلك رفعوا لواء الثورة ضدّ بني اُميّة منذ عام 122.
وقد أظهر هؤلاء الصفريّة من تطرّف شديد في معاملتهم لخصومهم سواء كانوا من العرب أم من البرير ، فكانوا يستحلّون سبي النساء ، ويستحلّون الأموال ، يسفكون الدماء ، وكانوا في حركتهم في بلاد المغرب أقسى على الناس من حركة الأزارقة في بلاد المشرق ، وقد وصل تطرّف البرير الصفريّة إلى غايته عندما داهموا القيروان في عام 139 ، واحتلّوها وفعلوا بأهلها وبمساجدها ما تقشعرّ له الأبدان على يد قبيلة « ورفجومة » التي كان أهلها من غلاة الصفريّة.
ثمّ بعد فترات تنقّلت قيادة البربر من الصفريّة إلى الاباضيّة بعد أن ضاق البربر بعنف الصفرية وتطّرفهم المقيت ، فضعف أمر الصفريّة منذ ذلك الحين وذاب أغلبهم في الاباضيّة (21).
6 ـ المذهب الاباضي يعتمد في اُصوله على الكتاب والسنّة ويتّفق في كثير من اُصوله وفروعه مع مذهب أهل السنّة ، ولا يختلف معها إلّا في مسائل قليلة ، اختلاف مذاهب السنّة فيما بينها ، فلا يخلو منها مذهب لا يخالف غيره في قليل أو كثير من المسائل ، وما كان اعتماد المذهب الاباضي على الكتاب والسنّة وعدم تباعده عن مذاهب السنّة إلّا لأنّ مؤسسّه جابر بن زيد قد أخذ عن الصحابة الذين أخذ عنهم أصحاب هذه المذاهب من الحنفيّة والشافعيّة والمالكيّة والحنابلة ، بل انّه يمتاز على أصحاب هذه المذاهب ، في انّه أخذ عن الصحابة مباشرة بينما هم لم يأخذوا في معظهم إلّا من التابعين ، كما أنّ الأحاديث التي جمعها هو وغيره من علماء وفقهاء وجمّاع الأحاديث من الاباضية كالربيع بن حبيب وغيره ، ليست إلّا أحاديث وردت عند البخاري ومسلم وغيرهم من أئمّة الحديث كأبي دواد والترمذي والنسائي وابن ماجه والدارقطني والطبراني والبيهقي وغيرهم من أهل السنّة والجماعة (22).
7 ـ اطلاق لفظ الخوارج على الاباضيّة من الدعايات الفاجرة التي نشأت عن التعصّب السياسي أوّلاً ثمّ عن المذهبي ثانياً ، لمّا ظهر غلاة المذاهب وقد خلطوا بين الاباضيّة والأزارقة والصفريّة والنجديّة.
إنّ لاطلاق الخوارج على الاباضيّة سببين :
الف ـ اشتراكهم مع سائر الخوارج في إنكار التحكيم ، فصار ذلك سبباً للجمع بين كلّ منكر للتحكيم في صعيد واحد.
ب ـ إنّ تسمية الخوارج لم تكن معهودة في أوّل الأمر وإنّما انتشرت بعد استشراء أمر الأزارقة ، ولم تعرف هذه التسمية في أصحاب عليّ المنكرين للتحكيم والراضين به ، ولعلّ أوّل ما ظهر هذا الأمر بعد ثبوت الأمر لمعاوية ، فإنّ الأموييّن أطلقوا هذه التسمية على كل من يعارض ملكهم العضوض (23) ولم يفرّقوا بين الاباضيّة وبين سواهم من متطرّفي الخوارج (24).
8 ـ إنّ ابن اباض تبّرأ من الأزارقة في الرسالة التي كتبها إلى عبدالملك وجاء فيها : أنا براء إلى الله من ابن الأزرق وضيعه وأبقاعه ، لأنّه خرج عن مبادئ الإسلام فيما ظهر لنا و أحدث وارتدّ وكفر بعد إسلامه فنبرأ إلى الله منهم (25).
نَظرُنا في الموضوع :
هذه كلمات القوم وهي تعبّر عن كونهم مصرّين على أنّهم ليسوا بخوارج ومن سمّاهم بذلك فقد ظلمهم ، وبما أنّ الخوارج لم يكونوا ذوي سمعة حسنة ، وكان المسلمون يتبرّأون من عقائدهم وأعمالهم ، صار هذا هو الحافز لعلماء الاباضيّة على السعي البالغ من اخراج أنفسهم عن صفوفهم ، وانّهم فرقة مستقلّة لا صلة لهم بالخوارج إلّا كونهم مشتركين في أصل واحد وهو إنكار التحكيم.
ولعلّ القارئ ، يتعجّب من الاطناب والافاضة في المقام وما هذا إلّا لأجل اراءة منطق القوم فيما يتبنّونه لئلّا نبخس حقوقهم ، فإنّهم كما عرفت يتّهمون المخالفين بعدم التورع في البحث وعدم تكليف الأنفس مؤونة الفحص عن الحقّ ، ولكنّها غير لاصقة بنا ، فإنّا كلّفنا أنفسنا مؤونة البحث ويشهد بذلك نقل كلماتهم ، ومع هذا كلّ ما ذكروه أشبه بالخطابة ، وذلك :
أوّلاً : إنّ هذه الكلمات تحكي أنّ الاباضيّة أوّل من خطّ خطّ الاعتدال ومشي على ضوئه ، واكتفى بالعزلة والقعود ولم يحارب الناس ، ولم يعترضهم ، ولكنّه في غير محلّه إذ لو صحّ كلّ ذلك في عبد الله بن اباض فراسم هذا الخط هو أبو بلال مرداس بن جدير ، فإنّه أوّل من ندّد بعمل الخوارج في اعتراضهم الناس و نهب أموالهم ، وكان ينادي بأعلى صوته بأنّه لا يحارب الّا من حاربه ولا يروّع أحداً ولا ... ولا ... فعلى ذلك يجب أن يقال : إنّ مبدئ هذه الكفرة هو أبو بلال المقتول عام « 60 » وقد كان أبو بلال قد شهد صفّين مع علي بن أبي طالب ـ صلوات الله عليه ـ وأنكر التحكيم وشهد النهر ونجا فيمن نجا (26).
