حديث الأهليلجة
محمّد الخليلي
منذ 9 سنوات« حديث الأهليلجة (1) »
إن هذا الحديث الجليل والكتاب الشريف الذي كتبه الإمام الصادق (ع) إلى تلميذه المفضل بن عمر الجعفي في إثبات التوحيد ، لحديث طويل لا يسعه هذا المختصر ، ولكنّا قد إقتطفنا منه جزءاً يسيراً ممّا هو محل شاهدنا للإستدلال على كامل معرفته (ع) بالعقاقير ومنافعها وأضرارها وأنواعها ومنابتها وطرق إستعمالها بما لم يعرفها أطباء عصره ولم يدركها ذوو الفن من المشتغلين بها على أنّه عليه السلام كان قد ذكرها طي كلامه عن التوحيد ولم يقصد بيانها مفصّلاً وهذا ممّا يوضح لكلّ منصف عارف ما لدى الإمام من العلم الكامل بهذا الفنّ علماً أخذه عن أجداده عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بالوراثة لا عن تعليم معلم أو تدريس أستاذ وإليك ما إقتطفناه منه.
كتب المفضل بن عمر الجعفي إلى أبي عبدالله جعفر بن محمّد الصادق (ع) يعلمه أن أقواماً ظهروا من أهل هذه الملّة يجحدون بالربوبيّة ويجادلون على ذلك ويسأله أن يرد على قولهم ليحتجّ عليهم بما ادّعوا به.
فكتب أبو عبدالله (ع) إليه :
بسم الله الرحمن الرحيم. أمّا بعد وفّقنا الله وإيّاك لطاعته وأوجب لنا بذلك رضوانه ورحمته. وصل كتابك تذكر فيه ما ظهر في ملّتنا وذلك من قوم أهل الإلحاد بالربوبيّة قد كثرت عدّتهم واشتدّت خصومتهم ، وتسأل أن أصنع الردّ عليهم والنقض لما في أيديهم كتاباً على نحو ما رددت على غيرهم من أهل البدع والإختلاف ونحن نحمد الله على النعم السابغة والحجج البالغة والبلاء المحمود عند الخاصّة والعامّة ـ إلى أن يقول عليه السلام : ـ ولعمري ما أتى الجهّال من قبل ربّهم وأنّهم ليرون الدلالات الواضحات والعلامات البينات في خلقهم وما يعاينون في ملكوت السماوات والأرض والصنع العجيب المتقن الدالّ على الصانع ، ولكنّهم قوم فتحوا على أنفسهم أبواب المعاصي وسهّلوا لها سبيل الشهوات ، فغلبت الأهواء على قلوبهم واستحوذ الشيطان بظلمهم عليهم ، وكذلك يطبع الله على قلوب المفسدين.
وقد وافاني كتابك ورسمت لك كتاباً كنت نازعت فيه بعض أهل الأديان من أهل الإنكار وذلك أنّه :
كان يحضرني طبيب من بلاد الهند وكان لا يزال ينازعني في رأيه ويجادلني عن ضلالته فبينما هو يوماً يدقّ أهليلجه ليخلطها بدواء إحتاج إليه من أدويته إذ عرض له شيء من كلامه الذي لم يزل ينازعني فيه من إدعائه أن الدنيا لم تزل ولا تزال شجرة تنبت وأخرى تسقط ونفس تولد وأخرى تتلف ، وزعم أن إنتحال المعرفة لله تعالى دعوى لا بيّنة لي عليها ولا حجّة لي فيها ، وأن ذلك أمر أخذه الآخر عن الأوّل والأصغر عن الأكبر ، وأن الأشياء المختلفة والمؤتلفة والظاهرة والباطنة إنّما تعرف بالحواس الخمس. فأخبرني بم تحتج في معرفة ربّك الذي تصف قدرته وربوبيّته وإنّما يعرف القلب الأشياء كلّها بالآلات الخمس.
