في حدوث كلامه تعالى
العدل
منذ 13 سنةبحوث في الملل والنحل لأية الله الشيخ جعفر السبحاني ، ج 3 ، ص 277 ـ 390
________________________________________(377)
من المسائل الّتي أثارت ضجّة كبرى بين العلماء وانتهت إلى محنة تعرف في التأريخ بمحنة الإمام أحمد بن حنبل، هي البحث عن حدوث القرآن و قدمه، وعن كونه مخلوقاً أو لا. فالمعتزلة على حدوث القرآن و نفي قدمه تنزيهاً له سبحانه عن المثل القديم و غير المخلوق، وأصحاب الحديث و الحنابلة و بعدهم الأشاعرة على ضدّهم و أنّه قديم أو ليس بمخلوق فراراً عن سمة الحدوث الطارئ على صفاته مثل التكلّم.المسألة السابعة:
في حدوث كلامه تعالىولمّا وصلت المعتزلة في عصر المأمون و بعده في عصر الواثق إلى قمّة القدرة و
________________________________________
(378)
كانت الخلافة العبّاسية تؤازرهم و تؤيّدهم، خرجوا عن منهجهم السّابق ـ منهج الحرّيّة في الرأي والتفكّر ـ وسلكوا في هذه المسألة مسلك الضّغط. فطفقوا يحملون النّاس على عقيدتهم (خلق القرآن) بالقوّة والاكراه، فمن خالفهم ولم يقرّ به يحكم عليه بالحبس تارة والضّرب أُخرى. وأوجد ذلك في حياتهم العلميّة نقطة سوداء، وسيوافيك تفصيل حمل الناس على اعتناق عقيدتهم في هذا المجال في فصل خاصّ. هذا من جانب و من جانب آخر، لمّا أخذ أحمد بن حنبل في هذا المجال موقف الصّمود والثّبات في عقيدته صار بطلاً في حياته، و بعدها يضرب به المثل في الصّمود على العقيدة، و قد استبطلته المعتزلة و صار إماماً في عقائد أهل السنّة بصموده في طريق عقيدته. و لإيضاح الحقّ نرسم اُموراً:
1- مسلك أهل الحديث
إنّ مسلك أهل الحديث في اتّخاذ العقيدة في مسائل الدّين هو اقتفاء كتاب الله وسنّة رسوله. فما جاء فيها يؤخذ به و ما لم يجئ فيها يسكت عنه ولا يبحث فيه، ولأجل ذلك كان أهل الحديث يحرِّمون علم الكلام، ويمنعون البحث عن كلِّ ما ليس وارداً في الكتاب والسنّة.
وعلى ضوء هذا كان اللازم على أهل الحديث السّكوت وعدم النّبس ببنت شفة في هذه المسألة، لأنّ البحث فيها حرام على اُصولهم، سواء أكان الموقف هو قدم القرآن أم حدوثه، لأنّه لم يرد فيه نصّ عن رسول الله، ولا عن أصحابه، ومع الأسف كان موقفهم ـوفي مقدّمهم أحمد بن حنبل ـ موقف الايجاب وتكفير المخالف.
يقول الإمام أحمد بن حنبل في كتاب «السنّة»: «والقرآن كلام الله ليس بمخلوق، فمن زعم أنّ القرآن مخلوق فهو جهميّ كافر، ومن زعم أنّ القرآن كلام الله عزّوجلّ ووقف ولم يقل مخلوق ولا غير مخلوق فهو أخبث من الأوّل، ومن زعم أنّ ألفاظنا بالقرآن و تلاوتنا له مخلوقة والقرآن كلام اللّه، فهو جهميّ، ومن لم يكفِّر هؤلاء القوم كلّهم فهو
________________________________________
(379)
مثلهم»(1).إنّ السّلفيين و حتّى أتباعهم في هذه الأيّام يتحرّجون من القول بأنّ الله ليس بجسم، قائلين بأنّه لم يرد نصّ فيه في الشّريعة، ولكن يتشدّقون بقدم القرآن وعدم حدوثه، بلا اكتراث سالفهم و لاحقهم حتّى جعلوه أصلاً يدور عليه إسلام المرء وكفره.
