عشرة مواقف لفاطمة الزهراء عليها السلام يكفي الواحد منها لمن كان له قلب !
الشيخ علي الكوراني العاملي
منذ 9 سنواتعشرة مواقف لفاطمة الزهراء عليها السلام يكفي الواحد منها لمن كان له قلب !
1 ـ يوم بكت وأبكت أباها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم !
كان ذلك أكثر من مرّة ، في مجالس شهدها الصحابة ونطق فيها النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بالغيب ، فكانت نوراً نبويّاً تلقاه رواة أهل البيت عليهم السلام ونقلوه بأمانة.
روى الخزاز في كفاية الأثر ص 124 عن عمّار قال : « لما حضرت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم الوفاة دعا بعلي عليه السلام فسارَّه طويلاً ، ثمّ قال : يا علي أنت وصيّي ووارثي قد أعطاك الله علمي وفهمي ، فإذا متُّ ظهرت لك ضغائن في صدور قوم وغصب على حقد ! فبكت فاطمة وبكى الحسن والحسين فقال لفاطمة : يا سيّدة النسوان ممّ بكاؤك ؟ قالت : يا أبة أخشى الضيعة بعدك ! قال : أبشري يا فاطمة فإنّك أوّل من يلحقني من أهل بيتي ، ولا تبكي ولا تحزني فإنّك سيّدة نساء أهل الجنّة ، وأباك سيّد الأنبياء ، وابن عمّك خير الأوصياء ، وابناك سيّدا شباب أهل الجنّة ، ومن صلب الحسين يخرج الله الأئمّة التسعة ، مطهّرون معصومون ، ومنّا مهدي هذه الأمّة ».
وروى الصدوق في كمال الدين ص 662 ، عن سلمان قال : « كنت جالساً بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في مرضته التي قبض فيها فدخلت فاطمة عليها السلام فلمّا رأت ما بأبيها من الضعف بكت حتّى جرت دموعها على خدّيها ، فقال لها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : ما يبكيك يا فاطمة ؟ قالت : يا رسول الله أخشى على نفسي وولدي الضيعة بعدك ! فاغرورقت عينا رسول الله بالبكاء ثمّ قال : يا فاطمة أما علمت أنّا أهل بيت اختار الله عزّ وجلّ لنا الآخرة على الدنيا ، وأنّه حتم الفناء على جميع خلقه ، وأنّ الله تبارك وتعالى اطَّلع إلى الأرض إطلاعة فاختارني من خلقه فجعلني نبيّاً ، ثمّ اطلع إلى الأرض إطلاعة ثانية فاختار منها زوجك ، وأوحى إليَّ أن أزوّجك إيّاه ، واتّخذه ولياً ووزيراً ، وأن أجعله خليفتي في أمّتي. فأبوك خير أنبياء الله ورسله ، وبعلك خير الأوصياء ، وأنت أوّل من يلحق بي من أهلي.
ثمّ اطَّلع إلى الأرض إطلاعة ثالثة فاختارك وولديك ، فأنت سيّدة نساء أهل الجنّة وابناك حسن وحسين سيّدا شباب أهل الجنّة ، وأبناء بعلك أوصيائي إلى يوم القيامة كلّهم هادون مهديّون ، وأوّل الأوصياء بعدي أخي علي ، ثمّ حسن ، ثمّ حسين ، ثمّ تسعة من ولد الحسين في درجتي ، وليس في الجنّة درجة أقرب إلى الله من درجتي ودرجة أبي إبراهيم ! أما تعلمين يا بنيّة أنّ من كرامة الله إيّاك أن زوّجك خير أمّتي ، وخير أهل بيتي ، أقدمهم سلماً وأعظمهم حلماً ، وأكثرهم علماً.
فاستبشرت فاطمة عليها السلام وفرحت بما قال لها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ... الحديث وهو طويل ». انتهى.
« ورواه القاضي النعمان في شرح الأخبار : 122 / 1 ، عن أبي سعيد الخدري ، والطبري الشيعي في المسترشد ص 613 ، بتفصيلات أخرى .. الخ. ».
يا رسول الله أخشى على نفسي وولدي الضيعة بعدك !
ممّن ؟ من هؤلاء الجالسين حول أبيها ، الذين حدّثها بما هم فاعلون !
فاغرورقت عينا رسول الله بالبكاء ! ممّن ؟ من زعماء قريش الجالسين حوله ! الذين أخبره ربّه أنّ عاصفتهم بالباب ، تنتظر أن يغمض عينيه لتعصف بالإسلام وبالترتيبات الربانيّة له ! وأنّ بيت فاطمة عليها السلام سيكون أوّل هدفهم فيهدّدونهم بإحراق البيت على من فيه ، إن لم يعترفوا بشرعيّة إمام بطون قبائل قريش !!
لقد أعد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أهل بيته فاطمة وعلياً والحسنين عليهم السلام لمرحلة ما بعده .. فلا تنقصهم المعلومات ولا التوجيهات ، ولا اليقين بما سيكون ، فقد حكاه الله لنبيّه مفصلاً فحكاه لهم ، فآمنوا به على مستوى الحسّ لا الحدس ، وأخذ عليهم النبي العهد والميثاق أن يصبروا ويعملوا لإنقاذ ما يمكن ، وأعطوه العهد على ذلك عن إيمان ورضا ، ووطنوا أنفسهم على العطاء لله من حقّهم وكرامتهم حتّى يرضى !
لكن هذا اليقين لا يمنع فاطمة عليها السلام أن تستشرف صور الفتنة ، وعواصفها المزمجرة ، كلّما اقتربت أيّام وصولها ، فتبكي لأبيها العطوف الحنون ، لكي يشاركها بدمعة قبل أن يرحل ! ويقول لهؤلاء في أنفسهم قولاً بليغاً ، فيسمع موقفه من أصحابه من لم يسمعه ، لعلّ ذلك يخفّف من موج العاصفة !
أخبرها النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّ الله تعالى قضى على هذه الأمّة كما قضى على الأمم السابقة ، أن يعطيها الحريّة لاختيار الضلال إن شاءت ، ما دامت لم ترتفع إلى مستوى من التقوى فتفرق عمليّاً بين القيادة المعيّنة من الله تعالى ، والمعيّنة من القبائل المتغلّبة ! وأنّ امتحان العترة قريب ! وأنّ عاصفة قريش الطلقاء لا تبعد أكثر من ساعة عن وفاته حتّى تزمجر ! فقد ذهبا إلى السقيفة يتعاديان ليصفق عمر على يد أبي بكر ويعلنه خليفة ، بعد أن ناقشا لنصف ساعة أو أقلّ سعد بن عبادة المريض وبضعة نفر حوله ! ثمّ جاء دور ألوف الطلقاء الذين حشدوهم في المدينة لثبيت السلطة الجديدة ، وتنفيذ اضطهاد آل محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم !
أخبرها أنّهم سيفتحون عليهم باب الإضطهاد حتّى يضجّ منه التاريخ ! فيعيشون وشيعتهم مظلومين مقهورين ، ما بين مقتول ومسموم ومسجون ومشرد وخائف على دمه ، حتّى يظهر مهديّهم الموعود.
بكى النبي لبكاء فاطمة ، وقال لها نعم سيكون ما تخشين ، لكن ربّنا عزّ وجلّ أكرمنا وفضّلنا ، وعلينا أن ندفع ضريبة العبوديّة الكاملة له ، وهي ضريبة لأيّام قليلة تعقبها راحة طويلة. إن عمر الدنيا القصير يسهل الأمر ، يا بنيّة !
كانت فاطمة ترى الأمور تسير نحو الكارثة على الاسلام وعترة نبيّه صلّى الله عليه وآله وسلّم بمجرّد أن يغمض النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عينيه ويلاقي ربّه !
فأيّدها النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وبكى لها ، وهدَّأها ، طمأنها بأنّ ذلك ضريبة عبوديّة هذه الأسرة المصطفاة لربّها عزّ وجلّ ، ففرحت الحزينة ! تقول في فرحها لنعم الله : سمعاً وطاعة يا أبتاه .. تدمع العين ويحزن القلب ، ولا نقول إلّا ما يرضي الربّ فرضا الله رضانا أهل البيت ، وليقترف الناس ما هم مقترفون !
أما رواة الحكومات ، فرووا من هذا المشهد النبوي البليغ نتفاً مبتورة وصحّحوا بعضها ! ورووا منه فقرات طويلة ولم يضعفها أحد غير الذهبي تحكماً وتعصّباً فاتّبعوه وغطّوا عليه ! رواه الطبراني في الكبير : 3 / 57 ، والصغير : 1 / 67 ، وابن عساكر : 42 / 130 ، والطبري في ذخائر العقبى ص 135 ، وابن الأثير في أسد الغابة : 4 / 42 ، والهيثمي في مجمع الزوائد : 8 / 253 ، وقال : « وهو بتمامه في فضل أهل البيت ، رواه الطبراني في الأوسط والكبير وفيه الهيثم بن حبيب ، وقد اتّهم بهذا الحديث ! ورواه في : 9 / 164 ، وقال : رواه الطبراني في الكبير والأوسط ، وفيه الهيثم بن حبيب ، قال أبو حاتم منكر الحديث وهو متّهم بهذا الحديث » !
ولا يتّسع المجال لتفصيل تهافتهم وتعصّبهم في هذا الحديث ، فيكفي أن تعرف أن الهيثمي نفسه قال في الزوائد : 3 / 190 : وأمّا الهيثم بن حبيب فلم أر من تكلم فيه غير الذهبي « القرن الثامن » اتّهمه بخبر رواه ، وقد وثّقه ابن حبان ». انتهى.
وهو يقصد قول الذهبي في ميزان الإعتدال : 4 / 320 : « الهيثم بن حبيب عن سفيان بن عيينة بخبر باطل في المهدي ، هو المتّهم به. رواه أبو نعيم ، عن الطبراني ، عن محمّد بن رزيق بن جامع عنه ». انتهى.
وواضح أنّ اتّهام الذهبي لهذا الراوي بالوضع ، لا حجّة له إلّا أنّ الحديث لم يعجب الذهبي المتعصّب ، لأنّه يكشف سقيفة قريش ، وينصّ على إمامة علي والحسنين وبقيّة العترة إلى المهدي عليهم السلام ! ولا بدّ أنّ الذهبي رأى أنّ الهيثم من أصحاب الإمام الصادق عليه السلام الموثّقين عندنا وعندهم ! فازداد غيظاً !