إلى آخر ما يسوقه من إعتراض الطبيب وجواب الإمام (ع) من البراهين العقليّة والدلائل الحسيّة التي أفحمته حتّى جعلته يقرّ بالربوبيّة والوحدانيّة لله تعالى و قد أعرضنا عنها كلّها عدا ما هو الشاهد لنا على إثبات ما للإمام (ع) من معرفة خواصّ الأدوية ومنافع العقاقير ومضارّها في عصر لم يدركها فيه غيره حتّى الأخصّائيين منهم بمعرفتها. وإليك محلّ الشاهد من الحديث :
قال الإمام الصادق (ع) لذلك الطبيب :
فاعطني موثقاً إذا أنا أعطيتك من قبل هذه الأهليلجة التي بيدك وما تدعى من الطبّ الذي هو صناعتك وصناعة آبائك وأجدادك وما يشابهها من الأدوية لتذعنن للحقّ ولتنصفنّ من نفسك. قال : ذلك لك ، قلت : هل كان الناس على حال وهم لا يعرفون الطبّ ومنافعه من هذه الأهليلجة وأشباهها. قال : نعم ، قلت : فمن أين اهتدوا ؟ قال : بالتجربة والمقايسة ، قلت : فكيف خطر على أوهامهم حتّى همّوا بتجربته ، وكيف ظنّوا أنّه مصلحة للأجسام وهم لا يرون فيه إلّا المضرّة ، وكيف عرفوا فعزموا على طلب ما يعرفون ممّا لا تدلّهم عليه الحواس ؟ قال : بالتجربة ، قلت : إخبرني عن واضع هذا الطبّ وواصف هذه العقاقير المتفرّقة بين المشرق والمغرب هل كان بد من أن يكون الذي وضع ذلك ودل على هذه العقاقير رجل حكيم من أهل هذه البلدان ؟ قال : لابد أن يكون كذلك وأن يكون رجلاً حكيماً وضع ذلك وجمع عليه الحكماء فنظروا في ذلك وفكروا فيه بعقولهم. قلت : كأنّك تريد الإنصاف من نفسك والوفاء بما أعطيت من ميثاقك فاعلمني كيف عرف الحكيم ذلك ؟ وهبه عرف ما في بلاده من الدواء كالزعفران الذي بأرض فارس مثلاً. أتراه إتبع جميع نبات الأرض فذاقه شجرة شجرة حتّى ظهر على جميع ذلك ، وهل يدلّك عقلك على ان رجالاً حكماء قدروا على ان يتّبعوا جميع بلاد فارس ونباتها شجرة شجرة حتّى عرفوا ذلك بحواسهم وظهروا على تلك الشجرة التي يكون فيها خلط بعض هذه الأدوية التي لم تدرك حواسهم شيئاً منها ، وهبه أصاب تلك الشجرة بعد بحثه عنها وتتبعه جميع بلاد فارس ونباتها فكيف عرف أنّه لا يكون دواء حتّى يضم إليه الاهليلج من الهند والمصطكي من الروم والمسك من تبت والدارصين من الصين وخصى بيد ستر من التراك والأفيون من مصر والصبر من اليمن والبورق من أرمينية وغير ذلك من أخلاط الأدوية وهي عقاقير مختلفة تكون المنفعة باجتماعها ولا تكون منفعتها في الحالات بغير إجتماع. أم كيف اهتدى لمنابت هذه الأدوية وهي ألوان مختلفة وعقاقير متباينة في بلدان متفرّقة ، فمنها عروق ومنها لحاء ومنها ورق ومنها ثمر ومنها عصير ومنها مايع ومنها صمغ ومنها دهن ومنها ما يعصر ويطبخ ومنها ما يعصر ولا يطبخ ممّا سمّى بلغات شتّى لا يصلح بعضها إلّا ببعض ، ولا يصير دواء إلّا باجتماعها ومنها مرائر السباع والدواب البريّة والبحريّة ، وأهل هذه البلدان مع ذلك متعادون مختلفون متفرّقون باللغات متغالبون بالمناصبة ومتحاربون بالقتل والسبي أفترى من ذلك الحكيم نتّبع هذه البلدان حتّى عرف كلّ لغة وطاف كلّ وجه وتتبع هذه العقاقير مشرقاً ومغرباً آمناً صحيحاً لا يخاف ولا يمرض سليماً لا يعطب حيّاً لا يموت هادياً لا يضلّ قاصداً لا يجور حافظاً لا ينسى نشيطاً لا يمل حتّى عرف وقت أزمنتها ومواضع منابتها مع اختلاطها واختلاف صفاتها وتباين ألوانها وتفرق أسمائها ثمّ وضع مثالها على شبهها وصفتها ، ثمّ وصف كلّ شجرة بنباتها وورقها وثمرها وريحها وطعمها أم هل كان لهذا الحكيم بد من أن يتتبع جميع أشجار الدنيا وبقولها وعروقها شجرة شجرة وورقة ورقة شيئاً فشيئاً ؟ وهبه وقع على الشجرة التي أراد ، فكيف دلّته حواسه على أنّها تصلح للدواء والشجر مختلف فمنه الحلو والحامض والمرّ والمالح فان قلت يستوصف في هذه البلدان ويعمل بالسؤال ، وأنّى له أن يسأل عمّا لم يعاين ولم يدركه بحواسه أم كيف يهتدي إلى من يسأله عن تلك الشجرة وهو يكلمه بغير لسانه وبغير لغته والأشياء كثيرة.
