التقيّة
الدكتور صلاح الدين الحسيني
2020 Mar 3التقيّة
التقيّة هي كتمان الحقّ وستر الاعتقاد به ومكاتمة المخالفين وترك مظاهرتهم بما يعقّب ضرراً في الدين والدنيا.
ولا يقال : إنّ التقيّة هي عين النفاق ، لا يقال ذلك ؛ لأنّ النفاق هو اظهار الإيمان وإبطان الكفر ، وهو ما نهى عنه الشارع المقدّس ، وهو عكس التقيّة تماماً ويخالفها كليّاً.
والتقية ليست ممّا يختصّ بالشيعة فقط ، بل إنّها ممّا يعتقد به العامّة أيضا وليس هناك أيّ دليل عند أعداء أهل البيت عليهم السلام يبرّر تشنيعهم على الشيعة بخصوص التقيّة ، بل إنّ الأدلّة من القرآن الكريم ومن عند العامّة تقرّر موضوع التقيّة وتثبته بشكل واضح ومفصّل.
١ ـ قال تعالى في سورة غافر : ( وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ ) (١). فهذا رجل كتم إيمانه واتّقى قومه ، فأقرّ القرآن أنّه مؤمن.
٢ ـ وقال تعالى في سورة آل عمران : ( لَّا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ الله فِي شَيْءٍ إِلَّا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ وَإِلَى الله الْمَصِيرُ ) (٢).
روى القرطبيّ في الجامع قال : قال ابن عبّاس : هو أن يتكلّم بلسانه وقلبه مطمئنّ بالإيمان ، ولا يقتل ولا يأتي مأثما.
وقال الحسن : التقيّة جائزة للإنسان إلى يوم القيامة ، ولا تقيّة في القتل.
وقرأ جابر بن زيد ومجاهد والضحاك : ( إِلَّا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ) وقيل : إنّ المؤمن إذا كان قائما بين الكفّار فله أنْ يداريهم باللسان إذا كان خائفاً على نفسه وقلبه مطمئنّ بالإيمان ، والتقية لا تحلّ إلا مع خوف القتل أو القطع أو الإيذاء العظيم (٣).
قال السيوطيّ في الدرّ المنثور : أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق العوفيّ عن ابن عبّاس في قوله ( إِلَّا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ) فالتقيّة باللسان من حمل على أمر يتكلّم به وهو معصية لله ، فيتكلّم به مخافة الناس وقلبه مطمئن بالإيمان ، فإنّ ذلك لا يضرّه ، إنّما التقيّة باللسان (٤).
٣ ـ وقال تعالى في سورة النحل : ( مَن كَفَرَ بِاللَّـهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَـٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّـهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) (٥).
قال السيوطيّ في الدرّ المنثور : أخرج عبد الرزاق وابن سعد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم وصحّحه ، والبيهقي في الدلائل ، من طريق أبي عبيدة بن محمّد بن عمّار ، عن أبيه قال : أخذ المشركون عمّار بن ياسر ، فلم يتركوه حتّى سبّ النبيّ وذكر آلهتهم بخير ، ثمّ تركوه ، فلمّا أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال : ما وراءك شيء ؟ قال : شرّ ، ما تركت حتّى نلت منك ، وذكرت آلهتهم بخير ، قال : كيف تجد قلبك ؟ قال : مطمئنٌّ بالإيمان. قال : إن عادوا فعد. فنزلت ( إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ ) (٦).
٤ ـ ولقد أقرّ معظم علماء العامّة بجواز المداراة ، وصنّفوا في كتبهم أبوابا أسموها بالمداراة أيّ التقيّة.
قال في النهاية : المداراة : ملاينة الناس وحسن صحبتهم واحتمالهم لئلا ينفروا عنك (٧).
