عاشوراء لكلّ العصور
الدكتور أبو حيدر
منذ 10 سنواتعاشوراء لكلّ العصور
دراسة تحليليّة قيّمة حول النهضة الحسينيّة المباركة و آثارها ونتائجها على الاُمّة الإسلاميّة في الماضي والحاضر ، هذه الدراسة للمستبصر والباحث الإسلامي المستبصر الدكتور أبو حيدر من شمال أفريقيا.
كربلاء قضيّة متجذرة في الوعي الإسلامي ، ساهمت في تشكّل الوعي الحركي الثائر على الظلم والفساد ، وباتت مع تقادم الزمن أكثر رسوخاً في وجدان الأمّة ، و بعبارة أخرى إنّها تلك الواقعة التي قفزت فوق الزمان والمكان مستمدة من نور مشكاة النبوّة رمزيّتها ومن لون البذل عنفوانها ، فاستحالت نهجاً يحمل شعلة متوقدة تسمو بالإنسان في آفاق العزّة والكرامة ، وتعبر في مدلولاتها عن محوريّة الصراع الدائر بين الاستكبار والاستضعاف ، وبين رمز العدالة والتفاني في الله ورمز الاستغراق في حطام الدنيا الفانية.
في كلّ سنة لنا ذكرى مع أجواء عاشوراء ، وفي كلّ سنة نستعيد في وعينا وحياتنا كربلاء ، لكن قيمة عاشوراء وكربلاء الذكرى أن لها لقاء في كل زمن مع الأمّة ، تمدها وتعطيها من حيويتها ، وتدفعها إلى المواقع المتقدّمة في مسيرة الحياة الكريمة فتعيش الأمّة آفاق الإمام الحسين عليه السلام تلك الآفاق الواسعة الرحبة التي لا تعيش في الدوائر الضيّقة ، بل تشمل العالم الإسلامي كلّه ، فالحسين عليه السلام كان ينظر من خلال آفاق جدّه رسول الله صلّى الله عليه و آله الذي عاش الرسالة في كلّ آفاق العالم ، لأنّ الله أرسله رحمة للعالمين.
ومن هنا كان يُطرح دوماً وفي كلّ موسم لعاشور ـ كتبيان لأهميّة ثورة كربلاء ودورها الرائد ـ شعار أن الإسلام « محمّدي الوجود حسيني البقاء » نظراً لأهميّة الدور الذي قام به الحسين عليه السلام من خلال ثورته ، فقد استطاع هذا الإمام أن يعيد تصويب المسار ، بعد أن بدأ الانحراف السريع نتيجة لإبعاد الإسلام عن ساحة الحياة ، أو على الأقلّ بتحويله إلى شكل ورسم بلا مضمون ، وهذه الصورة عبّر عنها الحسين عليه السلام آنذاك عندما قال : « ألا وإنّ هؤلاء القوم قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمان ، واحلّوا حرام الله وحرّموا حلاله واستأثروا بالفئ وعطلوا الحدود وأنا أحقّ من غير ».
الحركة الحسينيّة لم تكن انتحاريّة :
يصف بعض الباحثين ثورة الإمام الحسين بأنّها مأساة إنسانيّة مروعة ، ويرى آخرون أنّها أشبه بعمليّة انتحاريّة لم تبلغ أهدافها بل أسفرت عن نتائج مأساويّة مؤلمة ، لا تزال علامة فارقة في جبين الإنسانيّة ولطخة عار في تاريخها. بيد أن هذا التحليل يبدو سطحيّاً وساذجاً وهو مبتني على رؤية قاصرة لأهداف الثورة ومقاصدها ونتائجها ، ويؤسفني أن بعض علماء المسلمين لم يوفقوا لإدراك أبعاد تلك الثورة وبليغ دروسها وعظيم عطائها وكانوا أقصر نظراً من الزعيم الهندي الشهير غاندي القائل : « تعلّمت من الحسين كيف أكون مظلوماً فأنتصر ».