ثانياً : إنّ الحجر الأساس لفرقة الخوارج هو التطّرف والخروج عن الإعتدال ، وإن كان للتطرّف مدارج ومراحل ، فالقوم من بدو الخروج على علي وإنكار التحكيم عليه بعدما فرضوه عليه ، كانوا متطرّفين ، لا يحترمون دماً ولا عرضاً. إنّ تخصيص التطرّف بالأزارقة ، والنجدات ، والصفريّة بزعم أنّهم هم الذين كانوا يستعرضون المسلمين ، ويستحلّون دماءهم ، ويكفّرون أهل القبلة ، كلام فارغ عن الحجّة ، بل الحجّة على خلافه ، فإنّ المحكّمة الاُولى وعلى رأسهم عبد الله بن وهب الراسبي أيضاً كانوا من المتطرّفين ، ويظهر ذلك من خطب هذا الراسبي وكلماته التي ألقاها في الحروراء ، وقد نقلنا بعض كلماته في الفصل السادس ، وإليك لقطات منها :
قال مخاطباً إخوانه عند الشخوص من الحروراء إلى النهروان : فاخرجوا بنا اخواننا من هذه القرية الظالم أهلها إلى بعض كور الجبال أو بعض هذه المدائن منكرين لهذه البدع المضرّة (27).
ماذا يريد من قوله : الظالم أهلها ، وهل يريد بلدة الكوفة وأهلها الملتفّين حول الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام ؟ والحال انّ الآية نزلت في حقّ المشركين قال سبحانه :( وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَـٰذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا ) (28).
إنّ المحكّمة الاُولى هم الذين بقروا بطن زوجة عبد الله بن خباب بن الأرت ، ذلك التابعي العظيم ، ولم يكتفوا بذلك ، فذبحوا زوجها كما يذبح الكبش ، بعدما أعطوه الأمان ، وهم الذين قتلوا ثلاث نسوة من طي ، وقتلوا أمّ سنان الصيداويّة ، كلّ ذلك ارتكبوه بعدما انتقلوا من الحروراء إلى النهروان ، ولمّا بلغ عليّاً هذه الجنايات المروِّعة عمد إلى مقاتلتهم بعد ما أتمّ الحجّة عليهم.
وأيّ دليل على تطرّفهم أتقن من توصيف الإمام إيّاهم بقوله : « سيوفكم على عواتقكم ، تضعونها مواضع البُرء والسقم ، وتخلطون من أذنب بمن لم يذنب » (29).
أبعد هذا يصحّ للاُستاذ صالح بن أحمد الصوافي تخصيص التطرّف بالخوارج الذين جاؤوا بعدهم.
هذا هو شبيب ، مساعد ابن ملجم في قتل علي ، دخل على معاوية في الكوفة بعد قتل عليّ ، ولمّا وقف معاوية على أنّه فيها ، بعث إلى الأشجع لأن يخرجه من الكوفة ، وكان شبيب إذا جنّ عليه الليل خرج فلم يلق أحداً إلّا قتله (30).
وهذا هو قريب بن مرّة وزحاف الطائي قد خرجا في امارة زياد بن أبيه فاعترضا الناس ، فلقيا شيخاً ناسكاً من بني ضبيعة فقتلاه ، فخرج رجل من بني قطيعة من الأزد وفي يده السيف ، فناداه الناس من ظهور البيوت : « الحرورية » !!!
انج بنفسك ، فنادوه ـ قريب وزحاف ومن معهما ـ : لسنا حرورية ، نحن الشرط ، فوقف فقتلوه ، ثمّ جعلا لا يمرّان بقبيلة إلّا قتلا من وجدا حتّى مرّا على بني علي بن سود من الأزد ، وكانوا رماة فرموهم رمياً شديداً ، فصاحوا : يا بني علي ! البقيا ! لا رماء بيننا. قال رجل من بني علي :
لا شيء للقوم سوى السهام * مشحوذة في غلس الظلام
ففرّ عنهم الخوارج إلى ان واجهوا بنو طاحية من بني سود ، وقبائل من مزينة وغيرها ، ووقعت الحرب فقتل الخوارج عن آخرهم ، وقتل قريب وزحاف (31).
ما ذكرنا نماذج من استعراضهم للناس وقتلهم الأبرياء ، قبل قيام ابن الأزرق بالدعوة ، فإنّ ما ذكرنا يرجع إلى عهد علي وما بعده بقليل ، وأمّا فتنة الأزارقة والنجدات فهي راجعة إلى عصر ابنه يزيد بن معاوية فهي من حوادث بعد الستّين.
