نظرية ابن تيمية تلازم الجهة والتجسيم
عقائد ابن تيمية
منذ 13 سنةبحوث في الملل والنحل لأية الله الشيخ جعفر السبحاني ، ج 4 ، ص 121 ـ 127
________________________________________
إنّ هذه الصفات كاليد والرجل والنزول والجلوس موضوعة لغةً على معانيها المتكيفة بكيفيات جسمانية، فاليد هي الجارحة المعروفة من الإنسان والحيوان، وهكذا الرجل والقدم، ومثلها النزول، فإنها موضوعة للحركة من العالي إلى السافل، والحركة من صفات الجسم، فالكيفية مقوّمة لمعاني هذه
________________________________________
1- جريها بنفس معانيها اللغوية الّتي تتبادر منها المفاهيم المتكيفة، فهو نفس القول بالتجسيم .
2- جريها بمفاهيمها المجازية، ككون اليد كناية عن القدرة، كما في قوله سبحانه: (بَلْ يَدَاهُ مَبْسوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيفَ يَشاء)(1)، فهذا هو قول المؤوّلة، أو المعطلة باصطلاح ابن تيمية، وليس ههنا معنى ثالث ينطبق على ما يتبنّاه ابن تيمية، وهو إجراؤها على اللّه بنفس مفاهيمها، لكن من غير تكييف، وذلك لما عرفت أنّ مفاهيمها متقوّمة بالتكييف والتمثيل، فلو حذفنا الهيئة والكيفية من اليد، فلا يبقي منها شيء، كما أنّا لو حذفنا الحركة الحسية من النزول لا يبقى منه شىء، إلاّ إذا حملا على الكناية والتأويل، وهو ما لا يقبله ابن تيمية وأتباعه .
ولو صحّ حمل هذه المفاهيم عليه سبحانه بالتذرّع بـ «بلا تكيف» و «لا تمثيل» لصحّ توصيفه سبحانه بكل شيء فيه أدنى كمال، ونقول: إنّه جسم لا كالأجسام، وله قلب لا كهذه القلوب، وله لسان ناطق لا كهذه الألسنة.
وخلاصة القول: إنّ ابن تيمية يرى نفسه بين أمرين:
أحدهما: القرآن بظواهره الحرفية حجة لا يصحّ لأحد تأوليها أو حملها على الكناية والمجاز .
ثانيهما: إنَّ القرآن صريح في أنّه ليس كمثله شيء، وأنّ المشركين ما قدروا اللّه حق قدره، إلى كثير من آيات التنزيه.
فعند ذلك يريد أن يجمع بين الأمرين باللجوء إلى أنّ المقصود ما يناسب ساحته، زاعماً بأنّه ينجيه عن القول بالجهة والتجسيم، مع أنّه ليس لنا إلاّ اختيار أحد الأمرين: الأخذ بالمفاهيم اللغوية بلا تأويل ومرجعه إلى
________________________________________
1. سورة المائدة: الآية 64 .
________________________________________
وأمّا ما ادّعاه من أنّ ما ذكره نفس معتقد السلف فقد أجاب عنه العلامة الشيخ سلامة القضاعي العزامي الشافعي (ت 1379 هـ) قال: «إذا سمعت في بعض عبارات بعض السلف: إنما نؤمن بأنّ له وجهاً لا كالوجوه، ويداً لا كالأيدي، فلا تظن أنهم أرادوا أنّ ذاته العلية منقسمة إلى أجزاء وأبعاض، فجزء منها يد وجزء منه وجه، غير أنه لا يشابه الأيدي والوجوه الّتي للخلق .
حاشاهم من ذلك، وما هذا إلاّ التشبيه بعينه، وإنما أرادوا بذلك أنّ لفظ الوجه واليد قد استعمل في معنى من المعاني وصفة من الصفات الّتي تليق بالذات العلية، كالعظمة والقدرة، غير أنهم يتورعون عن تعيين تلك الصفة تهيباً من التهجم على ذلك المقام الأقدس، وانتهز المجسمة والمشبهة مثل هذه العبارة فغرروا بها العوام، وخدعوا بها الأغمار من الناس، وحملوها على الأجزاء فوقعوا في حقيقة التجسيم والتشبيه، وتبرأوا من اسمه، وليس يخفى نقدهم المزيف على صيارفة العلماء وجهابذة الحكماء»(1) .
