القاضي أبو بكر الباقلاني
الشيخ جعفر السبحاني
منذ 13 سنةالقاضي أبو بكر الباقلاني « المتوفّى ٤٠٣ هـ »
هو أبو بكر محمّد الطيب بن محمّد القاضي المعروف بابن الباقلاني ، وليد البصرة وساكن بغداد ، يعرّفه الخطيب البغدادي بقوله : محمّد بن الطيب بن محمّد أبو بكر القاضي المعروف بابن الباقلاني المتكلّم على مذهب الأشعري ، من أهل البصرة ، سكن بغداد ، وسمع بها الحديث وكان ثقة. فأمّا الكلام فكان أعرف الناس به ، وأحسنهم خاطراً ، وأجودهم لساناً ، وأوضحهم بياناً ، وأصحّهم عبارة ، وله التصانيف الكثيرة المنتشرة في الردّ على المخالفين من الرافضة والمعتزلة والجهمية والخوارج وغيرهم. (1)
وقال ابن خلكان : كان على مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري ، ومؤيّداً اعتقاده وناصراً طريقته ، وسكن بغداد وصنف التصانيف الكثيرة المشهورة في علم الكلام وغيره ، وكان في علمه أوحد زمانه ، وانتهت إليه الرئاسة في مذهبه ، وكان موصوفاً بجودة الاستنباط وسرعة الجواب. وسمع الحديث وكان كثير التطويل في المناظرة ، مشهوراً بذلك عند الجماعة ، وتوفّي آخر يوم السبت ودفن يوم الأحد لسبع بقين من ذي القعدة سنة ثلاث وأربعمائة ببغداد رحمه الله تعالى ، وصلّى عليه ابنه الحسن ، ودفن في داره بدرب المجوس ، ثمّ نقل بعد ذلك فدفن في مقبرة باب حرب.
والباقلاني نسبه إلى الباقلاء وبيعه !! (2)
ويظهر من فهرس تآليفه أنّه كان غزير الإنتاج وكثير التأليف ، فقد ذكر له ٥٢ كتاباً ، غير أنّه لم يصل إلينا من هذه إلّا ما طبع ، وهي ثلاثة :
١ ـ « إعجاز القرآن » طبع في القاهرة كراراً ، وقد حقّقه أخيراً السيّد أحمد صقر ، طبع بمطابع دار المعارف بمصر عام ١٩٧٢ م.
٢ ـ « التمهيد في الردّ على الملاحدة » وهو كتاب كلامي يعرف منه آراؤه الكلاميّة في مختلف الأبواب.
٣ ـ « الإنصاف في أسباب الخلاف » وقد نشره محمّد زاهد الكوثري في القاهرة عن مخطوطة دار الكتب المصريّة عام ١٣٦٩ هـ.
عثرة لا تقال
ذكر الخطيب في ترجمة الباقلاني كلاماً وقال : « وحدث أنّ ابن المعلّم شيخ الرافضة ومتكلّمها ـ يريد الشيخ المفيد ـ حضر بعض مجالس النظر مع أصحاب له ، إذ أقبل القاضي ، فالتفت ابن المعلّم إلى أصحابه وقال لهم : قد جاءكم الشيطان ، فسمع القاضي كلامه ـ وكان بعيداً من القوم ـ فلمّا جلس أقبل على ابن المعلّم وأصحابه وقال لهم : قال الله تعالى : ( أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا ) (3) أيّ إن كنتُ شيطاناً فأنتم كفّار ، وقد أرسلت عليكم. (4)
أقول : وأظن ـ وظن الألمعي صواب ـ أنّه لو وقف الخطيب على مكانة ابن المعلّم وشيخ الأُمّة الشيخ المفيد ، لتوقّف في نقل هذه الأُسطورة ، وهذا اليافعي يعرّفه في تاريخه ويقول : « كان عالم الشيعة وإمام الرافضة ، صاحب التصانيف الكثيرة شيخهم المعروف بالمفيد ، وبابن المعلّم ، البارع في الكلام والجدل والفقه ، وكان يناظر أهل كلّ عقيدة مع الجلالة والعظمة بالدولة البويهيّة ».
وقال ابن أبي طي : « كان كثير الصدقات ، عظيم الخشوع ، كثير الصلاة والصوم ، خشن اللباس ». (5)
وقال ابن كثير في حوادث سنة ٤١٣ : « شيخ الإماميّة الروافض ، والمصنّف لهم ، والمحامي عن حوزتهم. كانت له وجاهة عند ملوك الأطراف لميل كثير من أهل ذاك الزمان إلى التشيّع ، وكان مجلسه يحضره خلق كثير من العلماء من سائر الطوائف ، وكان من جملة تلاميذه الشريف الرضي والمرتضى ». (6)
وعلى ذلك فالرجل الذي يصف اليافعي في تاريخه بأنّه يناظر أهل كلّ عقيدة مع الجلالة ، أو يصفه ابن كثير بأنّه يحضر مجلسه كثير من العلماء من سائر الطوائف ، أجلّ من أن يتوسّل في إفحام خصمه وإخضاعه للحقّ ، بالإهانة والتكلّم بما هو خارج عن أدب المناظرة.
