الماتريدية والصفات الخبرية
عقائد الماتريدية
منذ 13 سنةبحوث في الملل والنحل لأية الله الشيخ جعفر السبحاني ، ج 3 ، ص 41 ـ 46
________________________________________
أ ـ كلام الامام الأشعري:
إن قال قائل: ما تقولون في الاستواء؟ قيل له: نقول إنّ الله عزّ وجلّ يستوي على عرشه كما قال، يليق به من غير طول الاستقرار كما قال: (الرَّحمنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوى) (طه /5) وقد قال اللّه عزّ وجلّ: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمَ الطَّيِّبُ)(فاطر/10) وقال (بَلْ رَفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ) (النساء /158) وقال عزّ وجلّ: (يُدَبِّرُ الأمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلى الأرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيهِ) (السجدة/5). وقال حكايةً عن فرعون: ( يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمواتِ فَأَطَّلِعُ إِلَى إِلهِ مُوسى وَ إِنِّي لأظُنُّهُ كَاذِباً))(غافر/36 ـ 37) فكذّب فرعون نبيّ الله موسى ـ عليه السلام ـ في قوله «إنّ الله عَزّ وجلّ فوق السماوات والأرض» وقال عزّ وجلّ: (ءَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يخسِفَ بِكُمُ الأَرضَ)(الملك/16) فالسماوات فوقها العرش، فلمّا كان العرش فوق السماوات قال: (ءأمنتم من في السماء) لأنّه مستو على العرش الّذي فوق السّماوات، وكلّ ما علا فهو سماء، فالعرش أعلى السماوات. وليس إذا قال: (ءأمنتم من في السماء)يعني جميع السماوات، وإنّما أراد العرش الّذي هو أعلى السماوات. ألاترى أنّ الله عزّ وجلّ ذكر السماوات فقال: (وجعل القمر فيهنّ نوراً)(نوح/16) ولم يرد أنّ القمر يملأهنّ جميعاً، وأنّه فيهنّ جميعاً، ورأينا المسلمين جميعاً يرفعون أيديهم إذا دعوا نحو السّماء لأنّ الله مستو على
________________________________________
ومن تأمّل في ظواهر كلماته ودلائله لا يشكّ في أنّ الشيخ يعتقد بكونه سبحانه على العرش فوق السّماوات، وأيّ كلام أصرح من قوله «فلولا أنّ الله عزّ وجلّ على العرش» فلو صحّت نسبة النسخة من (الابانة) إلى الشّيخ، وكانت مصونة عن دسّ الحشويّة والحنابلة(2)، فهو من المشبّهة قطعاً، غير أنّه لدفع عار التشبيه والتجسيم عن نفسه، يتدرّع بلفظة «بلا كيف أو «على نحو يليق به» أو «من غير طول الاستقرار» وقد أوضحنا حال هذه الألفاظ في الجزء الثاني.
والعجب أنّ الشيخ يفسّر الرفع الوارد في الآيات تصريحاً، أو تلويحاً، بالرفع الحسّي. مع أنّ في نفس الآيات ـ لدى التدبّر ـ قرائن تدلّ على كون الرفع، هو الرفع المعنوي لا الحسّي والصعود المادّي.