2- النّصارى و قدم الكلمة
إنّ القول بقدم القرآن تسرّب إلى أوساط المسلمين من المسيحيّين، حيث كانوا يقولون بقدم الكلمة. وقد صرّح بذلك الخليفة العبّاسي في كتابه الّذي بعثه من الرقّة إلى رئيس شرطة بغداد إسحاق بن إبراهيم يقول : «وضاهوا به قول النّصارى في ادّعائهم في عيسى بن مريم أنّه ليس بمخلوق إذ كان كلمة الله»(2).
قال أبو العبّاس البغوي: «دخلنا على «فثيون» النّصراني وكان في دار الروم بالجانب الغربي، فجرى الحديث إلى أن سألته عن ابن كلاب (الّذي كان يقول بأنّ كلام الله هو الله) فقال: «رحم الله عبدالله كان يجيء فيجلس إلى تلك الزّاوية و أشار إلى ناحية من البيعة وعنى أخذ هذا القول (كلام الله هو الله) ولو عاش لنصّرنا المسلمين قال البغوي: وسأله محمّد بن إسحاق الطّالقاني، فقال: ما تقول في المسيح؟ قال: ما يقوله أهل السنّة من المسلمين في القرآن»(3).
قال أبو زهرة: «إنّ النّصارى الّذين كانوا في حاشية البيت الأموي وعلى رأسهم يوحنّا الدمشقي و غيرهم، كانوا يبثّون الشّكوك بين المسلمين. فقد جاء في القرآن أنّ عيس بن مريم كلمة الله ألقاها إلى مريم. فكان يبثّ بين المسلمين أنّ كلمة الله قديمة فيسألهم: أ كلمته قديمة أم لا؟ فان قالوا:لا، فقد قالوا: إنّ كلامه مخلوق. وإن قالوا:
________________________________________
1. كتاب السنّة: ص 49. 2. تاريخ الطبري: ج 7، ص 198، حوادث سنة 218. 3. فهرست ابن النديم: الفن الثالث من المقالة الخامسة ص 230.
________________________________________
(380)
قديمة، ادّعى أنّ عيسى قديم»(1).وبعد ذلك لا يعبأ بما قاله مؤلّف كتاب «المعتزلة» من أنّ القول بخلق القرآن جاء من اليهود، وأنّ أوّل من نشرها منهم لبيد بن الأعصم عدوّ النّبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم اللّدود الّذي كان يقول بخلق القرآن، ثمّ أخذ ابن اُخته طالوت هذه المقالة عنه، وصنّف في خلق القرآن(2).
هذا، وإنّ المشهور بين اليهود هو قدم التّوراة(3).
وعلى كلِّ تقدير، فالمسألة مستوردة وليست نابتة من صميم الدّين و اُصوله. وقد طرحت في أواخر القرن الثّاني في عصر المأمون، وامتدّت إلى عصر المتوكّل ومن بعده الّذين يضغطون على المعتزلة وينكِّلون بهم.
إنّ تأريخ البحث يعرب عن أمرين:
أ-إنّ المسألة طرحت في جوّ غير هادئ و مشحون بالعداء، ولم يكن البحث لكشف الحقيقة وابتداعها، بل كلُّ يصرّ على إثبات مدّعاه.
ب- لم يكن موضوع البحث منقّحاً حتّى يتوارد عليه النّفي والاثبات، وأنّهم لماذا يفرّون من القول بحدوث القرآن ولماذا يكفّرون القائل به. أهم يريدون من قدم القرآن، قدم الآيات الّتي يتلوها القارئ، أو النّبي الأكرم، أو أمين الوحي. أم يريدون قدم معانيه والمفاهيم الواردة فيه. أو يريدون قدم علمه، سبحانه إلى غير ذلك من الاحتمالات الّتي لم يركّز البحث على واحد منها.
