القول بعدالة جميع الصّحابة
السيد علي الميلاني
منذ 11 سنةالقول بعدالة جميع الصحابة
إدّعاء الإجماع على عدالة جميع الصحابة
يقول ابن حجر العسقلاني : اتّفق أهل السنّة على أنّ الجميع عدول ولم يخالف في ذلك إلّا شذوذ من المبتدعة (1).
لاحظوا هذه الكلمة : لم يخالف في ذلك إلّا شذوذ من المبتدعة.
ويقول الحافظ ابن حزم : الصحابة كلّهم من أهل الجنّة قطعاً (2).
ويقول الحافظ ابن عبد البر : ثبتت عدالة جميعهم ... ، لإجماع أهل الحقّ من المسلمين وهم أهل السنّة والجماعة (3).
لاحظوا هنا ، أهل العلم يعلمون بأنّ الحافظ ابن عبد البرّ صاحب الاستيعاب متّهم بينهم بالتشيّع ، وممّن يتّهمه بهذا ابن تيميّة في منهاج السنّة ، لاحظوا ماذا يقول : لإجماع أهل الحقّ من المسلمين وهم أهل السنّة والجماعة ، فيظهر أنّ الإتّهام بالتشيّع متى يكون ، يكون حيث يروي ابن عبد البرّ روايةً تنفع الشيعة ، يروي منقبة لأمير المؤمنين ربّما لا يرتضيها ذلك الشخص ، فيتّهم ابن عبد البرّ بالتشيّع ، وإلّا فهو يقول : لإجماع أهل الحقّ من المسلمين وهم أهل السنّة والجماعة على أنّهم كلّهم عدول.
وقال ابن الأثير في أُسد الغابة : كلّهم عدول لا يتطرّق إليهم الجرح (4).
في هذه النصوص أمران :
الأمر الأوّل : هو القول بعدالة الصحابة كلّهم.
الأمر الثاني : دعوى الإجماع على عدالة الصحابة كلّهم.
مناقشة الإجماع :
في مقابل هذا القول نجد النصوص التالية : يقول ابن الحاجب في مختصر الاُصول : الأكثر على عدالة الصحابة. والحال قال ابن حجر : إنّ القول بعدالتهم كلّهم مجمع عليه وما خالف إلّا شذوذ من المبتدعة.
يقول ابن الحاجب : الأكثر على عدالة الصحابة ، وقيل : هم كغيرهم ، وقيل قول ثالث : إلى حين الفتن ، فلا يقبل الداخلون ، لأنّ الفاسق غير معيّن ، قول رابع : وقالت المعتزلة : عدول إلّا من قاتل علياً (5).
إذن ، أصبح الفارق بين المعتزلة وغيرهم من قاتل علياً.
يقول أهل الحقّ وهم أهل السنّة والجماعة : إنّ من قاتل عليّاً عادل !
ويقول المعتزلة : الذين قاتلوا عليّاً ليسوا بعدول.
هذه عبارة مختصر الاُصول لابن الحاجب.
وراجعوا أيضاً غير هذا الكتاب من كتب علم الاُصول.
ثمّ إذا دقّقتم النظر ، لرأيتم التصريح بفسق كثير من الصحابة ، من كثير من أعلام القوم ، أقرأ لكم نصّاً واحداً.
يقول سعد الدين التفتازاني ، وهذا نصّ كلامه ، ولاحظوا عبارته بدقّة : إنّ ما وقع بين الصحابة من المحاربات والمشاجرات على الوجه المسطور في كتب التواريخ ، والمذكور على ألسنة الثقات ، يدلّ بظاهره على أنّ بعضهم ـ بعض الصحابة ـ قد حاد عن طريق الحقّ ، وبلغ حدّ الظلم والفسق ، وكان الباعث له الحقد والعناد ، والحسد واللداد ، وطلب الملك والرئاسة (6).
وكما قرأنا في الليلة الماضية ، خاطب أبوبكر معشر المهاجرين : بأنّكم تريدون الدنيا ، وستور الحرير ، ونضائد الديباج ، وتريدون الرئاسة ، وكلّكم يريدها لنفسه ، وكلّكم ورم أنفه.