وأعجب منه أنّه نسب إلى الكليم ـ عليه السلام ـ أنّه قال لفرعون: إنّ الله سبحانه فوق السماوات، فصار فرعون بصدد تكذيبه إذ قال لهامان: «ابن لي صرحاً لعلّي أطّلع إلى إله موسى» مع أنّه أشبه بالرجم بالغيب، إذ من الممكن أن يكون المصدر لاعتقاده بكون إله موسى في السماء، هو اجتهاده الشخصي الخاطئ، بأنّه إذا لم يكن إله موسى في الأرض كسائر الآلهة، فلا محالة هو في السماء، ولأجل ذلك طلب من هامان بناء
________________________________________
1. الابانة: ص 85 ـ 86. 2. إنّ الشيخ محمد زاهد الكوثري الماتريدي لا يرى للكتب المطبوعة باسم الأشعري أصالة لأنّها بحرفيتها نفس عقائد الحشوية مع أنّ المعروف أنّهم أعداء له. يقول: وطبع كتاب (الابانة) لم يكن من أصل وثيق، وفي (المقالات) المنشور باسمه وقفة، لأنّ جميع النسخ الموجودة اليوم من أصل وحيد كان في حيازة أحد كبار الحشوية ممن لا يؤتمن لا على الاسم، ولا على المسمّى، بل لو صحّ الكتابان عنه على وضعهما الحاضر، لما بقي وجه لمناصبة الحشوية العداء له على الوجه المعروف، على أنّه لا تخلو آراؤه من بعض ابتعاد عن النّقل مرّة، وعن العقل مرة اُخرى، في حسبان بعض النظار كقوله في التحسين والتعليل، وفيما يفيده الدليل النقلي (مقدمة اشارات المرام: ص 7). أقول: إنّ الاعتزال عن العقل، وإعلان الالتحاق بأهل الحديث الّذين أعدموا العقل، والإلتجاء إلى كل ما سمي حديثاً لا ينتج إلاّ ما جاء في الكتابين، فلا وجه للتشكيك في مضامينهما.
________________________________________
ثمّ إنّ نقد كلام الشّيخ وتفسير الآيات الّتي استدلّ بها على كونه سبحانه في العرش،يحتاج إلى بسط في الكلام،وسوف نقوم بها عند عرض عقائد المعتزلة إن شاء الله.
إنّ الصفات المتشابهة الواردة في الكتاب والسنّة، لا تتجاوز عن سبع عشرة، منها اليمين، والساق، والأعين، والجنب، والإستواء، والغضب، والرضى، والنور، على ما ورد في الآيات، والكفّ والاصبعان، والقدم، والنزول، والضحك، وصورة الرحمان، على ما ورد في الأحاديث الّتي لم تثبت صحّة أسنادها، وقد أرسلتها الحشويّة والحنابلة إرسال المسلّمات، وعلى أيّ حال فنظريّة الأشاعرة في هذه الصفات هي الإثبات متدرعّة بلفظة «بلا كيف»، أو «بلا تشبيه» أو ما يقرب ذلك.
ب ـ كلام الماتريدي :
ما ذكره أبو منصور في (توحيده) يعرب بوضوح عن كون منهجه هو التنزيه ظاهراً وباطناً، فهو بعدما نقل الآراء المختلفة صار بصدد تفسير الآية (الرَّحمنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوى)فقال: إنّ الله سبحانه كان ولا مكان، وجائز ارتفاع الأمكنة، وبقاؤه على ما كان،فهو على ما كان، وكان على ما عليه الآن. جلّ عن التغيّر والزوال، والاستحالة والبطلان، إذ ذلك أمارات الحدث الّتي بها عرف حدث العالم.
ثمّ ردّ على القائلين بكونه سبحانه على العرش، بأنّه ليس في الارتفاع إلى ما يعلو من مكان للجلوس أو القيام شرف ولا علوّ، ولا وصف بالعظمة والكبرياء كمن يعلو السطوح والجبال أنّه لا يستحق الرفعة على من دونه عند استواء الجوهر، فلا يجوز صرف تأويل الآية إليه مع ما فيها ذكر العظمة والجلال، إذ ذكر في قوله تعالى: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمواتِ وَ الأرْضَ) (الأعراف / 54) فدلّك على تعظيم العرش(1).
________________________________________
1. التوحيد: ص 69 و 70 .