يقول القاضي: «ذهبت الحشويّة من الحنابلة إلى أنّ هذا القرآن المتلوّ في المحاريب والمكتوب في المصاحف، غير مخلوق ولا محدث، بل قديم مع الله تعالى».
وقال ابن قتيبة: «اتّفقوا على أنّ القرآن كلام الله غير مخلوق و إنّما اختلفوا في
________________________________________
1. تاريخ المذاهب الاسلاميّة: ج 2، ص 394. 2. المعتزلة: ص 22، زهدي حسن جار الله. 3. اليهودية: ص 222، تأليف أحمد شلبي، كما في بحوث مع أهل السنة والسلفية ص 153.
________________________________________
(381)
اللّفظ بالقرآن لغموض وقع في ذلك وكلّهم يجمعون على أنّ القرآن بكلّ حال ـ مقروءاً و مكتوباً ومسموعاً و محفوظاً ـ غير مخلوق»(1).وذهبت الكلابيّة(2) إلى أنّ كلام الله تعالى هو معنى أزليّ قائم بذاته مع أنّه شيء واحد.
وأمّا مذهبنا في ذلك فهو أنّ القرآن كلام الله تعالى و وحيه وهو مخلوق محدث أنزله الله على نبيِّه ليكون علماً و دالاً على نبوّته، و جعله دلالة لنا على الأحكام لنرجع إليه في الحلال و الحرام واستوجب منّا بذلك الحمد و الشّكر والتّحميد والتّقديس، واذن هو الّذي نسمعه اليوم ونتلوه و إن لم يكن محدثاً من جهة الله تعالى فهو مضاف إليه على الحقيقة كما يضاف ما ننشده اليوم من قصيدة امرئ القيس على الحقيقة، وإن لم يكن مُحدِثاً لها من جهته الآن(3).
3- استدلالهم على حدوث القرآن
إذا كان محلّ النزاع هو القرآن المتلوّ كما يظهر من كلام القاضي فحدوثه أمر واضح، فإنّ الكلام هو الحروف المنظومة الّتي تظهر بالأصوات المقطّعة وليس حدوثه شيئاً يحتاج إلى دليل ولو احتاج حدوث مثل هذا إلى دليل إذاً احتاج النّهار إلى دليل. كيف وإنّ ترتيب حروف الكلمات والجمل يستلزم الحدوث، لأنّ تحقّق كلمة بسم الله يتوقّف على حدوث الباء وانعدامها، ثمّ حدوث السين كذلك، ثمّ حدوث الميم وهكذا إلى آخر البسملة. فالحدوث ثمّ الانعدام لا يفارقان مفردات الحروف. وفي ضوء هذا توجد الكلمة فكيف يمكن أن يكون مثل هذا قديماً أزليّاً مع الله تعالى؟.
وهذا الاستدلال متين لا مفرّ منه.
________________________________________
1. تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة: ص 16 طبع دار الجيل، . 2. المؤسس هو عبدالله بن محمد بن كلاب، وله مع عباد بن سليمان مناظرات، وكان يقول: إنّ كلام الله هو الله، وكان عباد يقول: إنّه نصراني بهذا القول: فلاحظ فهرست ابن النديم الفن الثالث من المقالة الخامسة ص 230. 3. شرح الاُصول الخمسة: ص 528.
________________________________________
(382)
ثمّ إنّ القاضي استدلّ على حدوث القرآن بآيات:1- (وَ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْر مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَث)(الأنبياء/2) والذِّكر هو القرآن بدليل قوله: (إنّا نَحْنُ نَزَّلنا الذِّكْرَ و إنَّا لَهُ لَحَافِظُون). فقد وصفه بأنّه محدث، ووصفه بأنّه منزّل، والمنزّل لا يكون إلاّ محدثاً. وفيه دلالة على حدوثه من وجه آخر، لأنّه قال: (وإنّا له لحافظون)) فلو كان قديماً لما احتاج إلى حافظ يحفظه.
2-(الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُه ثُمَّ فُصِّلَتْ)(هود/1).
