دفاع عن الحقّ
المعتزلة
منذ 13 سنةبحوث في الملل والنحل لأية الله الشيخ جعفر السبحاني ، ج 3 ، ص 433 ـ 436
________________________________________
الاعتزال ظهر في أوساط المسلمين بطابعه العقلي لتحقيق العقائد الإسلاميّة، ودعمها على ضوء الدّليل و البرهان. فكانوا يدافعون عنها حسب طاقاتهم الفكريّة، يشهد بذلك حياة مشايخهم و أئمّتهم و تلاميذهم.
ولعلّ تصلّبهم في المناظرة، وعدم السّكوت في مقابل الملاحدة وأهل الكتاب من اليهود والنّصارى، لأجل عنايتهم بالأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، حتّى صار ذلك أحد أُصولهم الّتي بها يتميّزون عن غيرهم، وقد عرفت نماذج من مناظراتهم مع المخالفين فلا نعيد.
ولم يكن دفاعهم عن الإسلام منحصراً بالمناقشات اللّفظية، بل كانوا يستعملون القوّة إذا أُتيح لهم ذلك.
مثلاً: إنّ بشّار بن برد كان متّهماً بالالحاد، فهدّده واصل بالقتل، ولم يكتف بذلك حتّى نفاه من البصرة، فذهب إلى حرّان و بقي فيها إلى أن توفّي واصل ثمّ عاد إلى البصرة.
________________________________________
وروى عمر الباهلي أنّه قرأ الجزء الأوّل من كتاب «الألف مسألة في الردّ على المانويّة» لواصل، كان فيها نيّف و ثلاثون مسألة، وهو الّذي أوفد حفص بن سالم إلى خراسان، فناظر جهم بن صفوان و قطعه وجعله يرجع إلى القول الحقّ. وعلى ذلك درج أصحاب واصل و تلاميذه من بعده(3).
وتبع واصلاً و عمرو بن عبيد، أبو الهذيل العلاّف و قد قرأت في ترجمته بعض مناظراته.
ولا تنس ما ذكرناه في ترجمة «معمر بن عباد» وقد بعثه الرّشيد إلى مناظرة السمنى، وهو يدلّ على أنّ المعتزلة كانوا هم المتحمّسين للمناظرة بين أهل السنّة، وأمّا غيرهم فلا يملكون في مقام المناظرة سوى القول بأنّ البحث حرام.
هذا هو القاضي عبد الجبّار قد قام في وجوه الملحدين والشاكّين في إعجاز القرآن، فألّف كتابه «تنزيه القرآن عن المطاعن» و كتاباً آخر في نبوّة النّبيّ الأكرم صلَّى الله عليه و آله و سلَّم أسماه «تثبيت دلائل نبوّة سيّدنا محمّد صلَّى الله عليه و آله و سلَّم » قال محقّق كتاب «شرح الأُصول الخمسة» بأنّه أعدّه للطّبع.
________________________________________
1. البيان والتبيين: ج 1، ص 25. 2. المنية والامل: ص 20، ط توماارنلد. 3. المنية والامل: ص 21.
________________________________________
لا أقول إنّ كلّ عالم معتزلي، عادل لا يعصي ولا يخطأ، غير أنّ الكلام في أنّ تنزيه طائفة خاصّة كالحنابلة و الأشاعرة، ورمى طائفة أُخرى بضدّه، ممّا لا يؤيّده الإنصاف، فلو قلنا إنّما حكمهم حكم سائر الطوائف الإسلاميّة حيث في كلّ طائفة ظالم لنفسه، ومقتصد، وسابق بالخير(1) لكان أقرب إلى الواقع والحقيقة.
2 ـ نقل البغدادي عن كتاب «المضاحك» للجاحظ، أنّ المأمون ركب يوماً فرأى ثمامة سكران قد وقع على الطّين، فقال المأمون له: ألا تستحيي؟ قال: لا والله. قال: عليك لعنة الله. قال ثمامة: تترى ثمّ تترى(3).
1. اقتباس من قوله سبحانه : (فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات)(فاطر / 32). 2. تأويل مختلف الحديث: ص 18. 3. الفرق بين الفرق: ص 173. 4. المصدر السابق: ص 191.
________________________________________
وعلى ذلك، فما أحسن قول القائل إذا تمثّل به في حقّ هذه الطائفة:
المعتزلة من القوّة إلى الضّعف
إنّ فكرة الاعتزال كانت فكرة بدائية، ونبتة غرسها واصل بن عطاء في أوائل القرن الثّاني، وأخذت تتكامل عن طريق تلاميذه و بعض زملائه كعمرو بن عبيد. وقد كان له تأثير في بدء ظهورها إلى أن استطاع أن يستجلب إليه بعض الخلفاء الأمويين المتأخّرين، كيزيد بن وليد بن عبدالملك (م126هـ)، ومروان بن محمّد بن مروان آخر خلفائهم (م132هـ)، حيث اشتهر أنّ الأخير كان يقول بخلق القرآن و نفي القدر(2).