أمّا قول الهيثمي : « قال أبو حاتم منكر الحديث » فهو خطأ أو كذب ! لأنّ أبا حاتم وثّق ابن حبيب بنصّ الذهبي في ميزان الإعتدال : 4 / 320 قال : « فوثقه أبو حاتم ». وفي تهذيب التهذيب : 11 / 81 : أنّ أبا عوانة وثّقه وقال : « قال لي شعبة : إلزم الهيثم الصيرفي. وقال الأثرم : أثنى عليه أحمد وقال : ما أحسن أحاديثه وأسدّ استقامتها ، ليس كما يروي عنه أصحاب الرأي. وقال إسحاق بن منصور عن ابن معين : الهيثم بن حبيب الصراف ثقة. وقال أبو زرعة وأبو حاتم : ثقة في الحديث صدوق ، وذكره ابن حبان في الثقات ». انتهى. وكذا في تهذيب الكمال : 30 / 369 ، وفي سؤالات الآجري لأبي داود : 1 / 191 : سألت أبا داود عن الهيثم بن حبيب ، قلت : يتقدّم عبد الملك بن حبيب ؟ قال : نعم. وقد روى شعبة عنهما. وفي شرح مسند أبي حنيفة للقاري ص 398 : الهيثم بن حبيب الصرفي أحد التابعين الأجلاء ».
لكن لا تعجّب من هرب إمامهم الذهبي الشركسي من هذا الحديث وهجومه عليه وارتكابه الكذب من أجله ، ولا من حذوهم حذوه وتغطيتهم عليه ! لأنّ نصّ الحديث ثقيلٌ على أعصابهم وأعصاب بطون قريش ، مع أنّهم حذفوا منه ذكر بقيّة الأئمّة الإثني عشر عليهم السلام ! وهذا نصّه من مجمع الزوائد :
« عن علي بن علي الهلالي عن أبيه قال : دخلت على رسول الله (ص) في شكاته التي قبض فيها فإذا فاطمة رضي الله عنها عند رأسه ، قال فبكت حتّى ارتفع صوتها فرفع رسول الله (ص) طرفه إليها فقال : حبيبتي فاطمة ما الذي يبكيك ؟ فقالت : أخشى الضيعة بعدك ! فقال : يا حبيبتي أما علمت أنّ الله عزّ وجلّ اطَّلع إلى الأرض اطلاعةً فاختار منها أباك فبعثه برسالته ، ثم اطَّلع إلى الأرض اطلاعةً فاختار منها بعلك وأوحى إلى أن أنكحك إيّاه ! يا فاطمة ونحن أهل بيت قد أعطانا الله سبع خصال لم تعط لأحد قبلنا ولا تعطى أحداً بعدنا : أنا خاتم النبيين وأكرم النبيين على الله ، وأحبّ المخلوقين إلى الله عزّ وجلّ وأنا أبوك ، ووصيّي خير الأوصياء وأحبّهم إلى الله وهو بعلك ، وشهيدنا خير الشهداء وأحبّهم إلى الله وهو عمّك حمزة بن عبد المطلب وعمّ بعلك ، ومنّا من له جناحان أخضران يطير مع الملائكة في الجنّة حيث شاء وهو ابن عمّ أبيك وأخو بعلك ، ومنّا سبطا هذه الأمّة وهما ابناك الحسن والحسين وهما سيّدا شباب أهل الجنة وأبوهما والذي بعثني بالحقّ خير منهما.
يا فاطمة والذي بعثني بالحقّ إن منهما مهدي هذه الأمّة ، إذا صارت الدنيا هرجاً ومرجاً ، وتظاهرت الفتن ، وتقطعت السبل ، وأغار بعضهم على بعض ، فلا كبير يرحم صغيراً ولا صغير يوقر كبيراً ، فيبعث الله عزّ وجلّ عند ذلك منهما من يفتح حصون الضلالة وقلوباً غلفاً ! يقوم بالدين آخر الزمان كما قمت به في أوّل الزمان ، ويملأ الدنيا عدلاً كما ملئت جوراً.
يا فاطمة لا تحزني ولا تبكي ، فإنّ الله عزّ وجلّ أرحم بك وأرأف عليك منّي وذلك لمكانك من قلبي ، وزوّجك الله زوجاً وهو أشرف أهل بيتك حسباً وأكرمهم منصباً ، وأرحمهم بالرعيّة وأعدلهم بالسويّة وأبصرهم بالقضيّة ، وقد سألت ربّي عزّ وجلّ أن تكوني أوّل من يلحقني من أهل بيتي !
قال علي رضي الله عنه : فلمّا قبض النبي (ص) لم تبق فاطمة رضي الله عنها بعده إلّا خمسة وسبعين يوماً ، حتّى ألحقها الله عزّ وجلّ به (ص). انتهى.
إنّها واحدة من الححج النبويّة التي أفلتت من سيطرة رواة قريش ! فلا ينفعهم أن الذهبي في القرن الثامن غضب منها ، وسعى في خرابها !
2 ـ يوم بكى أبوها صلّى الله عليه وآله وسلّم لظلامتها .. وبكت لفقده !
في أمالي الشيخ الطوسي ص 188 : « عن عبد الله بن العبّاس قال : لما حضرت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم الوفاة بكى حتّى بلَّتْ دموعه لحيته فقيل له : يا رسول الله ما يبكيك ؟ فقال : أبكي لذريّتي ، وما تصنع بهم شرار أمّتي من بعدي ! كأنّي بفاطمة ابنتي وقد ظلمت بعدي وهي تنادي يا أبتاه يا أبتاه ، فلا يعينها أحد من أمّتي ! فسمعت ذلك فاطمة فبكت ، فقال لها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : لم تبكين يا بنيّة ؟ فقالت : لست أبكي لما يصنع بي من بعدك ، ولكن أبكي لفراقك يا رسول الله ! فقال لها : أبشري يا بنت محمّد بسرعة اللحاق بي ، فإنّك أوّل من يلحق بي من أهل بيتي ».
من بعد حجّة الوداع ، لم يكن أحدٌ يعاني كما عانت فاطمة وعليٌّ والحسنان عليهم السلام. كان وداع النبي بالنسبة لهم وداعاً لعالم أعلى فيه كلّ شيء ، واستعداداً للدخول في عالم مليء بالآلام والأحزان ، ومقارعة العواصف والأفاعي !
كانوا يدركون أنّ كلّ تأكيدات النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم واحتياطاته لم تؤثر في قريش التي ركبت رأسها وأصرت على مؤامرتها ، وهيّأت الأجواء في قبائلها وقبائل العرب وحتّى في بعض أوساط الأنصار ، لمقولتها أنّ بني هاشم تكفيهم النبوّة ، وليس من العدل أن يجمعوا بين النبوّة والخلافة ، ويحرموا منها بطون قريش !!
لقد شاهدت فاطمة عليها السلام في حجّة الوداع صوراً من الصراع بين الهدى النبوي والضلال القرشي ، ورأت أنّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم خطب خمس خطب ، وأوضح للأمّة مراراً موقع عترته وأهل بيته من بعده ، بأساليبه المبتكرة وبلاغته النبويّة ، وأنّه كلّما وصل إلى تعيين الولاة بعده ، وأنّ الله غرسهم في هذا البيت من بني هاشم ، لغطّت قريش وشوش أتباعها المبثوثون في مجلسه ، وصاحوا وقاموا وقعدوا وكبروا ! ثمّ قالوا : إنّ النبي قال : الأئمّة من قريش ، كلّ قريش ، كلّ قريش !!
لقد أقام النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم الحجّة لربّه بيّنةً صريحةً في مكّة وعرفات ومنى ، ثمّ لم يُبْقِ يوم الغدير لأحد عذراً ، على حدّ تعبير فاطمة عليها السلام !
لكن قريشاً كانت صماء ، وكأن حجّة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لا تعنيها بشيء ! فهذا سهيل بن عمر يمسك بزعامتها في مكّة ويتصرّف كأنّه رئيس دولة مقابل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ويقول نحن ، ومحمّد ! ويرسل جابر بن النضر العبدري ليعترّض على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ، لأنّه بزعمه لم يكتف بما فرضه على الناس من صلاة وصوم وزكاة وحجّ ، حتّى أخذ بضبع ابن عمّه قائلاً : من كنت مولاه فعليّ مولاه !
وهؤلاء طلقاء النبي من قريش صاروا ألوفاً في المدينة ، وهم ملتفون حول أبي بكر وعمر ، وعائشة وحفصة تواصلان تظاهرهما على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وتفشيان لهم سرّه ! وكلّما علَّمَ جبرئيل النبي خطةً لترتيب الوضع لوصيّه وعترته من بعده ، عملت قريش في إبطالها وتخريبها !!
ومن أواخر ما خرّبوه أنّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عرض عليهم ما لم يعرضه نبي على أمّته قطّ وطلب منهم أن يلتزموا له بعهد يكتبه ليؤمِّن الأمّة من الضلال إلى يوم القيامة ، ويجعلها سيّدة العالم إلى يوم القيامة ! فبادروا إلى رفضه ، ودفعوا عمر لمواجهة النبي بكلّ صلافة : لاحاجة لنا بكتابك ، ومنعوه من كتابته !!
ثمّ أراد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أن تفرغ المدينة من دعاة الفتنة وأرسلهم جميعاً في جيش أسامة إلى فلسطين ، وفيهم سبع مئة رجل من قريش ! وأمره بالتحرّك ، ولعن من تخلّف عن جيش أسامة ! فافتعلوا المشاكل والأعذار حتّى سوفوا الوقت وأفشلوا برنامج أسامة ، وتسلّلوا من معسكره من الجرف لواذاً عائدين إلى المدينة !
كانت فاطمة عليها السلام تشاهد ذلك ، وتسمع كلام أبيها صلّى الله عليه وآله وسلّم عن عاصفة قريش التي تنتظر عترته ، وترى دموعه الغزار من أجلهم ، ومن أجلها خاصّة ! لكنّها كانت اليوم تبكي لأعظم من كلّ ذلك ، لفراق أبيها !