بيّن كونه مركّباً من هذه الحروف وذلك دلالة حدوثه، ثمّ وصفه بأنّه كتاب، أي مجتمع من كتب، ومنه سمّيت الكتيبة كتيبة، وما كان مجتمعاً لا يجوز أن يكون قديماً.
3- (اللّهُ نزَّل أحْسَنَ الحديثِ كِتاباً مُتشابِهاً مَثانِيَ)(الزمر/23).
وصفه بأنّه «منزّل» أوّلاً، ثمّ قال: «أحسن الحديث». وصفه بالحسن، والحسن من صفات الأفعال. ووصفه بأنّه «حديث» وهو والمحدث واحد. فهذا صريح ما ادّعيناه. وسمّاه «كتاباً»، وذلك يدلّ على حدوثه كما تقدّم. وقال: «متشابهاً» أي يشبه بعضه بعضاً في الاعجاز والدّلالة على صدق من ظهر عليه. وما هذا حاله لا بدّ من أن يكون محدثاً(1).
4- محاولة بعض الحنابلة لإثبات القدم
ولمّا كانت العقيدة بقدم القرآن منافية لتوحيده سبحانه، حاول ابن تيميّة تصحيح عقيدة الحنابلة ـ الّتي صارت متروكة و مندرسة بعد ثورة الإمام الأشعري على الطّائفتينـ بالتّفريق بين القدم و عدم المخلوقيّة و قال:
«وكما لم يقل أحد من السّلف إنّ كلام الله مخلوق، فلم يقل أحد منهم إنّه قديم، ولم يقل واحداً من القولين أحد من الصّحابة، ولا التّابعين لهم بإحسان، ولا من بعدهم من الأئمّة الأربعة ولا غيرهم. وأوّل من عرف أنّه قال «هو قديم»، عبدالله بن سعيد بن
________________________________________
1. شرح الاُصول الخمسة: ص 532.
________________________________________
(383)
كلاب»(1).ولا يخفى أنّ التّفريق بين عدم الخلقة و القدم، كالتّفريق بين المترادفين مثل «الإنسان» و«البشر» فكما لا يصحّ أن يقال: هذا بشر لا إنسان، فهكذا لا يصحّ أن يقال: «القرآن غير مخلوق و لكن ليس بقديم» لأنّ الشّيء إذا لم يكن مخلوقاً يكون وجوده لذاته، وما كان كذلك لا يكون مسبوقاً بالعدم فيكون قديماً.
أضف إلى ذلك أنّ ابن الجوزي صرّح بأنّ الأئمّة المعتمد عليهم قالوا: إنّ القرآن كلام الله قديم(2).
فكما أنّ هذه المحاولة فاشلة، فهكذا محاولته الثّانية الّتي لا يليق بها أن تسطر. وهي القول بقدم حروف المعجم الّتي هي موادّ كلمة الله، حيث قال: «وما تكلّم الله به فهو قائم به، ليس مخلوقاً منفصلاً عنه، فلا تكون الحروف التي هي مباني أسماء الله سبحانه وكتبه المنزلة مخلوقة، فقول القائل بأنّ الحروف قديمة، أو حروف المعجم قديمة، فإن أراد جنسها فهذا صحيح. وإن أراد الحرف المعيّن فقد أخطأ»(3).
إنّ القول بقدم موادِّ القرآن ـ أعني حروف المعجم ـ أشبه بالقول بقدم الماهيّات المنفكّة عن الوجود. وهذه الحروف بجنسها، كما أنّ الماهيّات بنوعها، ليست إلاّ مفاهيم بحتة معدومة و إنّما تتشخّص بالوجود، وتتحقّق بالكينونة، ولا يكون ذلك إلاّ فرداً و هو حادث قطعاً حسب ما اعترف به.
هذه المسائل صارت سبباً لسقوط عقيدة الحنابلة في أعين المفكِّرين والمحقّقين من علماء الإسلام. ولأجل ذلك التجأ الأشعري لتصحيح العقيدة إلى الكلام النّفسي القائم بذاته سبحانه. وقد عرفت في تبيين عقيدة الأشعري أنّ مرجع الكلام النّفسي إلى العلم، وليس شيئاً غيره.