يقول التفتازاني : وكان الباعث له الحقد والعناد والحسد واللداد ، وطلب الملك والرئاسة ، والميل إلى اللذّات والشهوات.
يقول : إذ ليس كلّ صحابي معصوماً ، ولا كلّ من لقي النبي بالخير موسوماً.
وكان موضوع تعريف ابن حجر العسقلاني : من لقي النبي.
يقول سعد الدين : ليس كلّ من لقي النبي بالخير موسوماً ، إلّا أنّ العلماء لحسن ظنّهم بأصحاب رسول الله ، ذكروا لها محامل وتأويلات بها تليق ، وذهبوا إلى أنّهم محدودون عمّا يوجب التضليل والتفسيق ، صوناً لعقائد المسلمين عن الزلل والضلالة في حقّ كبار الصحابة ، سيّما المهاجرين منهم والأنصار ، والمبشّرين بالثواب في دار القرار (7).
ففي هذا النصّ اعتراف بفسق كثير من الصحابة ، واعتراف بأنّهم حادوا عن الحقّ ، بأنّهم ظلموا ، بأنّهم كانوا طلّاب الملك والدنيا ، وبأنّهم وبأنّهم ، إلّا أنّه لابدّ من تأويل ما فعلوا ، لحسن الظنّ بهم !!
فظهر أنّ الإجماع المدّعى على عدالة الصحابة كلّهم ، هذا الإجماع في غير محلّه وباطل ومردود ، ولاسيّما وأنّ مثل سعد الدين التفتازاني وغيره الذين يصرّحون بمثل هذه الكلمات ، هؤلاء مقدّمون زماناً على ابن حجر العسقلاني ، فدعوى الإجماع من ابن حجر ، هذه الدعوى ، مردودة ، ولا أساس لها من الصحّة.
حينئذ يأتي دور البحث عن أدلّة القول بعدالة الصحابة أجمعين ، أيّ أدلّة القول الأوّل.
الإستدلال بالكتاب والسنّة على عدالة جميع الصحابة
استدلّ القائلون بهذا القول ، بآيات من القرآن الكريم ، وبأحاديث ، وبأمر اعتباري ، فتكون وجوه الإستدلال لهذا القول ، ثلاثة وجوه : الكتاب ، السنّة ، والأمر الإعتباري.
لنقرأ نصّ عبارة الحافظ ابن حجر ، عن الحافظ الخطيب البغدادي ، في مقام الإستدلال على هذه الدعوى.
يقول الحافظ ابن حجر : أنّ الخطيب في الكفاية ـ في كتابه الكفاية في علم الدراية ـ أفرد فصلاً نفيساً في ذلك فقال :
عدالة الصحابة ثابتة معلومة ، بتعديل الله لهم ، وإخباره عن طهارتهم ، واختياره لهم ، فمن ذلك قوله تعالى :
الآية الاُولى : ( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّة أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ) (8).
الآية الثانية : ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ) (9).
الآية الثالثة : ( لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ ) (10).
الآية الرابعة : ( السَّابِقُونَ الاَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالاَْنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإحْسَان رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ) (11).
الآية الخامسة : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) (12).
ثمّ الآية الاُخرى : ( لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْوَاناً وَينْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ) إلى قوله تعالى : ( إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ) (13) ، في آيات يطول ذكرها.
ثمّ أحاديث شهيرة ، يكثر تعدادها ، وجميع ذلك يقتضي القطع بتعديلهم ، ولا يحتاج أحد منهم مع تعديل الله له إلى تعديل أحد من الخلق (14).
إذن ، تمّ الإستدلال بالكتاب والسنّة.
