الاعتراف بالتحسين والتقبيح العقليين
عقائد الماتريدية
منذ 13 سنةبحوث في الملل والنحل لأية الله الشيخ جعفر السبحاني ، ج 3 ، ص 29 ـ 31
________________________________________(29)
3ـ الاعتراف بالتحسين والتقبيح العقليين:
إنّ لمسألة التحسين والتقبيح العقليين دوراً مؤثّراً في المسائل الكلامية، فالأشاعرة على إنكارهما زاعمين أنّ القول باستطاعة العقل على دركهما، يستلزم نفي حرّية المشيئة الإلهيّة والتزامها بقيد وشرط، وقد أوضحنا حال هذه النّظرية عند عرض عقائد الأشاعرة(2). وأمّا المعتزلة فهم على جانب مخالف، وأمّا الماتريديّة فيعترفون بالتحسين والتقبيح ببعض مراتبهما.3ـ الاعتراف بالتحسين والتقبيح العقليين:
قال البياضي: والحسن بمعنى استحقاق المدح والثّواب، والقبح بمعنى استحقاق الذمّ والعقاب على التكذيب عنده (أبي منصور الماتريدي) إجمالاً عقلي، أي يعلم به حكم الصانع في مدّة الاستدلال في هذه العشرة(3). كما في التوضيح وغيره، لا بإيجاب العقل للحسن والقبح، ولا مطلقاً كما زعمته المعتزلة، أمّا كيفيّة الثّواب وكونه
________________________________________
. 2. لاحظ الجزء الثاني: ص 310 ـ 332. 3. اشارة إلى ما ذكره من المسائل العشر خلال البحث في وجوب المعرفة عقلاً.
________________________________________
(30)
بالجنّة، وكيفيّة العقاب وكونه بالنّار، فشرعي، واختار ذلك الامام القفّال الشاشي، والصيرفي، وأبو بكر الفارسي، والقاضي أبو حامد، وكثير من متقدّميهم، كما في القواطع للامام أبي المظفّر السمعاني الشافعي والكشف الكبير، وهو مختار الامام القلانسي ومن تبعه كما في (التبصرة البغدادية). ولا يجوز نسخ مالا يقبل حسنه أو قبحه السقوط كوجوب الايمان، وحرمة الكفر واختاره المذكورون ـ إلى أن قال:ـ ويستحيل عقلاً اتّصافه تعالى بالجور وما لا ينبغي، فلا يجوز تعذيب المطيع، ولا العفو عن الكفر، عقلاً، لمنافاته للحكمة، فيجزم العقل بعدم جوازه، كما في التنزيهات(1).وغير خفيّ على النابه أنّ الشيخ الماتريدي قد اعترف بما هو المهمّ في باب التحسين والتقبيح العقليين وإليك الاشارة إليه:
1ـ استقلال العقل بالمدح والذمّ في بعض الأفعال، وهذا هو محلّ النزاع في بابهما بأن يجد العقل من صميم ذاته أنّ هنا فعلين مختلفين يستحقّ فاعل أحدهما المدحَ، وفاعل الآخر الذمَّ، سواء أكان الفاعل بشراً، أم انساناً، أم ملكاً، أم غيرهما، وتبتنى عليه اُصول كثيرة كلاميّة أوعزنا إليها عند عرض عقائد الأشعري و آرائه.
2ـ استقلال العقل بكونه سبحانه عادلاً، فلا يجوز عليه تعذيب المطيع، وأين هو ممّا يقول به الأشعري من أنّه يجوز للّه سبحانه أن يؤلم الأطفال في الآخرة وهو عادل إن فعله(2).
3 ـ نعم أنكر الشيخ إيجاب العقل للحسن والقبح، ولكنّه لو كان واقفاً على مغزى إيجاب العقل لم يعترض عليه، إذ لا يوجد في أديم الأرض إنسان عاقل عارف بمقام الربّ والخلق، يجعل العقل موجِباً ومكلِّفاً ـ بالكسر ـ واللّه سبحانه موجَباً ومكلَّفاً ـبالفتح ـ، لأنّ شأن العقل هو الادراك، ومعنى إيجابه القيام بالحسن، والاجتناب عن ضدّه، هو استكشافه لزوم القيام بالأوّل وامتناع القيام بالثّاني بالنّظر إلى
________________________________________
1. اشارات المرام: فصل الخلافيات بين الماترديّة والأشاعرة، ص 54 . 2. اللمع: ص 116 .
________________________________________
(31)
المبادىء الموجودة في الفاعل الحكيم، فالمتّصف بكلّ الكمال، والمبرّأ عن كلّ سوء، لايصدر منه إلاّ الحسن لوجود الصارف عن غيره، ويمتنع صدور غيره عنه، وليس هذا الامتناع امتناعاً ذاتيّاً بمعنى تحديد قدرته ومشيئته، بل قدرته ومشيئته مطلقتان بالذّات غير محدودتين، فهو سبحانه قادر على كلا القسمين من الفعل أعني الحسن والقبح، لكن بالنّظر إلى أنّه عالم واقف على قبح الأفعال، وغنىُّ عن فعل القبح، يترك القبيح ولا يفعله، واللّه الحكيم كتب على نفسه أن لا يخلّ بالحسن ولا يفعل القبيح، وليس دور العقل إلاّ دور الكشف والتبيين، والتعبير بالإيجاب بملاك الوقوف على المبادئ الكماليّة الموجودة في المبدأ كقولك: يجب أن تكون زوايا المثلّث متساوية مع زاويتين قائمتين، فإنّ الخصوصيّة التكوينيّة الكامنة فيه مبدأ ذلك الإيجاب، والعقل كاشفه، ومع ذلك ربّما يعبّر عن ذلك بالإيجاب.4ـ اختار الماتريدي قصور العقل عن تعيين كيفيّة الثواب وكونه بالجنّة، وكيفيّة العقاب وكونه بالنار وهو الحقّ، فإنّ أقصى ما يستقلّ به العقل هو لزوم مثوبة المطيع ومجازاة العاصي، وأمّا الكيفيّة فلا يستقلّ العقل بشيء منها (على فرض كون الثّواب بالاستحقاق). نعم ما ذكره من أنّه ليس للّه العفو عن الكفر عقلاً، فالظّاهر أنّه تحديد رحمته وقد سبقت غضبه، والتّعذيب حقُّ له، وله الإعمال وله العفو كعصيان المؤمن الفاسق. نعم أخبر المولى سبحانه بأنّه لا يغفر الشرك، ويغفر ما دون ذلك.
التعلیقات