________________________________________
1. مجموعة الرسائل: ج 3 ص 20. 2. المنتظم في ترجمة الأشعري، ج 6، ص 332. 3. مجموعة الرسائل: ج 3، ص 45.
________________________________________
(384)
ثمّ إنّ هيهنا أدلّة سمعيّة للحنابلة في إثبات قدم القرآن نأتي بها على وجه الاجمال، وقد طرحها القاضي في كتبه وقام بتحليلها.5- نقد أدلّة القائلين بالقدم
إنّ القاضي يذكر أدلّة القائلين بقدم القرآن و يقول: «وللمخالف في قدم القرآن شبه، من جملتها:
الشبهة الأولى: قولهم: قد ثبت أنّ القرآن مشتمل على أسماء الله تعالى والاسم والمسمّى واحد، فيجب في القرآن أن يكون قديماً مثل: الله تعالى. قالوا: والّذي يدلّ على أنّ الاسم والمسمّى واحد، هو أنّ أحدنا عند الحلف يقول: تالله و والله. وهكذا يقول: بسم الله. ولا يكون كذلك إلاّ و الأمر على ما قلناه. وكذلك فقد قال لبيد:
إلى الحول ثمّ اسم السّلام عليكما * ومن يبك حولاً كاملاً فقد اعتذر
أي السّلام عليكما.وهكذا فإنّ أحدنا إذا قال: طلّقت زينب، كان الطّلاق واقعاً عليها. فلو لم يكن الاسم والمسمّى واحداً لا يكون كذلك».
وأجاب عنه القاضي بأنّ الاسم غير المسمّى و إلاّ فمن قال: ناراً، يجب أن يحترق فمه.
وعلى هذا قال بعضهم:
لو كان من قال ناراً أُحرقت فمه * لما تفـوّه باســم النّــار مخلــوق
فكيف يكون الاسم و المسمّى واحداً، مع أنّ الاسم عرض و المسمّى جسم؟.أقول: يجب إلفات نظر القارئ إلى اُمور:
1- إنّ اتّحاد الاسم مع المسمّى صحيح على وجه و باطل على وجه آخر. فإن أرادوا اتّحاد واقعيّة العالم مع ذاته سبحانه فذلك صحيح، لما قلنا من أنّ ذاته سبحانه
________________________________________
(385)
بلا ضمّ ضميمة مصداق للعالم، وليست ذاته شيئاً و عالميّته شيئاً آخر، ولأجل ذلك، الاسم هو واقعيّة العالميّة، ولفظ (العالم) إسم للاسم.وإن أرادوا اتّحاد لفظ (العالم) الّذي حدوثه ذاتيّ، و تدرّجه عين تحقّقه، مع المسمّى فذلك من البطلان بمكان.
2- إنّ المعارف الإلهيّة لا تبتنى على المسائل الفقهيّة، فإنّ لكلِّ علم منهجاً خاصّاً لتحليل مسائله. فالمعارف الإلهيّة مسائل حقيقيّة تطرح على بساط البحث، و ينظر إليها من زاوية البرهان العقلي. وأمّا المسائل الفقهيّة فهي مسائل اعتباريّة، اعتبرها الشّارع موضوعاً لأمره ونهيه و طاعته و عصيانه، فلا يصحّ الاستدلال عليها إلاّ من زاوية العلوم الاعتباريّة.
فالعالم كلُّ العالم من يحلِّل كلّ مسألة بمنهجها الخاصّ، ولا يخلط هذا بذاك. ولكنّ الحنابلة طفقوا يستدلّون على اتّحاد الاسم مع المسمّى بمسألة فقهيّة، وهذا مثل من أنكر كرويّة الأرض بحجّة أنّ كرويّتها لا توافق كون ليلة القدر ليلة واحدة، بل تستلزم أن تكون ليلتين. وقد أوضحنا حال هذه الشّبهة في أبحاثنا الفقهيّة.
