علّة توجّه البشر إلى الله
السيد فاضل الموسوي الجابري
منذ 10 سنواتهل إنّ ما ذكرناه كافٍ في إثبات علّة توجّه البشر نحو الله ؟ أم لا يزال السؤال قائماً عن هذا التوجّه ، لأيّ سبب كان ، ولماذا يتّخذ الإنسان ديناً وعبادةً وطقوساً ؟
وفي معرض الجواب على مثل هذا السؤال ، الذي يتطلب الكثير من الكلام ، وصياغة براهين عقلية ونفسية معمّقة ومتعددة ، إلاّ أننا سوف نقتصر على اليسير منه طلباً للاختصار . وعليه نقول :
إن ذلك ناتج بسبب قانونين أساسيين في الفكر البشري ، أحدهما قانون السببية ، والآخر قانون الغائية.
أولاً ـ قانون السببية : ويتلخّص هذا القانون في أنّه لا يوجد شيء من الممكنات من دون علّة أوجدته ، بعد أن لم يكن شيئاً مذكوراً ، وذلك ناشيء من كون الممكن « أي الشيء الموجود » لا يحمل السبب الكافي لوجوده ، وكذا لا يستقلّ بإحداث شيء ، فكما أن الممكن لا يستطيع إيجاد نفسه ، فبطريق أولى لا يستطيع أن يوجد غيره ، بحسب القاعدة التي تقول : « فاقد الشيء لا يعطيه » . لذلك لا بد أن يقضي العقل الإنساني بوجود سبب وعلّة لوجوده.
وهذه العلّة لا بد أن تكون حكيمة ، ـ خلافاً لنظرية الصدفة ـ لما نرى من الاتساق والتنظيم الذي يكتنف الوجود برمّته ، من الذرّة إلى المجرّة ، فهذا الوجود المتناسق لا يمكن إيعاز علّته إلى أساس فوضوي عشوائي.
وكذا يقطع العقل البشرى ، أنّ هذه العلّة ذات حياة ، وعلم ، وقدرة ، وإرادة. ولو تخلّف ذلك ـ بمقتضى قاعدة العلية ـ لا نقطع الوجود وأصبح عدماً.
إذن فمدبّر هذا الوجود ، والمسيطر عليه والمؤثّر فيه ، هو الله تعالى ، لذلك لا بدّ للاِنسان أن يدين بالاعتراف به ، والخضوع إلى أوامره ، التي جاءتنا عن طريق أنبيائه ، وهذا هو الدين.
سئل أمير المؤمنين عليه السلام عن إثبات الصانع . فقال : « البعرة تدلُ على البعير ، والروثة تدلّ على الحمير ، وآثار القدم تدلّ على المسير ، فهيكل علوي بهذه اللطافة ، ومركز سفلي بهذه الكثافة ، لا يدلاّن على اللطيف الخبير ؟! » (١).
وقيل للرضاعليه السلام : ما الدليل على حدوث العالم ؟ فقال : « أنت لم تكن ثمّ كنت ، وقد علمت أنك لم تكوّن نفسك ، ولا كوّنك من هو مثلك » (2).
ثانياً ـ قانون الغائية : وموجبه أنّ كلّ نظام مركّب متناسق مستقرّ ، لا يمكن أن يحدث من غير قصد ، وأن كلّ قصد لا بدّ أن يهدف إلى غاية ، وأنّ هذه الغاية إذا لم تحقّق إلاّ مطلباً جزئياً إضافياً منقطعاً ، تشوّقت النفس من ورائها إلى غاية أُخرى ، حتّى تنتهي إلى غاية كلية ثابتة ، هي غاية الغايات ، وذلك لأنّ الإنسان ما انفكّ يوماً عن السؤال عن ثلاثة أشياء ، أرّقت مضجعه ، وحيّرت عقله ، وجعلته في فكر دائم وهي : إنّه من أين أتى ؟ وإلى أين هو قاصد ؟ ولماذا خُلِق ؟
أترى أن هذا الإنسان يعيش في هذه الحياة بلا غاية ولا هدف يسير نحوه وإليه ؟ أتراه قائماً على وجه يتخبّط في سير حياته ، لا يدري إلى أين يريد ، ولماذا وجد ، ولماذا يموت ؟!
إنّ من السخف أن يفكر الإنسان بأنّ وجوده عبث ؛ لأنّه بذلك يسلب إنسانيته وفكره وحضارته ، وكلّ نتاج بشري في جميع الأصعدة ، فلا تستقيم حكمة الوجود إلاّ بضرورة وجود غاية لهذا الوجود ، وهنا يبحث هذا الإنسان عن الغاية.
ولكن ربما أخطأ الإنسان في معرفة تلك الغاية ، فتصوّر أن الخالق هو ذلك الصنم الذي يرمز إلى قوة خفية ، أو أن الخالق هو الشمس أو القمر أو النجوم أو غيرها ، ولكن الذي ينبغي قوله : إن الإنسان لا يصل إلى هذه المراحل الخسيسة إلاّ بعد أن يعجز ـ بحكم أشياء عديدة ـ عن الوصول إلى الحقيقة ، لذلك نراه يتعلق بهذه الأشياء ليسدّ هذا الفراغ والحاجة النفسية والفكرية لديه.
أما الإنسان الحرّ والمتفتّح على الوجود بكل كيانه ، والذي تدبّر بعقله هذا الصنع العظيم ـ كما أوردنا قصة إبراهيم عليه السلام ـ فإنّه يقطع أن الغاية لا بدّ أن تكون متناسقة مع هذا الوجود العجيب ، وهذه الحكمة الكبيرة ، قال تعالى : ( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ ... ) (3).
وقال تعالى : ( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللهُ المَلِكُ الحَقُّ لا إِلَٰهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ ) (4).
فلا يمكن أن يكون هذا الخالق صنماً يصنعه الإنسان بيديه ، أو يكون شيئاً من الأفلاك والنجوم ، أو الأشخاص ، أو المظاهر الطبيعية وغيرها ؛ لأنّ كل أُولئك محدود وموجود ومخلوق وناقص ، ولأن من الأُمور الفطرية التي فطِر الناس عليها هو النفور من النقص ، والاتجاه نحو الكمال ، لذلك فإنّ الإنسان ينفر من كلّ نقص وعيب.
فمبدأ الغائية هو من ثمار التوحيد ، ولا يمكن أن يستقيم إلاّ من خلاله ، وأنى لهذه المعبودات الناقصة من تحقيق الكمال لنفسها ، فضلاً عن إعطائه لغيرها ، على قاعدة : « أنّ فاقد الشيء لا يعطيه » ، وصدق الله تعالى إذْ يقول : ( إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالمَطْلُوبُ ) (5).
الهوامش
1. نوادر الأخبار / الفيض الكاشاني : ٦٥.
2. نوادر الأخبار / الفيض الكاشاني : ٦٧.
3. سورة فصلت : ٤١ / ٥٣.
4. سورة المؤمنون : ٢٣ / ١١٥ ـ ١١٦.
5. سورة الحج : ٢٢ / ٧٣.
مقتبس من كتاب النزعة الدينية بين الإلهيين والماديين
التعلیقات