وقد صرح بما ذكرنا ـ الأخذ بالمفاهيم اللغوية يلازم الجهة والتجسيم ـ ناصر ابن تيمية في جميع المواقف (إلاّ في موقف أو موقفين) الشيخ محمد أبو زهرة حيث لم يستطع أن يستر الحقيقة، فقال: «ولا تتسع عقولنا لإدراك الجمع بين الإشارة الحسية بالأصابع والإقرار بأنه في السماء، وأنه يستوي على العرش، وبين تنزيهه المطلق عن الجسمية والمشابهة للحوادث. وإن التأويل (حملها على المجاز و الكناية) بلا شك في هذا يقرب العقيدة الى المدارك البشرية، ولا يصح أن يكلف الناس ما لا يطيقون، وإذا كان ابن تيمية قد اتسع عقله للجمع بين الإشارة الحسية وعدم الحلول في مكان والتنزيه المطلق، فعقول الناس لا تصل إلى سعة أُفقه إن كان كلامه مستقيماً»(2) .
يقول أيضاً: «ومهما حاولوا نفي التشبيه فإنّه لاصق بهم، فإذا جاء ابن
________________________________________
1. فرقان القرآن ص 80 - 81 .
2. ابن تيمية، حياته وعصره ص 270 .
________________________________________
أقول: ليس ابن تيمية فريداً في هذا الباب، بل المذهب الّذي أرسى قواعده شيخه ابن حنبل من التعبد بالظواهر بحرفيتها ومعانيها التصورية لا ينفك عن التجسيم والتشبيه، ومهما حاولوا الفرار عنه وقعوا فيه من حيث لا يشعرون. نعم حاول ابن الجوزي أن يدافع عن أُستاذ مذهبه فوجّه اللوم إلى تلاميذه، فقال: «رأيت من أصحابنا من تكلم في الأُصول بما لا يصلح، وانتدب للتصنيف ثلاثة: أبو عبداللّه بن حامد(2) وصاحبه القاضي (أبو يعلي) (3) وابن الزاغواني(4)، فصنّفوا كتباً شانوا بها المذهب، ورأيتهم قد نزلوا إلى مرتبة العوام فحملوا الصفات على مقتضى الحس; فسمعوا أنّ اللّه سبحانه وتعالى خلق آدم ـ عليه السَّلام ـ على صورته، فأثبتوا له صورة ووجهاً زائداً على الذات، وعينين وفماً ولهوات وأضراساً وأضواءً لوجهه، ويدين وأصابع وكفاً وخنصراً وإبهاماً وصدراً وفخذاً وساقين ورجلين، وقالوا ما سمعنا بذكر الرأس .
وقد أخذوا بالظاهر في الأسماء والصفات، فسموها بالصفات تسمية مبتدعة، ولا دليل لهم في ذلك من النقل ولا من العقل، ولم يلتفتوا إلى
________________________________________
1. ابن تيمية حياته وعصره ص 272 - 273 .
2. شيخ الحنابلة في عصره، البغدادي، الوراق، المتوفى سنة 403 له كتاب في أصول الإعتقاد سماه «شرح أُصول الدين» وفيه أقوال تدل على التشبيه والتجسيم.
3. القاضي أبو يعلى محمد الحسين بن خلف بن الفراء الحنبلي المتوفى سنة 458 وقد تكلم في أُصول الإعتقاد كلاماً تبع أُستاذه ابن حامد وأكثر من التشبيه والتمثيل حتّى قال فيه بعض العلماء:
«لقد شان أبويعلى الحنابلة شيئاً لا يغسله ماء البحار» .
4. هو أبو الحسن علي بن عبيداللّه بن نصر الزاغواني الحنبلي المتوفى سنة 527 وله كتاب في أصول الإعتقاد اسمه «الإيضاح» قال فيه بعض العلماء: «إنّ فيه من غرائب التشبيه ما يحار فيه النبيه» .