________________________________________
فالماتريدي ينفي بتاتاً كونه سبحانه على العرش، حتّى على النّحو اللائق به الّذي ملأ كتب الأشاعرة وينزّهه عن تلك الوصمة، ولكن لّما كانت المعاني الأُخرى متساوية عنده، لم يجزم بشيء منه، وفوّض المراد إليه سبحانه، ولأجل ذلك لخّص البياضي نظريّة الامام الماتريدي وقال: «ولا يؤوّل المتشابهات ويفوِّض علمها إلى الله مع التنزيه عن إرادة ظواهرها»(2). ومراده من «المتشابهات» هوالصفات الخبريّة الواردة في الكتاب والسنّة.
وأمّا البزدوي ـ أحد أئمّة الماتريدية في القرن الخامس ـ فيظهر منه الجنوح إلى إمكان الوقوف على مقاصد الكتاب في هذه الصفات. قال في مسألة «أنّ الله لا يشبه شيئاً ولا يشبهه شيء»: فإن قالوا قد وجد دلائل الاجسام فإنّه يوصف بالاتيان قال الله تعالى (هَلْ يَنْظُرُونَ إلاّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَل مِنَ الغَمَامِ) (البقرة/210) وقال (وَ جَاءَ رَبُّكَ وَ المَلِكُ صَفّاً صَفّاً)(الفجر / 22) ويوصف بالاستواء على العرش قال الله تعالى ( ثُمَّ اسْتَوى عَلَى العَرْشِ ) (يونس /3). والاتيان والاستواء على المكان من صفات الجسم، وكذلك يوصف بأنّ له أيدياً وأعيناً، قال الله تعالى (ممّا عَمِلَتْ أيْدِينا أنْعَاما) (يس/71) (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا)(الطور/48) وهذا من أمارات الأجسام.
ثمّ أجاب عن كلّ واحد بأنّا نصفه بذلك كما وصف اللّه تعالى به نفسه وهو
________________________________________
1. التوحيد: ص 69 و 74 . 2. اشارات المرام: ص 54 .
________________________________________
وكلّ من كلامي الاُستاذ والتّلميذ يعربان بوضوح عن اختلاف منهجهما مع منهج الامام الأشعري، فهو يثبت جميع هذه الصِّفات الخبريّة الظاهرة من كونه سبحانه جسماً وذا أعضاء، ولا يتحرّج من الإثبات، غاية الأمر يتدرّع بما عرفت، وهذا بخلاف الدّاعي الآخر وتلاميذ منهجه، فإنّهم لايخرجون من خطّ التنزيه، لكن بين مفوِّض غير قاطع بمراد الآية، أو مفسِّر لها مثل تفسير العدليّة الّذين سمّتهم الأشاعرة بالمؤوِّلة.
ثمّ إنّ الشيخ البزدوي أفاض الكلام في نقد ما استدلّ به الأشعري من كونه سبحانه على العرش من الآيات والرِّوايات في كتابه، ومن أراد الوقوف فليرجع إلى المسألة (14) من كتابه(2).
________________________________________
1. اُصول الدين: ص 25 ـ 28 . 2. اُصول الدين: ص 28 ـ 31 .
________________________________________
وما ذكره هو نفس عقيدة المعتزلة لا الأشاعرة ولا الماتريديّة. فالمعتزلة هم المؤوّلة، يؤوّلون الصِّفات بما ذكره، والأشاعرة من المثبتة لكن بقيد «بلا كيف» والماتريديّة هم المفوِّضة، يفوِّضون معانيها إلى قائلها.
وكم لهذا الكاتب المصري من هفوات في بيان الطّوائف الاسلاميّة. فقد كتب عقيدة الشيعة في كتابيه: «فجر الاسلام» و«ضحى الاسلام» وبين التقريرين في الكتابين بون بعيد. واللّه الحاكم. والعجب أنّه لم يعتمد على مصدر شيعيّ فيهما، وأعجب منه أنّه لم يشر إلى واحد من النّقود الّتي وجّهها علماء الشيعة إلى كتابه «فجر الاسلام»، مع أنّ بعضها طبع في نفس القاهرة عاصمة مصر كـ «أصل الشيعة واُصولها». حيّا اللّه الحريّة في القضاء، والأمانة في النّقل.
