شد الرحال إلى زيارة النبي ـص
شد الرحال إلى زيارة النبي ص
منذ 13 سنةبحوث في الملل والنحل لأية الله الشيخ جعفر السبحاني ، ج 4 ، ص 136 ـ 141
________________________________________
ابن تيمية وشد الرحال إلى زيارة النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ
ذهب ابن تيمية إلى أنّ شد الرحال إلى زيارة قبر رجل صالح حرام، وقال: ثبت في الصحيحين عن النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ أنّه قال: «لا تشدّ الرحال إلا إلى ثلاثة: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا» ثم قال: ولو نذر السفر إلى قبر الخليل ـ عليه السَّلام ـ أو قبر النبي لم يجب الوفاء بهذا النذر بإتفاق الأئمة الأربعة، فإنّ السفر إلى هذه المواضع منهّي عنه لنهي النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ : «لا تشد الرحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد...» فإذا كانت المساجد الّتي هي من بيوت اللّه، الّتي أمر فيها بالصلوات الخمس، قد نهي عن السفر إليها، فإذا كان مثل هذا ينهى عن السفر إليه، فما ظنك بغيرها؟ فقد رخص بعض المتأخرين في السفر إلى المشاهد ولم ينقلوا ذلك عن أحد من الأئمة، ولا احتجوا بحجة شرعية ـ إلى أن قال ـ : وكل حديث يروى في زيارة قبر النبي فإنه ضعيف، بل موضوع، ولم يرو أهل الصحاح والسنن والمسانيد، كمسند أحمد وغيره من ذلك شيئاً، ولكن الّذي في السنن ما رواه أبو داود عن النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ أنه قال: «ما من رجل يسلّم عليّ إلاّ ردّ اللّه عليّ روحي حتّى أرد عليه السلام، فهو يردّ السلام على من سلم عليه عند قبره ويبلغ [إليه] سلام من سلم عليه من البعيد، كما في النسائي عنه أنّه قال: «إنّ اللّه وكل بقبري ملائكة يبلغون لأمتي السلام» وفي السنن عنه أنه قال: «أكثروا علي من الصلاة يوم الجمعة
________________________________________
أقول: إن هنا مسألتين:
الأولى: شد الرحال إلى زيارة الأنبياء والصالحين .
الثانية: حكم زيارة قبر الصلحاء والأنبياء والنبي الأعظم، وإن لم يكن هناك شد للرحال، ونحن ندرس كلتا المسألتين في ضوء الكتاب والسنة، فنقول:
أفتى ابن تيمية بتحريم شدّ الرحال إلى زيارة الصلحاء والأنبياء والأئمة مستدلا بما ورد من النهي من شد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة، والاستدلال بهذا يتوقف على الإمعان في سند الحديث ودلالته، فنقول: روي الحديث بصور ثلاث، والّذي يصحّ الإستدلال به إنّما هو الصورة الأولى والثانية لا الثالثة، وإليك البيان:
1- لا تشد الرحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى.
2- إنما يسافر إلى ثلاثة مساجد: مسجد الكعبة، ومسجدي، ومسجد إليياء.
3- تشد الرحال إلى ثلاثة مساجد(2).
فلو قلنا بأنّ لفظة «إنما» تفيد الحصر، تكون الصورة الثانية مثل الصورة الأُولى في إفادة الحصر، وإلاّ فينحصر الاستدلال بالصورة الأُولى، فلنفترض أنّ الحديث ورد على نمط الصورتين الأُوليين، فنقول: إنّ الاستثناء
________________________________________
1. مجموعة الرسائل الكبرى ج 2 ص 57 ـ 65 الرسالة الثالثة في زيارة بيت المقدس .
2. أورد مسلم هذه الأحاديث في صحيحه ج 4 ص 126، كتاب الحج باب (لا تشد الرحال) وذكره أبو داود في سننه ج 1 ص 469 كتاب الحج، وكذلك النسائي في سننه المطبوع مع شرح السيوطي ج 3 ص 37 و 38 وقد ذكر السبكي صوراً أُخرى للحديث هي أضعف دلالة على مقصود المستدل، لاحظ شفاء السقام ص 98 .
________________________________________
أ ـ لا تشد الرحال إلى مسجد من المساجد إلاّ إلى ثلاثة .