وأمّا الإستدلال الإعتباري ، لاحظوا هذا الإستدلال أنّه يقول :
على أنّهم لو لم يرد من الله ورسوله فيهم شيء ممّا ذكرناه ، لأوجبت الحال التي كانوا عليها ، من الهجرة والجهاد ونصرة الإسلام وبذل المهج والأموال وقتل الآباء والأبناء ، والمناصحة في الدين وقوّة الإيمان واليقين ، أوجب كلّ ذلك القطع على تعديلهم ، والإعتقاد بنزاهتهم ، وأنّهم كافّةً أفضل من جميع الخالفين بعدهم ، والمعدّلين الذين يجيؤون من بعدهم ، هذا مذهب كافّة العلماء ومن يعتمد قوله.
ثمّ روى الخطيب البغدادي بسنده إلى أبي زرعة الرازي قال : إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فاعلم أنّه زنديق ، وذلك أنّ الرسول حقّ ، والقرآن حقّ ، وما جاء به حقّ ، وإنّما أدّى إلينا ذلك كلّه الصحابة ، وهؤلاء يريدون أنْ يجرحوا شهودنا ، ليبطلوا الكتاب والسنّة ، والجرح بهم أولى وهم زنادقة (15).
إذن الدليل آياتٌ من القرآن ، وروايات ، وهذا الدليل الإعتباري الذي ذكرناه.
نصّ العبارة ينقلها الحافظ ابن حجر ويعتمد عليها ، ثمّ يضيف الحافظ ابن حجر بعد هذا النصّ ، يقول : والأحاديث الواردة في تفضيل الصحابة كثيرة.
وفرق بين هذه العبارة ، وبين المدّعى ، كان المدّعى عدالة الصحابة كلّهم ، لكنْ تبدّل العنوان ، وأصبح المدّعى : الأحاديث الواردة في تفضيل الصحابة كثيرة.
ثمّ قال ابن حجر : من أدلّها على المقصود : ما رواه الترمذي وابن حبّان في صحيحه من حديث عبدالله بن مغفل قال : قال رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ : « الله الله في أصحابي ، لا تتّخذوهم غرضاً ، فمن أحبّهم فبحبّي أحبّهم ، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ، ومن آذاهم فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى الله ، ومن آذى الله فيوشك أنْ يأخذه » (16).
فهذا حديث من تلك الأحاديث التي أشار إليها الخطيب البغدادي ، ولم يذكر شيئاً منها ، إلّا أنّ أدلّها وأحسنها في نظر ابن حجر العسقلاني هذا الحديث الذي ذكره.
مناقشة الإستدلال :
فنحن إذن لابدّ وأنْ نبحث عن هذه الادلّة ، لنعرف الحقّ من غيره في مثل هذه المسألة المهمّة.
قبل الورود في البحث عن هذه الأدلّة ، أُضيف أنّهم على أساس هذه الأدلّة يقولون بحجيّة سنّة الصحابة ، ويقولون بحجيّة مذهب الصحابي ، ويستدلّون بهذه الأدلّة من الآيات والأحاديث ، مضافاً إلى حديث يعتمد عليه بعضهم في الكتب الاُصوليّة ، وإنْ كان باطلاً من حيث السند عندهم كما سنقرأ ، وهو : « أصحابي كالنجوم فبأيّهم اقتديتم اهتديتم ».
يدلّ هذا الحديث على أنّ كلّ واحد واحد من الصحابة يمكن أن يُقتدى به ، وأن يصل الإنسان عن طريق كلّ واحد منهم إلى الله سبحانه وتعالى ، بأن يكون واسطة بينه وبين ربّه ، كما سنقرأ نصّ عبارة الشاطبي.
وبهذا الحديث ـ أيّ حديث أصحابي كالنجوم ـ تجدون الإستدلال في كتاب المنهاج للقاضي البيضاوي ، وفي التحرير لابن الهمام وفي مسلّم الثبوت وإرشاد الفحول وغير ذلك من الكتب الاُصوليّة ، حيث يبحثون عن سنّة الصحابة وعن حجيّة مذهب الصحابي ، والصحابي كما عرفناه : كلّ من لقي رسول الله ورآه ولو مرّةً واحدةً وهو يشهد الشهادتين.