3- إنّ الحلف في قول «تالله» و «والله»، واقع على الاسم لا على المسمّى، لوضوح أنّ المقسم به هو لفظ الجلالة لا مصداقه، غاية الأمر اللّفظ طريق و مرآة إلى المسمّى، ومع ذلك فالمحلوف به لفظه واسمه، لا مصداقه و ذاته مباشرة، فأين للإنسان النّاقص شهود ذاته حتّى يحلف بها. فلو تصعّد و تصوّب لا يكون حلفه خارجاً عن الحلف باللّفظ. فإذا كان الحلف هنا على الاسم، يكون الحلف في قوله «باسم الله» أيضاً على الاسم بحجّة أنّ الاضافة بيانيّة، بمعنى أحلف على الاسم الّذي هو الله. ففي كلا القسمين الحلف واقع على الاسم، دون المسمّى، وليس الحلف في الأوّل على المسمّى حتّى يستدلّ بصحّة الحلف في الثّاني المشتمل على لفظ الاسم، على أنّ الاسم هو المسمّى و يستنتج من قدم المسمّى قدم الاسم و منه قدم القرآن لاشتماله على أسمائه.
إنّ اتّحاد الاسم مع المسمّى من الأفكار الباطلة الّتي شطب العلم، والفكر
________________________________________
(386)
الصحيح، عليها طيلة قرون. ومع الأسف إنّ الشّيخ الأشعري جعله من جملة عقائد أصحاب الحديث و أهل السنّة، وقال في قائمة عقائد تلك الطّائفة: «إنّ أسماء الله لا يقال إنّها غير الله، كما قالت المعتزلة والخوارج»(1).يحكى أنّ بعض الحنابلة ناظر أبا الهذيل في هذه المسألة فأخذ لوحاً و كتب عليه «الله». قال: أفتنكر أن يكون هذا هو الله و تدفع المحسوس؟ فأخذ أبو الهذيل اللّوح من يده و كتب بجنبه: «الله» آخر. فقال للحنبليّ: أيّهما الله إذن؟-فانقطع المدبر(2).
فلو صحّت هذه الوحدة لوجب تعدّد الآلهة حسب تعدُّد أسمائه و كثرتها في لغة العرب وسائر اللّغات.
الشبهة الثانية: إنّ القوم تعلّقوا بآيات من القرآن في إثبات قدمه. منها قوله تعالى: (ألا لَهُ الخَلْقُ وَ الأمْرُ) (الاعراف/54) قالوا: إنّه تعالى فصّل بين الخلق والأمر، وفي ذلك دلالة على أنّ الأمر غير مخلوق(3). والقرآن مشتمل على الأمر فيكون غير مخلوق.
وأجاب عنه القاضي بأنّ ذلك من قبيل عطف الخاصِّ على العامّ، مثل قوله سبحانه: (فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَ نَخْلٌ وَ رُمّانٌ) (الرحمن/68).
ويمكن أن يجاب بالنّقض والحلّ.
أمّا نقضاً فبقوله سبحانه: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّي)) (الإسراء/85).
فلو كان الأمر غير مخلوق يلزم أن يكون الروح الّذي من الأمر غير مخلوق و قديماً.
وأمّا حلاّ ً فبوجهين:
أ ـ المراد من الخلق هنا هو التّقدير، قال في اللّسان: «الخلق: التقدير، وخلَق الأديم يخلقه خلقاً: قدّره لما يريد قبل القطع. قال زهير يمدح رجلاً:
________________________________________
1. المقالات: ص 290. وفي هذا المصدر تكلّم عن أصحاب الحديث حول اتحاد الاسم مع المسمى، فراجعه. 2. شرح الاصول الخمسة: ص 544. 3. المصدر نفسه
________________________________________
(387)
ولأنــت تَفــري مــا خلقــتَ * و بعض القوم يَخلق ثمّ لا يفري(1).