بعين الله ما سألقاه بعدك يا أبتي ! يُغصب زوجي حقّه ، ويَهجمون علينا ويُضرمون النار في دارنا ، وأُهانُ أنا وأضربُ ويُسقطُ جنيني ، ويُقاد زوجي بحمائل سيفه ! رضاً برضا الله ورضاك يا رسول الله ، فكلّ هذه المصائب دون مصيبة فراقك يا خير الرسل وخير الآباء !
3 ـ يوم واجهت المهاجمين لدارها !
فخاطبتهم من وراء باب الدار كما تقدّم في رواية ابن قتيبة : « لا عهد لي بقوم حضروا أسوأ محضر منكم ! تركتم رسول الله جنازة بين أيدينا ، وقطعتم أمركم بينكم لم تستأمرونا ولم تردوا لنا حقّاً » ! ولما كرّروا تهديدهم بإحراق الدار صاحت : « يا رسول الله ماذا لقينا من ابن أبي قحافة وابن الخطاب بعدك ! يا عمر جئت لتحرق علينا دارنا ! ». ثمّ تفاقم الأمر وأشعلوا النار بالباب ، ودفعوه والزهراء عليها السلام خلفه !!
قال السيّد جعفر مرتضى في كتاب مأساة الزهراء عليها السلام : 2 / 96 : « نقل جماعة سيأتي في الموضع المذكور ذكر أساميهم ، والكتب التي نقلوا فيها ، منهم الطبري ، والجوهري ، والقتيبي ، والسيوطي ، وابن عبد ربه ، والواقدي ، وغيرهم خلق كثير : أنّ عمر بن الخطاب وجماعة معه ، منهم خالد بن الوليد ، أتوا بأمر أبي بكر إلى بيت فاطمة ، وفيه علي والزبير ، وغيرهما ، فدقّوا الباب ، وناداهم عمر ، فأبوا أن يخرجوا. فلمّا سمعت فاطمة أصواتهم نادت بأعلى صوتها باكية : يا أبتاه ، يا رسول الله ، ماذا لقينا بعدك من ابن الخطاب ، وابن أبي قحافة.
وفي رواية القتيبي وجمع غيره : أنهم لما أبوا أن يخرجوا دعا عمر بالحطب ، وقال : والذي نفس عمر بيده لتخرجنّ ، أو لأحرقنّها عليكم على ما فيها. فقيل له : إن فيها فاطمة ؟! فقال : وإن !! وفي رواية ابن عبد ربه : أنّ فاطمة قالت له : يا ابن الخطاب أجئتنا لتحرق دارنا ؟ قال : نعم. وفي رواية زيد بن أسلم: أنّها قالت : تحرق عليَّ وعلى ولدي ؟ قال : إي والله ، أو ليخرجنّ وليبايعن.
ثمّ إنّ القوم الذين كانوا مع عمر لما سمعوا صوتها وبكاءها انصرف أكثرهم باكين ، وبقي عمر وقوم معه فأخرجوا عليّاً. حتّى في رواية أكثرهم : أنّ عمر دخل البيت وأخرج الزبير ثمّ عليّاً. واجتمع الناس ينظرون ، وصرخت فاطمة وولولت ، حتّى خرجت إلى باب حجرتها ، وقالت : ما أسرع ما أغرتم على أهل بيت نبيّكم. وقد ذكر الشهرستاني في كتاب الملل والنحل : أنّ النظام نقل أنّ عمر ضرب بطن فاطمة ذلك اليوم حتّى ألقت المحسن من بطنها وكان يصيح : أحرقوها بمن فيها. وفي روايات أهل البيت عليهم السلام : أن عمر دفع باب البيت ليدخل وكانت فاطمة وراء الباب ، فأصابت بطنها ، فأسقطت من ذلك جنينها المسمّى بالمحسن ، وماتت بذلك الوجع. وفي بعض رواياته : أنّه ضربها بالسوط على ظهرها. وفي رواية : أنّ قنفذ ضربها بأمره .. الخ ». انتهى.
وفي كتاب مظلوميّة الزهراء للسيّد الميلاني ص 62 : « في العقد الفريد لابن عبد ربّه المتوفى سنة 328 : وأمّا علي والعبّاس والزبير ، فقعدوا في بيت فاطمة حتّى بعث إليهم أبو بكر ـ ولم يكن عمر هو الذي بادر ـ بعث أبو بكر عمر بن الخطاب ليخرجوا من بيت فاطمة وقال له : إن أبوا فقاتلهم ، فأقبل بقبس من نار على أن يضرم عليهم الدار فلقيته فاطمة فقالت : يا ابن الخطاب أجئت لتحرق دارنا ؟! قال : نعم أو تدخلوا ما دخلت فيه الأمّة » !. [ الإستيعاب : 3 / 975 وهو في العقد الفريد : 5 / 12 ].
ونقل الميلاني عبارة البلاذري في الأنساب : 1 / 586 : « فجاء عمر ومعه فتيلة ، فتلقته فاطمة على الباب فقالت فاطمة : يا بن الخطاب أتراك محرقاً عليّ بابي ؟! الخ. ».
وفي تاريخ أبي الفداء : 1 / 197 : « وكذلك تخلف عن بيعة أبي بكر أبو سفيان من بني أميّة ، ثمّ إنّ أبا بكر بعث عمر بن الخطاب إلى علي ومن معه ليخرجهم من بيت فاطمة رضي الله عنها وقال : إن أبوا عليك فقاتلهم !! فأقبل عمر بشيء من نار على أن يضرم الدار ! فلقيته فاطمة رضي الله عنها وقالت : إلى أين يا ابن الخطاب أجئت لتحرق دارنا ؟! قال : نعم أو تدخلوا فيما دخل فيه الأمّة ! فخرج عليٌّ حتّى أتى أبا بكر فبايعه ، كذا نقله القاضي جمال الدين بن واصل وأسنده إلى ابن عبد ربه المغربي. وروى الزهري عن عائشة قالت : لم يبايع علي أبا بكر حتّى ماتت فاطمة ، وذلك بعد ستّة أشهر لموت أبيها ». انتهى.
4 ـ يوم أخذوا عليّاً عليه السلام فخرجت خلفه لتمنعهم من قتله !
في الكافي : 8 / 237 : « عن أبي هاشم قال : لما أُخرج بعلي عليه السلام خرجت فاطمة عليها السلام واضعة قميص رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم على رأسها ، آخذة بيدي ابنيها فقالت : مالي ومالك يا أبا بكر ، تريد أن تؤتم ابني وترملني من زوجي ، والله لولا أن تكون سيّئة لنشرت شعري ولصرخت إلى ربّي ! فقال رجل من القوم : ما نريد إلى هذا ، ثمّ أخذت بيده فانطلقت به » ! انتهى.
وفي الإختصاص ص 186 : « فخرجت فاطمة عليها السلام فقالت : يا أبا بكر وعمر تريدان أن ترمِّلاني من زوجي ! والله لئن لم تكفَّا عنه لأنشرنّ شعري ولأشقَّنّ جيبي ، ولآتينّ قبر أبي ولأصيحنّ إلى ربّي ! فخرجت وأخذت بيد الحسن والحسين متوجّهة إلى القبر ! فقال علي لسلمان : يا سلمان أدرك ابنة محمّد .. الخ. ».
وفي الإحتجاج : 1 / 113 : عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام أنّه قال : « لما استُخرج أمير المؤمنين عليه السلام من منزله خرجت فاطمة صلوات الله عليها خلفه ، فما بقيت امرأة هاشميّة إلّا خرجت معها ، حتّى انتهت قريباً من القبر فقالت لهم : خلّوا عن ابن عمّي فوالذي بعث محمّداً أبي بالحقّ إن لم تخلوا عنه لأنشرنَّ شعري ولأضعنّ قميص رسول الله على رأسي ، ولأصرخنّ إلى الله تبارك وتعالى ، فما صالحٌ بأكرمَ على الله من أبي ، ولا الناقةُ بأكرم منّي ، ولا الفصيلُ بأكرم على الله من ولديَّ !
قال سلمان رضي الله عنه : كنت قريباً منها ، فرأيت والله أساس حيطان مسجد رسول الله تقلعت من أسفلها ، حتّى لو أراد رجل أن ينفذ من تحتها لنفذ ، فدنوت منها فقلت : يا سيّدتي ومولاتي إنّ الله تبارك وتعالى بعث أباك رحمةً فلا تكوني نقمة ، فرجعت ورجعت الحيطان حتّى سطعت الغبرة من أسفلها ، فدخلت في خياشيمنا ». انتهى.
وفي مثالب النواصب ص 141 : « عن عديّ بن حاتم وعمرو بن حريث ، قال واحد منهما : ما رحمت أحداً كرحمي علي بن أبي طالب ، رأيته حين أتي به إلى بيعة الأوّل ، فلمّا نظر إلى القبر قال : يا ابن أمّ إنّ القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني ! فقال : بايع ، فقال : إن لم أفعل ؟ قال إذاً نقتلك ! قال : إذاً تقتلون عبد الله وأخا رسول الله ! فبايع وأصابعه مضمومة » !
5 ـ يوم دارت مع علي عليهما السلام على زعماء الأنصار وأقامت عليهم الحجّة
في كتاب سُليم ص 216 ، من جواب أمير المؤمنين عليه السلام للأشعث بن قيس ، قال : « ثمّ حملتُ فاطمة وأخذت بيد ابني الحسن والحسين ، فلم أدَع أحداً من أهل بدر وأهل السابقة من المهاجرين والأنصار إلّا ناشدتهم الله في حقّي ودعوتهم إلى نصرتي. فلم يستجب لي من جميع الناس إلّا أربعة رهط : سلمان وأبو ذر والمقداد والزبير ، ولم يكن معي أحد من أهل بيتي أصول به ولا أقوى به ، فقلت كما قال هارون لأخيه : ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي ! فلي بهارون أسوة حسنة ولي بعهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حجّة قويّة ... الخ. ».