(41)
6 ـ الماتريدية والصفات الخبرية:
إنّ تفسير الصفات الخبرية أوجد اختلافاً عميقاً بين المتكلّمين وجعلهم فرقاً متضادّة، وبما أنّ أهل الحديث والأشاعرة من المثبتين لها، اشتهروا بالصفاتيّة في مقابل المعتزلة الّذين يؤوِّلونها ولا يثبتونها بما يتبادر منها من ظواهرها، ولأجل أن نقف على نظريّة الماتريديّة في هذا المقام، ننقل كلام الامامين الأشعري والماتريدي ليعلم مدى الاختلاف بين المدرستين، وإليك كلام الأشعري أوّلاً، ثمّ كلام الماتريدي ثانياً:6 ـ الماتريدية والصفات الخبرية:
أ ـ كلام الامام الأشعري:
إن قال قائل: ما تقولون في الاستواء؟ قيل له: نقول إنّ الله عزّ وجلّ يستوي على عرشه كما قال، يليق به من غير طول الاستقرار كما قال: (الرَّحمنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوى) (طه /5) وقد قال اللّه عزّ وجلّ: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمَ الطَّيِّبُ)(فاطر/10) وقال (بَلْ رَفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ) (النساء /158) وقال عزّ وجلّ: (يُدَبِّرُ الأمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلى الأرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيهِ) (السجدة/5). وقال حكايةً عن فرعون: ( يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمواتِ فَأَطَّلِعُ إِلَى إِلهِ مُوسى وَ إِنِّي لأظُنُّهُ كَاذِباً))(غافر/36 ـ 37) فكذّب فرعون نبيّ الله موسى ـ عليه السلام ـ في قوله «إنّ الله عَزّ وجلّ فوق السماوات والأرض» وقال عزّ وجلّ: (ءَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يخسِفَ بِكُمُ الأَرضَ)(الملك/16) فالسماوات فوقها العرش، فلمّا كان العرش فوق السماوات قال: (ءأمنتم من في السماء) لأنّه مستو على العرش الّذي فوق السّماوات، وكلّ ما علا فهو سماء، فالعرش أعلى السماوات. وليس إذا قال: (ءأمنتم من في السماء)يعني جميع السماوات، وإنّما أراد العرش الّذي هو أعلى السماوات. ألاترى أنّ الله عزّ وجلّ ذكر السماوات فقال: (وجعل القمر فيهنّ نوراً)(نوح/16) ولم يرد أنّ القمر يملأهنّ جميعاً، وأنّه فيهنّ جميعاً، ورأينا المسلمين جميعاً يرفعون أيديهم إذا دعوا نحو السّماء لأنّ الله مستو على
________________________________________
(42)
العرش الّذي هو فوق السماوات. فلولا أنّ الله عزّ وجلّ على العرش لم يرفعوا أيديهم نحو العرش كما لا يحطّونها إذا دعوا إلى الأرض(1).ومن تأمّل في ظواهر كلماته ودلائله لا يشكّ في أنّ الشيخ يعتقد بكونه سبحانه على العرش فوق السّماوات، وأيّ كلام أصرح من قوله «فلولا أنّ الله عزّ وجلّ على العرش» فلو صحّت نسبة النسخة من (الابانة) إلى الشّيخ، وكانت مصونة عن دسّ الحشويّة والحنابلة(2)، فهو من المشبّهة قطعاً، غير أنّه لدفع عار التشبيه والتجسيم عن نفسه، يتدرّع بلفظة «بلا كيف أو «على نحو يليق به» أو «من غير طول الاستقرار» وقد أوضحنا حال هذه الألفاظ في الجزء الثاني.
والعجب أنّ الشيخ يفسّر الرفع الوارد في الآيات تصريحاً، أو تلويحاً، بالرفع الحسّي. مع أنّ في نفس الآيات ـ لدى التدبّر ـ قرائن تدلّ على كون الرفع، هو الرفع المعنوي لا الحسّي والصعود المادّي.