ثالثاً : إنّ تخصيص اسم الخوارج بالمتطرّفين منهم كالأزارقة والنجدات تخصيص بلا وجه ، فقد اُطلق هذا اللفظ في عصر عليّ على هؤلاء أي على عبد الله بن وهب الراسبي وذي الخويصرة ومن قتل معهما في وقعة النهروان :
هذا هو الإمام علي بن أبي طالب ـ بعد ما خرج من قتال الخوارج في ضفة النهر مرفوع الرأس ـ قال : « لا تقاتلوا الخوارج بعدي فليس من طلب الحقّ فأخطاه كمن طلب الباطل فأدركه » (32). فلو كانت هذه الكلمة لعلي كما هو المقطوع لكان دليلاً على أنّ القوم في بدء نشوئهم كانوا مسمّين بهذا الاسم ، وإن كان لغيره فالظاهر أنّ ذلك الغير هو الموالي للخوارج بقرينة مدحهم في ذيل الجملة ، فكان شاهداً على أنّ القوم كانوا مسمّين بهذا الاسم منذ البداية.
ويظهر ممّا نظمه نفس الخوارج من الأشعار أنّ تسميتهم بها كان رائجاً في عصر معاوية أيّ قبل الستّين وقبل أن يتسنّم الأزارقة والنجدات منصّة القيادة يقول عيسى بن فاتك من بني تميم تأييداً لموقف أبي بلال مرداس به ادية الذي قتل عام 60 في أبيات :
أألفا مؤمن فيمــا زعمتــــــم * ويهزمهم بأســك أربعونــــــا ؟
كذبتم ليس ذاك كما زعمتم * ولكـــن الخوارج مؤمنونــــــــا
هم الفئة القليلة غيـر شــكّ * على الفئة الكثيرة ينصرونــا (33)
ويُستنتج من ذلك الأمرين : أنّ الخوارج اُطلق يوم اُطلق على من خرج عن طاعة أمير المؤمنين وأنكروا التحكيم عليه من غير فرق بين أوائلهم ومن بعدهم.
رابعاً : لا شكّ إنّ المحكّمة الاُولى كانوا يبغضون عليّاً ويكفّرونه ، وتشهد بذلك كلماتهم وأشعارهم خصوصاً في مفاوضاتهم مع عليّ ، وقد تضافرت الروايات أنّ حبّه آية الإيمان وبغضه آية النفاق ، ولا يمكن لعالم ملم بالأحاديث إنكار ذلك.
هذا هو مسلم روى في صحيحه عن زر بن حبيش قال : قال عليّ : « والذي خلق الجنّة وبرأ النسمة أنّه لعهد النبيّ الاُميّ إليّ لا يحبّني إلّا مؤمن ولا يبغضني إلّا منافق » (34).
وروى الإمام أحمد في فضائل الصحابة عن زرّ بن حبيش ، عن علي قال : « عهد النبي إليّ أنّه لا يحبّك إلّا مؤمن ولا يبغضك إلّا منافق » (35).
ورواه النسائي في خصائصه بعدّة طرق (36).
ورواه الحافظ ابن عساكر في تاريخه بأسانيد تربو على 18 طريقاً (37).
وعلى ضوء ذلك فهؤلاء محكومون بالنفاق والخلود في النار ، فيشملهم قول النبي الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم في شأن ذي الخويصرة الذي كان في الرعيل الأوّل من المحكّمة : « فإنّه سيكون له شيعة يتعمّقون في الدين حتّى يخرجوا منه كما يخرج السهم من الرميّة » (38).
روى المبرّد في الكامل أنّ عليّاً رضي الله عنه وجّه إلى رسول الله مذهّبة من اليمن فقسّمت أرباعاً فأعطى ربعاً للأقرع بن جالس المجاشعي ، وربعاً لزيد الخيل الطائي ، وربعاً لعيينة بن حصن الغزاري ، وربعاً لعلقمة بن علاثة الكلابي ، فقام إليه رجل مضطرب الخلق غائر العينين ناتئُ الجبهة فقال : لقد رأيت قسمة ما اُريد بها وجه الله ، فغضب رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ حتّى تورّد خدّاه ، ثمّ قال : أيأمنني الله عزّ وجلّ على أهل الأرض ولا تأمنوني ؟ فقام إليه عمر فقال : أقتله يا رسول الله ؟ فقال ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ : إنّه سيكون من ضئضئ هذا قوم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية تنظر في النصل فلا ترى ، شيئاً ، وتنظر في الرصاف فلا ترى شيئاً ، وتتمارى في الفوق (39).
إنّ المحكّمة الاُولى كفّروا من طهّره الله سبحانه في كتابه وقال : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّـهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) (40) وقد اصفقت الاُمّة إلّا الشواذ من الخوارج كعكرمة على نزول الآية في حقّ العترة الطاهرة ، هذا هو مسلم يروي في صحيحة عن عائشة ، قالت : خرج النبي غداة وعليه مرط مرجّل من شعر أسود وجاء الحسن بن علي فأدخله ، ثم جاء الحسين بن علي فأدخله ، ثمّ جاءت فاطمة فأدخلها ، ثمّ جاء علي فأدخله ، ثمّ قال : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّـهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) (41).
وروى إمام الحنابلة في مسنده نزول الآية في شأن الخمسة الطاهرة ، فمن أراد فليرجع إلى مظانّه (42).
إلى غير ذلك من الآيات النازلة في حقّ أهل البيت.
أفيصحّ لنا الحكم بإسلام من يكفّر ويبغض ويقاتل من طهّره الله في نصّ كتابه ، ومحكم ذكره ؟
ولأجل ذلك فالمحكّمة الاُولى محكومون بالكفر والنفاق وإن افترضنا أنّهم اكتفوا بإنكار التحكيم فقط ، ولم يستعرضوا المسلمين بالسيف ولم يقتلوا النساء ولا الأطفال ولا كفّروا المسلمين.