ب ـ لا تشد الرحال إلى مكان من الأمكنة إلاّ إلى ثلاثة مساجد .
أمّا الأول فيجب علينا ملاحظة الأمور التالية:
الأول: إنّ الحديث لو دلّ على شيء فإنما يدلّ على النهي عن شدّ الرحال إلى مسجد سوى المساجد الثلاثة، وأمّا شد الرحال إلى الأماكن الأُخرى فالحديث ساكت عنه، غير متعرّض لشيء من أحكامه، بل النفي والإثبات يتوجّهان إلى المسجد، فالمساجد ينهى عن شد الرحال إليها غير المساجد الثلاثة، والاستدلال به على حكم شد الرحال إلى المنتزهات و المراكز العلمية أو الصناعية أو مقابر الأولياء والشهداء أو الصديقين والصلحاء فهو ساكت عنه، ومن العجيب أن نستدل به على تحريم شد الرحال إليها .
الثاني: إنّ النهي عن شد الرحال إلى غير هذه المساجد لا يعني تحريمه بل يعني نفي الفضيلة فيه، وذلك لأنّ المساجد سوى الثلاثة، لمّا كانت متساوية في الفضيلة والثواب فلا ملزم لتحمّل العبء بشد الرحال إليها، فالمساجد الجامعة متساوية في الفضيلة في عامة البلاد، فلا وجه لشد الرحال إلى مسجد لإقامة الصلاة فيه، ولكنّه إذا شدّ الرحال بقصد الصلاة فيه والعبادة لربّه، لا يعد عمله محرماً، بل غاية الأمر لا يترتب عليه ثواب خاص .
وبذلك يتبين بطلان ما ذكره ابن تيمية من الاستدلال بالأولوية بأنّه إذا حرم شد الرحال إلى غير هذه الثلاثة مع أنه من بيوت اللّه الّتي أمر فيها بالصلوات الخمس يكون شد الرحال إلى زيارة القبور حراماً بطريق أولى، إذ ليست ساحة القبور مراكز للعبادة، فهي أقل درجة من سائر المساجد .
وجه الضعف أنّ الإستدلال مبني على أنّ التحريم تحريم مولوي تعبدي، وأما على ما استظهرناه من أن النهي إرشادي إلى أنه لا وجه لتحمل العبء في هذا الطريق، لتساوي المساجد في الفضيلة والكرامة، فلا وجه للإستدلال، لترتب الثواب على زيارة القبور .
________________________________________
هذا كله على فرض كون المستثنى منه هو المسجد، وقد عرفت كونه أجنبياً عن السفر إلى غير المساجد، وبما أنّ المستثنى منه هو المسجد فالمناسب هو كون المستثنى من هذا القبيل .
وأمّا على التقدير الثاني وهو تقدير الأماكن وما يقاربه ويعادله، فلازم ذلك أن تكون كافة الأسفار محرّمة غير السفر إلى المساجد الثلاثة، وهل يلتزم بذلك مسلم، وهل يفتي به أحد؟ كيف ولو كان الحديث بصدد منع كافة الأسفار المعنوية، فكيف كان النبي والمسلمون يشدّون الرحال في موسم الحج إلى عرفات والمشعر ومنى، وهذا دليل على أنّ المستثنى منه هو المساجد لا الأماكن .
أضف إلى ذلك أنّ الذكر الحكيم والأحاديث الصحيحة حثّا على السفر إلى طلب العلم، والجهاد في سبيل اللّه، وصلة الرحم، وزيارة الوالدين، قال سبحانه: (فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَة مِنْهُم طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدّينَ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِم لَعَلَّهُم يَحْذَرُونَ)(2) .
________________________________________
1. صحيح مسلم ج 4 ص 127 وصحيح البخاري ج 2 ص 176 السنن للنسائي، المطبوع مع شرح السيوطي ج 2 ص 127 .
2. سورة التوبة: الآية 122 .