وفي الإختصاص ص 183 ، من حديث فدك : « ثمّ خرجَتْ وحَمَلها عليٌّ على أتان عليه كساء له خمل ، فدار بها ـ أربعين صباحاً ـ في بيوت المهاجرين والأنصار والحسن والحسين معها وهي تقول : يا معشر المهاجرين والأنصار أنصروا الله فإنّي ابنة نبيّكم ، وقد بايعتم رسول الله يوم بايعتموه أن تمنعوه وذريّته ممّا تمنعون منه أنفسكم وذراريكم ، ففوا لرسول الله ببيعتكم ! قال : فما أعانها أحد ولا أجابها ولا نصرها ! قال : فانتهت إلى معاذ بن جبل فقالت : يا معاذ بن جبل إنّي قد جئتك مستنصرة وقد بايعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم على أن تنصره وذريّته وتمنعه ممّا تمنع منه نفسك وذريّتك ، وأنّ أبا بكر قد غصبني على فدك وأخرج وكيلي منها ! قال : فمعي غيري ؟ قالت : لا ، ما أجابني أحد. قال : فأين أبلغ أنا من نصرتك ؟ قال : فخرجت من عنده ودخل ابنه فقال : ما جاء بابنة محمّد إليك ؟ قال : جاءت تطلب نصرتي على أبي بكر فإنّه أخذ منها فدكاً ، قال : فما أجبتها به ؟ قال قلت : وما يبلغ من نصرتي أنا وحدي ؟ قال : فأبيتَ أن تنصرها ! قال : نعم ، قال : فأيُّ شيء قالت لك ؟ قال : قالت لي : والله لاُنازعنّك الفصيح من رأسي حتّى أرد على رسول الله ، قال فقال : أنا والله لا نازعتك الفصيح من رأسي حتّى أرد على رسول الله إذ لم تجب ابنة محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم ! قال وخرجت فاطمة من عنده وهي تقول : والله لا أكلّمك كلمة حتّى اجتمع أنا وأنت عند رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم ، ثمّ انصرفت » !
أقول : قولها عليها السلام لا نازعتك الفصيح من رأسي : معناه لا كلّمتك كلّ عمري.
ولعلّ معاذاً كان يراجع حسابه في خذلانه لأهل بيت النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في هذه الرواية التي روتها مصادرهم وصحّحوها ، وهي أنّ عمر رآه عند قبر النبي يبكي فقال له : « ما يبكيك يا معاذ ؟ قال : يبكيني شيء سمعته من صاحب هذا القبر ! قال : وما سمعته ؟ قال : سمعته يقول : إن اليسير من الرياء شرك ، وإن من عادى ولي الله فقد بارز الله تعالى بالمحاربة ، وإنّ الله يحبّ الأتقياء الأخفياء الذين إن غابوا لم يفتقدوا وإن حضروا لم يعدوا ولم يعرفوا ، قلوبهم مصابيح الهدى ، يخرجون من كلّ غبراء مظلمة ». [ الحاكم : 4 / 328 ، وصححه ، والكبير للطبراني : 20 / 154 ، ومسند الشهاب : 2 / 148 ، و 252 ].
وقال ابن قتيبة في الإمامة والسياسة : 1 / 29 : « وخرج علي كرم الله وجهه يحمل فاطمة بنت رسول الله (ص) على دابّة ليلاً في مجالس الأنصار تسألهم النصرة ، فكانوا يقولون : يا بنت رسول الله قد مضت بيعتنا لهذا الرجل ولو أنّ زوجك وابن عمّك سبق إلينا قبل أبي بكر ما عدلنا به ، فيقول علي كرم الله وجهه : أفكنت أدع رسول الله (ص) في بيته لم أدفنه ، وأخرج أنازع الناس سلطانه ؟! فقالت فاطمة : ما صنع أبو الحسن إلّا ما كان ينبغي له ، ولقد صنعوا ما الله حسيبهم وطالبهم ».
وفي الخصال للصدوق ص 173 : « قالت سيّدة النسوان فاطمة عليها السلام لما مُنعت فدك وخاطبت الأنصار فقالوا : يا بنت محمّد لو سمعنا هذا الكلام منك قبل بيعتنا لأبي بكر ما عدلنا بعلي أحداً ، فقالت : وهل ترك أبي يوم غدير خم لأحد عذراً » !
6 ـ يوم أقامت مجالس العزاء والبكاء على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصرت عليها !
روت مصادر الجميع أنّ فاطمة عليها السلام كانت تندب أباها صلّى الله عليه وآله وسلّم وتبكيه ، وروت فقرأت مؤثّرة من نوحها عليه ، وأبيات شعر بليغة.
قال البخاري : 5 / 144 : « عن أنس قال لما ثقل النبي (ص) جعل يتغشّاه فقالت فاطمة : واكرب أباه ! فقال لها : ليس على أبيك كربٌ بعد اليوم ! فلمّا مات قالت : يا أبتاه أجاب ربّاً دعاه. يا أبتاه من جنّة الفردوس مأواه. يا أبتاه إلى جبريل ننعاه. فلمّا دفن قالت فاطمة عليها السلام : يا أنس أطابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله التراب ! ». انتهى.
وروت مصادر الحديث والسيرة أحاديث أخرى تهزُّ قلب الإنسان ، من ذلك « أنّها أخذت قبضة من تراب النبي (ص) فوضعتها على عينيها ثمّ قالت :
ماذا على من شمَّ تربة أحمدٍ * أن لا يشمَّ مدى الزمان غوالي
صُبَّتْ عَليَّ مصائبٌ لو أنها * صُبَّتْ على الأيام عُدْنَ ليالي
[ مسند أحمد : 2 / 489 ]
أين كانت تقيم فاطمة عليها السلام مجالس عزائها على أبيها صلّى الله عليه وآله وسلّم ؟
تدلّ الروايات على أنّها كانت تقيمها عند قبر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وفي بيتها وفي البقيع ، وكانت تذهب إلى قبر عمّها حمزة رحمه الله كلّ يوم خميس وإثنين. واستمرّ برنامجها هذا طوال مدّتها بعد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وهي كما في رواياتنا نحو ثلاثة أشهر وفي رواية البخاري ستّة أشهر ، وفيما يلي بعض الضوء على هذه المجالس :
من الطبيعي أن تكون نساء الأنصار والمهاجرين قد أقمنَ مجالس ندب على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في أحيائهنّ كما فعلن يوم شهادة حمزة رحمه الله وغيره وأن يحضر غالبهنّ مجلس فاطمة الزهراء عليها السلام فيعزّينها ويندبن معها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم !
وطبيعي أن يكون لهذه المجالس دورٌ اجتماعي وسياسي في ذلك الظرف الحسّاس ، الذي حدثت فيه بيعة السقيفة ، وخالفها بنو هاشم وغيرهم ، وهاجم الطلقاء بيت فاطمة وعلي عليهما السلام لإجبار من فيه على البيعة.
والسؤال الذي يفرض نفسه : ما بال رواة السلطة لم يرووا أخبار هذه المجالس ؟
والجواب : أنّ الوضع لم يكن طبيعيّاً لا في المسجد ولا في بيت علي وفاطمة ! فالحزب القرشي بعد بيعة أبي بكر جعلوا السقيفة مركز نشاطهم ، بعد أن أهانوا سعد بن عبادة المريض ، فحمله أولاده إلى بيته ، وتركوا لهم السقيفة !
لكنّهم بعد الهجوم على بيت علي وفاطمة عليهما السلام جعلوا مسجد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم مركزهم ! واتّخذوا إجراءات مشدّدة في المسجد وحول القبر النبوي الشريف ، شبيهاً بالأحكام العرفيّة ، ومنعوا إقامة مجالس العزاء ، ومطلق التجمّع عند قبر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ، فقد كان خوف السلطة القرشيّة الجديدة من أمرين :
الأوّل ، مجالس الندب التي تقيمها فاطمة عليها السلام ، أن توظفها لتأليب الأنصار وبعض المهاجرين ضدّ بيعة أبي بكر.
والثاني ، أن تستجير فاطمة وعلي بقبر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كما هي عادة العرب ، معلنين أنّهم أهل الوصيّة والخلافة ، مطالبين بالوفاء لهم بالبيعة وردّ بيعة أبي بكر !
فكان الحلّ عند القرشيين أن أطلقوا نصّاً دينيّاً يمنع التجمّع عند قبر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم حتّى للصلاة ! وقالوا إن ذلك آخر ما قاله النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في آخر لحظات حياته ، وأنّه لعن اليهود والنصارى لأنّهم اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد ، أيّ صلوا عندها ! وفرضوا تنفيذ هذه ـ الوصية النبويّة ـ بالقوّة !
قالت عائشة : « لمّا نزل برسول الله (ص) طفق يطرح خميصة له على وجهه فإذا اغتمّ بها كشفها عن وجهه فقال وهو كذلك : لعنة الله على اليهود والنصارى اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد ، يحذر ما صنعوا. البخاري : 1 / 422 ، 6 / 386 ، 8 / 116 ، ومسلم : 2 / 67 ، والنسائي : 1 / 115 ، والدارمي : 1 / 326 ، والبيهقي : 4 / 80 ، وأحمد : 1 / 218 ، 6 / 34 ، 229 ، 275 ». [ الألباني في أحكام الجنائز ص 216 ]
وقالت عائشة : « قال رسول الله (ص) في مرضه الذي لم يقم منه : لعن الله اليهود والنصارى اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد. قالت : فلولا ذاك أُبْرِزَ قبرُه ، غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً ». البخاري : 3 / 156 ، 198 ، 8 / 114، وأبو عوانة : 2 / 399 ، وأحمد : 6 / 80 ، 121 ، 255 ». [ الألباني في أحكام الجنائز ص 216 ].
وقال السرخسي في المبسوط : 1 / 206 : « ورأى عمر رجلاً يصلّي بالليل إلى قبر فناداه : القبر القبر ، فظنّ الرجل أنّه يقول القمر ، فجعل ينظر إلى السماء ، فما زال به حتّى بينه ». انتهى.
وإلى يومنا هذا لم يستطع عالم من أتباع الخلافة القرشيّة أن يثبت أن اليهود والنصارى اتّخذوا قبراً لنبي من أنبيائهم مسجداً ! اللهم إلّا المؤمنون الذين مدحهم الله بأنّهم اتّخذوا مسجداً على قبور أهل الكهف فقال تعالى : وَكَذَٰلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَانًا رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَىٰ أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا ». [ الكهف : 21 ].
فقد غفل واضعوا الحديث فكذبوا على تاريخ اليهود والنصارى ، كما غفلوا عن هذه الآية التي تكذب زعمهم ! لأنّ همّهم كان منع مجالس فاطمة عليها السلام !