وفي كلمات أئمّة أهل بيت إشارة إلى هذا النوع.
كان عبد الله بن نافع بن الأزرق يقول : لو عرفت أنّ بين قطريها أحداً تبلغني إليه الإبل يخصمني بأنّ عليّاً ـ عليه السَّلام ـ قتل أهل النهروان وهو غير ظالم ، لرحلتها إليه ، فقيل له : إئت ولده محمّد الباقر ـ عليه السَّلام ـ فأتاه فسأله ، فقال بعد كلام : الحمد لله الذي أكرمنا بنوبّته ، واختصّنا بولايته ، يا معشر أولاد المهاجرين و الأنصار من كان عنده منقبة في أمير المؤمنين ، فليقم وليحدّث ، فقاموا ونشروا من مناقبه فلمّا انتهوا إلى قوله : لاُعطينّ الراية غداً رجلا يحبّه الله ورسوله ويحبّ الله ورسوله ، سأله أبو جعفر عن صحّته فقال : هو حقّ لا شكّ فيه ، ولكن عليّاً أحدث الكفر بعد.
فقال أبو جعفر ـ عليه السَّلام ـ : أخبرني عن الله أحبّ عليّ بن أبي طالب يوم أحبّه وهو يعلم أنّه يقتل أهل النهروان ، أم لم يعلم ، إن قلت : لا ، كفرت ، فقال : قد علم ، فقال : فأحبّه على أن يعمل بطاعته أم على أن يعمل بمعصيته ؟ قال : على أن يعمل بطاعته ، فقال أبو جعفر : قم مخصوماً ، فقام عبد الله بن نافع ابن الأزرق وهو يقول : حتّى يتبّين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود ، ( اللَّـهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ) (43).
روى الشريف المرتضى عن الشيخ المفيد : أحبّ الرشيد أن يسمع كلام هشام بن الحكم مع الخوارج ، فأمر بإحضار هشام بن الحكم وإحضار عبد الله بن يزيد الاباضيّ (44) وجلس بحيث يسمع كلامهما ولا يرى القوم شخصه ، وكان بالحضرة يحيى بن خالد ، فقال يحيى لعبد الله بن يزيد : سل أبا محمّد ـ يعني هشاماً ـ عن شيء ، فقال هشام : لا مسألة للخوارج علينا ، فقال عبد الله بن يزيد ، وكيف ذلك ؟ فقال هشام : لأنّكم قوم قد اجتمعتم معنا على ولاية رجل وتعديله والإقرار بإمامته وفضله ، ثمّ فارقتمونا في عداوته والبراءة منه ، فنحن على إجماعنا وشهادتكم لنا ، وخلافكم علينا غير قادح في مذهبنا ، ودعواكم غير مقبولة علينا ، إذ الاختلاف لا يقابل الاتّفاق ، وشهادة الخصم لخصمه ، مقبولةٌ ، وشهادته عليه مردودة.
قال يحيى بن خالد : لقد قرَّبت قطعه يا أبا محمّد ، ولكن جاره شيئاً ، فإنّ أمير المؤمنين أطال الله بقاءه يحبّ ذلك ، قال : فقال هشام : أنا أفعل ذلك ، غير أنّ الكلام ربّما انتهى إلى حدّ يغمض ويدقّ على الأفهام ، فيعاند أحد الخصمين أو يشتبه عليه ، فإن أحبّ الإنصاف فليجعل بيني وبينه واسطة عدلاً ، إن خرجت عن الطريق ردَّني إليه ، وإن جار في حكمه شهد عليه ، فقال عبد الله بن يزيد : لقد دعا أبو محمّد إلى الإنصاف ، فقال هشام : فمن يكون هذه الواسطة ؟ وما يكون مذهبه ؟ أيكون من أصحابي ، أو من أصحابك ، أو مخالفاً للملّة أو لنا جمعياً ؟ قال عبد الله بن يزيد : اختر من شئت فقد رضيت به ، قال هشام : أمّا أنا فأرى أنّه إن كان من أصحابي لم يؤمن عليه العصبيّة لي ، وإن كان من أصحابك لم آمنه في الحكم عليَّ ، وإن كان مخالفاً لنا جميعاً لم يكن مأموناً عليّ ولا عليك ، ولكن يكون رجلاً من أصحابي ، ورجلاً من أصحابك ، فينظران فيما بيننا ويحكمان علينا بموجب الحقّ ومحض الحكم بالعدل ، فقال عبد الله بن يزيد : فقد أنصفت يا أبا محمّد ، وكنت أنتظر هذا منك.
فأقبل هشام على يحيى بن خالد فقال له : قد قطعته أيّها الوزير ، ودمّرت (45) على مذاهبه كلّها بأهون سعي ، ولم يبق معه شيء ، واستغنيت عن مناظرته ، قال : فحرّك الرشيد الستر ، فأصغى يحيى بن خالد فقال له : هذا متكلّم الشيعة وافق الرجل موافقة لم تتضمّن مناظرة ، ثمّ ادّعى عليه أنّه قد قطّعه وأفسد عليه مذهبه ، فمرّه أن يبيّن عن صحّة ما ادّعاه على الرجل ، فقال يحيى بن خالد لهشام : إنّ أمير المؤمنين يأمرك أن تكشف عن صحّة ما ادّعيت على هذا الرجل ، قال : فقال هشام رحمه الله : إنّ هؤلاء القوم لم يزالوا معنا على ولاية أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب ـ عليه السَّلام ـ حتّى كان من أمر الحكمين ما كان ، فأكفروه بالتحكيم وضلّلوه بذلك ، وهم الّذين اضطرّوه إليه ، والآن فقد حكّم هذا الشيخ وهو عماد أصحابه مختاراً غير مضطرّ رجلين مختلفين في مذهبهما : أحدهما يكفّره ، والآخر يعدّله ، فإن كان مصيباً في ذلك فأمير المؤمنين أولى بالصواب ، وإن كان مخطئاً كافراً فقد أراحنا من نفسه بشهادته بالكفر عليها ، والنظر في كفره وإيمانه أولى من النظر في إكفاره عليّاً ـ عليه السَّلام ـ قال : فاستحسن ذلك الرشيد و أمر بصلته وجائزته (46).