ويظهر للمتأمّل أنّ أساس الاشتباه لدى هؤلاء هو في نظرتهم لمفهومي النصر والهزيمة ، هذه النظرة الضيّقة التي تحدّد مفهوم النصر بمقدار النجاح العسكري فحسب ، الأمر الذي لم يتحقّق في نهضة الحسين عليه السلام ما يجعل منها حركة فاشلة وفق المقياس المذكور. لكن النظرة المذكورة لمفهوم النصر غير صحيحة بل هي مجترئة ومشوهة ولا تلامس الحقيقة ، فالحقيقة التي يدركها البصير والمتابع لحركة النهضة الحسينيّة وتداعياتها ونتائجها على الواقع الإسلامي ماضياً وحاضراً هي أنّ دماء الحسين عليه السلام ساهمت في تغيير مجرى التاريخ الإسلامي. وأيقظت الضمائر الميّتة وحررت إرادتها وخلقت حركة وعي في الأمّة الإسلاميّة كان من نتائجها حركات التمرّد وثورات الغضب والانتقام التي تلاحقت وتتالت :
1 ـ حيث نجد بعد عام من ثورة الحسين عليه السلام أنّ المدينة تثور على يزيد ، و تطرد واليه وجميع الأمويّين.
2 ـ وفي السنة الثانية تثور مكّة المكرّمة أيضاً على يزيد الطاغية.
3 ـ ويصبح حكم الأمويّين مهدّداً بالسقوط بعد موت يزيد ، ونموّ وتطوّر حركة عبد الله بن الزبير ، والمختار بن عبيدة الثقفي.
4 ـ و بعد ذلك أخذت الثورات تتوالى حيث ظهرت ثورة التوّابين والتي تعتبر أثراً مباشراً لثورة الحسين عليه السلام حيث كانت شعاراتهم يا لثارات الحسين ، ولم تهدأ هذه الثورة حتّى تكون ثورة المختار والذي قام من أجل الثأر لدماء الحسين عليه السلام ويتمكّن المختار من عمل عسكري مهمّ وعمل سياسي أهمّ ، أمّا العمل العسكري فهو القضاء على الجيش الأموي وقتل عبيدالله بن زياد الذي كان يقود هذا الجيش ، والعمل السياسي هو تصفية الكوفة من جميع قتلة الحسين عليه السلام ومن أنصار الأمويين. وقد استمرّ هذا التحرّك والرفض في الأمّة حتّى تمّت الإطاحة بالحكم الأموي بعد عدّة عقود من الزمن. هذا من جهة.
ومن جهة أخرى فإنّ الحسين عليه السلام أصبح مثلاً أعلى لكلّ الثوّار والمناضلين من أجل التحرّر والإنعتاق من نير الظالمين والمستبدين. وعندما يغدو المرء ملهماً للثوّار فهذا دليل انتصار لا هزيمة ، وعندما تزلزل دماءه الزكيّة عروش الظالمين فهذا دليل نصر مؤزر لا مأساة مروعة ..
ولكن السؤال هنا : ما هي النقاط والوسائل التي أكّد عليها الإمام في نهضته وكان لها الدور والتأثير البالغ في ضمير الأمّة وإرادتها ، ثمّ كان لها هذا التأثير البالغ في جميع الأجيال والعصور ؟
في معرض الجواب على هذا السؤال يجدر بنا أوّلاً أن نعالج العناوين التالية :
1 ـ دراسة دوافع الثورة الحسينيّة وأسباب هذه الحركة التي قام بها الإمام الحسين عليه السلام.
2 ـ الجواب على السؤال الذي لا زال موجوداً في كثير من أذهان الدارسين والباحثين عن ثورة الحسين عليه السلام ، هذا السؤال هو : لماذا لم يكن هدف الحسين عليه السلام هو الوصول إلى السلطة.