والمراد من الأمر هو الايجاد، لقوله سبحانه: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذْا أَرَادَ شَيْئَاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون)(يس/82). وعلى ذلك يعود معنى الآية إلى أنّ التقدير والايجاد في عالم الكون من السّماوات و الأرض و ما بينهما له سبحانه. ويشهد عليه ملاحظة نفس الآية: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمواتِ وَ الأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّام ثُمَّ اسْتَوى عَلَى العَرْشِ، يُغْشِى الَّيْلَ النّهارَ يَطْلُبُهُ حَثيثاً و الشَّمسَ والقَمَرَ و النُّجومَ مُسَخّرات بِأَمْرِهِ، ألا لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ العَالَمِين) (الأعراف/54).فخلق العالم من الذّرّة إلى المجرّة، رهن التّقدير و الايجاد، ولا شريك له سبحانه في واحد من هذين الأمرين، و عندئذ لا صلة لكلمة الأمر، بالأوامر الشّرعية الواردة في القرآن الكريم حتّى يستدلّ من حديث المقابلة أنّ الأمر غير الخلق.
ب- المراد من الخلق هو الايجاد، كما هو الشائع، والمراد من الأمر السنن السائدة على العالم، الحاكمة عليه والوسيلة للتدبير. و يشهد له قوله قبل ذلك: (مسخّرات بأمره) أي مسخّرات بسننه و قوانينه سبحانه. فيعود معنى الآية أيضاً إلى أنّ الخلق و التّدبير بالسنن له سبحانه، لا يشاركه فيهما شيء.
ويظهر ذلك إذا علمنا أنّ «الألف واللام» في «له الأمر» إشارة إلى الأمر الوارد قبله أي: (مسخّرات بأمره) ومن المعلوم أنّ التّسخير قائم بوضع سنن و قوانين على عالم الخلق.
الشبهة الثالثة: إنّ توصيف القرآن بأنّه مخلوق ربّما يوهم وصف القرآن بالكذب والاختلاق، ولهذا يقال: قصيدة مخلوقة و مختلقة، إذا كانت مشتملة على أكاذيب وأباطيل.
قال سبحانه: (إن هذا إلاّ خلق الأوّلين) (الشعراء/137).
وقال سبحانه: (إن هذا إلاّ اختلاق) (ص/7).
والإجابة عنه واضحة، فإنّ المراد من كونه مخلوقاً، كونه مخلوقاً لله سبحانه.
________________________________________
1. لسان العرب: مادة «خلق».
________________________________________
(388)
ويشهد له أنّه سبحانه وصفه بـ «أنزله»، و «جعله»، وغيرذلك من الأفعال الدالّة على انتسابه إلى الله سبحانه.واستغلال الملحد لهذه الكلمة بتفسيرها بالكذب و الاختلاق لا يغيِّر الواقع، فالمراد أنّ القرآن المتلوّ على لسان النّبي والصّحابة و التّابعين والمسلمين، شيء موجود و لا بدّ له من محدث و خالق، و خالقه هو الله سبحانه.
قال المفيد ـ رحمه الله ـ: «إنّ كلام الله تعالى محدث، وبذلك جاءت الآثار عن آل محمّد ـ عليهم السلام ـ والمراد أنّ القرآن كلام الله و وحيه و أنّه محدث كما وصفه الله تعالى. وأمنع من إطلاق القول عليه بأنّه مخلوق. وبهذا جاءت الآثار عن الصّادقين، وعليه كافّة الإماميّة إلاّ من شذّ»(1).
والحاصل إنّ إطلاق لفظة «الخلق» على القرآن، لمـّا كان موهماً لكونه كذباً و مختلقاً، منع من إطلاقه في هذا المقام، وأجيز إطلاق ما لا يوهم مثل هذا المعنى. كلفظ «محدث». وأنّه كلام الله و كتابه و تنزيله، مما يفيد أنه غير أزليّ، وليس بقديم. فإذن، يكون من قبيل:
عباراتنا شتّى' و حسنك واحد * وكلّ إلى ذاك الجمال يشير
وقد وردت الروايات في النّهي عن إطلاق الخلق على القرآن ـ لصدّ استغلال الملاحدة ـ في (توحيد الصّدوق)(2).هذا، وقد أشار القاضي عبد الجبّار إلى هذا الوجه و قال:
«فان قيل: أليس قوله تعالى' «و تخلقون إفكاً» أريد به كونه كذباً فما أنكرتم، أليس من أنّ القرآن لا يوصف بذلك من إيهام كونه كذباً... أليس يقولون قصيدة مخلوقة مختلقة يعني أنّها كذب، و على هذا الوجه يقول القائل: خلقت حديثاً و اختلقته»(3).
