ابن تيمية والسلفية
ابن تيمية
منذ 13 سنةبحوث في الملل والنحل لأية الله الشيخ جعفر السبحاني ، ج 4 ، ص 27 ـ 30
________________________________________(27)
ابن تيمية لم يكن سلفياًإنّ الموالين لابن تيمية والمقتفين أثره يصفونه بالسلفية، ويتقولون فيه بأنّه محيي مذهب السلف. هب أنّ السلفية مسلك ومذهب، ولكن السلفي عبارة عمَّن لا يتخطّى عمّا سلكه السلف الصالح طيلة قرون سبعة، ولكن أراءه وأفكاره على طرف النقيض من أراء السلف. إنّ المسلمين طيلة قرون كانوا يحترمون قبر النبي ويزورونه، ولم تقع الزيارة في تلك العصور ولو مرة واحدة ذريعة إلى الشرك، بل كان الداعي إلى زيارته في كل فترة من الفترات، كونه نبىّ الإسلام نبىّ التوحيد، ومكافح الشرك ومنابذه، فيجب احترامه وتكريمه وحفظ آثاره وقبره، وآثار أصحابه وزوجاته وأبنائه انطلاقاً من هذا المبدأ (أي كونه نبىّ التوحيد، مشيد بنائه الشامخ) ولكنّا نرى أنّ ابن تيمية يخالف هذه السيرة الموروثة من الصحابة إلى زمانه، ويحرّم شدّ الرحال إلى زيارته تمسكاً بحديث غير دال على ما يرتئيه، كما سيوافيك.
إنّ المسلمين طيلة القرون الغابرة إلى ميلاد ابن تيمية كانوا يتبرّكون بالنبي وآثاره، ولا يرون ذلك شركاً ولا ذريعة إليه، حتّى أنّ الشيخين أوصيا بمواراتهما في جوار النبي، لما استقرّ في قرارة ضميرهما بأنّ للمكان شرافة ومكانة بالغين، وأنّ المواراة في ساحة النبي لها كرامة، ولم ينبس أحد من الصحابة ببنت شفة بأنّ ذلك ذريعة إلى الشرك، إلى أن ألقى الشر بجرانه إلى الأرض بميلاد ابن تيمية وآرائه الساقطة، فجعل ينكر هذا العمل ويخالف السلف.
إنّ السلف الصالح في حياة النبي وبعده كانوا يستغيثون بالنبي لما له من كرامة عند اللّه، لما أمرهم اللّه سبحانه بالمجيء إليه وطلب الاستغفار منه، ولم يخطر ببال أحد أن الاستغاثة بالملخوق شرك أو ذريعة إلى الشرك، وكان هذا
________________________________________
(28)
ديدن السلف في جميع القرون، فجاء ابن تيمية ينكر الاستغاثة والتوسل، ثم يصف نفسه سلفياً، فما معنى هذه السلفية؟ (ما هكذا تورد يا سعد الإبل) .تقييم إنجازات ابن تيمية
إنّ قيمة كل امرىء بما يقدّمه إلى الأُمة من خدمات وخيرات، فإمّا أن يشيد بناء ثقافتهم ويضمن تقدمهم في ميادين العلم والعمل، ويرفع من مستوى أخلاقهم وسلوكهم الإنساني والإسلامي، وإمّا أن يرفع مستوى معيشتهم و يسعى في ترفيههم بمشاريع البرّ و الإحسان، من بناء المدارس ومراكز التعليم والمستشفيات والمستوصفات، ودعم الكفاح بالتدريب العسكري وغيره مما يرجع إلى دعم البنية المادية للمجتمع.
هلم معي نطرح إنجازات ابن تيمية على طاولة النقاش والمحاسبة، فهل قام بأحد الأمرين؟
أمّا من جانب المعنى فلم نر أنّه قدم إلى المجتمع، دراسة نافعة في الحقوق والسياسة والاقتصاد أو الاجتماع، أو ألف جامعاً حديثياً يكون هو المرجع للمسلمين كما قام بعض معاصريه بهذا الأمر، فلم يبق منه إلاّ التركيز على المسائل الّتي قدمنا رؤوسها والّتي كفّر بها مخالفيه، وبالتالي كفّر جمهور المسلمين الذين عاشوا طيلة سبعة قرون .