ثم الأهمّ من ذلك ، لماذا لم يتحقّق للحسين عليه السلام أن يصل إلى تغيير الحكم والإطاحة بنظام يزيد بن معاوية ؟ وبصدد الجواب على هذا السؤال نفسه ، لا بُدَّ لنا من :
1 ـ أن نتعرف على الشروط الأساسيّة العامّة التي يجب أن تتوفّر في الثورة الناجحة.
2 ـ الفحص على وجود هذه الشروط الأساسيّة وتوفّرها في ثورة الحسين عليه السلام أو عدم توفّرها.
3 ـ إذا وجدناها متوفّرة في ثورة الحسين عليه السلام ، يطرح السؤال نفسه مرّة أخرى و هو : لماذا لم تتمكّن ثورة الحسين عليه السلام من أن تحقّق هدف الإطاحة بحكم يزيد ، على الرغم من أنّها كانت تستجمع الشروط التي لا بُدَّ لكلّ ثورة ناجحة أن تستجمعها ؟
دوافع الثورة الحسينيّة :
التفسيرات التي تطرح عادة في تبيين دوافع الحركة الحسينيّة يمكن تصنيفها إلى صنفين :
الصنف الأول : التفسيرات التي أعطيت من بعض المستشرقين ، من بعض المسلمين ، من بعض الحكّام أنفسهم في زمن الإمام وبعده ، قسم من هذه التفسيرات نصنفها ونجعلها في عداد التفسيرات الباطلة لأنّها ناتجة من أغراض ونوايا سيّئة نجد بذورها منذ زمن الحكّام الأمويّين وقد نجد الباحثين المتأخّرين قد تأثّروا بتلك الكلمات التي يجدونها مبثوثة في بعض الكتب التاريخيّة ، وقسم من هذه التفسيرات الباطلة قد تكون ناتجة من أن أصحاب التفسير والتحليل التاريخي لقضية الحسين عليه السلام وهم بعيدون كلّ البعد عن مدرسة أهل البيت عليهم السلام عن حقيقة الأئمّة ومعنى الإمامة ، ويمكننا هنا أن نشير إلى تفسيرين مشهورين في هذه القائمة ، قائمة التفسيرات الباطلة والمنحرفة ، ربّما يجدها الإنسان في بعض الكتب التاريخيّة وبعض الدراسات الإستشراقيّة.
التفسير الأوّل : ثورة الحسين عليه السَّلام صراع قبلي.
فسّرت الحركة التغييريّة للحسين عليه السلام في بعض كتب التاريخ وبعض كتب الاستشراق على أساس أنّ حركة الحسين كانت حركة قبليّة « عشائريّة » تعبّر عن الصراع المحتدم بين قبيلتين قرشيتين ، كانتا تتصارعان على السلطة والهيمنة قبل الإسلام ، واستمرّ هذا الصراع بينهما إلى ما بعد الإسلام ، ذلك هو الصراع بين بني هاشم وبني أميّة ، وحاول هذا التفسير أن يستشهد لما ذهب إليه ببعض الأشعار والقصائد وقد أنشدها بعض الشعراء من مثل الأخطل وغيره أو بعض الأشعار التي ذكرها بعض السلاطين والحكّام الجاهلين أنفسهم كشعر يزيد الذي يقول فيه :
ليت أشياخي ببدر شهدوا |
جزع الخزرج من وقع الأسل |
|
لأهلوا واستهلوا فرحا |
ثم قالوا يا يزيد لا تشل |
|
لعبت هاشم بالملك فلا |
خبر جاء ولا وحي نزل |
كما استشهدوا بواقع المجتمع الإسلامي آنذاك الذي كان يسوده النظام القبلي رغم مجيء الإسلام ، حيث بقيت هذه العشائر وأعرافها ومزاجها وطبيعتها لها الدور البالغ في تسيير الأمور الإجتماعيّة والسياسيّة للأمّة.