إنّ عداء القوم بالنسبة إلى الإمام أمير المؤمنين كانت ظاهرة في كتب أوائلهم ، هذا هو محمّد بن سعيد الكدمي أحد علماء المذهب الاباضي بعمان ، حتّى لُقّب بإمام المذهب في القرن الرابع الهجري يذكر عليّاً في كتابه ويقول :
« إنّ علي بن أبي طالب استخلف على الناس ، ونقض عهد الله وحكم في الدار غير حكم كتاب الله ، وقتل المسلمين وسار بالجور في أهل رعيّته ، فعلى الذي قد صحّت منه سعادة عليّ بن أبي طالب أن يتولّى لله علي بن أبي طالب على سفكه لدماء المسلمين وعلى تحكيمه في الدماء غير حكم كتاب الله ، وسيرته القبيحة ، لا يحلّ له الشكّ في ولايته ، وعليه أن يبرأ لله من باطله ومن سفك دمه إن قدر على ذلك ، وليس له أن ينكر على المسلمين البراءة منه » (47).
وهذا هو ابن سلّام الاباضي المتوفّى بعد عام 273 يقول : « وحكّموا الحكمين خلافاً لكتاب الله ، وحكّموا الحكمين في أمر قضاه الله ، واختلفت الاُمّة وتفرّقت الكلمة ، وصار الناس شيعتين مفترقتين ، وظهر أهل الباطل من أصحاب معاوية على أهل الحقّ ، فاختفى المسلمون بالحقّ الذي تمسّكوا به فاختلفت عليهم كلمة المختلفين ، يقتلونهم على دين الله الحنيف والملّة الصادقة ( مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) (48). يبصّرون الناس دينهم في السرّ ويصبرون في الله على الأذى والقتل ، واحتقروا ذلك في ذات الله » (49).
يا ليت ابن سلّام يشير إلى الذين حكّموا الحكمين خلافاً لكتاب الله ، إلى الذين فرضوا التحكيم على الإمام المفترض طاعته في أمر قضاه الله. أو ليس هؤلاء أشياخه وأولياءه الذين كانوا مقنّعين في الحديد يدعون إمامهم باسم عليّ لا بإمرة المؤمنين ، ويقولون : « أجب القوم إلى كتاب الله وإلّا قتلناك كما قتلنا ابن عفان ».
إنّ الكاتب نسى أو تناسى الجرائم المريرة التي ارتكبتها المحكّمة الاُولى حين تنقّلهم من حروراء إلى النهروان. فكان الأولى له التنويه بذلك ، لكّنه شطب على هذه الحقائق التاريخيّة بقلم عريض ، وإلى الله المشتكى.
يقول بعض فقهائهم في مسألة « الولاية والبراءة ».
فإن قالوا : فما تقولون في علي بن أبي طالب ؟ قلنا له : إنّ علي بن أبي طالب مع المسلمين في منزلة البراءة.
فإن قال : من أين وجبت عليه البراءة وقد كان إماماً للمسلمين وهو ابن عمّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وختنه (50) ، مع فضائله المشهورة وقتاله بين يدي النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم المشركين ؟
قلنا له : أوجبنا عليه البراءة من وجوه شتّى ، أحدها أنّه ترك الحرب التي أمر الله بها للفئة الباغية قبل أن تفئ إلى الله ، وأحدها تحكيم الحكمين في دماء المسلمين وفيما لم يأذن الله به المضلّين الذين كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يحذّرهما ويخوّفهما أصحابه.
وأحدهما بقتله أهل النهروان وهم الأفضلون من أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وهم الأربعة آلاف رجل من خيار الصحابة رحمهم الله. والأخبار بذلك تطول ويضيق بها الكتاب ويتّسع بها الجواب ولم نعدّ كتابنا هذا لشرح جميع أخبارهم ، وإنّما أردنا أن نلوّح لكم ونذكر بعض الذي كان من أحداثهم ، لتكونوا من ذلك على علم ومعرفة لتعلموا ضلال من ضلّ وخالف وشغب عليكم وبالله التوفيق.
فإن قالوا : فما تقولون في طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام ؟ قلنا له : إنّهما عند المسلمين بمنزلة البراءة.
فإن قال : من أين وجبت عليهما البراءة ؟ قلنا له : بخروجهما على علي بن أبي طالب والمسلمين وطلبهما بدم عثمان بن عفان بإرادتهما إزالة علي بن أبي طالب عن إمامته ، وقالا : حتّى يكون الأمر شورى بين المسلمين يختارون لأنفسهم إماماً غيره ، بعد رضائهما به وبيعتهما له وأعطيا صفقة أيديهما (51) على طاعة الله وطاعة رسوله وعلى قتال من خرج يطلب بدم عثمان بن عفان.