ولمّا اندلعت نيران الثورات ضدّ الأمويين، وقضت على خلافة تلك الطغمة الأثيمة، لمع نجم المعتزلة في عصر أبي جعفر المنصور (136 ـ 158هـ) وقد عرفت في ترجمة عمرو بن عبيد وجود الصلة الوثيقة بينه و بين المنصور.
ولمّا هلك المنصور، أخذ المهدي ابنه زمام الحكم، ولم ير للمعتزلة في زمنه أيّ نشاط يذكر، خصوصاً أنّ المهدي كان شديداً على أصحاب الأهواء، حسب ما يقولون.
________________________________________
1. الشعر لأبي الأسود الدؤلي صاحب الامام أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ راجع ملحق ديوانه. 2. الكامل لابن الاثير: ج 4، ص 332 قال: «وكان مروان يلقب بالحمار، والجعدي لأنّه تعلم من الجعد بن درهم مذهبه في القول بخلق القرآن والقدر وغير ذلك.
(433)
1 ـ دفاع عن الحقّالاعتزال ظهر في أوساط المسلمين بطابعه العقلي لتحقيق العقائد الإسلاميّة، ودعمها على ضوء الدّليل و البرهان. فكانوا يدافعون عنها حسب طاقاتهم الفكريّة، يشهد بذلك حياة مشايخهم و أئمّتهم و تلاميذهم.
ولعلّ تصلّبهم في المناظرة، وعدم السّكوت في مقابل الملاحدة وأهل الكتاب من اليهود والنّصارى، لأجل عنايتهم بالأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، حتّى صار ذلك أحد أُصولهم الّتي بها يتميّزون عن غيرهم، وقد عرفت نماذج من مناظراتهم مع المخالفين فلا نعيد.
ولم يكن دفاعهم عن الإسلام منحصراً بالمناقشات اللّفظية، بل كانوا يستعملون القوّة إذا أُتيح لهم ذلك.
مثلاً: إنّ بشّار بن برد كان متّهماً بالالحاد، فهدّده واصل بالقتل، ولم يكتف بذلك حتّى نفاه من البصرة، فذهب إلى حرّان و بقي فيها إلى أن توفّي واصل ثمّ عاد إلى البصرة.
________________________________________
(434)
و في ذلك يقول صفوان الأنصاري مخاطباً لبشّار:كأنّك غضبان على الدّين كلّه * وطالب دخل لا يبيت على حقد
رجعت إلى الأمصار من بعد واصل * وكنت شريراً في التّهائم والنّجد(1)
ومن مظاهر دعمهم لأُصول العقائد الإسلاميّة و مكافحة التّجسيم والتّشبيه هو أنّ واصل بن عطاء بعث تلاميذه إلى الأطراف و الأكناف لتبليغ رسالة التّنزيه و رفض التّشبيه، وقد أتينا بأسماء المبعوثين في ترجمته(2).رجعت إلى الأمصار من بعد واصل * وكنت شريراً في التّهائم والنّجد(1)
وروى عمر الباهلي أنّه قرأ الجزء الأوّل من كتاب «الألف مسألة في الردّ على المانويّة» لواصل، كان فيها نيّف و ثلاثون مسألة، وهو الّذي أوفد حفص بن سالم إلى خراسان، فناظر جهم بن صفوان و قطعه وجعله يرجع إلى القول الحقّ. وعلى ذلك درج أصحاب واصل و تلاميذه من بعده(3).
وتبع واصلاً و عمرو بن عبيد، أبو الهذيل العلاّف و قد قرأت في ترجمته بعض مناظراته.
ولا تنس ما ذكرناه في ترجمة «معمر بن عباد» وقد بعثه الرّشيد إلى مناظرة السمنى، وهو يدلّ على أنّ المعتزلة كانوا هم المتحمّسين للمناظرة بين أهل السنّة، وأمّا غيرهم فلا يملكون في مقام المناظرة سوى القول بأنّ البحث حرام.
هذا هو القاضي عبد الجبّار قد قام في وجوه الملحدين والشاكّين في إعجاز القرآن، فألّف كتابه «تنزيه القرآن عن المطاعن» و كتاباً آخر في نبوّة النّبيّ الأكرم صلَّى الله عليه و آله و سلَّم أسماه «تثبيت دلائل نبوّة سيّدنا محمّد صلَّى الله عليه و آله و سلَّم » قال محقّق كتاب «شرح الأُصول الخمسة» بأنّه أعدّه للطّبع.
________________________________________
1. البيان والتبيين: ج 1، ص 25. 2. المنية والامل: ص 20، ط توماارنلد. 3. المنية والامل: ص 21.
________________________________________
(435)
ونحن إذا قرأنا في حياتهم هذه البطولات الفكريّة و العمليّة، يشكل علينا قبول ما نسبه إليهم أعداؤهم من المجون و الانحلال الأخلاقي.لا أقول إنّ كلّ عالم معتزلي، عادل لا يعصي ولا يخطأ، غير أنّ الكلام في أنّ تنزيه طائفة خاصّة كالحنابلة و الأشاعرة، ورمى طائفة أُخرى بضدّه، ممّا لا يؤيّده الإنصاف، فلو قلنا إنّما حكمهم حكم سائر الطوائف الإسلاميّة حيث في كلّ طائفة ظالم لنفسه، ومقتصد، وسابق بالخير(1) لكان أقرب إلى الواقع والحقيقة.