________________________________________
ثم يتحرجون من التشبيه ويأنفون من إضافته إليهم، ويقولون نحن أهل السنة، وكلامهم صريح في التشبيه، ولقد تبعهم خلق من العوام، وقد نصحت التابع والمتبوع وقلت لهم: يا أصحابنا أنتم أصحاب نقل واتّباع، وإمامكم الأكبر أحمد بن حنبل ـ رحمة اللّه ـ يقول وهو تحت السياط: «كيف أقول ما لم يقل به» فإياكم أن تبتدعوا في مذهبه ما ليس منه .
ثم قلتم في أن الأحاديث تحمل على ظاهرها، فظاهر القدم: الجارحة، ومن قال استوى بذاته المقدسة فقد أجراه سبحانه مجرى الحسيات، وينبغي أن لا يحمل ما لا يثبته الأصل وهو العقل، فإنّا به عرفنا اللّه وحكمنا له بالقدم، فلو أنكم قلتم نقرأ الأحاديث ونسكت، لما أنكر عليكم، وإنما حملكم إياه على الظاهر قبيح، فلا تُدخلوا في مذهب هذا الرجل الصالح السلفي ما ليس فيه»(1) .
أقول: عزب عن ابن الجوزي الحنبلي أنّ إمامه هو الّذي دعم هذه الفكرة في كتبه، وأنّه هو الّذي حشا كتبه بأحاديث التجسيم والتشبيه، ومن اراد الوقوف عليها، فليرجع إلى كتاب السنة الّذي رواه عنه ابن عبداللّه، وقد روينا قسماً وافراً من رواياته في الجزء الأول(2) .
نعم، قسَّم عز بن عبدالسلام الحشوية وقال بأنهم على ضربين:
________________________________________
1. ابن تيمية، حياته وعصره، ص 273 ـ 274 نقلا عن دفع شبهة التشبيه لابن الجوزي، ونقله ملخصاً الشيخ سلامة في فرقان القرآن ص 82 .
2. بحوث في الملل والنحل ج 1 ص 130 ـ 143 .
________________________________________
والحق أنّ الحشوية بأجمعهم مجسّمة، والتسمك بمذهب السلف واجهة ستروا بها قبح عقيدتهم، ولو رفع الستر لبان أنهم مجسمة ومشبهة،وفي هذاالصدد يقول الزمخشري :
وحصيلة البحث أن الجمود على الظواهر عبارة عن الجمود على ظواهرها الحرفيةو ولا شك أنه يجر إلى الكفر أحياناً، فمن جمد على ظاهر قوله سبحانه: (ليس كمثله شيء) يجب عليه أن يقول: إنّ للّه مثلا وليس كهذا المثل شيء، كما أنّ التأويل ضلال، والمراد منه هو العدول عن الظواهر
________________________________________
1. نقض المنطق ص 119، كما في كتاب «ابن تيمية» لمحمد أبي زهرة.
2. فرقان القرآن ص 98 .
________________________________________
فعلى العالم الباحث أن يمعن النظر في الصفات الخبرية الّتي جاءت في الكتاب والسنة، ويتلقاها آيات متشابهة، ويمعن في الآيات المحكمة حتّى يزيل عنها التشابه. «ومن تتبّع براهين القرآن واستقرأ آياته العظام وجد كثيراً مما تشابه فيه، ورأى كثيراً منه محكماً، وهو ما كان من المجاز البيّن الشائع في لغة العرب، وعلى قدر الرسوخ في العلم يكون زوال التشابه أو أكثره عن الكثير من المتشابه، ولما كان الراسخون في العلم متفاوتين لا جرم تفاوتت أنصباؤهم في زوال التشابه عنهم...»(1) .
________________________________________
1. كلام الإمام ابن دقيق العيد، كما في فرقان القرآن ص 97 .