فإن قال : فما تقولون في الحسن والحسين ابني علي ؟ قلنا له : هما في منزلة البراءة ، فإن قال : من أين أوجبتم عليهما البراءة وهما ابنا فاطمة ابنة رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ ؟! قلنا له : أوجبنا عليهما البراءة بتسليمهما الإمامة لمعاوية بن أبي سفيان وليس قرابتهما من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم تغني عنهما من الله ، لأنّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال في بعض ما أوصى به قرابته : يا فاطمة بنت رسول الله ، ويا بني هاشم ، اعملوا لما بعد الموت ، فإنّي ليس أغني عنكم شيئاً ، أو نحو ذلك من الخطاب. فلو كانت القرابة من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم تغني عن العمل لم يقل ذلك لهم النبي. فهذا نقض لقول من يقول : إنّ القرابة من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم مغفور لها. وقد وجدنا الله يهدّد نبيّه بقوله : ( وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ) (52). فقد بطل ما خاصمت به أيّها الخصم واحتججت به من قبل القرابة للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم (53).
إنّ الخوارج في مصطلح القوم مفهوم سياسي وفي الوقت نفسه مفهوم ديني ، فيراد من الأوّل خروجهم عن طاعة الإمام المفترض طاعته ، ويحكم عليهم بما يحكم على البغاة ، ويراد من الثاني خروجهم من الدين والملّة ، وصيرورتهم كفّاراً.
وعلى كلا المفهومين، فالمحكّمة الاُولى خوارج ، حيث خرجوا عن طاعة الإمام وبقوا عليه في أثناء المعركة ، وخارجون عن الدين حيث أبغضوا من بغضه نفاق وكفر وحبّه دين وإيمان.
وقال عمر أبو النظر :
وتعاليم الخوارج منذ ظهورهم مزيج من السياسة والدين ، فشعارهم « الحكم لله » شيء يمتزج بالدين والسياسة معاً ، فلا يصحّ والحالة هذه أن يقال : إنّ دعوتَهم هذه كانت دينيّة محضة أو سياسيّة محضة ، وظلت دعوتهم بسيطة حتّى خلافة عبد الملك بن مروان حيث خرجوا فيها كثيراً عن التعاليم الجديدة ، وذهبوا يتأوّلون الأحكام الدينيّة تأويلاً فيه كثير من الإغراق والتعقيد ، فقالوا : إنّ العمل بأوامر الدين من الإيمان ، فمن اعتقد التوحيد والرسالة وارتكب الكبائر فهو كافر (54).
هذا ما يرجع إلى المحكّمة الاُولى ومن جاء بعدهم من الأوائل المنتمين إلى الاباضيّة.
وأمّا اباضيّة اليوم المنتشرة في عمان والمغرب العربي أعني ليبيا والجزائر وتونس وكذلك مصر ، فلم يظهر لنا من كتبهم المنتشرة اليوم إلّا تخطئة التحكيم وتصويب المحكّمة الاُولى من دون نصب عداء للوصيّ أو بذاءة في اللسان بالنسبة إليه ـ إلّا ما نقلناه أخيراً ـ فلا يمكن الحكم في حقّهم إلّا بالمقدار الذي ظهر لنا ولكن لا يمكن الوثوق به لأنّ للقوم في الدين مسالك أربعة ، منها مسلك الكتمان كما سيوافيك توضيحه عند البحث عن التقّية ، فإنّ القوم من أصحابها ومجوّزيها والعاملين بها طيلة قرون ، وفي ظلّها عاشوا ومهّدت لهم الطريق ، وقامت لهم دول في عمان ، وفي أقصى المغرب العربي.
نظريّة اُخرى في مفهوم الخوارج :
المتبادر من الخوارج لدى المسلمين هو المحكّمة الاُولى الذين ثاروا على عليّ في ثنايا حرب صفّين وخرجوا عن الطاعة بوجه وعن الدين بوجه آخر ، غير أنّ بعض الاباضييّن في العصر الحاضر يفسّره بالخروج عن الدين ويصّر على أنّ المراد منه هو أصحاب الردّة بعد وفاة رسول الله أو الثورات الاُخرى التي وقعت إلى انتهاء خلافة الإمام علي عليه السَّلام (55).
قال علي يحيى معمر :
« كان الأمويّون والشيعة يحاولون بكلّ ما استطاعوا أن يلصقوا هذا اللقب لقب الخوارج ـ بعد أن فسّر بالخروج من الدين ـ بهؤلاء الثائرين الذين ينادون في إصرار وشدّة بالمبادئ العادلة في الخلافة ، وكان الشيعة يحاولون بما اُوتوا من براعة أن يحصروها في بيت علي ، كما كان غير هم من الطامعين فيها ، يشترط لها الهاشميّة أو القرشيّة أو العروبة ، حسب المصلحة السياسيّة لأصحاب الآراء في ذلك الحين ، وكلّ هذه الاتّجاهات تجتمع على محاربة الاتّجاه الذي اتّجه إليه أتباع عبد الله بن وهب الراسبي. ذلك الاتّجاه العادل الذي يرى أنّ المسلمين متساوون في الحقوق والواجبات. ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّـهِ أَتْقَاكُمْ ). « لا فضل لِعربيّ على أعجميّ إلّا بالتقوى ».