الأحكام العرفيّة في مسجد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وعند قبره !
ثمّ اخترع القرشيّون حديثاً للتأكيد على تحريم التجمع عند قبر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ومنع استجارة بني هاشم به فقالوا إنّ النبي نفسه نهى أن يجعل قبره صنماً ومجمعاً ولو للعبادة فقال : « لا تتّخذوا قبري عيداً أو وثناً » ! وفسّروه بالنهي عن قصد قبره صلّى الله عليه وآله وسلّم في أوقات معيّنة ، أو مطلقاً للتعبّد عنده أو لغير ذلك ! [ أحكام الجنائز للألباني ص 219 ] !
وبذلك ضمنوا « التبرير الشرعي » لمنع علي عليه السلام إن أراد أن يستجير بقبر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ويطالب بالخلافة ! لأنّ الإستجارة بالقبر عند العرب تفرض الإستجابة لمطلب المستجير ، وإلّا لحق العار بذوي صاحب القبر ومن يعزّ عليهم !
ولكنّهم لم يكونوا يعرفون أنّ حرمة قبر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عند علي وفاطمة عليهما السلام أعظم من الخلافة ، وأنّهما ليسا حاضرين لكسر حرمته صلّى الله عليه وآله وسلّم بأيّ ثمن !
قد يقال : إنّ عادة الإستجارة بالقبر قد نسخها الإسلام.
وجوابه : أنّ التاريخ يثبت أنّ العرب ما زالوا في الجاهليّة والإسلام يستجيرون بقبور عظمائهم فينصبون خيمة ويقيمون عند القبر حتّى يلبى طلبهم ! وقد روت المصادر استجارة جماعة بقبر غالب جد الفرزدق ، وهو بكاظمة قرب الكويت ، قال في المستطرف : 217 : « وكان الفرزدق يجير من عاذ بقبر أبيه غالب بن صعصعة فمن استجار بقبر أبيه أجاره ، وإن امرأة من بني جعفر بن كلاب خافت لما هجا الفرزدق بني جعفر أن يسمّيها وينسبها ، فعاذت بقبر أبيه ، فلم يذكر لها إسماً ولا نسباً ، ولكن قال :
فلا والذي عاذت به لا أضيرها * عجوزٌ تصلّي الخمسَ عاذت بغالبِ
« راجع أنساب الأشراف للبلاذري : 2 / 3037 ، الإشتقاق لابن دريد ص 147 ، والتذكرة الحمدونية ص 317 ، والأعلام : 5 / 114 ، وغيرها ».
كما رووا استجارة الكميت بقبر معاوية بن هشام ، بعد أن قبض عليه الأمويّون وأرادوا قتله فأجاره عبد الملك بن مروان : « فقال مسلمة للكميت : يا أبا المستهل ؟ إنّ أمير المؤمنين قد أمرني بإحضارك ! قال أتسلّمني يا أبا شاكر ؟ قال : كلّا ولكنّي أحتال لك. ثمّ قال له : إنّ معاوية بن هشام مات قريباً وقد جزع عليه جزعاً شديداً ، فإذا كان من الليل فاضرب رواقك على قبره ، وأنا أبعث إليك بنيه يكونون معك في الرواق ، فإذا دعا بك تقدّمت عليهم أن يربطوا ثيابهم بثيابك ويقولون : هذا استجار بقبر أبينا ونحن أحقّ بإجارته ! فأصبح هشام على عادته متطلعاً من قصره إلى القبر فقال : ما هذا ؟ فقالوا : لعلّه مستجير بالقبر ! فقال : يجار من كان إلّا الكميت فإنّه لا جوار له. فقيل : فإنّه الكميت. فقال : يحضر أعنف إحضار ! فلمّا دعى به ربط الصبيان ثيابهم بثيابه ، فلمّا نظر هشام إليهم اغرورقت عيناه واستعبر وهم يقولون : يا أمير المؤمنين استجار بقبر أبينا وقد مات وما حظّه من الدنيا ، فاجعله هبة له ولنا ، ولا تفضحنا فيمن استجار به ! فبكى هشام حتّى انتحب ثمّ أقبل على الكميت فقال له ... » [ الغدير : 2 / 207 ] وذكر عتابه للكميت على قصائده المدوية في ذمّ بني أميّة ، واعتذار الكميت ، وعفوه عنه.
ورووا قصّة استجارة عجرد الشاعر بقبر سليمان بن علي العبّاسي وعفو المنصور عنه ، ذكر ذلك الصولي في « أشعار أولاد الخلفاء وأخبارهم ص 2 ». إلى آخر قصص الإستجارة بالقبر في الجاهليّة والإسلام.
إجراء جديد لمنع مجلس فاطمة عليها السلام
رغم كلّ هذه الإجراءات ، بقي مجلس فاطمة الزهراء عليها السلام مصدر قلق للحكومة الجديدة ، فعملت لمنعه بحديث روته عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ينهى عن أصل البكاء على الميّت ، لأنّ الله يعذّبه ببكاء أهله عليه ! قال البخاري : 2 / 85 : « وإن الميّت يعذب ببكاء أهله عليه. وكان عمر يضرب فيه بالعصا ويرمي بالحجارة ويحثي بالتراب » !
لكنّ حديث عمر وتشدّده في تطبيقه لم ينفع في إيقاف مجالس فاطمة الزهراء عليها السلام ! خاصّة أنّ نساء الأنصار كنَّ ينحن في عهد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فلم ينههنَّ بل أقمنَ مجلس نياحة على حمزة عند باب المسجد يعزين بذلك النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في عمّه حمزة رحمه الله ! فقد روى أحمد في مسنده : 2 / 40 ، عن ابن عمر أنّ رسول الله لما رجع من أحد فجعلت نساء الأنصار يبكين على من قتل من أزواجهنّ ، قال فقال رسول الله (ص) : ولكن حمزة لا بواكي له ! قال ثمّ نام فاستنبه وهنَّ يبكين ، قال : فهنَّ اليوم إذا يبكين يندبن بحمزة ». انتهى.
وفي مسند ابن راهويه : 2 / 599 : « فقال رسول الله (ص) : لكن حمزة لا بواكي له ! قال فأمر سعد بن معاذ نساء بني ساعدة أن يبكين عند باب المسجد على حمزة ، فجعلت عائشة تبكي معهن ، فنام رسول الله (ص) فاستيقظ عند المغرب ، فصلّى المغرب ثمّ نام ونحن نبكي ، فاستيقظ رسول الله (ص) العشاء الآخرة فصلّى العشاء ، ثمّ نام ونحن نبكي ، فاستيقظ رسول الله ونحن نبكي ، فقال : ألا أراهن يبكين حتى الآن ؟ مروهن فليرجعن ، ثم دعا لهنَّ ولأزواجهن ولأولادهن ». انتهى.
لكن رواة السلطة حرفوا هذا الحديث ووضعوا فيه أنّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عاملَ نساء الأنصار بفظاظة وسوء خلق ! مع أنهنَّ جئن من أجله ، وأقمن مجلس النياحة على عمّه أمام باب داره ومسجده ! ففي مسند أحمد : 2 / 84 ، عن عبد الله بن عمر أيضاً ! « أنّ رسول الله (ص) لمّا رجع من أحد سمع نساء الأنصار يبكين على أزواجهنّ فقال : لكن حمزة لا بواكي له ، فبلغ ذلك نساء الأنصار فجئن يبكين على حمزة ، قال فانتبه رسول الله (ص) من الليل فسمعهن وهن يبكين فقال : ويحهنّ لم يزلن يبكين بعد منذ الليلة ؟! مروهنّ فليرجعن ولا يبكينّ على هالك بعد اليوم » ! انتهى.
ولا يمكن لعاقل أن يقبل أنّه صلّى الله عليه وآله وسلّم خرَّب مجلسهنّ أو أنهاه بهذه الفظاظة ، فوبخهنَّ على تطويل النياحة ، ثمّ نهاهنّ عن البكاء على أي ميّت !!
والخلاصة ، أنّ هذا الحديث العُمري لم ينفع في منع مجلس فاطمة عليها السلام ، لكن يبدو أنّها نقلته بعد المسجد إلى دارها !
وربّما كان مجلسها في الفترة الأولى لوفاة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم صباحاً ومساءاً ، وبعد انتهاء المجالس في أحياء الأنصار ، كان هو المجلس الوحيد الذي تقصده نساء الأنصار وبعض نساء المهاجرين ، وربّما بعض نساء الطلقاء !
هنا يأتي دور ما ذكرته مصادرنا من أن « بعض أهل المدينة » شَكوْا من استمرار مجالس فاطمة عليها السلام ليلاً ونهاراً ! قال الإمام الصادق عليه السلام : « البكاؤون خمسة : آدم ، ويعقوب ، ويوسف ، وفاطمة بنت محمّد ، وعلي بن الحسين عليهم السلام.
فأمّا آدم فبكى على الجنّة حتّى صار في خديه أمثال الأودية !
وأمّا يعقوب فبكى على يوسف حتّى ذهب بصره ، وحتّى قيل له : تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّىٰ تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ.
وأمّا يوسف فبكى على يعقوب حتّى تأذّى به أهل السجن فقالوا له : إمّا أن تبكي الليل وتسكت بالنهار ، وإمّا أن تبكي النهار وتسكت بالليل ، فصالحهم على واحد منهما.
وأمّا فاطمة فبكت على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حتّى تأذّى بها أهل المدينة فقالوا لها : قد آذيتنا بكثرة بكائك ! فكانت تخرج إلى المقابر فتبكي حتّى تقضي حاجتها ثمّ تنصرف.
وأمّا علي بن الحسين فبكى على الحسين عليه السلام عشرين سنة ما وضع بين يديه طعام إلّا بكى حتّى قال له مولى له : جعلت فداك يا ابن رسول الله إنّي أخاف عليك أن تكون من الهالكين ، قال : إنّما أشكو بثّي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون ، إنّي ما أذكر مصرع بني فاطمة إلّا خنقتني لذلك عبرة ». انتهى. [ الخصال للصدوق ص 272 ورواه أيضاً في الأمالي ص 204 ، والنيسابوري في روضة الواعظين ص 451 ، وابن شهراشوب في المناقب : 3 / 104 ].