بل استدلّ الزمخشري بحديث أصحابي كالنجوم في تفسيره الكشّاف ، يقول : فإنْ قلت : كيف كان القرآن تبياناً لكلّ شيء ـ لأنّ الله سبحانه وتعالى يصف القرآن بأنّه تبيان لكلّ شيء ، فإذا كان القرآن تبياناً لكلّ شيء ، فلابدّ وأنْ يكون فيه كلّ شيء ، والحال ليس فيه كثير من الأحكام ، ليس فيه أحكام كثير من الأشياء فيجيب عن هذا السؤال : ـ قلت : المعنى : إنّه بيّن كلّ شيء من أُمور الدين ، حيث كان نصّاً على بعضها ، وإحالة على السنّة حيث أمر باتّباع رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ وطاعته وقال : ( وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى ) (17) ، وحثّاً على الإجماع في قوله : ( وَيَتّبِع غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ ) (18) ، وقد رضي رسول الله لاُمّته اتّباع أصحابه والإقتداء بآثاره في قوله : « أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم » ، فمن ثمّ كان القرآن تبياناً لكلّ شيء (19).
وأمّا التحقيق في الأدلّة التي ذكرها الخطيب البغدادي ، وارتضاها ابن حجر العسقلاني ، وحديث أصحابي كالنجوم ، فيكون على الترتيب التالي :
الآية الاُولى : قوله تعالى : ( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّة أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ) (20).
أوّلاً : الإستدلال بهذه الآية لعِدالة الصحابة أجمعين موقوف على أنْ تكون الآية خاصّة بهم ، والحال أنّ كثيراً من مفسّريهم يقولون بأنّ الآية عامّة لجميع المسلمين.
لاحظوا عبارة ابن كثير يقول : والصحيح أنّ هذه الآية عامّة في جميع الاُمّة (21).
ثانياً : قوله تعالى : ( تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ) في ذيل الآية المباركة حكمه حكم الشرط ، أيّ إنْ كنتم ، أيّ ما دمتم ، وهذا شيء واضح يفهمه كلّ عربي يتلو القرآن الكريم ، ونصّ عليه المفسّرون ، لاحظوا كلام القرطبي : ( تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ) مدحٌ لهذه الاُمّة ما أقاموا على ذلك واتّصفوا به ، فإذا تركوا التغيير ـ أيّ تغيير الباطل ـ وتواطؤوا على المنكر زال عنهم اسم المدح ولحقهم اسم الذمّ ، وكان ذلك سبباً لهلاكهم (22).
وقال الفخر الرازي والنظام النيسابوري : وهذا يقتضي كونهم آمرين بكلّ معروف وناهين عن كلّ منكر ، والمقصود به بيان علّة تلك الخيريّة (23).
وحينئذ نقول : كلّ من اتّصف بهذه الأوصاف ، فيكون خير الاُمّة ، ونحن أيضاً نقتدي بهم ، وتعالوا أثبتوا لنا مَن المتّصف بهذه الصفات لنقتدي به ، فيكون البحث حينئذ صغرويّاً ، ويكون البحث في المصداق ، ولا نزاع في الكبرى ، أيّ لا يوجد أيّ نزاع فيها.
الآية الثانية : قوله تعالى : ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطاً ) (24).
هذه الآية مفادها ـ كما في كثير من تفاسير الفريقين (25) ـ أنّ الله سبحانه وتعالى جعل الاُمّة الإسلاميّة أُمّة وسطاً بين اليهود والنصارى ، أو وسطاً بمعنى عدلاً بين الإفراط والتفريط في الاُمور ، فالآية المباركة تلحظ الاُمّة بما هي أُمّة ، وليس المقصود فيها أنْ يكون كلّ واحد من أفرادها موصوفاً بالعدالة ، لأنّ واقع الأمر ، ولأنّ الموجود في الخارج ، يكذّب هذا المعنى ، ومن الذي يلتزم بأنّ كلّ فرد فرد من أفراد الصحابة كان « خير أُمّة أُخرجت للناس » « كذلك جعلناكم أُمّةً وسطاً » أيّ عدلاً ، ومن يلتزم بهذا ؟
إذن ، لا علاقة للآية المباركة بالأفراد ، وإنّما المقصود من الآية مجموع الاُمّة من حيث المجموع.