________________________________________
«القسم الثاني هو أن يسافر لأجل العبادة إمّا لحج أو جهاد.. ويدخل في جملة زيارة قبور الأنبياء ـ عليهم السَّلام ـ وزيارة قبور الصحابة والتابعين وسائر العلماء والأولياء، وكل من يتبرك بمشاهدته في حياته، يتبرك بزيارته بعد وفاته، ويجوز شد الرحال لهذا الغرض، ولا يمنع من هذا قوله ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ : «لا تشدّ الرحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا والمسجد الحرام و المسجد الأقصى» لان ذلك في المساجد، فإنّها متماثلة (في الفضيلة) بعد هذه المساجد، وإلاّ فلا فرق بين زيارة قبور الأنبياء والأولياء والعلماء في أصل الفضل، وإن كان يتفاوت في الدرجات تفاوتاً عظيماً بحسب اختلاف درجاتهم عند اللّه(1) .
تحليل آخر للنهي عن السفر
ولنفترض أنّ المستثنى منه هو الأمكنة، ولكن المتبادر من الحديث أن يكون الدافع إلى السفر هو تعظيم ذلك المكان، فيختص النهي بما إذا أُريد من شد الرحال إلى مكان، تعظيمه ولو بإيقاع العبادة فيه، وعندئذ يخرج السفر إلى زيارة النبي عن منطوق الحديث، لأنّه لا يسافر لتعظيم بقعته، وإنما يسافر لزيارة من فيها مثل ما لو كان حياً. ويؤيد ذلك أمران:
1- روي عن بعض التابعين أنّه سأل ابن عمر أنّه يريد أن يأتي الطور، فأجابه: إنما تشد الرحال إلى ثلاثة مساجد... ودع الطور فلا تأته(2) .
2- أفتى الجمهور بأنّه لو نذر أن يأتي مسجداً من المساجد سوى الثلاثة
________________________________________
1. كتاب إحياء علوم الدين للغزالي ج 2 ص 247، كتاب آداب السفر، طبعة دار المعرفة بيروت .
2. الفتاوى الكبرى ج 2 ص 24 .
________________________________________
كل ذلك يحدد مصب الحديث وهدفه، وأنّ المقصود هو المنع عن تعظيم مكان تشد الرحال إليه، وأمّا إذا كانت الغاية تعظيم من عظّمه اللّه سبحانه وأكرمه ورزقه فضلا كبيراً ـ كما قال -: (وَ كانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً)(1)، فهو خارج عن مورد الحديث .
ومع ذلك فإنّ النهي عن شد الرحال إلى مكان خاص ليس لغاية تحريمه، وإنما هو إرشاد إلى نفي الفضيلة. قال ابن قدامة الحنبلي: «إن سافر لزيارة القبور والمشاهد فقال ابن عقيل لا يباح له الترخص لأنه منهي عن السفر إليها، قال النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ : لا تشد الرحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد، والصحيح إباحته وجواز القصر فيه، لأنّ النبي كان يأتي قبا ماشياً وراكباً، وكان يزور القبور، وقال: زوروها تذكركم الآخرة، وأمّا قوله ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ : لا تشد الرحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد، فيحمل على نفي الفضيلة، لا على التحريم، فليست الفضيلة شرطاً في إباحة القصر ولا يضر انتفاؤها(2) .
هذا كله حول الحديث وتحديد مضمونه، وقد عرفت أنّ شد الرحال إلى زيارة النبي خارج عن موضوع الحديث على كلا التقديرين، فالاستدلال به على التحريم باطل جداً .
(136)
(2)ابن تيمية وشد الرحال إلى زيارة النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ
ذهب ابن تيمية إلى أنّ شد الرحال إلى زيارة قبر رجل صالح حرام، وقال: ثبت في الصحيحين عن النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ أنّه قال: «لا تشدّ الرحال إلا إلى ثلاثة: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا» ثم قال: ولو نذر السفر إلى قبر الخليل ـ عليه السَّلام ـ أو قبر النبي لم يجب الوفاء بهذا النذر بإتفاق الأئمة الأربعة، فإنّ السفر إلى هذه المواضع منهّي عنه لنهي النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ : «لا تشد الرحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد...» فإذا كانت المساجد الّتي هي من بيوت اللّه، الّتي أمر فيها بالصلوات الخمس، قد نهي عن السفر إليها، فإذا كان مثل هذا ينهى عن السفر إليه، فما ظنك بغيرها؟ فقد رخص بعض المتأخرين في السفر إلى المشاهد ولم ينقلوا ذلك عن أحد من الأئمة، ولا احتجوا بحجة شرعية ـ إلى أن قال ـ : وكل حديث يروى في زيارة قبر النبي فإنه ضعيف، بل موضوع، ولم يرو أهل الصحاح والسنن والمسانيد، كمسند أحمد وغيره من ذلك شيئاً، ولكن الّذي في السنن ما رواه أبو داود عن النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ أنه قال: «ما من رجل يسلّم عليّ إلاّ ردّ اللّه عليّ روحي حتّى أرد عليه السلام، فهو يردّ السلام على من سلم عليه عند قبره ويبلغ [إليه] سلام من سلم عليه من البعيد، كما في النسائي عنه أنّه قال: «إنّ اللّه وكل بقبري ملائكة يبلغون لأمتي السلام» وفي السنن عنه أنه قال: «أكثروا علي من الصلاة يوم الجمعة
________________________________________
(137)
وليلة الجمعة، فإن صلاتكم معروضة علىّ(1) .أقول: إن هنا مسألتين:
الأولى: شد الرحال إلى زيارة الأنبياء والصالحين .