وقال المجلسي في بحار الأنوار : 43 / 177 : « واجتمع شيوخ أهل المدينة وأقبلوا إلى أمير المؤمنين فقالوا له : يا أبا الحسن إنّ فاطمة تبكي الليل والنهار فلا أحد منّا يتهنّأ بالنوم في الليل على فرشنا ، ولا بالنهار لنا قرار على أشغالنا وطلب معايشنا ، وإنّا نخبرك أن تسألها إمّا أن تبكي ليلاً أو نهاراً ، فقال : حباً وكرامة ، فأقبل أمير المؤمنين عليه السلام حتّى دخل على فاطمة وهي لا تفيق من البكاء ولا ينفع فيها العزاء ، فلمّا رأته سكنت هنيئة له ، فقال لها : يا بنت رسول الله إنّ شيوخ المدينة يسألوني أن أسألك إمّا أن تبكين أباك ليلاً وإمّا نهاراً. فقالت : يا أبا الحسن ما أقلّ مكثي بينهم وما أقرب مغيبي من بين أظهرهم ، فوالله لا أسكت ليلاً ولا نهاراً ، أو ألحق بأبي رسول الله ! فقال لها علي : إفعلي يا بنت رسول الله ما بدا لك. ثمّ إنّه بني لها بيتاً في البقيع نازحاً عن المدينة يسمّى بيت الأحزان ، وكانت إذا أصبحت عليها السلام قدّمت الحسن والحسين أمامها ، وخرجت إلى البقيع باكية ، فلا تزال بين القبور باكية ، فإذا جاء الليل أقبل أمير المؤمنين عليه السلام إليها وساقها بين يديه إلى منزلها » !
أقول : ينبغي الإلفات إلى أن تأذّي بعض أهل المدينة أو جماعة السلطة ، لا يمكن أن يكون من مجرّد بكاء فاطمة عليها السلام وذويها في بيتها أو في البقيع ، بل من مجلسها الذي كان يحضره نساء الأنصار فيأخذ قسماً من النهار وجزءاً من الليل ، وتندب فيه النادبات ، ويقرأنَ فيه القرآن والشعر ، وربّما تحدّثت فيه فاطمة ! ثمّ تنعكس أخباره وأجواؤه على مدينة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وحكومتها الجديدة !
أراكة الأحزان .. وبيت الأحزان !
يقع مشهد الأئمّة من أهل البيت عليهم السلام في أعلى نقطة في البقيع على يمين الداخل ، وقد هدمه الوهابيّون في سنة 1348 هجريّة ، وما زال قسم من جداره الشرقي موجوداً. وموضع بيت الأحزان في البقيع خلف هذا المشهد الشريف من جهة الشرق ، وقد شمله الهدم ، ففي الذريعة : 7 / 52 : « ولكن انهدم بيت الأحزان في بقيع الغرقد لمجاورته مراقد أئمّة الشيعة عليهم السلام ، وذلك لأجل أنّه قد يؤخذ الجار بجرم الجار ». انتهى.
وقال السيد شرف الدين في النصّ والإجتهاد ص 301 : « وهنا نلفت أولي الألباب إلى البحث عن السبب في تنحي الزهراء عليها السلام عن البلد في نياحتها على أبيها صلّى الله عليه وآله وسلّم وخروجها بولديها في لُمَّة من نسائها إلى البقيع يندبن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، في ظلّ أراكة كانت هناك ، فلمّا قطعت بني لها علي عليه السلام بيتاً في البقيع كانت تأوى إليه للنياحة يدعى بيت الأحزان ، وكان هذا البيت يزار في كلّ خلف من هذه الأمّة ، كما تزار المشاهد المقدّسة ، حتّى هدم في هذه الأيّام بأمر الملك عبد العزيز بن سعود النجدي ، لمّا استولى على الحجاز وهدم المقدّسات في البقيع ، عملاً بما يقتضيه مذهبه الوهابي ، وذلك سنة 1344 للهجرة. وكنّا سنة 1339 تشرّفنا بزيارة هذا البيت بيت الأحزان ، إذ منَّ الله علينا في تلك السنة بحجّ بيته وزيارة نبيّه ، ومشاهد أهل بيته الطيّبين الطاهرين عليهم السلام في البقيع ».
وقال صاحب الذريعة : 7 / 52 : « أقول : إنّ دار تميم الداري معروفة بالمدينة وهو مشهد يزار حتّى اليوم ، وكذا دار أبي بكر وعثمان ، ولكن انهدم بيت الأحزان في بقيع الغرقد لمجاورته مراقد أئمّة الشيعة عليهم السلام ، وذلك لأجل أنّه : قد يؤخذ الجار بجرم الجار » ! انتهى.
ورحم الله صاحب الذريعة على حسن ظنّه ، فقد تصوّر أن غرضهم هدم المشهد فقط ، وأن بيت الأحزان لم يكن مقصودهم بالأصل بل بالعرض !
لكن الذي يعرف تفكيرهم أكثر يجزم بأنّ بيت الأحزان كان مقصوداً لهم بالأصل كالمشهد وضريحه وقبّته ، إن لم يكن مقصوداً بالكره أكثر منه !
لقد أصدر عمر الحكم بإعدام أراكة البقيع أو سدرته فقطعوها ، ولم يكن ذنبها إلّا أنّ الزهراء عليها السلام ونساء الأنصار استظللنَ بها وندبنَ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم تحتها. أمّا بيت الأحزان الذي بناه علي عليه السلام لهذا الغرض فيظهر أنّهم لم يستطيعوا هدمه يومذاك ، ثمّ توارث المسلمون تجديده ، مَعْلَماً وشاهداً !
ولئن كان بيت الأحزان وسدرة البقيع ، اختصّت شهرتهما بالشيعة ، وناقش في أصل قصّتهما مخالفوهم ، فإنّ شجرة الرضوان عمَّ خبرها ورواه حتّى رواة الحكومة ! واعترفوا بأنّ حكم الإعدام صدر في حقّ الشجرة ومن يصلّي تحتها !
قال السيّد شرف الدين رحمه الله في النصّ والإجتهاد ص 368 :
« المورد 65 قطعة شجر الحديبيّة : شجرة الحديبيّة هذه بويع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بيعة الرضوان تحتها ، فكان من عواقب تلك البيعة أنّ فتح الله لعبده ورسوله فتحاً مبيناً ونصره نصراً عزيزاً ، وكان بعض المسلمين يصلون تحتها تبرّكاً بها ، وشكراً لله تعالى على ما بلغهم من أمانيّهم في تلك البيعة المباركة. فبلغ عمر ما كان من صلاتهم تحتها فأمر بقطعها ! وقال (1) : ألا لا أوتى منذ اليوم بأحد عاد إلى الصلاة عندها إلا قتلته بالسيف ، كما يقتل المرتد ! (2).
سبحان الله وبحمده والله أكبر ! يأمره بالأمس رسول الله بقتل ذي الخويصرة وهو رأس المارقة ، فيمتنع عن قتله احتراماً لصلاته ثمّ يستلُّ اليوم سيفه لقتل من يصلّي من أهل الإيمان تحت الشجرة شجرة الرضوان ؟!
وَيْ ، ويْ ! ما الذي أرخص له دماء المصلّين من المخلصين لله تعالى في صلاتهم ؟ إن هذه لبذرة أجذرت وآتت أكلها في نجد « حيث يطلع قرن الشيطان » !
ورحم الله الشاعر الحلّي الكواز حيث قال ، كما في بيت الأحزان للقمي ص 128 :
الواثبين لظلم آل ومحمّد * ومحمّد ملقىً بلا تكفينِ
والقائلين لفاطم آذيتنا * في طول نوح دائمٍ وحنينِ
والقاطعين أراكةً كيما تقيلَ * بظلِّ أوراقٍ لها وغصون
ومُجمِّعــي حطبٍ على البيت الذي * لم يجتمع لولاه شملُ الدين
والهاجمين على البتولة ببيتها * والمسقطين لها أعزَّ جنين
والقائدين إمامهم بنجاده * والطهر تدعو خلفه برنين
خلّوا ابن عمّي أو لأكشف في الدعا * رأسي وأشكو للإله شجوني
ما كان ناقة صالح وفصيلها * بالفضل عند الله إلا دوني
ورنَت إلى القبر الشريف بمقلة * عبرى وقلبٍ مُكمَد محزون
قالت وأظفار المصاب بقلبها * غوثاه قلَّ على العداة معيني
أبتاه هذا السامري وعجله * تُبعا ومال الناس عن هارون
أيَّ الرزايا أتقي بتجلدي * هو في النوائب مُذْ حييت قريني
فقدي أبي أم غصب بعلي حقّه * أم كسر ضلعي أم سقوط جنيني
أم أخذهم إرثى وفاضل نحلتي * أم جهلهم حقّي وقد عرفوني
قهروا يتيميك الحسين وصنوه * وسألتهم حقّي وقد نهروني
مواظبة فاطمة عليها السلام على زيارة قبر عمّها حمزة رحمه الله
كان برنامج الصدّيقة الزهراء عليها السلام بعد وفاة أبيها خاصّاً ، أبرز ما فيه التوديع والتأكيد ! توديعها لعليٍّ والحسن والحسين وزينب وأم كلثوم وأبرار الأمّة ، وتأكيدها قولاً وعملاً على ثوابت الإسلام أن تُغيَّر وتُبَدَّل ! خاصّة الترتيب الربّاني لنظام الحكم الذي نقضته قريش ، وإجراءاتهم التحريفيّة حول قبر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم !
لقد أصرت على مجالسها في النوح والندب على أبيها صلّى الله عليه وآله وسلّم ، في مسجده عند قبره ، وفي بيتها ، وفي والبقيع ، وفي أحُد ! فآتت المجالس ثمارها.
وكانت تزور قبر أبيها الحبيب صلّى الله عليه وآله وسلّم باستمرار وتبكي عنده ، ثمّ تقيم مجلس عزائه وندبه في البقيع ، وتزور عمّها حمزة رحمه الله والشهداء في أحُد كلّ اثنين وخميس ، فهذان اليومان عزيزان عليها ، كان يصومهما أبوها صلّى الله عليه وآله وسلّم وتصومهما معه ، وفيهما تُعرض الأعمال على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وفيهما تفتح أبواب الجنّة. [ منتهى المطلب للعلّام الحلّي : 6 / 614 ، ومجموع النووي : 6 / 386 عن الترمذي وحسنه ].