وهبه فعل ، فكيف عرف منافعها ومضارّها وتسكينها وتهييجها وباردها وحارّها ومرارتها وحراقتها ولينها وشديدها. فلئن قلت بالظنّ فان ذلك لا يدرك ولا يعرف بالطبايع والحواس ، وإن قلت بالتجربة والشرب فلقد كان ينبغي له أن يموت في أوّل ما شرب وجرّب تلك الأدوية بجهالته بها وقلّة معرفته بمنافعها ومضارّها وأكثرها السمّ القاتل. وان قلت بل طاف في كلّ بلد وأقام في كلّ أمّة يتعلّم لغاتهم ويجرب أدويتهم بقتل الأوّل فالأوّل منهم ما كان ليبلغ معرفته الدواء الواحد إلّا بعد قتل قوم كثير ، فما كان أهل تلك البلدان الذين قتل منهم ما قتل بتجربته بالذين يتفادون إليه بالقتل ولا يدعونه يجاورهم. وهبه تتبع هذا كلّه وأكثره سمّ قاتل أن زيد على قدره قتل وان نقص عن قدرة بطل ، وهبه تتبع هذا كلّه وطاف مشارق الأرض ومغاربها وطال عمره فيها بتتبعه شجرة شجرة وبقعة بقعة كيف كان له تتبع ما لم يدخل في ذلك من مرارة الطير والسباع ودواب البحر هل كان بد حيث زعمت أن ذلك الحكيم تتبع عقاقير الدنيا شجرة شجرة حتّى جمعها كلّها فمنها ما لا يصلح ولا يكون دواء إلّا بالمرار هل كان بد من أن يتتبع جميع طير الدنيا وسباعها ودوابها دابّة دابّة وطائراً طائراً يقتلها ويجرب مرارها كما بحث في تلك العقاقير على ما زعمت بالتجارب ، ولو كان ذلك فكيف بقيت الدواب وتناسلت وليست بمنزلة الشجرة إذا قطعت شجرة نبتت أخرى وهبه أتى على طير الدنيا كيف يصنع بما في البحر من الدواب التي كان ينبغي أن يتتبعها بحراً بحراً ودابّة دابّة حتّى أحاط به كما أحاط بجميع عقاقير الدنيا التي بحث عنها حتّى عرفها ، فانّك مهما جهلت شيئاً من هذا لا تجهل أن دواب البحر كلّها تحت الماء فهل يدلك العقل والحواس على أن هذا يدرك بالبحث والتجارب. قال : لقد ضيعت عليّ المذاهب فما أدري بماذا أجيبك.