يلاحظ عليه :
أنّ النبيّ الأكرم لم يتكلّم عن الخوارج بوصف كلّي وإنّما عيّن إمامهم وأشار إلى قائدهم ، وقد رواه المحدّثون في صحاحهم ومسانيدهم وأطبق على نقله الفريقان ، فلا يمكن لمحدّث واع إنكاره ، ولا التشكيك في صحّة أسانيده ، فما ظنّك بحديث رواه البخاري ومسلم وابن ماجة وأحمد بن حنبل وغيرهم ، ولأجل ايقاف القارئ على نصّ الرواية نذكرها عن تلك المصادر ونشير إلى محلّها :
1 ـ روى البخاري عن أبي سعيد الخدري قال : بينا النبي يقسّم ذات يوم قسماً ، فقال ذو الخويصرة ـ رجل من بني تميم ـ : يا رسول الله اعدل. قال : ويلك ! من يعدل إذا لم أعدل ؟ فقال عمر : إئذن لي فلأضرب عنقه ؟ قال : لا إنّ له أصحاباً يحقّر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم. يمرقون من الدين كمروق السهم من الرميّة ينظر إلى نصله (56) فلا يوجد فيه شيء ، ثم ينظر إلى رصافه فلا يوجد فيه شيء ، ثم ينظر إلى نضيّه (57) فلا يوجد فيه شيء ، ثم ينظر إلى قذذه (58) فلا يوجد فيه شيء سبق الفرث والدم ، يخرجون على حين فرقة من الناس آيتهم رجل إحدى يديه مثل ثدي المرأة ، أو مثل البضعة تدردر (59). قال أبو سعيد : أشهد لسمعته عن النبي وأشهد أنّي كنت مع عليّ حين قاتلهم فالتمس في القتلى فأتى به على النعت الذي نعت النبي (60).
ورواه بنصّه بلا تفاوت مسلم في صحيحه (61).
2 ـ روى ابن ماجة عن جابر بن عبد الله ، قال : كان رسول الله بالجعرانه ، وهو يقسّم التبر والغنائم ، وهو في حجر بلال ، فقال رجل : أعدل يا محمّد ، فإنّك لم تعدل ، فقال : ويلك ومن يعدل بعدي إذا لم أعدل ؟ فقال عمر : دعني يا رسول الله حتّى أضرب عنق هذا المنافق ؟ فقال رسول الله : إنّ هذا في أصحاب أو اصيحاب له يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميّة (62).
والرسول وإن لم يسمّ الرجل أو لم يجيء اسمه في الرواية ، ولكن علم المقصود منه بفضل الروايتين السابقتين.
3 ـ روى أحمد بن حنبل في مسنده بالنصّ الذي رواه البخاري ومسلم بتفاوت طفيف في آخره ، حيث جاء فيه : رجل أسود في إحدى يديه أو قال إحدى ثدييه مثل ثدي المرأة أو مثل البضعة تدردر ، يخرجون على حين فترة من الناس فنزلت فيهم : ( وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ ... ) ثمّ نقل ما ذكره أبو سعيد من سماعه عن رسول الله و مشاهدته في عصر عليّ (63).
كيف يفسّر حديث ذي الخويصرة بأصحاب الردّة ، فقد أشار النبيّ الأكرم إليه ، وقال : « سيخرج من ضئضئ هذا الرجل قوم يمرقون من الدين ... » ولم يكن هو من أصحاب الردّة ، بل كان من المحكّمة الاُولى. كيف يفسرّ هذا المفهوم بالثورات التي وقعت إلى انتهاء خلافة الإمام عليّ عليه السَّلام مع أنّ النبي الأكرم قال : « أنت يا علي قاتل الناكثين والقاسطين والمارقين » ، ولم يقاتل الإمام بعد أصحاب الجمل ـ الناكثين ـ وأصحاب معاوية ـ القاسطين ـ إلّا المحكّمة الاُولى.
أظنّ انّ هذه الاستدلالات الواهية أشبه بتمسّك الغريق بالطحلب ، فالأولى على علماء الاباضيّة المفكّرين ، والعائشين في عصر ظهرت البواطن ، وطلعت الحقائق ، وانقشع غمام الجهل عن سماء المعرفة ، أن يعرضوا عقائدهم على الكتاب والسنّة ، وعلى المقاييس الصحيحة من الإجماع والعقل ، فلربّما عادوا إلى الطريق المهيع ، وتنكّبوا عن سبيل الغواية ، فلهم أن يعملوا بما وصل إليهم من الكتاب والسنّة في ضوء الإجتهاد الصحيح ، ويجدّدوا النظر في مسألة التحكيم كما لهم أن يجدّدوا النظر في حقّ المحكّمة ، وربّما اختاروا طريقاً واضحاً لا تعصّب فيه ولا تساهل.
( وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا )
الهوامش
1. إنّ اباضيّة عمان يقرأونه ـ بالفتح ـ خلافاً لاباضيّة شمال أفريقيّا فيقرأونه ـ بالكسرـ وعلى كلّ تقدير واباض ـ بضم الهمزة ـ فهي قرية أو واحة باليمامة.
2. المبرّد : الكامل 2 / 214.
3. الطبري : التاريخ 4 / 438.
4. الطبري : التاريخ 4 / 438.
5. البقرة : 159.
6. الطبري : التاريخ 4 / 438 ـ 440.
7. المبرّد : الكامل 2 / 213 ـ 214 وقد مرّ ـ كتاب ابن الأزرق ـ إليهما عند البحث عن البيهسيّة ، فلاحظ.
8. نقله خير الدين الزركلي في الاعلام 4 / 184 ، عن هامش الأغاني : 330 من المجلّد السابع.
9. الزبيدي : تاج العروس ، مادة ابض.
10. المقريزي : الخطط 2 / 355.