قال الإمام الصادق عليه السلام : « عاشت فاطمة بعد أبيها خمسة وسبعين يوماً لم تُرَ كاشرةً ولا ضاحكة ، تأتي قبور الشهداء في كلّ جمعة مرّتين الإثنين والخميس فتقول : هاهنا كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم هاهنا كان المشركون. وفي رواية : كانت تصلّي هناك وتدعو حتّى ماتت عليها السلام ». انتهى. [ الكافي : 3 / 228 ].
تقول بذلك صلوات الله عليها : من هاهنا وبهذه الدماء الطاهرة ، وأغلاها دماء بني هاشم ، وبهذه الجهود المتواصلة وأغلاها جهود بني هاشم ، جاء هذا الفتح ، وبُنِيَ هذا المجد ، الذي صادرته قريش ، واستحلّت حرق بيوتنا علينا ، طمعاً فيه !
فهذا هو أبي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم المؤسّس لهذه الأمّة ، والشاهد على أعمالها.
وهذا هو حمزة عمّي رحمه الله ، وزير النبي وناصره ، يثوي هنا شاهداً.
وذاك هو عليٌّ زوجي عليه السلام وزير النبي ووصيّه ، الذي قام الإسلام على أكتافه ، يتجرّع الغصص من قريش إلى اليوم ، يقولون له بايع وإلّا قتلناك !
وذاك أخوه ابن عمّي جعفر رحمه الله يثوي شهيداً وشاهداً في مؤتة ، على مشارف القدس ، داخل مملكة الروم ! فأين كانت قريش وطلقاؤها ؟!
أرادت فاطمة عليها السلام أن تُفهم الأمّة أنّ ارتباطها برسول الله وعترته صلّى الله عليه وآله وسلّم ، والعيش في أجوائهم ، ضرورة لإيمانها ، وإلّا انحرفت بعيداً !
وأن حقّهم عليها أمواتاً كحقّهم أحياء ، وأن الإنتقاص من حقّهم والمنع من زيارة قبورهم للرجال والنساء ، بداية طريق قرشيّة ، لإبعاد الأمّة عنهم !
في كشف الإرتياب للسيّد الأمين ص 339 : « كانت تزور قبر عمّها حمزة في كلّ جمعة فتصلّي وتبكي عنده ... وابن تيميّة يقول لم يذكر أحد من أئمّة السلف أنّ الصلاة عند القبور وفي مشاهدها مستحبّة » !!
وفي كشف الإرتياب ص 379 : « ويظهر أنّ الوهابيّة بعدما أباحوا للنساء زيارة القبور في العام الماضي منعوهنّ منها في هذا العام ! فقد أخبرنا الحجّاج أنّ النساء منعت من الدخول إلى البقيع في هذا العام بدون استثناء ، وكأنّهم بنوا على هذا الإحتمال الضعيف الذي ذكره السندي وقال به صاحب المهذب والبيان من بقائهن تحت النهي ، فظهرت لهم صحّته هذا العام بعدما خفيت عنهم في العام الأول « يمحو الوهابيّة ما يشاؤن ويثبتون وعندهم أمّ الكتاب ».
لسنا نعارضهم في اجتهادهم أخطأوا فيه أم أصابوا ، ولكنّنا نسألهم ما الذي سوغ لهم حمل المسلمين على اتباع اجتهادهم المحتمل الخطأ والصواب ، بل هو إلى الخطأ أقرب لمخالفته لما قطع به الجمهور ولم يقل به إلّا الشاذّ كما سمعت ! والأمور الإجتهاديّة لا يجوز المعارضة فيها كما بيناه في المقدّمات!
وما بالهم يسلبون المسلمين حريّة مذاهبهم في الأمور الإجتهاديّة ، ويحملونهم على اتباع معتقداتهم فيها بالسوط والسيف.
كما زادوا في طنبور تعنتهم هذه السنة نغمات ، فعاقبوا الناس على البكاء عند زيارة قبر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أو أحد القبور ومنعوهم منه ! والبكاء أمر قهري اضطراري لا يعاقب الله عليه ، ولا يتعلّق به تكليف لاشتراط التكليف بالقدرة عقلاً ونقلاً ومنعوا من القراءة في كتاب حال الزيارة ، ومن إطالة الوقوف ! فمن رأوا في يده كتاب زيارة أخذوه منه ومزّقوه أو أحرقوه وضربوا صاحبه وأهانوه ! ومن أطال الوقوف طردوه وضربوه !
حدّثني بعض الحجّاج الثقات أنّه تحيَّل لقراءة الزيارة من الكتاب بأن فصل أوراقاً منه وجعلها في القرآن وجلس يظهر قراءة القرآن ويزور ، فاتّفق أنّه أشار غفلة بالسلام نحو قبر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فدفعوه حتّى أخرجوه من المسجد ، وأخذوا تلك الأوراق ومزّقوها ! وأمثال هذا ممّا صدر منهم في حقّ الحجّاج في مسجدي مكّة والمدينة ومسجد الخيف والبقيع وغيرها ، ممّا سمعناه متواتراً من الحجّاج ، كثيرٌ يطول الكلام بنقله » !! انتهى.
وقد أورد السيّد مهدي الروحاني في كتابه في أحاديث أهل البيت عليهم السلام : 1 / 548 ، تحت عنوان : باب زيارة فاطمة عليها السلام قبر عمّها حمزة رحمه الله مجموعة مصادر سنّية روت ذلك ، منها مصنّف عبد الرزاق : 3 / 572 وص 574 ، وفيه : « كانت تأتي قبر حمزة وكانت قد وضعت عليه علماً » وطبقات ابن سعد : 3 / 19 ، وتاريخ المدينة : 1 / 132 ، وفيهما : « ترمه وتصلحه ». ونوادر الترمذي ص 24 ، وفيه « في كلّ عام فترمه وتصلحه » [ وفي نسختنا : 1 / 126 ] ، والحاكم : 3 / 28 ، وفيه « في الأيّام فتصلّي وتبكي عنده. هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ». وإحياء الغزالي : 4 / 474 [ وفي نسختنا : 4 / 490 ] ، وسنن البيهقي : 4 / 78 ، وفيه : « كلّ جمعة فتصلّي وتبكي عنده ». انتهى.
راجع أيضاً : التمهيد لابن عبد البرّ : 3 / 234 : وفيه : « كلّ جمعة وعلمته بصخرة ». وشرح الزرقاني : 3 / 101 ، ودراري الشوكاني ص 197 ، وحاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 412 ، وأنساب الأشراف للبلاذري ص 1080. ومن مصادرنا : دعائم الإسلام : 1 / 239 ، وكفاية الأثر ص 198 ».
سُبحة الزهراء عليها السلام من تربة حمزة رحمه الله
ابتكرت الزهراء المهديّة من ربّها ، المعصومة بلطفه عليها السلام ، عملاً بسيطاً ، لكنّه بليغ لربط الأمّة بالنبي وآله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، فاتّخذت من تربة قبر حمزة سبحة من أربع وثلاثين حبّة ، لكي تَعُدَّ بها تسبيحها لربّها بعد كلّ صلاة !
تقول بذلك للأمّة لقد علمكم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كيف تذكرون الله تعالى ذكراً كثيراً بعد صلواتكم ، فتكبروا الله أربعاً وثلاثين مرّة ، وتحمدوه ثلاثاً وثلاثين ، ويسبحوه ثلاثاً وثلاثين ، وسمّى هذا التسبيح باسمي تسبيح فاطمة ، لكي تذكروني ولا تنسوني ، كما سمّى صلاة جعفر باسمه لكي تذكروه ولا تنسوه ، وها أنا أتّخذ سبحة من تربة قبر عمّي حمزة رحمه الله ، لكي تذكروه فلا تنسوه ، حتّى يستشهد ولدي الحسين ، فتتّخذوا سبحة من تربته ولا تنسوه !
في مستدرك الوسائل : 5 / 56 : عن الإمام الصادق عليه السلام قال : « وتكون السبحة بخيوط زرق ، أربعاً وثلاثين خرزة ، وهي سبحة مولاتنا فاطمة الزهراء عليها السلام لما قتل حمزة عملت من طين قبره سبحة ، تسبح بها بعد كلّ صلاة ». انتهى.
وفي كتاب المزار للمفيد ص 150 : « عن الصادق جعفر بن محمّد عليهما السلام أنّ فاطمة عليها السلام كانت مسبحتها من خيط من صوف مفتَّل ، معقود عليه عدد التكبيرات ، فكانت بيدها تديرها تكبِّر وتسبِّح ، إلى أن قتل حمزة بن عبد المطلب فاستعملت تربته وعملت التسابيح فاستعملها الناس. فلمّا قتل الحسين عليه السلام عُدل بالأمر عليه فاستعملوا تربته لما فيها من الفضل والمزية ». [ ورواه في جامع أحاديث الشيعة : 5 م 268 ، عن مكارم الأخلاق ص 147 ، والحدائق الناضرة : 7 / 261 ، و وسائل الشيعة ـ آل البيت ـ : 6 / 455 ].
وقصده بالمزيّة لتربة الحسين عليه السلام ما تواتر عند المسلمين من أحاديث رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في فضل تربة كربلاء ، وأنّ جبرئيل أخبره بأنّ سبطه الحسين عليه السلام سيقتل فيها ، وجاء له بقبضة من ترابها ، فأودعها النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عند أمّ سلمة فوضعتها في زجاجة ، وأخبرها أنّه حين يقتل ستظهر لله فيها آية وتتحوّل إلى دم صاف !
[ راجع : مسند أحمد : 6 / 294 روى عدّة أحاديث بعضها رجاله رجال الصحيح ، والحاكم : 3 / 177 و 4 / 398 ، روى أحاديث على شرط الشيخين ، ومجمع الزوائد : 9 / 185 ، باب مناقب الحسين بن علي ].
7 ـ يوم جاء أبو بكر وعمر لزيارتها ليعتذرا منها !
اتّفقت رواياتهم على أنّ موقف فاطمة عليها السلام في إدانة السقيفة واتّهام أبي بكر وعمر ، كان أشدَّ من مواقف الجميع حتّى أمير المؤمنين عليه السلام !