فقلت : سأبرهن لك بغير هذا ممّا هو أوضح وأبين ممّا اقتصصت عليك ألست تعلم أن هذه العقاقير التي منها الأدوية والمرار من الطير والسباع لا يكون دواء إلّا بعد الإجتماع ؟ قال : هو كذلك. قلت : فأخبرني كيف أدركت حواس هذا الحكيم الذي وضع هذه الأدوية مثاقيلها وقراريطها فانّك أعلم الناس بذلك لأن صناعتك الطبّ ، وأنت قد تدخل في الدواء الواحد من اللون الواحد وزن أربعمائة مثقال ومن الآخر ثلاثة أو أربعة مثاقيل وقراريط فما فوق ذلك أو دونه حتّى يجيء بقدر واحد معلوم إذا سقيت منه صاحب البطنة بمقدار عقد بطنه ، وإن سقيت صاحب القولنج أكثر من ذلك استطلق بطنه ، والآن فكيف أدركت حواسه على هذا ، أم كيف عرف بحواسه انّ الذي يسقى لوجع الرأس لا ينحدر إلى الرجلين والانحدار أهون عليه من الصعود والذي يسقى لوجع القدمين لا يصعد إلى الرأس وهو أقرب منه ، وكذلك كلّ دواء يسقى صاحبه لكلّ عضو لا يأخذ إلّا طريقه في العروق التي تسمّى له وكلّ ذلك يصير إلى المعدة ومنها يتفرّق ، أم كيف لا يسفل منه ما صعد ولا يصعد منه ما انحدر ؟ أم كيف عرفت الحواس هذا حتّى علم أن الذي ينبغي للاذن لا ينفع العين وما تنفع به العين لا يغني من وجع الاذن وكذلك جميع الأعظاء يصير كلّ دواء منها إلى ذلك العضو الذي ينبغي له بعينه ، فكيف أدركت العقول والحواس هذا ، وهو غائب في الجوف والعروق واللحم وفوق الجلد لا يدرك بسمع ولا ببصر ولا بشم ولا بلمس ولا بذوق ؟ قال : لقد جئت بما أعرف إلّا أنّنا نقول انّ الحكيم الذي وضع هذه الأدوية وأخلاطها كان إذا سقى أحداً شيئاً من هذه الأدوية فمات شقّ بطنه وتتبع عروقه ونظر مجاري تلك الأدوية وأتى المواضع التي تلك الأدوية فيها. قلت : فأخبرني ألست تعلم أن الدواء كلّه إذا وقع في العروق اختلط بالدم فصار شيئاً واحداً. قال : بلى. قلت : أما تعلم أنّ الإنسان إذا خرجت نفسه برد دمه وجمد ؟ قال : بلى ، قلت : فكيف عرف ذلك الحكيم دواؤه الذي سقاه المريض بعد أن صار عبيطاً ليس بأمشاج يستدلّ عليه بلون فيه غير لون الدم ؟ قال : لقد حملتني على مطية صعبة ما حملت على مثلها قطّ ولقد جئت بأشياء لا أقدر على ردّها. إلى آخر الحديث الطويل.
فيمضي الإمام (ع) في إستدلاله على إثبات الوحدانيّة والربوبيّة من طرق أخرى مفصّلة يستدرجها من حديث الأهليلجة التي هي بين يدي الطبيب الهندي ونحن لا حاجة لنا بها في موضوعنا هذا والحديث كلّه منتشر في كتب الأخبار.
ولقد ظهر لنا ولكل ذي إدراك وإنصاف غير مكابر ممّا تقدم بعض ما لدى الإمام عليه السلام من الاطلاع الواسع والمعرفة الكاملة بخواصّ الأدوية ومنافعها ومضارّها بل وكلّ خاصّة فيها مفردة ومركبة مع معرفة منابتها وطباعها دون أن يسند ذلك إلى معلم أو طبيب أخذه منهما بل لم يعرفه كلّ طبيب أو عقاري في عصره أوليس ذلك علماً إلهاميّاً أو وراثيّاً عن سلفه الطاهرين والذين خصهم الله تعالى به دون ساير الخلق وجعلهم معدنه ومنبعه لأنّهم هم الراسخون في العلم وهم حاملوا أعباء إرشاده وتعاليمه الحكيمة.
الهوامش
1. البحار ج ٢ ص ٧٥ ط طهران.
مقتبس من كتاب : [ طبّ الإمام الصادق عليه السلام ] / الصفحة : 38 ـ 44
التعلیقات