(121)
لا يشك من نظر إلى ما نقلناه عن ابن تيمية في مواضع متعددة من رسائله وكتبه في أنه صريح في التجسيم والتشبيه، خصوصاً أنه يصرح بأنه تصحّ الإشارة الحسية بالأصابع إليه، ولا هدف له من جمع كل ما ورد في ذلك المجال من غثّ وسمين وصحيح وزائف. إلاّ إثبات أن هذه الصفات تجري عليه سبحانه بمعانيها اللغوية، غير أنّ تذرعه بلفظ «بلا كيف» أو «بلا تمثيل» أو ما يقاربهما ربما يوجب عدم عدّه من المجسّمة والمشبهة، لأنّه يقول بأنّ له سبحانه هذه الصفات لا كصفات المخلوقين، ولكن هذا التذرّع واجهة يريد به تبرير توصيفه سبحانه بها بمعانيها اللغوية، وعدم اتهامه بالقول بالتجسيم والتشبيه، ولكنها لا تفيد شيئاً وذلك:نظرية ابن تيمية تلازم الجهة والتجسيم
إنّ هذه الصفات كاليد والرجل والنزول والجلوس موضوعة لغةً على معانيها المتكيفة بكيفيات جسمانية، فاليد هي الجارحة المعروفة من الإنسان والحيوان، وهكذا الرجل والقدم، ومثلها النزول، فإنها موضوعة للحركة من العالي إلى السافل، والحركة من صفات الجسم، فالكيفية مقوّمة لمعاني هذه
________________________________________
(122)
الألفاظ والصفات، فاليد والرجل بلا كيفية ليستا يداً ورجلا بالمعنى اللغوي المتبادر عرفاً، وعلى ضوء ذلك فليس هنا إلاّ سلوك أحد طريقين:1- جريها بنفس معانيها اللغوية الّتي تتبادر منها المفاهيم المتكيفة، فهو نفس القول بالتجسيم .
2- جريها بمفاهيمها المجازية، ككون اليد كناية عن القدرة، كما في قوله سبحانه: (بَلْ يَدَاهُ مَبْسوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيفَ يَشاء)(1)، فهذا هو قول المؤوّلة، أو المعطلة باصطلاح ابن تيمية، وليس ههنا معنى ثالث ينطبق على ما يتبنّاه ابن تيمية، وهو إجراؤها على اللّه بنفس مفاهيمها، لكن من غير تكييف، وذلك لما عرفت أنّ مفاهيمها متقوّمة بالتكييف والتمثيل، فلو حذفنا الهيئة والكيفية من اليد، فلا يبقي منها شيء، كما أنّا لو حذفنا الحركة الحسية من النزول لا يبقى منه شىء، إلاّ إذا حملا على الكناية والتأويل، وهو ما لا يقبله ابن تيمية وأتباعه .
ولو صحّ حمل هذه المفاهيم عليه سبحانه بالتذرّع بـ «بلا تكيف» و «لا تمثيل» لصحّ توصيفه سبحانه بكل شيء فيه أدنى كمال، ونقول: إنّه جسم لا كالأجسام، وله قلب لا كهذه القلوب، وله لسان ناطق لا كهذه الألسنة.
وخلاصة القول: إنّ ابن تيمية يرى نفسه بين أمرين:
أحدهما: القرآن بظواهره الحرفية حجة لا يصحّ لأحد تأوليها أو حملها على الكناية والمجاز .
ثانيهما: إنَّ القرآن صريح في أنّه ليس كمثله شيء، وأنّ المشركين ما قدروا اللّه حق قدره، إلى كثير من آيات التنزيه.
فعند ذلك يريد أن يجمع بين الأمرين باللجوء إلى أنّ المقصود ما يناسب ساحته، زاعماً بأنّه ينجيه عن القول بالجهة والتجسيم، مع أنّه ليس لنا إلاّ اختيار أحد الأمرين: الأخذ بالمفاهيم اللغوية بلا تأويل ومرجعه إلى
________________________________________
1. سورة المائدة: الآية 64 .