وأعجب منه أنّه نسب إلى الكليم ـ عليه السلام ـ أنّه قال لفرعون: إنّ الله سبحانه فوق السماوات، فصار فرعون بصدد تكذيبه إذ قال لهامان: «ابن لي صرحاً لعلّي أطّلع إلى إله موسى» مع أنّه أشبه بالرجم بالغيب، إذ من الممكن أن يكون المصدر لاعتقاده بكون إله موسى في السماء، هو اجتهاده الشخصي الخاطئ، بأنّه إذا لم يكن إله موسى في الأرض كسائر الآلهة، فلا محالة هو في السماء، ولأجل ذلك طلب من هامان بناء
________________________________________
1. الابانة: ص 85 ـ 86. 2. إنّ الشيخ محمد زاهد الكوثري الماتريدي لا يرى للكتب المطبوعة باسم الأشعري أصالة لأنّها بحرفيتها نفس عقائد الحشوية مع أنّ المعروف أنّهم أعداء له. يقول: وطبع كتاب (الابانة) لم يكن من أصل وثيق، وفي (المقالات) المنشور باسمه وقفة، لأنّ جميع النسخ الموجودة اليوم من أصل وحيد كان في حيازة أحد كبار الحشوية ممن لا يؤتمن لا على الاسم، ولا على المسمّى، بل لو صحّ الكتابان عنه على وضعهما الحاضر، لما بقي وجه لمناصبة الحشوية العداء له على الوجه المعروف، على أنّه لا تخلو آراؤه من بعض ابتعاد عن النّقل مرّة، وعن العقل مرة اُخرى، في حسبان بعض النظار كقوله في التحسين والتعليل، وفيما يفيده الدليل النقلي (مقدمة اشارات المرام: ص 7). أقول: إنّ الاعتزال عن العقل، وإعلان الالتحاق بأهل الحديث الّذين أعدموا العقل، والإلتجاء إلى كل ما سمي حديثاً لا ينتج إلاّ ما جاء في الكتابين، فلا وجه للتشكيك في مضامينهما.
________________________________________
(43)
الصرح.ثمّ إنّ نقد كلام الشّيخ وتفسير الآيات الّتي استدلّ بها على كونه سبحانه في العرش،يحتاج إلى بسط في الكلام،وسوف نقوم بها عند عرض عقائد المعتزلة إن شاء الله.
إنّ الصفات المتشابهة الواردة في الكتاب والسنّة، لا تتجاوز عن سبع عشرة، منها اليمين، والساق، والأعين، والجنب، والإستواء، والغضب، والرضى، والنور، على ما ورد في الآيات، والكفّ والاصبعان، والقدم، والنزول، والضحك، وصورة الرحمان، على ما ورد في الأحاديث الّتي لم تثبت صحّة أسنادها، وقد أرسلتها الحشويّة والحنابلة إرسال المسلّمات، وعلى أيّ حال فنظريّة الأشاعرة في هذه الصفات هي الإثبات متدرعّة بلفظة «بلا كيف»، أو «بلا تشبيه» أو ما يقرب ذلك.
ب ـ كلام الماتريدي :
ما ذكره أبو منصور في (توحيده) يعرب بوضوح عن كون منهجه هو التنزيه ظاهراً وباطناً، فهو بعدما نقل الآراء المختلفة صار بصدد تفسير الآية (الرَّحمنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوى)فقال: إنّ الله سبحانه كان ولا مكان، وجائز ارتفاع الأمكنة، وبقاؤه على ما كان،فهو على ما كان، وكان على ما عليه الآن. جلّ عن التغيّر والزوال، والاستحالة والبطلان، إذ ذلك أمارات الحدث الّتي بها عرف حدث العالم.