روى الترمذي وأبو داود وغيرهم كثير في باب المداراة عن عَائِشَةَ قالت : استأذنَ رجلٌ على رَسُولِ الله صلّى الله عليه وسلّم وأنا عندهُ فقال : بئسَ ابنُ العشيرةِ أو أخو العَشيرةِ ثُمَّ أذِنَ لهُ فألاَنَ لهُ القولَ ، فلمَّا خرجَ قلتُ لهُ : يا رسولَ اللهِ قلتُ لهُ ما قلتَ ثُمَّ ألنْتَ لهُ القولَ ، قال : يا عَائِشَةُ ، إنَّ من شرِّ النَّاسِ من تَرَكَهُ النَّاسُ أو ودعَهُ النَّاسُ اتَّقاءَ فُحشهِ (٨).
وروى البخاري في صحيحه في كتاب الأدب ، باب المداراة مع الناس ، عن أبي الدرداء قال : إنّا لنكشّر في وجوه أقوام ، وإنّ قلوبنا لتلعنهم (٩).
وفي فيض القدير ، عن سفيان بن عيينة قال : ما من حديث عن المصطفى صلّى الله عليه وسلّم صحيح إلا وأصله في القرآن ، فقيل : يا أبا محمّد ، قوله : رأس العقل بعد الإيمان المداراة ، أين المداراة في القرآن ؟ قال : قوله تعالى : ( وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا ) (١٠) فهل الهجر الجميل إلا المداراة ومن ذلك ( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) (١١) ، ( وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا ) (١٢) ، ( وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ ) (١٣) وغير ذلك (١٤).
وروى البخاري في صحيحه ، في كتاب فضائل الصحابة ، باب هجرة النبيّ ، عن أنس ابن مالك قال : اقبل نبيّ الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة وهو مردف أبا بكر ، وأبو بكر شيخ يعرف ، ونبيّ الله شابّ لا يعرف ، قال : فيلقى الرجل أبا بكر فيقول : يا أبا بكر ، من هذا الرجل الذي بين يديك ، فيقول : هذا الرجل يهديني السبيل. قال : فيحسب الحاسب أنّه إنّما يعني الطريق ، وإنّما يعني سبيل الخير. ورواه أحمد في المسند وغيرهم (١٥).
وروى السيوطي وغيره عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال : رأس العقل بعد الإيمان بالله مداراة الناس (١٦). وروي عنه أنّه قال : مداراة الناس صدقة (١٧).
وروي عن ابن عبّاس قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : إنّ الله تعالى تجاوز لي عن أمّتي الخطأ ، والنسيان ، وما استكرهوا عليه (١٨).
وهكذا فإنّ التقيّة أمر مشروع ومقرّر من شرعنا الحنيف ، وهي ليست عيباً أو شينا يشنّع به على شيعة أهل البيت عليهم السلام ، بل إنّ الأمر هو الحقّ ، وهو ما عليه أهل البيت وأتباعهم.
الهوامش
١. غافر : ٢٨.
٢. آل عمران : ٢٨.
٣. تفسير القرطبي ( الجامع لأحكام القرآن ) ٤ : ٥٧.
٤. الدرّ المنثور ٢ : ١٦.
٥. النحل : ١٠٦.
٦. الدرّ المنثور ٤ : ١٣١.
٧. النهاية في غريب الحديث ٢ : ١١٥.
٨. سنن الترمذي ٣ : ٢٤٢ ، سنن أبي داود ٢ : ٤٣٥.
٩. صحيح البخاري ٧ : ١٠٢.
١٠. المزمل : ١٠.
١١. المؤمنون : ٩٦.
١٢. البقرة : ٨٣.
١٣. الشورى : ٤٣.
١٤. فيض القدير ٤ : ٤.
١٥. صحيح البخاري ٤ : ٢٥٩ ، مسند أحمد ٣ : ٢١١.
١٦. الجامع الصغير ٢ : ٣ ، المصنف لابن أبي شيبة ٦ : ١٠٢.
١٧. المعجم الأوسط ١ : ١٤٦ ، صحيح ابن حيّان ٢ : ٢١٦.
١٨. السنن الكبرى للبييهقي ٧ : ٣٥٦ ، الجامع الصغير ١ : ٢٦٠.
مقتبس من كتاب : [ نهج المستنير وعصمة المستجير ] / الصفحة : ٣٧٩ ـ ٣٨٣
التعلیقات