ولأجل إيقاف القارىء على بعض ما رميت به تلك الطائفة نذكر مايلي:
ما زلت آخذ روح الزقّ في لطف * و أستبيح دماً من غير مجروح
حتّى انثنيت ولي روحان في جسد * و الزق منطرح جسم بلا روح(2)
1 ـ روى ابن قتيبة أنّ النّظام كان يغدو على سكر و يروح على سكر و يبيت على حرائرها، ويدخل في الأدناس و يرتكب الفواحش والشائنات، وله في الشّراب شعر.ما زلت آخذ روح الزقّ في لطف * و أستبيح دماً من غير مجروح
حتّى انثنيت ولي روحان في جسد * و الزق منطرح جسم بلا روح(2)
2 ـ نقل البغدادي عن كتاب «المضاحك» للجاحظ، أنّ المأمون ركب يوماً فرأى ثمامة سكران قد وقع على الطّين، فقال المأمون له: ألا تستحيي؟ قال: لا والله. قال: عليك لعنة الله. قال ثمامة: تترى ثمّ تترى(3).
3 ـ وذكر أيضاً أنّ أبا هاشم الجبّائي كان أفسق أهل زمانه و كان مصرّاً على شرب الخمر وقيل: إنّه مات في سكره حتّى قال فيه بعض المرجئة:
يعيب القول بالإرجاء حتّى * يرى بعض الرجاء من الجرائر
وأعظم من ذوي الارجاء جرماً * وعيديّ أصرّ على الكبائر(4)
________________________________________يعيب القول بالإرجاء حتّى * يرى بعض الرجاء من الجرائر
وأعظم من ذوي الارجاء جرماً * وعيديّ أصرّ على الكبائر(4)
1. اقتباس من قوله سبحانه : (فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات)(فاطر / 32). 2. تأويل مختلف الحديث: ص 18. 3. الفرق بين الفرق: ص 173. 4. المصدر السابق: ص 191.
________________________________________
(436)
يلاحظ عليه: أنّ ابن قتيبة والبغدادي تفرّدا في نقل هذه النّقول والنسب، وأمّا غيرهما من الأشاعرة فنزّهوا أقلامهم عن ذكرها، ولو كانت لهذه النّسب مسحة من الحقّ أو لمسة من الصّدق لما تورّعوا عن ذكرها، على أنّ من سبر كتاب «الفرق بين الفرق» للبغدادي يرى فيه قسوة عجيبة في حقّ الطّوائف الإسلاميّة لا سيّما المعتزلة.وعلى ذلك، فما أحسن قول القائل إذا تمثّل به في حقّ هذه الطائفة:
حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه * فالكلّ أعداء له و خصوم
كضرائر الحسناء قلن لوجهها * حسداً و بغياً إنّه لدميم(1)
(ربّنا اغفر لنا ولإخواننا الّذين سَبَقُونا بالإيمان)(الحشر/10)كضرائر الحسناء قلن لوجهها * حسداً و بغياً إنّه لدميم(1)
المعتزلة من القوّة إلى الضّعف
إنّ فكرة الاعتزال كانت فكرة بدائية، ونبتة غرسها واصل بن عطاء في أوائل القرن الثّاني، وأخذت تتكامل عن طريق تلاميذه و بعض زملائه كعمرو بن عبيد. وقد كان له تأثير في بدء ظهورها إلى أن استطاع أن يستجلب إليه بعض الخلفاء الأمويين المتأخّرين، كيزيد بن وليد بن عبدالملك (م126هـ)، ومروان بن محمّد بن مروان آخر خلفائهم (م132هـ)، حيث اشتهر أنّ الأخير كان يقول بخلق القرآن و نفي القدر(2).
ولمّا اندلعت نيران الثورات ضدّ الأمويين، وقضت على خلافة تلك الطغمة الأثيمة، لمع نجم المعتزلة في عصر أبي جعفر المنصور (136 ـ 158هـ) وقد عرفت في ترجمة عمرو بن عبيد وجود الصلة الوثيقة بينه و بين المنصور.
ولمّا هلك المنصور، أخذ المهدي ابنه زمام الحكم، ولم ير للمعتزلة في زمنه أيّ نشاط يذكر، خصوصاً أنّ المهدي كان شديداً على أصحاب الأهواء، حسب ما يقولون.
________________________________________
1. الشعر لأبي الأسود الدؤلي صاحب الامام أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ راجع ملحق ديوانه. 2. الكامل لابن الاثير: ج 4، ص 332 قال: «وكان مروان يلقب بالحمار، والجعدي لأنّه تعلم من الجعد بن درهم مذهبه في القول بخلق القرآن والقدر وغير ذلك.
التعلیقات