الثانية: حكم زيارة قبر الصلحاء والأنبياء والنبي الأعظم، وإن لم يكن هناك شد للرحال، ونحن ندرس كلتا المسألتين في ضوء الكتاب والسنة، فنقول:
أفتى ابن تيمية بتحريم شدّ الرحال إلى زيارة الصلحاء والأنبياء والأئمة مستدلا بما ورد من النهي من شد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة، والاستدلال بهذا يتوقف على الإمعان في سند الحديث ودلالته، فنقول: روي الحديث بصور ثلاث، والّذي يصحّ الإستدلال به إنّما هو الصورة الأولى والثانية لا الثالثة، وإليك البيان:
1- لا تشد الرحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى.
2- إنما يسافر إلى ثلاثة مساجد: مسجد الكعبة، ومسجدي، ومسجد إليياء.
3- تشد الرحال إلى ثلاثة مساجد(2).
فلو قلنا بأنّ لفظة «إنما» تفيد الحصر، تكون الصورة الثانية مثل الصورة الأُولى في إفادة الحصر، وإلاّ فينحصر الاستدلال بالصورة الأُولى، فلنفترض أنّ الحديث ورد على نمط الصورتين الأُوليين، فنقول: إنّ الاستثناء
________________________________________
1. مجموعة الرسائل الكبرى ج 2 ص 57 ـ 65 الرسالة الثالثة في زيارة بيت المقدس .
2. أورد مسلم هذه الأحاديث في صحيحه ج 4 ص 126، كتاب الحج باب (لا تشد الرحال) وذكره أبو داود في سننه ج 1 ص 469 كتاب الحج، وكذلك النسائي في سننه المطبوع مع شرح السيوطي ج 3 ص 37 و 38 وقد ذكر السبكي صوراً أُخرى للحديث هي أضعف دلالة على مقصود المستدل، لاحظ شفاء السقام ص 98 .
________________________________________
(138)
لا يستغني عن وجود المستثنى منه، وحيث لم يذكر في كلامه، فيلزم تقديره وهو أحد الأمرين:أ ـ لا تشد الرحال إلى مسجد من المساجد إلاّ إلى ثلاثة .
ب ـ لا تشد الرحال إلى مكان من الأمكنة إلاّ إلى ثلاثة مساجد .
أمّا الأول فيجب علينا ملاحظة الأمور التالية:
الأول: إنّ الحديث لو دلّ على شيء فإنما يدلّ على النهي عن شدّ الرحال إلى مسجد سوى المساجد الثلاثة، وأمّا شد الرحال إلى الأماكن الأُخرى فالحديث ساكت عنه، غير متعرّض لشيء من أحكامه، بل النفي والإثبات يتوجّهان إلى المسجد، فالمساجد ينهى عن شد الرحال إليها غير المساجد الثلاثة، والاستدلال به على حكم شد الرحال إلى المنتزهات و المراكز العلمية أو الصناعية أو مقابر الأولياء والشهداء أو الصديقين والصلحاء فهو ساكت عنه، ومن العجيب أن نستدل به على تحريم شد الرحال إليها .