هب أنّه قدم إلى المسلمين دراسات توحيدية، ولكن ما كانت نتيجة تلك الدراسات، فغاية ما أنجز وأتى ـ بعد ما تصوب وتصعد ـ أنّه يجب توصيفه سبحانه بنفس الصفات الخبرية بمعناها اللغوي، فصار معناه هو التجسيم والتشبيه وإثبات الجهة والفوقية للّه سبحانه، وقد فهم الكل هذا المعنى من دراساته. هب أنّه لم يقصد من إثبات هذه الصفات ما نسب إليه من الجسمية، ولكنّه صبّ ما رآه في قوالب أذْعَنَ الكُلُّ ـ الداني منهم والنائي ـ بأنّه مُجسّم مشبّه مُثْبت للّه سبحانه الجهة والفوقية، مع أنّه سبحانه ليس بجسم ولا جسماني، و أنَّهُ ليس كمثله شيء .
ما معنى هذه الدراسات العميقة الّتي لم تورث إلاّ هذه الأفكار الباطلة،
________________________________________
(29)
وسوف يوافيك أنّ الرجل مجسّم وإن كان لا يتفوه به، ولكن جُمَلَهُ وألفاظه وعباراته وما أصرّ عليه لا تنتج إلاّ ذلك.وقس عليه سائر إنجازاته من جانب المعنى، فقد منع شدّ الرحيل إلى زيارة النبي الأكرم، مع أنّ قبور الأنبياء لم تزار تزل من عصر النبي وقبله وبعده، وليست الغاية من زيارتهم إلاّ التوقير والتكريم و عقد الميثاق مع ما جاءوا به من أُسس التوحيد، فكيف يكون ذلك ذريعة إلى الشرك؟
وحصيلة البحث هي أنّنا لم نجد في جميع إنجازاته شيئاً بديعاً يرفع به رأسه ويفتخر به على من سواه، سوى ما في كلامه من الغلظة والأذى .
اللسان والقلم مرآتان للضمير
إنّ اللسان والقلم مرآتان لضمير صاحبهما يعربان عن نفسيته الخبيثة أو الطيبة، الشريرة أو الخيّرة، فاللسان البذيء يكشف عن نفسيته المستهترة المريضة، كما أنّ اللسان و مثله القلم النزيهين يكشفان عن ملكة فاضلة. ومن رجع إلى كتب ابن تيمية يعرف أنّه ما كان يملك لسانه وقلمه عن التقوّل على المسلمين والتهجّم عليهم فجاءت كتاباته مليئة بالقول البذيء و إساءة الأدب، الّذي هو على طرف النقيض من الإسلام والعلم.
ابن تيمية في مرآة الرأي العام
ولقد كانت ثورة الرأي العام الإسلامي عليه من جانب الفقهاء والحكام والمتكلمين والمحدثين أدلّ دليل على انحرافه عن الخط المستقيم والطريق المهيع، فليس من القضاء الصحيح تخطئة جمهور المسلمين وتصويب رجل واحد، فمنذ نشر الرجل رأيه حول الصفات الخبرية عام 698 هـ في «الرسالة الحموية» جاءت الاستنكارات تترى من جميع الطوائف، وكلما تعرض الرجل للعقائد الإسلامية الّتي اطبقت عليها الأُمة في جميع القرون، تعالى الاستنكار، حتّى أُلقي عليه القبض ونفي من بلد إلى بلد، وتعرض لاعتقال بعد اعتقال، إلى أن منع من القرطاس والكتابة، حتّى مات في السجن ممنوعاً من كل شيء .
ولو كان الرجل شيخ الإسلام ورائده وناصحه، لما ضاق عليه المجال من
________________________________________
(30)
جانب أبناء جلدته من قضاة وحكام: شوافع وأحناف .نعم الأسف كلّه على الناشئة الجدد الذين وقعوا فرائس في أحابيل الدعاية الوهابية الّتي يقودها النظام السعودي ويغذيها بثروته الواسعة، ويدعمها الاستعمار الغاشم لغاية إضعاف المسلمين بالخلافات وإشغالهم بقضايا ومسائل لا تمتّ إلى الحياة بصلة.
ولأجل ذلك نضع حياة الرجل وشخصيته أولا، وآراء معاصريه ومن جاء بعده في القرون اللاحقة في حقه في ميزان النقد والقضاء ثانياً، ثم نبحث عن آرائه و أفكاره ونعرضها على الكتاب والسنة ثالثاً، حتّى يتبين الحق ويظهر، ويزهق الباطل .
التعلیقات