ثواب البكاء أو التباكي على مصائب أهل البيت
السيّد بن طاووس
منذ 11 سنةثواب البكاء أو التباكي على مصائب أهل البيت
الحمد لله المتجلّي لعباده من أفق الألباب ، المجلي عن مراده بمنطق (1) السنّة والكتاب ، الذي نزّه أولياءه عن دار الغرور ، وسما بهم إلى أنوار السرور.
ولم يفعل ذلك محاباةً (2) لهم على الخلائق ، ولا إلجاءً لهم (3) إلى جميل الطرائق (4).
بل عرف منهم قبولاً للألطاف ، واستحقاقاً لمحاسن الأوصاف ، فلم يرض لهم التعلق بحبال الإهمال ، بل وفقهم للتخلق بكمال الأعمال.
حتّى عزفت (5) نفوسهم عمّن سواه ، وعرفت أرواحهم شرف رضاه ، فصرفوا أعناق قلوبهم إلى ظلّه ، وعطفوا آمالهم نحو كرمه وفضله.
فترى لديهم فرحة المصدق بدار بقائه ، وتنظر عليهم مسحة المشفق من أخطار لقائه.
ولا تزال أشواقهم متضاعفة إلى ما قرب من مراده ، وأريحيتهم (6) مترادفه نحو إصداره وإيراده ، وأسماعهم مصغية إلى استماع (7) أسراره ، وقلوبهم مستبشرة بحلاوة تذكاره.
فحياهم منه بقدر ذلك التصديق ، وحباهم من لدنه حباء البر الشفيق.
فما أصغر عندهم كلّ ما شغل عن جلاله ، وما أتركهم لكلّ ما باعد من وصاله ، حتّى أنّهم ليتمتّعون بأنس ذلك الكرم والكمال ، ويكسوهم أبداً حلل المهابة والجلال.
فإذا عرفوا أن حياتهم مانعة عن (8) متابعة مرامه ، وبقاءهم حائل بينهم وبين إكرامه ، خلعوا أثواب البقاء ، وقرعوا أبواب اللقاء ، وتلذذوا في طلب ذلك النجاح ، ببذل النفوس والأرواح ، وعرضوها لخطر السيوف والرماح.
وإلى ذلك التشريف الموصوف سمت نفوس أهل الطفوف ، حتّى تنافسوا في التقدم إلى الحتوف ، وأصبحوا (9) نهب الرماح والسيوف.
فما أحقّهم بوصف السيّد المرتضى علم الهدى (10) رضوان الله عليه ، وقد مدح من أشرنا إليه فقال :
لهم جسوم (11) على الرمضاء مهملة |
وأنفس في جوار الله يقريها |
|
كأن قاصدها بالضر نافعها |
وأن (12) قاتلها بالسيف محييها |
ولولا امتثال أمر السنّة والكتاب ، في لبس شعار الجزع والمصاب ، لأجل ما طمس من أعلام الهداية ، وأسس من أركان الغواية (13) ، وتأسّفاً على ما فاتنا من تلك السعادة ، وتلهفاً على أمثال تلك الشهادة ، وإلّا كنا قد لبسنا لتلك النعمة الكبرى أثواب المسرة والبشرى.
وحيث أن في الجزع رضىً لسلطان المعاد ، وغرضاً لأبرار العباد ، فها نحن قد لبسنا سربال الجزوع ، وآنسنا بإرسال الدموع ، وقلنا للعيون : جودي بتواتر البكاء ، وللقلوب : جدي جد ثواكل النساء.
فإن ودائع الرسول الرؤوف أضيعت (14) يوم الطفوف ، ورسوم وصيته بحرمه وأبنائه طمست بأيدي أمّته وأعدائه.
فيالله من تلك الفوادح المقرحة للقلوب ، والجوائح المصرحة (15) بالكروب ، والمصائب المصغرة كل بلوى ، والنوائب المفرقة شمل التقوى ، والسهام التي أراقت دم الرسالة ، والأيدي التي ساقت سبي الجلالة ، والرزية التي نكست رؤوس الأبدال ، والبلية التي سلبت نفوس خير الآل ، والشماتة التي ركست (16) أسود الرجال (17) ، والفجيعة (18) التي بلغ رزؤها إلى جبرائيل ، والفظيعة التي عظمت على الربّ الجليل.
وكيف لا يكون كذلك وقد أصبح لحم رسول الله مجرّداً على الرمال ، ودمه الشريف مسفوكاً بسيوف الضلال ، ووجوه بناته مبذولة لعين السائق والشامت ، ومسلبهن بمنظر من الناطق والصامت ، وتلك الأبدان المعظمة عارية من الثياب ، والأجساد المكرمة جاثية على التراب ؟!!