الثاني: إنّ النهي عن شد الرحال إلى غير هذه المساجد لا يعني تحريمه بل يعني نفي الفضيلة فيه، وذلك لأنّ المساجد سوى الثلاثة، لمّا كانت متساوية في الفضيلة والثواب فلا ملزم لتحمّل العبء بشد الرحال إليها، فالمساجد الجامعة متساوية في الفضيلة في عامة البلاد، فلا وجه لشد الرحال إلى مسجد لإقامة الصلاة فيه، ولكنّه إذا شدّ الرحال بقصد الصلاة فيه والعبادة لربّه، لا يعد عمله محرماً، بل غاية الأمر لا يترتب عليه ثواب خاص .
وبذلك يتبين بطلان ما ذكره ابن تيمية من الاستدلال بالأولوية بأنّه إذا حرم شد الرحال إلى غير هذه الثلاثة مع أنه من بيوت اللّه الّتي أمر فيها بالصلوات الخمس يكون شد الرحال إلى زيارة القبور حراماً بطريق أولى، إذ ليست ساحة القبور مراكز للعبادة، فهي أقل درجة من سائر المساجد .
وجه الضعف أنّ الإستدلال مبني على أنّ التحريم تحريم مولوي تعبدي، وأما على ما استظهرناه من أن النهي إرشادي إلى أنه لا وجه لتحمل العبء في هذا الطريق، لتساوي المساجد في الفضيلة والكرامة، فلا وجه للإستدلال، لترتب الثواب على زيارة القبور .
________________________________________
(139)
الثالث: إنّ الحديث نص أو ظاهر في الحصر، مع أنّه ورد في الصحيح أنّ النبي كان يأتي مسجد قبا راكباً وماشياً يصلّي فيه(1) فكيف يجتمع هذا العمل مع هذا الحصر، ولسان الحديث لسان الإباء عن التخصيص؟ فلا يصحّ لنا أن نقول إنّ النهي خصّص بعمل النبي، وهذا ربما يكشف عن كون الحديث غير صحيح من رأس، أو أنّه نقل محرّفاً، خصوصاً أنّه نقل عن طريق أبي هريرة، والاستدلال بمتفرداته أمر مشكل، وقد تنبّه ابن تيمية لهذا الإشكال فحاول أن يرفع التناقض بين الحصر، فقال: «إنّه يستحب لمن كان بالمدينة أن يذهب إلى مسجد قبا» ولكنّه لا يرفع الإشكال، فإنّ الكلام في تخصيص النص الدال على الحصر، وأنّه لا يشد إلى غيره أبداً، سواء المقيم والمسافر.هذا كله على فرض كون المستثنى منه هو المسجد، وقد عرفت كونه أجنبياً عن السفر إلى غير المساجد، وبما أنّ المستثنى منه هو المسجد فالمناسب هو كون المستثنى من هذا القبيل .
وأمّا على التقدير الثاني وهو تقدير الأماكن وما يقاربه ويعادله، فلازم ذلك أن تكون كافة الأسفار محرّمة غير السفر إلى المساجد الثلاثة، وهل يلتزم بذلك مسلم، وهل يفتي به أحد؟ كيف ولو كان الحديث بصدد منع كافة الأسفار المعنوية، فكيف كان النبي والمسلمون يشدّون الرحال في موسم الحج إلى عرفات والمشعر ومنى، وهذا دليل على أنّ المستثنى منه هو المساجد لا الأماكن .
أضف إلى ذلك أنّ الذكر الحكيم والأحاديث الصحيحة حثّا على السفر إلى طلب العلم، والجهاد في سبيل اللّه، وصلة الرحم، وزيارة الوالدين، قال سبحانه: (فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَة مِنْهُم طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدّينَ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِم لَعَلَّهُم يَحْذَرُونَ)(2) .
________________________________________
1. صحيح مسلم ج 4 ص 127 وصحيح البخاري ج 2 ص 176 السنن للنسائي، المطبوع مع شرح السيوطي ج 2 ص 127 .
2. سورة التوبة: الآية 122 .