الآية الثالثة : ( لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً ) (26).
أوّلاً : هذه الآية مختصّة بأهل بيعة الرضوان ، بيعة الشجرة ، ولا علاقة لها بسائر الصحابة ، فيكون الدليل أخصّ من المدّعى.
ثانياً : في الآية المباركة قيود ، في الآية رضا الله سبحانه وتعالى عن المؤمنين ، الذين بايعوا ( لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الْشَّجَرَةِ ) ، ثمّ إنّ هناك شرطاً آخر وهو موجود في القرآن الكريم ( إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ ... ) إلى آخر الآية (27).
قال المفسّرون كابن كثير والزمخشري وغيرهما : إنّ رضوان الله وسكينته مشروطة بالوفاء بالعهد وعدم نكث العهد (28).
فحينئذ ، كلّ من بقي على عهده مع رسول الله فنحن أيضاً نعاهده على أنْ نقتدي به ، وهذا ما ذكرناه أوّلاً في بداية البحث.
الآية الرابعة : قوله تعالى : ( واَلسَّابِقُونَ الاَْوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالاَْنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإحْسَان رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّات تَجْرِي تَحْتَهَا الاَْنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ) (29).
والإستدلال بهذه الآية لعدالة عموم الصحابة في غير محلّه ، لأنّ موضوع الآية ( السَّابِقُونَ الاَْوَّلُونَ ) ، وأيّ علاقة بعموم الصحابة ؟ تريدون من هذه الآية أنْ تثبتوا عدالة مائة ألف شخص بالأقلّ ، وهي تقول ( السَّابِقُونَ الاَوَّلُونَ ).
حينئذ من المراد من السابقين الأوّلين ؟ قيل : أهل بدر ، وقيل : الذين صلّوا القبلتين ، وقيل : الذين شهدوا بيعة الشجرة.
كما اختلفوا أيضاً في معنى التابعين ( وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَان ) على أقوال عديدة موجودة في تفاسيرهم (30).
وأخرج البخاري عن البراء بن عازب قيل له : طوبى لك ، صحبت النبي وبايعته تحت الشجرة ، قال : إنّك لا تدري ما أحدثنا بعده (31).
وإقرار العقلاء على أنفسهم حجّة !!
وليس المقرّ بذلك هو البراء وحده ، بل هذا وارد عن جمع من الصحابة وفيهم عائشة ، ولا يخفى إشتمال إعترافهم على الأحداث ، وهو اللفظ الذي جاء في الصحاح عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في أحاديث الحوض الآتية.
الآية الخامسة : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) (32).
هذه الآية لو راجعتم التفاسير لرأيتموها نازلةً في واقعة بدر بالاتّفاق ، وفي معنى الآية قولان :
القول الأوّل : أيّ يكفيك الله والمؤمنون المتّبعون لك.
القول الثاني : إنّ الله يكفيك ويكفي المؤمنين بعدك أو معك.
وكأنّ الإستدلال ـ أيّ إستدلال الخطيب البغدادي ـ يقوم على أساس التفسير الأوّل ، وإذا كان كذلك ، فلابدّ وأنْ يؤخذ الإيمان والإتّباع والبقاء على المتابعة لرسول الله بعين الإعتبار ، ونحن أيضاً موافقون على هذه الكبرى ، وإنّما البحث سيكون بحثاً في المصاديق.
الآية السادسة : ( لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِين أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ وَالَّذِين تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالاِيمَانَ مِنْ قَبْلِهمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةً وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلاِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالاِْيْمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ) (33).
هذه كلّ الآيات.
واستدلّ الخطيب البغدادي وابن حجر العسقلاني بهذه الآيات المباركة ، وفيها قيود وصفات وشروط وحالات ، فكلّ من اجتمعت فيه هذه الصفات والحالات فنحن نقتدي به ، لكن لابدّ وأنْ تكون الآية ناظرة إلى عموم الاُمّة الإسلاميّة ، وإلّا فكلّ فرد فرد من الاُمّة ، وحتّى من الصحابة ، يكون قد اجتمعت فيه هذه الصفات والحالات ؟ هذا لا يدّعيه أحد ، حتّى المستدلّ لا يدّعيه.