ثمّ ردّ على القائلين بكونه سبحانه على العرش، بأنّه ليس في الارتفاع إلى ما يعلو من مكان للجلوس أو القيام شرف ولا علوّ، ولا وصف بالعظمة والكبرياء كمن يعلو السطوح والجبال أنّه لا يستحق الرفعة على من دونه عند استواء الجوهر، فلا يجوز صرف تأويل الآية إليه مع ما فيها ذكر العظمة والجلال، إذ ذكر في قوله تعالى: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمواتِ وَ الأرْضَ) (الأعراف / 54) فدلّك على تعظيم العرش(1).
________________________________________
1. التوحيد: ص 69 و 70 .
________________________________________
(44)
ولأجل اختلاف المفسّرين في مفاد الآية، التجأ هو إلى «تفويض معناها إلى الله»، وقال: «وأمّا الأصل عندنا في ذلك أنّ الله تعالى قال: (ليس كمثله شيء)فنفى عن نفسه، شبه خلقه، وقد بيّنا أنّه في فعله وصفته متعال عن الأشباه، فيجب القول بأنّ الرحمن على العرش استوى على ما جاء به التنزيل، وثبت ذلك في العقل. ثمّ لا نقطع تأويله على شيء لاحتمال غيره ممّا ذكرنا»(1).فالماتريدي ينفي بتاتاً كونه سبحانه على العرش، حتّى على النّحو اللائق به الّذي ملأ كتب الأشاعرة وينزّهه عن تلك الوصمة، ولكن لّما كانت المعاني الأُخرى متساوية عنده، لم يجزم بشيء منه، وفوّض المراد إليه سبحانه، ولأجل ذلك لخّص البياضي نظريّة الامام الماتريدي وقال: «ولا يؤوّل المتشابهات ويفوِّض علمها إلى الله مع التنزيه عن إرادة ظواهرها»(2). ومراده من «المتشابهات» هوالصفات الخبريّة الواردة في الكتاب والسنّة.
وأمّا البزدوي ـ أحد أئمّة الماتريدية في القرن الخامس ـ فيظهر منه الجنوح إلى إمكان الوقوف على مقاصد الكتاب في هذه الصفات. قال في مسألة «أنّ الله لا يشبه شيئاً ولا يشبهه شيء»: فإن قالوا قد وجد دلائل الاجسام فإنّه يوصف بالاتيان قال الله تعالى (هَلْ يَنْظُرُونَ إلاّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَل مِنَ الغَمَامِ) (البقرة/210) وقال (وَ جَاءَ رَبُّكَ وَ المَلِكُ صَفّاً صَفّاً)(الفجر / 22) ويوصف بالاستواء على العرش قال الله تعالى ( ثُمَّ اسْتَوى عَلَى العَرْشِ ) (يونس /3). والاتيان والاستواء على المكان من صفات الجسم، وكذلك يوصف بأنّ له أيدياً وأعيناً، قال الله تعالى (ممّا عَمِلَتْ أيْدِينا أنْعَاما) (يس/71) (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا)(الطور/48) وهذا من أمارات الأجسام.
ثمّ أجاب عن كلّ واحد بأنّا نصفه بذلك كما وصف اللّه تعالى به نفسه وهو
________________________________________
1. التوحيد: ص 69 و 74 . 2. اشارات المرام: ص 54 .