مصائب بددت شمل النبي ففي |
قلب الهدى أسهم يطفن (19) بالتلف |
|
وناعيات إذا ما مل ذو وله |
سرت عليه بنار الزن والأسف |
فيا ليت لفاطمة وأبيها عيناً تنظر إلى بناتها وبنيها : ما بين مسلوب ، وجريح ، ومسحوب ، وذبيح ، وبنات النبوّة : مشققات الجيوب ، ومفجوعات بفقد المحبوب ، وناشرات للشعور ، وبارزات من الخدور ، ولاطمات للخدود ، وعادمات للجدود ، ومبديات للنياحة والعويل ، وفاقدات للمحامي والكفيل.
فيا أهل البصائر من الأنام ، ويا ذوي النواظر والأفهام ، حدثوا نفوسكم بمصائب هاتيك العترة ، ونوحوا بالله لتلك الوحدة والكثرة ، وساعدوهم بموالاة الوجد والعبرة ، وتأسفوا على فوات تلك النصرة.
فإن نفوس أولئك الأقوام ودائع سلطان الأنام ، وثمرة فؤاد الرسول ، وقرة عين الزهراء البتول ، ومن كان يرشف بفمه الشريف ثناياهم ، ويفضل على أمته أمهم وأباهم.
إن كنت في شك فسل عن حالهم |
سنن الرسول ومحكم التنزيل |
|
فهناك أعدل شاهدٍ لذوي الحجى |
وبيان فضلهم على التفصيل (20) |
|
ووصيةٌ سبقت لأحمد فيهم |
جاءت إليه على يدي جبريل |
وكيف طابت النفوس (21) مع تداني الأزمان بمقابلة إحسان جدهم (22) بالكفران ، وتكدير عيشه بتعذيب ثمرة فؤاده ، وتصغير قدره بإراقة دماء أولاده ؟!
وأين موضع القبول لوصاياه بعترته وآله ؟ وما الجواب عند لقائه وسؤاله ؟ وقد هدم القوم ما بناه ! ونادى الاسلام واكرباه !
فيالله من قلبٍ لا يتصدع لتذكار تلك الأمور ! ويا عجباه من غفلة أهل الدهور ! وما عذر أهل الاسلام والإيمان في إضاعة أقسام الاحزان !
ألم يعلموا أن محمّداً موتورٌ وجيع ؟ وحبيبه مقهورٌ صريعٌ ؟ والملائكة يعزونه على جليل مصابه ؟ والأنبياء يشاركونه في أحزانه وأوصابه ؟
فيا أهل الوفاء لخاتم الأنبياء ، علام لا تواسونه في البكاء ؟!
بالله عليك أيّها المحبّ لولد الزهراء ، نح معها على المنبوذين بالعراء ، وجد ويحك بالدموع السجام ، وابك على ملوك الاسلام ، لعلّك تحوز ثواب المواسي لهم في المصاب ، وتفوز بالسعادة يوم الحساب.
فقد روي عن مولانا الباقر عليه السلام أنّه قال : « كان زين العابدين عليه السلام يقول : أيّما مؤمن ذرفت (23) عيناه لقتل الحسين عليه السلام حتّى تسيل على خدّه بوأه الله بها في الجنّة غرفاً يسكنها أحقاباً (24) ، وأيّما مؤمن ذرفت عيناه حتّى تسيل على خدّه فيما مسنا من الأذى من عدوّنا في الدنيا بوأه الله منزل صدقٍ ، وأيّما مؤمن مسّه أذىً فينا صرف الله عن وجهه الأذى وآمنه من سخط النار يوم القيامة ».
وروى عن مولانا الصادق عليه السلام أنه قال : « من ذكرنا عنده ففاضت عيناه ولو مثل جناح الذبابة غفر الله له ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر ».
وروي أيضاً عن آل الرسول عليهم السلام أنّهم قالوا : « من بكى وأبكى فينا مائة فله الجنّة (25) ، ومن بكى وأبكى خمسين فله الجنة ، ومن بكى وأبكى ثلاثين فله الجنّة ، ومن بكى وأبكى عشرين فله الجنّة (26) ، ومن بكى وأبكى عشرة فله الجنّة ، ومن بكى وأبكى واحداً فله الجنّة ، ومن تباكى فله الجنة ».
