المجتهدون بعد النبي صلى الله عليه وآله
السيد علي الشهرستاني
منذ 10 سنواتالمجتهدون بعد النبي صلّى الله عليه وآله
لقد علمنا بوجود تيارين في زمن رسول الله صلّى الله عليه وآله : متعبّد ، ومجتهد ، وبقاءهما إلى آخر لحظة من حياة النبي صلّى الله عليه وآله ، ولظروف شتّى صار زمام الخلافة بيد رؤساء الإجتهاد والرأي بعد النبي صلّى الله عليه وآله ، فكان من جملة ما اتّخذوه من قرارات هو معارضتهم للتحديث عن رسول الله صلّى الله عليه وآله لأمور رأوها.
فجاء في تذكرة الحفاظ : أنّ الصدّيق جمع الناس بعد وفاة نبيّهم ، فقال : إنّكم تحدّثون عن رسول الله صلّى الله عليه وآله أحاديث تختلفون فيها ، والناس بعدكم أشدّ اختلافاً ، فلا تحدّثوا عن رسول الله صلّى الله عليه وآله شيئاً ، فمن سألكم فقولوا : بيننا وبينكم كتاب الله ، فاستحلّوا حلاله وحرّموا حرامه (1).
وعن عروة بن الزبير : أنّ عمر بن الخطاب أراد أن يكتب السنن فاستشار في ذلك أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله ، فأشاروا عليه أن يكتبها ، فطفق عمر يستخير الله فيها شهراً ، ثمّ أصبح يوماً ، وقد عزم الله له فقال : إنّي كنت أردت أن أكتب السنن ، وإني ذكرت قوماً كانوا قبلكم كتبوا كتباً ، فأكبّوا عليها فتركوا كتاب الله تعالى ، وإنّي والله لا ألبس كتاب الله بشيءٍ أبداً (2).
وروي عن يحيى بن جعدة : أنّ عمر بن الخطاب أراد أن يكتب السنّة ثمّ بدا له أن لا يكتبها ، ثمّ كتب في الأمصار : من كان عنده منها شيء فليمحه (3).
وعن القاسم بن محمّد بن أبي بكر : أنّ عمر بن الخطاب بلغه أنّه قد ظهرت في أيدي الناس كتب ، فاستنكرها وكرهها ، وقال : أيّها الناس ! إنّه قد بلغني أنه قد ظهرت في أيديكم كتب ، فأحبُّها إلى الله أعدلها وأقومها ، فلا يبقين أحد عنده كتاباً إلّا أتاني به ، فأرى فيه رأيي.
قال : فظنّوا أنّه يريد أن ينظر فيها ويقوّمها على أمرٍ لا يكون فيه اختلاف ، فأتوه بكتبهم ، فأحرقها بالنار ، ثمّ قال : أمنيّة كأمنيّة أهل الكتاب (4).
وفي الطبقات الكبرى ومسند أحمد ، قال محمود بن لبيد : سمعت عثمان على المنبر يقول : لا يحلّ لأحد أن يروي حديثاً عن رسول الله لم يسمع به في عهد أبي بكر ولا عهد عمر (5).
وعن معاوية أنّه قال : أيّها الناس ! أقلّوا الرواية عن رسول الله ، وإن كنتم تحدّثون ، فحدّثوا بما كان يُتَحدَّث به في عهد عمر (6).
وهذه النصوص توضّح لنا انقسام المسلمين إلى اتّجاهين :
١ ـ اتّجاه الشيخين ومن تبعهما من الخلفاء ، فإنّهم كانوا يكرهون التدوين ويحضرون على الصحابة التحديث عن رسول الله صلّى الله عليه وآله.
٢ ـ اتّجاه جمعٍ آخر من الصحابة قد اتّخذوا التدوين مسلكاً ومنهجاً حتّى على عهد عمر بن الخطاب ، منهم علي بن أبي طالب ومعاذ بن جبل وأبيّ بن كعب وأنس بن مالك وأبو سعيد الخدري وأبوذر وغيرهم.
فترى هؤلاء يدوّنون ويحدّثون وإن وضعت الصمصامة على أعناقهم ، لقول الراوي : أتيت أباذر ـ وهو جالس عند الجمرة الوسطى ـ وقد اجتمع الناس عليه يستفتونه ، فأتاه رجل (7) فوقف عليه ثمّ قال : ألم تُنْهَ عن الفتيا ؟ (8) فرفع رأسه إليه فقال : أرقيب أنت عليَّ ؟ لو وضعتم الصمصامة على هذه ـ وأشار إلى قفاه ـ ثمّ ظننت أنّي اُنفذ كلمةً سمعتها من رسول الله صلّى الله عليه وآله قبل أن تجيزوا (9) عليّ لأنفذتها ! (10).
وترى الخلفاء وأتباعهم يمنعون التحديث والتدوين ويضربون ويهدّدون المحدّثين.
ومن هنا حدث التخالف في الموقف بين النهجين ، هذا يحدّث ويدوّن ، وذاك يقول بالإقلال ومنع التحديث والتدوين ، وهذا يقول بلزوم عرض المنقول عن رسول الله على القرآن ، فإن وافقه يؤخذ به وإن خالفه يُضرب به عرض الجدار ، والآخر يقول بعدم ضرورة ذلك ويعتبره من عمل الزنادقة ، وبذلك ارتسمت الأصول الفكريّة للطرفين تدريجيّاً.
الهوامش
1. تذكرة الحفاظ ١ : ٢ ـ ٣ ، حجيّة السنة : ٣٩٤.
2. تقييد العلم : ٤٩ ، حجية السنة : ٣٩٥ عن البيهقي في المدخل ، وابن عبدالبر.
3. تقييد العلم : ٥٣ ، حجيّة السنة : ٣٩٥.
4. حجيّة السنة : ٣٩٥ ، وفي الطبقات الكبرى لابن سعد ١ ٦ ١٤٠ « مثناة كمثناة أهل الكتاب ».
5. الطبقات الكبرى ٢ : ٣٣٦ وعنه في السنة قبل التدوين : ٩٧.
6. كنز العمال ١ : ٢٩١.
7. هو فتى من قريش كما في تاريخ دمشق ٦٦ : ٩٤. وفي فتح الباري ١ : ١٤٨ « وبيّنّا أنّ الذي جابهه رجل من قريش ».
8. قال ابن حجر في فتح الباري ١ : ١٤٨ « إنّ الذي نهاه عن الفتيا عثمان ».
9. تجيزوا : أي تكملوا قتلي.
10. سنن الدارمي ١ : ١٣٦. ورواه الذهبي في سير أعلام النبلاء ٢ : ٦٤ ، وابن سعد في طبقاته ٢ : ٣٥٤. وروى هذا الحديث البخاري في صحيحه ٦ : ٢٥ لكنّه بتره ولم يذكر نهي عثمان ولا الفتى القرشي الرقيب الجاسوس ، بل اكتفى بذكر قول أبي ذر « لو وضعتم الصمصامة » ... الخ.
مقتبس من كتاب : [ لماذا الإختلاف في الوضوء ] / الصفحة : 25 ـ 28
التعلیقات