________________________________________
(45)
الصحيح من مذهب السنّة، فلا بدّ من الوصف بما وصف اللّه نفسه به، ولكن هذه الصِّفات ليست من صفات الأجسام، فإنّ الاتيان يذكر ويراد منه الظُّهور. قال الله تعالى: (فَأَتَى اللّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ القَواعِدِ) (النحل/26) وقال (فَأتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَم يَحتَسِبُوا) (الحشر/2) معناه ـ واللّه أعلم ـ ظهرت آثار سخطه في بنيانهم، وظهرت آثار قدرته وقهره فيهم ـ إلى أن قال:ـ وكذا الاستواء ليس من صفات الأجسام فإنّ الاستواء هو الاستيلاء على الشّيء والقهر عليه. قال اللّه تعالى: ( ولمّا بَلَغَ أشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وعِلْماً) (القصص/14) معناه ـ والله أعلم ـ تقوّى حاله بتمام البِنية. واستوى أمر فلان: إذا تناهى، ومنه المستوي على الكرسي وهو القاعد عليه، عبارة عن الاستيلاء. فإنّه (لا) يقال: استوى على الكرسي ما لم يجلس مستقرّاً عليه، فالمستقرّ على العرش مستو، فكان معنى قوله: (ثُمَّ اسْتَوى عَلى العَرشِ الرَّحمن)(الفرقان/59) ـ والله أعلم ـ أى استوى عليه بعد خلقه، والله تعالى مستول على جميع العالم، إلاّ أنّه خصّ العرش بالذّكر لأنّه أعظم الأشياء وأشرفها، ثمّ ذكر تفسير سائر الصفات الخبرية من اليد والعين(1).وكلّ من كلامي الاُستاذ والتّلميذ يعربان بوضوح عن اختلاف منهجهما مع منهج الامام الأشعري، فهو يثبت جميع هذه الصِّفات الخبريّة الظاهرة من كونه سبحانه جسماً وذا أعضاء، ولا يتحرّج من الإثبات، غاية الأمر يتدرّع بما عرفت، وهذا بخلاف الدّاعي الآخر وتلاميذ منهجه، فإنّهم لايخرجون من خطّ التنزيه، لكن بين مفوِّض غير قاطع بمراد الآية، أو مفسِّر لها مثل تفسير العدليّة الّذين سمّتهم الأشاعرة بالمؤوِّلة.
ثمّ إنّ الشيخ البزدوي أفاض الكلام في نقد ما استدلّ به الأشعري من كونه سبحانه على العرش من الآيات والرِّوايات في كتابه، ومن أراد الوقوف فليرجع إلى المسألة (14) من كتابه(2).
________________________________________
1. اُصول الدين: ص 25 ـ 28 . 2. اُصول الدين: ص 28 ـ 31 .
________________________________________
(46)
وفي خاتمة المطاف نلفت نظر القارئ إلى ما ذكره الكاتب المصري (أحمد أمين) حول عقيدة الأشاعرة في الصِّفات الخبرية، قال:«وأمّا الأشاعرة فقالوا إنّها مجازات عن معان ظاهرة، فاليد مجاز عن القدرة، والوجه عن الوجود، والعين عن البصر، والاستواء عن الاستيلاء، واليدان عن كمال القدرة،والنّزول عن البرد والعطاء،والضحك عن عفوه»(1).وما ذكره هو نفس عقيدة المعتزلة لا الأشاعرة ولا الماتريديّة. فالمعتزلة هم المؤوّلة، يؤوّلون الصِّفات بما ذكره، والأشاعرة من المثبتة لكن بقيد «بلا كيف» والماتريديّة هم المفوِّضة، يفوِّضون معانيها إلى قائلها.
وكم لهذا الكاتب المصري من هفوات في بيان الطّوائف الاسلاميّة. فقد كتب عقيدة الشيعة في كتابيه: «فجر الاسلام» و«ضحى الاسلام» وبين التقريرين في الكتابين بون بعيد. واللّه الحاكم. والعجب أنّه لم يعتمد على مصدر شيعيّ فيهما، وأعجب منه أنّه لم يشر إلى واحد من النّقود الّتي وجّهها علماء الشيعة إلى كتابه «فجر الاسلام»، مع أنّ بعضها طبع في نفس القاهرة عاصمة مصر كـ «أصل الشيعة واُصولها». حيّا اللّه الحريّة في القضاء، والأمانة في النّقل.
________________________________________
1. ظهر الإسلام: ج 4 ص 94، الطبعة الثالثة عام 1964 . 2. اللمع: ص 93 ـ 94 .
1. ظهر الإسلام: ج 4 ص 94، الطبعة الثالثة عام 1964 . 2. اللمع: ص 93 ـ 94 .
التعلیقات