________________________________________
1. اوائل المقالات: ص 18 ـ 19. 2. لاحظ: توحيد الصدوق، باب القرآن، الأحاديث 2 و 3 و 4 و 5، ص 221 ـ 222. 3. المغنى: أبواب التوحيد والعدل، ج 7، ص 216 ـ 217.
________________________________________
(389)
ولكنّ الإجابة عنه واضحة، لما عرفت من أنّه يمكن التّعبير عنه بوجه لا يستلزم ذلك الوهم ككونه محدثاً، أو إنّه غير قديم.والظّاهر أنّ الوجه في عدم توصيفه بكونه مخلوقاً هو تصوّر الملازمة بين كونه مخلوقاً وكون علمه سبحانه حادثاً.
وهناك وجه آخر لعدم التزامهم بكونه مخلوقاً وهو تصوّر أنّ كلِّ مخلوق فان، فيلزم فناء القرآن و موته مع أنّه سبحانه يقول: (إنّا نحن نزّلنا الذِّكر و إنّا له لحافظون)(1).
الشّبهة الرابعة: إنّ الله سبحانه خلق العالم بلفظ «كن»، يقول: (إنّما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون) (يس/74) و يقولون لو لم يكن هذا الـ «كن» قديماً، لوجب أن يكون محدثاً. فكان لا يحدث إلاّ بـ «كن» آخر. والكلام في ذلك الـ «كن» كالكلام فيه، فيتسلسل إلى ما لا نهاية له(2).
وأجاب عنه القاضي: ليس المراد من هذه اللّفظة هو المركّب من الكاف و النّون، إذ لا شكّ في حدوثه، فيجب أن يكون المراد هو الارادة(3).
ثمّ قال: «والغرض من هذه الآية و ما جرى مجراها إنّما هو الدّلالة على سرعة استجابة الأشياء له من غير امتناع، نظيرها قوله تعالى: (وقال لها و للأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً) (فصلت/11). ومنه قول الشاعر:
و قالت له العينان سمعاً و طاعة * وحدرتــا كالـدُّرّ لمـّا يثقّــب
والّذي يدلّ على أنّ المراد هنا ليس لفظة «كن»، أنّه ليس في المقام مخاطب ذو سمع يسمع الخطاب فيوجد به، وعندئذ تصير الآية تمثيلاً لحقيقة فلسفيّة، وهي أنّ إفاضته سبحانه وجود الشّيء لا تتوقّف على شيء وراء ذاته المتعالية. فمشيئته سبحانه________________________________________
1. المغنى: ج 7، ص 121 وهو أيضاً كما ترى. 2. شرح الاصول الخمسة: ص 560. 3. المصدر السابق. ولمّا كان القول بالارادة الحادثة في ذاته مستلزماً لحدوث الذات، التجأ القاضي وأتباعه إلى أنّ للّه سبحانه إرادة غير قائمة بذاته، وهو كما ترى.
________________________________________
(390)
مساوقة لوجود الشّىء بلا تخلّف. وأمّا حقيقة إرادته فلبيانها مقام آخر.وفي نفس الآيات إشارات لطيفة إلى هذا المعنى.
قال سبحانه: (وما أمرنا إلاّ واحدة كلمح بالبصر) (القمر/50) فيكون الهدف من الآية ونظائرها بيان أنّ إرادته و مشيئته المتعلِّقة بتحقّق الشيء يساوق وجوده و ليست كارادة الإنسان. فإنّ الارادة والمشيئة فيه لا تساوق وجود الشّيء، بل يحتاج إلى مقدّمات و أسباب.
التعلیقات
١