________________________________________
(123)
التجسيم، أو الإمعان في الآيات والآثار الصحيحة وتفسيرها حسب الدلالة التصديقية، بالمعاني الكنائية أو المجازية أو غير ذلك .وأمّا ما ادّعاه من أنّ ما ذكره نفس معتقد السلف فقد أجاب عنه العلامة الشيخ سلامة القضاعي العزامي الشافعي (ت 1379 هـ) قال: «إذا سمعت في بعض عبارات بعض السلف: إنما نؤمن بأنّ له وجهاً لا كالوجوه، ويداً لا كالأيدي، فلا تظن أنهم أرادوا أنّ ذاته العلية منقسمة إلى أجزاء وأبعاض، فجزء منها يد وجزء منه وجه، غير أنه لا يشابه الأيدي والوجوه الّتي للخلق .
حاشاهم من ذلك، وما هذا إلاّ التشبيه بعينه، وإنما أرادوا بذلك أنّ لفظ الوجه واليد قد استعمل في معنى من المعاني وصفة من الصفات الّتي تليق بالذات العلية، كالعظمة والقدرة، غير أنهم يتورعون عن تعيين تلك الصفة تهيباً من التهجم على ذلك المقام الأقدس، وانتهز المجسمة والمشبهة مثل هذه العبارة فغرروا بها العوام، وخدعوا بها الأغمار من الناس، وحملوها على الأجزاء فوقعوا في حقيقة التجسيم والتشبيه، وتبرأوا من اسمه، وليس يخفى نقدهم المزيف على صيارفة العلماء وجهابذة الحكماء»(1) .
وقد صرح بما ذكرنا ـ الأخذ بالمفاهيم اللغوية يلازم الجهة والتجسيم ـ ناصر ابن تيمية في جميع المواقف (إلاّ في موقف أو موقفين) الشيخ محمد أبو زهرة حيث لم يستطع أن يستر الحقيقة، فقال: «ولا تتسع عقولنا لإدراك الجمع بين الإشارة الحسية بالأصابع والإقرار بأنه في السماء، وأنه يستوي على العرش، وبين تنزيهه المطلق عن الجسمية والمشابهة للحوادث. وإن التأويل (حملها على المجاز و الكناية) بلا شك في هذا يقرب العقيدة الى المدارك البشرية، ولا يصح أن يكلف الناس ما لا يطيقون، وإذا كان ابن تيمية قد اتسع عقله للجمع بين الإشارة الحسية وعدم الحلول في مكان والتنزيه المطلق، فعقول الناس لا تصل إلى سعة أُفقه إن كان كلامه مستقيماً»(2) .
يقول أيضاً: «ومهما حاولوا نفي التشبيه فإنّه لاصق بهم، فإذا جاء ابن
________________________________________
1. فرقان القرآن ص 80 - 81 .
2. ابن تيمية، حياته وعصره ص 270 .
________________________________________
(124)
تيمية من بعدهم بأكثر من قرن فقال: «إنّه اشتراك في الإسم لا في الحقيقة» فإن فسّروا الاستواء بظاهر اللفظ فإنه الإقعاد والجلوس، والجسمية لازمة لا محالة، وإن فسروه بغير المحسوس فهو تأويل، وقد وقعوا فيهما نهوا عنه، وفي الحالين قد خالفوا التوقف الّذي سلكه السلف»(1) .أقول: ليس ابن تيمية فريداً في هذا الباب، بل المذهب الّذي أرسى قواعده شيخه ابن حنبل من التعبد بالظواهر بحرفيتها ومعانيها التصورية لا ينفك عن التجسيم والتشبيه، ومهما حاولوا الفرار عنه وقعوا فيه من حيث لا يشعرون. نعم حاول ابن الجوزي أن يدافع عن أُستاذ مذهبه فوجّه اللوم إلى تلاميذه، فقال: «رأيت من أصحابنا من تكلم في الأُصول بما لا يصلح، وانتدب للتصنيف ثلاثة: أبو عبداللّه بن حامد(2) وصاحبه القاضي (أبو يعلي) (3) وابن الزاغواني(4)، فصنّفوا كتباً شانوا بها المذهب، ورأيتهم قد نزلوا إلى مرتبة العوام فحملوا الصفات على مقتضى الحس; فسمعوا أنّ اللّه سبحانه وتعالى خلق آدم ـ عليه السَّلام ـ على صورته، فأثبتوا له صورة ووجهاً زائداً على الذات، وعينين وفماً ولهوات وأضراساً وأضواءً لوجهه، ويدين وأصابع وكفاً وخنصراً وإبهاماً وصدراً وفخذاً وساقين ورجلين، وقالوا ما سمعنا بذكر الرأس .