نعم ، نقل بعض المترجمين للشيخ المفيد أنّه جرت مناظرة بينه وبين أبي بكر الباقلاني ، فلمّا ظهر تفوّق المفيد على مناظره ، قال له أبو بكر : أيّها الشيخ إنّ لك من كلّ قدر معرفة ، فأجابه الشيخ ممازحاً : نعم ما تمثلت به أيّها القاضي من أدوات ـ مهنة ـ أبيك. (6)
إنّ الخطيب لم يخف حقده على شيخ الأُمّة في غير هذا المقام أيضاً ، فقد قال في ترجمته : « وكان أحد أئمّة الضلال ، هلك به خلق من الناس ، إلى أن أراح الله المسلمين منه. ومات في يوم الخميس ثاني شهر رمضان سنة ثلاث عشرة وأربعمائة ». (7)
أهكذا أدب العلم وأدب الدين ؟!!
إنّ هذه شنشنة أعرفها من كلّ من يضمر الحقد على أمثال الشيخ. لاحظ الكامل لابن الأثير الجزء السابع ص ٣١٣ ترَ أنّ ما ذكره الخطيب أخف وطأً ممّا ذكره المعلّق على « الكامل » من السباب المقذع الخارج عن أدب الدين والتقى.
فكلّ من أراد أن يقف على أدب الشيخ المفيد في المناظرة واحتجاجه على الخصم ، فليلاحظ مناظراته في الكلام والتفسير التي جمعها تلميذه الشريف المرتضى في كتاب « الفصول المختارة » اختارها من كتابين لشيخه المفيد ، أحدهما : « المجالس المحفوظة في فنون الكلام » والثاني « العيون والمحاسن ». ولأجل إعطاء نموذج من مناظرات الشيخ المفيد وقوّة عارضته ، نأتي بإحداها التي وقعت مع علي بن عيسى الرماني « المتوفّى عام ٣٨٥ هـ ». فقد دخل الشيخ عليه والمجلس غاص بأهله ، فقعد حيث انتهى به المجلس ، فلمّا خفّ الناس قرب من الرماني ، فدخل عليه داخل وقال : إنّ بالباب إنساناً يؤثر الحضور ، وهو من أهل البصرة ، فأذن له فدخل فأكرمه ، وطال الحديث بينهما. فقال الرجل لعلي بن عيسى : ما تقول في يوم الغدير والغار ؟ فقال : أمّا خبر الغار فدراية ، وأمّا خبر الغدير فرواية ، والرواية لا توجب ما توجبه الدراية ، وانصرف البصري ولم يحر جواباً. فقال الشيخ للرماني : أيّها الشيخ مسألة ؟ فقال : هات مسألتك ؟ فقال : ما تقول فيمن قاتل الإمام العادل ؟ فقال : كافر ، ثمّ استدرك فقال : فاسق ، وعندئذ قال المفيد : ما تقول في أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام ؟ قال : إمام.
فقال : ما تقول في يوم الجمل وطلحة والزبير ؟ فقال : تابا. فقال المفيد : أمّا خبر الجمل فدراية ، وأمّا خبر التوبة ، فرواية. فقال الرماني : هل كنت حاضراً وقد سألني البصري ؟ فقال : نعم ، رواية برواية ودراية بدراية. (8)
فمن كان هذه مقدرته العلميّة وقوّة إفحامه للخصم ، فلا يتوسّل بما يتوسّل به العاجز عن المناظرة ، فما ذكره الخطيب أشبه بالمهزلة منه بالجد. كما أنّ ما نقله ابن عساكر من المنامات بعد موت القاضي أبي بكر أُمور لا يلتجئ إليها إلّا من يفتقد الحقيقة في عالم الحس فيتطلبها بالمنامات.
الهوامش
1. تاريخ بغداد : ٥ / ٣٧٩ ـ ٣٨٣.
2. وفيات الأعيان : ٤ / ٢٦٩ برقم ٦٠٨.
3. مريم : ٨٣.
4. تاريخ بغداد : ٥ / ٣٧٩ ، ونقله ابن عساكر في تبيينه : ٢١٧.
5. مرآة الجنان : ٣ / ٢٨.
6. البداية والنهاية : ١٢ / ١٥.
7. روضات الجنات : ٦ / ١٥٩ مستمداً من تلقبه بالباقلاني ، المنسوب إلى بائع الباقلاء.
8. تاريخ بغداد : ٣ / ٢٣١ برقم ١٢٩٩.
9. مجموعة ورام : ٦١١.
مقتبس من كتاب : [ بحوث في الملل والنحل ] / المجلّد : 2 / الصفحة : 311 ـ 314
التعلیقات