قال علي بن موسى بن جعفر بن محمّد بن طاووس الحسيني ـ جامع هذا الكتاب ـ : إن من أجل البواعث لنا على سلوك هذا الكتاب (27) أنني (28) لما جمعت كتاب : مصباح الزائر وجناح المسافر (29) ، ورأيته قد احتوى على أقطار محاسن الزيارات ومختار أعمال تلك الأوقات ، فحامله مستغنٍ عن نقل مصباح لذلك الوقت الشريف ، أو حمل مزارٍ كبير أو لطيفٍ.
أحببت أيضاً أن يكون حامله مستغنياً عن نقل مقتلٍ في زيارة عاشوراء إلى مشهد (30) الحسين صلوات الله عليه.
فوضعت هذا الكتاب ليضمّ إليه ، وقد جمعت ها هنا ما يصلح لضيق وقت الزوار ، وعدلت عن الإطناب والإكثار ، وفيه غنية لفتح أبواب الأشجان ، وبغية لنجح أرباب الإيمان ، فإننا (31) وضعنا في أجساد معناه روح ما يليق بمعناه.
وقد ترجمته بكتاب : الملهوف على قتلى الطفوف (32) ، ووضعته على ثلاثة مسالك ، مستعيناً بالرؤوف المالك (33).
الهوامش
1. ر : بنطق.
2. ع : بهم محاباةً.
والمحاباة : العطاء بلا من ولاجزاء.
3. ر : ولا إلجاءهم.
4. ر : الطريق.
5. ع : فرغت. وعزفت بمعنى : سلت.
6. ر : وأريحتهم. والأريحي : الواسع الخلق النشيط إلى المعروف ، وهو أيضاً : السخي الذي يرتاح للندى ، وراح لذلك الأمر رواحاً وأريحية ورياحةً : أشرق له وفرح به وأخذته له خفة وأريحية ، لسان العرب ٥ / ٣٥٩ روح.
7. ر : اسماع.
8. ر : من.
9. ع : وأضحوا.
10. أبو القاسم علي بن الحسين بن موسى بن محمد بن موسى بن إبراهيم ابن الإمام الكاظم عليه السلام ، نقيب الطالبيين ، وأحد الأئمة في علم الكلام والأدب والشعر ، مولده ووفاته ببغداد ، روى عن جماعة كالشيخ المفيد والحسين بن علي بن بابويه ، وروى عنه جماعة كسلًار وأبي الصلاح الحلبي والخطيب البغدادي والقاضي ابن قدامة ، له عدة كتب ، منها : الشافي في الإمامة ، توفي سنة ٤٣٣ هـ وقيل : ٤٣٦ هـ. رياض العلماء ٤ / ١٤ ، وفيات الأعيان ٣ / ٣١٣ ، الكنى والألقاب ٢ / ٤٣٩ ، ميزان الإعتدال ٢ / ٢٢٣ ، لسان الميزان ٤ / ٢٢٣ ، جمهرة الأنساب : ٥٦ ، الأعلام ٤ / ٢٧٨.
11. ع : نفوس ، بدلاً من : لهم جسوم.
12. ر : أو أن.
13. ر : الغراية.
14. ع : أبيحت.
15. ع : والجرائح المصرخة. والجوائح جمع جائحة ، وهي : الشدة والنازلة العظيمة التي تجتاح المال ، وتستعمل مجازاً لكل شدة.
16. الركس : قلب الشيء ورده مقلوباً.
17. من قوله : والشماتة ، إلى هنا ، لم يرد في ر.
18. ر : والنجيعة.
19. ر : ينطق.
20. ع : الفصيل.
21. ع : فكيف طابت للنفوس.
22. ع : مقابلة احسان أبيهم.
23. أي : صبت دمعاً وسالت.
24. جمع حقب بضمتين أي : زماناً كثيراً ، أحقاباً لا انقطاع لها ، كلما مضى حقب جاء بعده حقب آخر.
25. ع : فينا مائة ضمنا له على الله الجنة ، والمثبت من ر. ب.
26. قوله : ومن بكى وأبكى عشرين فله الجنة ، لم يرد في ع. ر ، وأثبتناه من ب.
27. ر : الباب.
28. ر : أني.
29. هو أول تصانيفه ، في عشرين فصلاً ، أوله في مقدمات السفر وآدابه ، والأخير في زيارة أولاد الأئمة والمؤمنين ، ونسخه شائعة.
30. ر : زيارة مشهد.
31. ر : فإنا.
32. ع : اللهوف على قتلى الطفوف.
33. قوله : مستعيناً بالرؤوف المالك ، لم يرد في ر.
مقتبس من كتاب : [ الملهوف على قتلى الطّفوف ] / الصفحة : 81 ـ 87
التعلیقات