وقد أخذوا بالظاهر في الأسماء والصفات، فسموها بالصفات تسمية مبتدعة، ولا دليل لهم في ذلك من النقل ولا من العقل، ولم يلتفتوا إلى
________________________________________
1. ابن تيمية حياته وعصره ص 272 - 273 .
2. شيخ الحنابلة في عصره، البغدادي، الوراق، المتوفى سنة 403 له كتاب في أصول الإعتقاد سماه «شرح أُصول الدين» وفيه أقوال تدل على التشبيه والتجسيم.
3. القاضي أبو يعلى محمد الحسين بن خلف بن الفراء الحنبلي المتوفى سنة 458 وقد تكلم في أُصول الإعتقاد كلاماً تبع أُستاذه ابن حامد وأكثر من التشبيه والتمثيل حتّى قال فيه بعض العلماء:
«لقد شان أبويعلى الحنابلة شيئاً لا يغسله ماء البحار» .
4. هو أبو الحسن علي بن عبيداللّه بن نصر الزاغواني الحنبلي المتوفى سنة 527 وله كتاب في أصول الإعتقاد اسمه «الإيضاح» قال فيه بعض العلماء: «إنّ فيه من غرائب التشبيه ما يحار فيه النبيه» .
________________________________________
(125)
النصوص الصارفة عن الظواهر إلى المعاني الواجبة للّه تعالى، ولا إلى إلغاء ما توجبه الظواهر من سمات الحدث، ولم يقنعوا أن يقولوا صفة فعل حتّى قالوا: صفة ذات، ثم لمّا أثبتوا أنها صفات، قالوا: «لا نحملها على توجيه اللغة، مثل يد على نعمة وقدرة، ولا مجيء وإتيان على معنى بر ولطف، ولا ساق على شدة، بل قالوا: نحملها على ظواهرها المتعارفة، والظاهر هو المعهود من نعوت الآدميين»، والشيء إنّما يحمل على حقيقته إذا أمكن، فإن صرفه صارف حمل على المجاز.ثم يتحرجون من التشبيه ويأنفون من إضافته إليهم، ويقولون نحن أهل السنة، وكلامهم صريح في التشبيه، ولقد تبعهم خلق من العوام، وقد نصحت التابع والمتبوع وقلت لهم: يا أصحابنا أنتم أصحاب نقل واتّباع، وإمامكم الأكبر أحمد بن حنبل ـ رحمة اللّه ـ يقول وهو تحت السياط: «كيف أقول ما لم يقل به» فإياكم أن تبتدعوا في مذهبه ما ليس منه .
ثم قلتم في أن الأحاديث تحمل على ظاهرها، فظاهر القدم: الجارحة، ومن قال استوى بذاته المقدسة فقد أجراه سبحانه مجرى الحسيات، وينبغي أن لا يحمل ما لا يثبته الأصل وهو العقل، فإنّا به عرفنا اللّه وحكمنا له بالقدم، فلو أنكم قلتم نقرأ الأحاديث ونسكت، لما أنكر عليكم، وإنما حملكم إياه على الظاهر قبيح، فلا تُدخلوا في مذهب هذا الرجل الصالح السلفي ما ليس فيه»(1) .
أقول: عزب عن ابن الجوزي الحنبلي أنّ إمامه هو الّذي دعم هذه الفكرة في كتبه، وأنّه هو الّذي حشا كتبه بأحاديث التجسيم والتشبيه، ومن اراد الوقوف عليها، فليرجع إلى كتاب السنة الّذي رواه عنه ابن عبداللّه، وقد روينا قسماً وافراً من رواياته في الجزء الأول(2) .
نعم، قسَّم عز بن عبدالسلام الحشوية وقال بأنهم على ضربين:
________________________________________
1. ابن تيمية، حياته وعصره، ص 273 ـ 274 نقلا عن دفع شبهة التشبيه لابن الجوزي، ونقله ملخصاً الشيخ سلامة في فرقان القرآن ص 82 .