بقي الكلام في الحديث الذي استدلّ به ابن حجر العسقلاني ، لأنّ الخطيب لم يذكر حديثاً !
الحديث الأوّل : « الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضاً ، فمن أحبّهم فبحبّي أحبّهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ، ومن آذاهم فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى الله فيوشك أن يأخذه ».
قال الشاطبي حيث استدلّ بهذا الحديث : من كان بهذه المثابة حقيق أنْ يتَّخذ قدوة وتجعل سيرته قبلة (34).
ونحن أيضاً نقول : من كان بهذه المثابة ، حقيق أن يتّخذ قدوة وتجعل سيرته قبلة.
وهل كلّ فرد فرد من الأصحاب يكون الإنسان إذا أحبّه فقد أحبّ رسول الله ، وإذا أبغضه فقد أبغض رسول الله : « فبحبّي أحبّهم ... فببغضي أبغضهم » ؟ كلّ فرد فرد هكذا ؟ لا أظنّ الخطيب البغدادي ، ولا ابن حجر العسقلاني ، ولا أيّ عاقل من عقلائهم يدّعي هذه الدعوى.
الحديث الثاني : « أصحابي كالنجوم فبأيّهم اقتديتم اهتديتم ».
وقد أشرت إلى من استدلّ بهذا الحديث ، بالتفسير وعلم الاُصول ، وحتّى في الموارد الاُخرى ، وحتّى الكتب الأخلاقيّة أيضاً ، وحتّى في الفقه يستدلّون بهذا الحديث ، ولكن مع الأسف ، هذا الحديث ليس بصحيح عندهم ، لاحظوا العبارات :
في شروح التحرير ; قال أحمد بن حنبل : لا يصح (35).
وفي جامع بيان العلم لابن عبد البرّ ; قال أبو بكر البزّار : لا يصحّ (36).
وقال ابن حجر في تخريج الكشّاف : أورده الدارقطني في غرائب مالك (37).
وقال ابن حزم في رسالته في إبطال القياس : هذا خبر مذكوب موضوع باطل لم يصحّ قطّ (38).
وقال ابن حجر في تخريج الكشّاف : ضعّفه البيهقي (39).
وقال ابن عبد البرّ في جامع بيان العلم : إسناده لا يصحّ (40).
وذكر المنّاوي أنّ ابن عساكر ضعّف هذا الحديث (41).
وأورده ابن الجوزي في كتاب العلل المتناهية في الأحاديث الواهية.
وبيّن أبو حيّان الأندلسي ضعف هذا الحديث في تفسيره (42).
وأورد الذهبي هذا الحديث في أكثر من موضع في ميزان الإعتدال ونصّ على بطلانه (43).
وأبطل هذا الحديث ابن قيّم الجوزيّة في إعلام الموقعين (44) ، وابن حجر العسقلاني في تخريج الكشّاف المطبوع في هامش الكشّاف (45).
وذكر السخاوي هذا الحديث في المقاصد الحسنة وضعّفه (46).
ووضع السيوطي علامة الضعف على هذا الحديث في كتاب الجامع الصغير (47).
وضعّفه أيضاً القاري في شرح المشكاة (48).
وأوضح ضعفه المنّاوي في فيض القدير (49).
وفوق ذلك كلّه ، فإنّ شيخ الإسلام !! ابن تيميّة ينصّ على ضعف هذا الحديث في كتاب منهاج السنّة (50).
ويبقى الدليل الإعتباري ، إنّه إذا لم نوافق على عدالة كلّ فرد فرد من الصحابة ، فقد أبطلنا القرآن ، فقد أبطلنا السنّة النبويّة ، فقد بطل الدين !!
والحال إنّنا أبطلنا عدالة الصحابة ، ولم يبطل الدين ، والدين باق على حاله ، والحمد لله ربّ العالمين.