11. الشهرستاني : الملل و النحل 1 / 134.
12. ابن عماد الحنبلي : شذرات الذهب 1 / 177.
13. ابن نشوان الحميري : الحور العين 173.
14. الأشعري : مقالات الإسلامييّن 104 ـ 105.
15. البغدادي : الفَرق بين الفِرق : 103 ، ثمّ ذكر عقائد فرق الاباضيّة تبعاً للشيخ الأشعري في المقالات 102 ـ 111 ، ومن أراد التفصيل فليرجع إليهما.
16. الاباضيّة بين الفرق الإسلاميّة 1 / 21 ـ 28.
17. صالح بن أحمد الصوافي : الإمام جابر بن زيد العماني : 212.
18. أبو إسحاق السالمي : تحفة الأعيان : هامش الجزء الأوّل كما في الإمام جابر بن زيد العماني.
19. الدكتور رجب محمّد عبد الحليم : الاباضيّة في مصر والمغرب : 54 ـ 56.
20. الدكتور رجب محمّد عبد الحليم : الاباضيّة في مصر والمغرب : 12 ـ 13.
21. نفس المصدر : 53.
22. الدكتور رجب محمّد عبد الحليم : الاباضيّة في مصر والمغرب : 60.
23. لازم ذلك أن يسمّوا الشيعة أيضاً باسم الخوارج.
24. صالح بن أحمد الصوافي ، الإمام جابر بن زيد العماني : 213 ـ 214 ، والكاتب غفل عن القريض المعروف في شأن أبي بلال المنتصر كما سيوافيك ، وكانت الحادثة سنة 60 قبل فتنة الأزارقة.
25. الإمام جابر بن زيد العماني : 224 ، ونقلاً عن الجواهر المنتقاة للبرادي : 156 ـ 167.
26. المبرّد : الكامل 2 / 183 ومرّ تفصيله.
27. مرّ المصدر في الفصل السادس .
28. النساء 75.
29. الرضي : نهج البلاغة ، الخطبة 127.
30. ابن الأثير : الكامل 3 / 206.
31. المبرّد : الكامل 2 / 180.
32. الرضي : نهج البلاغة ، الخطبة 60.
33. المبرّد : الكامل 2 / 186 ، ابن سلّام « م 273 » بدء الإسلام وشرائع الدين : 111 ، مرّت قصّة أبي بلال.
34. مسلم : الصحيح 1 ، كتاب الإيمان 60.
35. أحمد بن حنبل : المسند 1 / 127. الحديث 948 ، وفضائل الصحابة 2 / 563 ، ونقله في كتابه الأخير في غير واحد من المواضع ، لاحظ الأحاديث 979 ، 1059 ، 1086 ، 1146.
36. الحافظ أبو عبد الرحمان النسائي : الخصائص 187.
37. ابن عساكر : تاريخ مدينة دمشق ، ترجمة الإمام علي بن أبي طالب 2 / 190 ـ 199.
38. ابن هشام : السيرة النبوية 4 / 496. ابن الأثير : الكامل 2 / 164.
39. المبرّد : الكامل 2 / 142.
40. الأحزاب : 33.
41. مسلم : الصحيح 7 / 130.
42. أحمد بن حنبل : المسند : 4 / 107 و 6 / 292 ، 296 و 323.
43. ابن شهر آشوب : مناقب آل آبي طالب : 2 / 289 كما في البحار 10 / 158.
44. ترجمه ابن حجر في لسان الميزان 3 / 387 بقوله : عبد الله بن يزيد الفزاري الكوفي المتكلّم ، ذكره ابن حزم في النحل : انّ الاباضيّة من الخوارج أخذوا مذهبهم عنه.
45. دمّر عليه : هجم عليه هجوم الشر. دمّر عليه : أهلكه.
46. الشريف المرتضى : الفصول المختارة 1 / 26.
47. الكدمي ـ محمّد بن سعيد : المعتبر 2 / 41.
48. البقرة : 135.
49. ابن سلام الاباضي : بدء الإسلام وشرائع الدين 106.
50. الختن : الصهر ، زوج الابنة ، والجمع : أختان.
51. صفقة الأيدي تعني توكيد البيعة.
52. الحاقة : 44 ـ 47.
53. السير والجوابات لبعض فقهاء الاباضيّة : تحقيق الاستاذة الدكتورة « سيدة إسماعيل كاشف ، استاذة التاريخ الإسلامي في كلّية البنات جامعة عين شمس ; القاهرة ط 1410 هـ ـ 1989 م ، ص 375 ـ 377.
54. عمر أبو النضر : الخوارج في الإسلام 102.
55. علي يحيى معمر : الاباضيّة في موكب التاريخ ، الحلقة الاُولى 27.
56. هي عصية تلوى فوق مدخل النصل.
57. هو القدح في عود السهم.
58. جمع القُذّة وهي ريش السهم.
59. تضطرب وتتحرّك.
60. البخاري : الصحيح 8 / 70 رقم الحديث 186 من باب ما جاء في قول الرجل ويلك.
61. مسلم : الصحيح 3 / 112 طبعة محمّد على صبيح.
62. أبو عبد الله بن ماجة « 207 ـ 275 هـ » : السنن 1 / 171 الباب 12 ، باب في ذكر الخوارج.
63. أحمد بن حنبل : المسند 3 / 56. وسيوافيك مجموع ما رواه أهل السنّة عن النبي والصحابة والتابعين في آخر الكتاب فانتظر.
مقتبس من كتاب بحوث في الملل والنحل الجزء الخامس
التعلیقات
١