________________________________________
(140)
مضافاً إلى ما ورد في السفر لطلب الرزق، فلو كان الحكم عاماً، فما معنى هذه التخصيصات الكثيرة الوافرة الّتي تنافي البلاغة، والّتي تزلزل الحصر، وهناك كلمة قيّمة للغزالي في إحياء العلوم يقول:«القسم الثاني هو أن يسافر لأجل العبادة إمّا لحج أو جهاد.. ويدخل في جملة زيارة قبور الأنبياء ـ عليهم السَّلام ـ وزيارة قبور الصحابة والتابعين وسائر العلماء والأولياء، وكل من يتبرك بمشاهدته في حياته، يتبرك بزيارته بعد وفاته، ويجوز شد الرحال لهذا الغرض، ولا يمنع من هذا قوله ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ : «لا تشدّ الرحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا والمسجد الحرام و المسجد الأقصى» لان ذلك في المساجد، فإنّها متماثلة (في الفضيلة) بعد هذه المساجد، وإلاّ فلا فرق بين زيارة قبور الأنبياء والأولياء والعلماء في أصل الفضل، وإن كان يتفاوت في الدرجات تفاوتاً عظيماً بحسب اختلاف درجاتهم عند اللّه(1) .
تحليل آخر للنهي عن السفر
ولنفترض أنّ المستثنى منه هو الأمكنة، ولكن المتبادر من الحديث أن يكون الدافع إلى السفر هو تعظيم ذلك المكان، فيختص النهي بما إذا أُريد من شد الرحال إلى مكان، تعظيمه ولو بإيقاع العبادة فيه، وعندئذ يخرج السفر إلى زيارة النبي عن منطوق الحديث، لأنّه لا يسافر لتعظيم بقعته، وإنما يسافر لزيارة من فيها مثل ما لو كان حياً. ويؤيد ذلك أمران:
1- روي عن بعض التابعين أنّه سأل ابن عمر أنّه يريد أن يأتي الطور، فأجابه: إنما تشد الرحال إلى ثلاثة مساجد... ودع الطور فلا تأته(2) .
2- أفتى الجمهور بأنّه لو نذر أن يأتي مسجداً من المساجد سوى الثلاثة
________________________________________
1. كتاب إحياء علوم الدين للغزالي ج 2 ص 247، كتاب آداب السفر، طبعة دار المعرفة بيروت .
2. الفتاوى الكبرى ج 2 ص 24 .
________________________________________
(141)
فلا ينعقد النذر، فإنّه ليس في قصد مسجد بعينه غير الثلاثة قربة مقصودة، وما لا يكون قربة ولا عبادة فهو غير ملزم بالنذر .كل ذلك يحدد مصب الحديث وهدفه، وأنّ المقصود هو المنع عن تعظيم مكان تشد الرحال إليه، وأمّا إذا كانت الغاية تعظيم من عظّمه اللّه سبحانه وأكرمه ورزقه فضلا كبيراً ـ كما قال -: (وَ كانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً)(1)، فهو خارج عن مورد الحديث .
ومع ذلك فإنّ النهي عن شد الرحال إلى مكان خاص ليس لغاية تحريمه، وإنما هو إرشاد إلى نفي الفضيلة. قال ابن قدامة الحنبلي: «إن سافر لزيارة القبور والمشاهد فقال ابن عقيل لا يباح له الترخص لأنه منهي عن السفر إليها، قال النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ : لا تشد الرحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد، والصحيح إباحته وجواز القصر فيه، لأنّ النبي كان يأتي قبا ماشياً وراكباً، وكان يزور القبور، وقال: زوروها تذكركم الآخرة، وأمّا قوله ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ : لا تشد الرحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد، فيحمل على نفي الفضيلة، لا على التحريم، فليست الفضيلة شرطاً في إباحة القصر ولا يضر انتفاؤها(2) .
هذا كله حول الحديث وتحديد مضمونه، وقد عرفت أنّ شد الرحال إلى زيارة النبي خارج عن موضوع الحديث على كلا التقديرين، فالاستدلال به على التحريم باطل جداً .
________________________________________
1. سورة النساء: الآية 113 .
2. المغني لابن قدامة المتوفى سنة 620، ج 2 ص 217 ـ 218، وذكر في ج 3 ص 498 استحباب الزيارة، وكيفية زيارة النبي فلاحظ، وما نقله عن ابن عقيل غير ثابت، لأنّ السبكي نقل عنه خلافه، لاحظ شفاء السقام ص 113 .
1. سورة النساء: الآية 113 .
2. المغني لابن قدامة المتوفى سنة 620، ج 2 ص 217 ـ 218، وذكر في ج 3 ص 498 استحباب الزيارة، وكيفية زيارة النبي فلاحظ، وما نقله عن ابن عقيل غير ثابت، لأنّ السبكي نقل عنه خلافه، لاحظ شفاء السقام ص 113 .
التعلیقات