يقولون هذا وكأنّ الطريق منحصر بالصحابة ؟! إنّ الطريق الصحيح منحصر بأهل البيت عليهم السلام ، وأهل البيت أدرى بما في البيت ، أهل البيت هم القادة بعد الرسول.
الهوامش
1. الاصابة في معرفة الصحابة ١ / ١٧ ـ ١٨.
2. الاصابة في معرفة الصحابة ١ / ١٩.
3. الاستيعاب في معرفة الاصحاب ١ / ٨.
4. أُسد الغابة في معرفة الصحابة ١ / ٣.
5. مختصر الاُصول ٢ / ٦٧.
6. شرح المقاصد ٥ / ٣١٠.
7. شرح المقاصد ١ / ٣١٠.
8. سورة آل عمران : ١١٠.
9. سورة البقرة : ١٤٣.
10. سورة الفتح : ١٨.
11. سورة التوبة : ١٠٠.
12. سورة الأنفال : ٦٤.
13. سورة الحشر : ٨ ـ ١٠.
14. الاصابة في معرفة الصحابة ١ / ٦ عن الكفاية في علم الرواية : ٤٦.
15. الكفاية في علم الرواية : ٤٦.
16. الاصابة في معرفة الصحابة ١ / ١٠.
17. سورة النجم : ٣.
18. سورة النساء : ١١٥.
19. الكشاف في تفسير القرآن ٢ / ٦٢٨.
20. سورة آل عمران : ١١٠.
21. تفسير ابن كثير ١ / ٣٩٩.
22. تفسير القرطبي ٤ / ١٧٣.
23. تفسير الفخر الرازي ، تفسير النيسابوري ٢ / ٢٣٢.
24. سورة البقرة : ١٤٣.
25. مجمع البيان ١ / ٢٤٤ ، الكشاف ١ / ٣١٨ ، القرطبي ٢ / ١٥٤ ، النيسابوري ١ / ٤٢١ ، وغيرها.
26. سورة الفتح : ١٨.
27. سورة الفتح : ١٠.
28. الكشاف ٣ / ٥٤٣ ، ابن كثير ٤ / ١٩٩.
29. سورة التوبة : ١٠٠.
30. الدر المنثور ٤ / ٢٦٩ ، القرطبي ٨ / ٢٣٦ ، الكشاف ٢ / ٢١٠ ، ابن كثير ٢ / ٣٩٨.
31. صحيح البخاري ٥ / ١٦٠.
32. سورة الأنفال : ٦٤.
33. سورة الحشر : ٨ ـ ١٠.
34. الموافقات ٤ / ٧٩.
35. التقرير والتحبير في شرح التحرير ، التيسير في شرح التحرير ٣ / ٢٤٣.
36. جامع بيان العلم ٢ / ٩٠ ، إعلام المواقعين ٢ / ٢٢٣ ، البحر المحيط ٥ / ٥٢٨.
37. الكاف الشاف في تخريج أحاديث الكشاف « هامش الكشاف » ٢ / ٦٢٨.
38. انظر : البحر المحيط في تفسير القرآن لأبي حيّان ٥ / ٥٢٨.
39. الكاف الشاف ٢ / ٦٢٨.
40. جامع بيان العلم وفضله ٢ / ٩٠.
41. فيض القدير في شرح الجامع الصغير ٤ / ٧٦.
42. البحر المحيط ٥ / ٥٢٨.
43. ميزان الإعتدال في نقد الرجال ١ / ٤١٣ ، ٢ / ١٠٢.
44. إعلام المواقعين ٢ / ٢٢٣.
45. الكاف الشاف ٢ / ٦٢٨.
46. المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة : ٢٦ ـ ٢٧.
47. الجامع الصغير بشرح المناوي ٤ / ٧٦.
48. المرقاة في شرح المشكاة ٥ / ٥٢٣.
49. فيض القدير في شرح الجامع الصغير ٤ / ٧٦.
50. منهاج السنّة ٧ / ١٤٢.
مقتبس من كتاب : [ الصّحابة ] / الصفحة : 19 ـ 39
التعلیقات