2. بحوث في الملل والنحل ج 1 ص 130 ـ 143 .
________________________________________
(126)
أحدهما «يتحاشى عن الحشو والتشبيه والتجسيم، والآخر تستّر بمذهب السلف، ومذهب السلف إنما هو التوحيد والتنزيه دون التشبيه والتجسيم»(1) .والحق أنّ الحشوية بأجمعهم مجسّمة، والتسمك بمذهب السلف واجهة ستروا بها قبح عقيدتهم، ولو رفع الستر لبان أنهم مجسمة ومشبهة،وفي هذاالصدد يقول الزمخشري :
ولو حنبلياً قلت قالوا بأنني * ثقيل حلولىُّ بغيض مجسم
ويقول أبوبكر ابن العربي في حقهم:قالوا الظواهر أصل لا يجوز لنا * عنها العدول إلى رأي ونظر
بينوا عن الخلق لستم منهم أبداً * ما للأنام ومعلوف من البقر(2)
نعم، الظواهر هي الأصل ولا يجوز لأحد العدول عنه: ولكن الظواهر منها ظاهر حرفي، ابتدائي، تصوري، فهو ليس بحجة أبداً، ومنها ظاهر جملي تصديقي استمراري، وهو الحجة قطعاً، فإذا قلت: رأيت أسداً في الحمام، فالظهور الإبتدائي التصوري الحرفي للفظ الأسد هو الحيوان المفترس، ويقابله الظهور التصديقي الجملي الاستمراري وهو الرجل الشجاع، وهؤلاء الذين يضلون العوام يغترون بالقسم الأول من الظاهر، دون الثاني. وإذا قال المحققون: ظواهر الكتاب والسنة حجة لا يصح العدول عنها ولا يجوز لأحد تأويلها، يريدون الظهورات التصديقية الّتي تنعقد للكلام بعد الإمعان في القرائن المتصلة أو المنفصلة، ولكن من يتبع الظواهر الحرفية فقد ضل، وغفل عن أن كلام العرب والبلغاء والفصحاء مليء بالمجازات والكنايات .بينوا عن الخلق لستم منهم أبداً * ما للأنام ومعلوف من البقر(2)
وحصيلة البحث أن الجمود على الظواهر عبارة عن الجمود على ظواهرها الحرفيةو ولا شك أنه يجر إلى الكفر أحياناً، فمن جمد على ظاهر قوله سبحانه: (ليس كمثله شيء) يجب عليه أن يقول: إنّ للّه مثلا وليس كهذا المثل شيء، كما أنّ التأويل ضلال، والمراد منه هو العدول عن الظواهر
________________________________________
1. نقض المنطق ص 119، كما في كتاب «ابن تيمية» لمحمد أبي زهرة.
2. فرقان القرآن ص 98 .
________________________________________
(127)
التصديقية الّتي تتبادر إلى أذهان أهل اللغة بعد الإمعان في سياق الكلام، والتأمّل في نظائره في كلمات العرب. فلو استقرّ ظهور جملة في شيء بهذا الشرط، فالعدول عنه يوجب مسخ كلام اللّه ومحو الشريعة.فعلى العالم الباحث أن يمعن النظر في الصفات الخبرية الّتي جاءت في الكتاب والسنة، ويتلقاها آيات متشابهة، ويمعن في الآيات المحكمة حتّى يزيل عنها التشابه. «ومن تتبّع براهين القرآن واستقرأ آياته العظام وجد كثيراً مما تشابه فيه، ورأى كثيراً منه محكماً، وهو ما كان من المجاز البيّن الشائع في لغة العرب، وعلى قدر الرسوخ في العلم يكون زوال التشابه أو أكثره عن الكثير من المتشابه، ولما كان الراسخون في العلم متفاوتين لا جرم تفاوتت أنصباؤهم في زوال التشابه عنهم...»(1) .
________________________________________
1. كلام الإمام ابن دقيق العيد، كما في فرقان القرآن ص 97 .
التعلیقات