الحقائق الثابتة ترفض هذا التفسير :
لا يمكن قبول هذا التفسير للأسباب التالية :
1 ـ هذا التفسير يتنافى مع أصل العقيدة الإسلاميّة لأنّه يبتني على قاعدة ترفض الإيمان بحسب الحقيقة ، و تعتبر الحسين والأئمّة والرسول الكريم جميعاً منطلقاتهم منطلقات من هذا القبيل ، وهذا يرجع إلى عدم الإيمان بنبوّة الرسول وصدقه والأئمّة فيما كانوا يفصحون عنه ويبينونه من رسالة ومن قيم كلّها ترفض بشدّة أمثال هذه المقولات ..
إذن فمن ناحية المعتقد هذا تفسير يتنافى مع أصل العقيدة الإسلاميّة فضلاً عن العقيدة الخاصّة في حقّ أهل البيت عليهم السلام الذين طهّرهم الله واذهب عنهم الرجس ، وهذا معنى من معاني الرجس أن يكون دوافعه ومنطلقاته عشائريّة قبائليّة جاهليّة.
2 ـ أمّا من الناحية التاريخيّة ، عندما يراجع الإنسان التاريخ يجد أنّ هذا التفسير لا يمكن أن يقبل حتّى لو قطعنا النظر عن الجانب العقائدي في هذه المسألة ، فملاحظة التاريخ ودراسة ما وقع في التاريخ الإسلامي دراسة موضوعيّة علميّة ، تكشف للإنسان بأقلّ التفاتة ، أنّ هذا الصراع بحسب الحقيقة لا يمكن أن يكون صراع بين قبيلتين وأنّ دوافعه الحقيقيّة إحساسات عشائريّة أو قبائليّة أو شيء من هذا القبيل ، كيف وأنّ النبي صلّى الله عليه وآله بحسب تاريخه أوّل من عارض هذه الفكرة وطبّقها في حقّ نفسه وفي مجتمعه ، سلمان الفارسي يجعله محمديّاً بينما أبا لهب يجعله كافراً ، هل هناك ما هو أوضح من هذا دلالة على أنّ عمل النبي وسلوكه وتفكيره لم يكن عشائريّاً.
3 ـ لو كانت المسألة مسألة قبيلة وعشيرة لكان ينبغي على الإمام الحسين عليه السلام أن ينهض بعشيرته قبل أن ينهض بالغرباء البعيدين عن عشيرته ، كان ينبغي أن ينهض في موطن عشيرته وهو الحجاز ، بينما المسألة لم تكن كذلك لا الحركة بدأت من موطن تلك العشيرة ولا المتحرّكين بهذه الحركة كانوا من أصحاب هذه العشيرة ، ذلك أنّ أصحاب الحسين عليه السلام سواء كانوا من حيث الانتماء القبلي أو من حيث الانتماء القومي أو الشعوبي ، أو من حيث الانتماء لمستوى الثقافة أو مستوى الوضع الاجتماعي ، بل وحتّى من حيث الانتماء المذهبي يمثلون نماذج وعينات متعدّدة ومختلفة ، حيث نلاحظ أن هناك اختلافاً عظيماً بين هؤلاء ، ولا يمنك أن تجمع كلّ هؤلاء أو توحدهم قضيّة الصراع القبلي.
إذن هذا التفسير مرفوض :
أوّلاً : عقائديّاً باعتبار أنّه يخدش في قضيّة الإيمان بنبوّة الرسول الكريم.
ثانياً : علميّاً من خلال مراجعة وقائع التاريخ.
ثالثاً : الإمام الحسين ومن خلال تصريحه الأوّل والذي يحدّد فيه هويّة تحرّكه التغييري ، بيّن أن خروجه لم يكن إلّا لطلب الإصلاح في أمّة جدّه وهو هدف رسالي مبدئي وليس هدفاً قبليّاً أو عشائريّاً.
وللحديث بقيّة إن شاء الله تعالى.
المصدر : مركز الإشعاع الإسلامي للدراسة والبحوث الإسلاميّة
التعلیقات