وروت مصادرنا ، ومصادرهم كابن قتيبة ، أنّها عليها السلام أدانتهما بالقول والفعل ، وعندما طلب أبو بكر المجيء إلى بيتها للإعتذار منها لهجومهم على بيتها ، لم تقبل دخولهما بيتها ، فتوسط لهما علي عليه السلام ودخلا فلم تردَّ عليهما السلام وأدارت وجهها إلى الحائط ، وناشدتهما وهي غاضبة ، ما سمعا من النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في من أغضبها فشهدا بذلك ، فأعلنت غضبها عليهما ومقاطعتها لهما ، وأنّها ستشكوهما إلى الله ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وتدعو عليهما بعد كلّ صلاة !
في كتاب سُليم ص 391 : « فدخلا وسلَّما وقالا : إرضي عنّا رضي الله عنك. فقالت : ما دعاكما إلى هذا ؟ فقالا : اعترفنا بالإساءة ، ورجونا أن تعفي عنّا وتخرجي سخيمتك. فقالت : فإن كنتما صادقين فأخبراني عمّا أسألكما عنه فإنّي لا أسألكما عن أمر إلّا وأنا عارفة بأنّكما تعلمانه ، فإن صدقتما علمت أنّكما صادقان في مجيئكما. قالا : سلي عمّا بدا لك. قالت : نشدتكما بالله هل سمعتما رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول : فاطمة بضعة مني فمن آذاها فقد آذاني ؟ قالا : نعم. فرفعت يدها إلى السماء فقالت : اللهم إنّهما قد آذياني فأنا أشكوهما إليك وإلى رسولك. لا والله لا أرضى عنكما أبداً حتّى ألقى أبي رسول الله وأخبره بما صنعتما فيكون هو الحاكم فيكما ! قال : فعند ذلك دعا أبو بكر بالويل والثبور وجزع جزعاً شديداً. فقال عمر : تجزع يا خليفة رسول الله من قول امرأة ». انتهى.
وفي رواية علل الشرائع : 1 / 187 : « قالا نعم. قالت : الحمد لله ، ثمّ قالت : اللهم إنّي أشهدك فاشهدوا يا من حضرني أنّهما قد آذياني في حياتي وعند موتي ! والله لا أكلّمكما من رأسي كلمة حتّى ألقى ربّي فأشكوكما بما صنعتما بي وارتكبتما منّي ! فدعا أبو بكر بالويل والثبور وقال : ليت أمّي لم تلدني ! فقال عمر : عجباً للناس كيف ولوك أمورهم وأنت شيخ قد خرفت ! تجزع لغضب امرأة وتفرح برضاها وما لمن أغضب إمرأة ! وقاما وخرجا » !
وفي الغدير : 7 / 228 ، عن الإمامة والسياسة : 1 / 14 ، وأعلام النساء للجاحظ : 3 / 1214 : « قالت : فإنّي أشهد الله وملائكته إنّكما أسخطتماني وما أرضيتماني ، ولئن لقيت النبي لأشكونكما إليه. فقال أبو بكر : أنا عائذ بالله تعالى من سخطه وسخطك يا فاطمة ! ثمّ انتحب أبو بكر يبكي حتّى كادت نفسه أن تزهق ، وهي تقول : والله لأدعونّ عليك في كلّ صلاة أصلّيها. ثمّ خرج باكياً فاجتمع الناس إليه فقال لهم : يبيت كلّ رجل معانقاً حليلته مسروراً بأهله وتركتموني وما أنا فيه لا حاجة لي في بيعتكم ، أقيلوني بيعتي ... ». انتهى.
وفي البخاري : 4 / 210 ، قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم : « فاطمة بضعة منّي فمن أغضبها أغضبني » !
وفي البخاري : 4 / 41 ، عن عائشة : « فغضبت فاطمة بنت رسول الله فهجرت أبا بكر فلم تزل مهاجرته حتّى توفّيت. وعاشت بعد رسول الله (ص) ستّة أشهر ».
8 ـ يوم خطبت في المسجد النبوي فهزَّت حتى الجماد !
بلغت مواقف فاطمة عليها السلام أوجها ، عندما خرجت خلف عليٍّ عليه السلام وهدّدتهم بالدعاء بالعذاب عليهم ، إن قتلوه ، وهم يعلمون أنّ دعاءها لا يُرد !
وعندما جاءا إلى بيتها ليعتذرا ويقولا للناس إنّا اعتذرنا من فاطمة فرضيت عنّا وتركت دعاءها علينا ، فسلّما عليها فلم ترد عليهما السلام ، وأدارت وجهها إلى الحائط ! وسألتهما فشهدا بأنّهما سمعا من النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أن من أغضب فاطمة فقد أغضبه ، ومن أغضبه فقد أغضب ربّ العلمين ، فشهدا بذلك !
فأعلنت وأشهدت المسلمين إلى يوم الدين أنّها غاضبة عليهما ، وأنّها ستدعو عليهما بعد كلّ صلاة تصلّيها حتّى تلقّى ربّها وأباها ، فتشكوهما أمرَّ شكوى وأشدّها صلّى الله عليه وآله ، وتخاصمهما عند الله ورسوله !
على أن أوج مواقفها عليها السلام التي وصلت إلينا كلاماً مكتوباً شاملاً ، خطبتها في المسجد النبوي في حشد المهاجرين والأنصار ! وقد أعدَّت بنت أبيها لهذا الموقف واستعدّت ، فأبلغت بالخطاب ، وأتمّت الحجّة ، وهزّت حتّى الجماد !
وهي خطبة مشهورة ، روتها المصادر المختلفة ، وشرحها العلماء والمؤرّخون في رسائل خاصّة ، وقد أدانت فيها الزهراء عليها السلام نظام السقيفة القرشي ، وصرحت بأنّه مؤامرة على الإسلام ، ودعت الأنصار إلى مقاومته بالسلاح !
كما أدانت قرارات أبي بكر الإقتصاديّة لإضعاف أهل البيت عليهم السلام ، ومنها منع الخمس عنهم ، ومصادرة أوقاف النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وهي سبعة بساتين ، ومصادرة مزرعة فدك التي منحها النبي لفاطمة ، ومنعه إيّاها من إرث أبيها !
في مواقف الشيعة للأحمدي : 1 / 458 : « روى عبد الله بن الحسن بإسناده ، عن آبائه عليهم السلام أنّه لما أجمع أبو بكر وعمر على منع فاطمة عليها السلام فدكاً وبلغها ذلك ، لاثت خمارها على رأسها واشتملت بجلبابها ، وأقبلت في لُمَّة من حفدتها ونساء قومها ، تطأ ذيولها ، ما تخرم مشيتها مشية رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم ، حتّى دخلت على أبي بكر وهو في حشد من المهاجرين والأنصار وغيرهم ، فنيطت دونها ملاءة ، فجلست ثم أنّت أنَّةً أجهش القوم لها بالبكاء ، فارتجَّ المجلس ! ثمّ أمهلت هنيئة حتّى إذا سكن نشيج القوم وهدأت فورتهم ، افتتحت الكلام بحمد الله والثناء عليه والصلاة على رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم فعاد القوم في بكائهم ، فلمّا أمسكوا عادت في كلامها ، فقالت عليها السلام :
الحمد لله على ما أنعم ، وله الشكر على ما ألهم ، والثناء بما قدم ، من عموم نعم ابتدأها ، وسبوغ آلاء أسداها ، وتمام منن أولاها ، جم عن الإحصاء عددها ، ونأى عن الجزاء أمدها ، وتفاوت عن الإدراك أبدها ، وندبهم لاستزادتها بالشكر لاتّصالها واستحمد إلى الخلائق بإجزالها ، وثنى بالندب إلى أمثالها . وأشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، كلمة جعل الإخلاص تأويلها ، وضمن القلوب موصولها ، وأنار في التفكر معقولها ، الممتنع من الأبصار رؤيته ، ومن الألسن صفته ، ومن الأوهام كيفيّته ، ابتدع الأشياء لا من شيء كان قبلها ، وأنشأها بلا احتذاء أمثلة امتثلها. كونها بقدرته ، وذرأها بمشيته ، من غير حاجة منه إلى تكوينها ، ولا فائدة له في تصويرها ، إلّا تثبيتاً لحكمته وتنبيهاً على طاعته ، وإظهاراً لقدرته ، تعبّداً لبريّته ، وإعزازاً لدعوته ، ثمّ جعل الثواب على طاعته ، ووضع العقاب على معصيته ، ذيادةً لعباده من نقمته ، وحياشة لهم إلى جنّته.
وأشهد أنّ أبي محمّداً صلّى الله عليه وآله وسلّم عبده ورسوله ، اختاره قبل أن أرسله ، وسمّاه قبل أن اجتباه ، واصطفاه قبل أن ابتعثه ، إذ الخلائق بالغيب مكنونة ، وبستر الأهاويل مصونة ، وبنهاية العدم مقرونة ، علماً من الله تعالى بمآيل الأمور ، وإحاطة بحوادث الدهور ، ومعرفة بمواقع الأمور.
ابتعثه الله إتماماً لأمره ، وعزيمة على إمضاء حكمه ، وإنفاذاً لمقادير رحمته ، فرأى الأمم فرقاً في أديانها ، عكفاً على نيرانها ، عابدةً لأوثانها ، منكرةً لله مع عرفانها ، فأنار الله بأبي محمّداً صلّى الله عليه وآله وسلّم ظُلمها ، وكشف عن القلوب بُهمها ، وجلى عن الأبصار عماها ، وقام في الناس بالهداية ، فأنقذهم من الغواية ، وبصرهم من العماية ، وهداهم إلى الدين القويم ودعاهم إلى الطريق المستقيم.
ثمّ قبضه الله إليه قبض رأفة واختيار ، ورغبة وإيثار ، فمحمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم من تعب هذه الدار في راحة ، قد حُفَّ بالملائكة الأبرار ، ورضوان الربّ الغفّار ، ومجاورة الملك الجبّار ، صلّى الله على أبي نبيّه وأمينه وخيرته من الخلق وصفيّه ، والسلام عليه ورحمة الله وبركاته.
ثمّ التفتت إلى أهل المجلس وقالت : أنتم عباد الله ! نصب أمره ونهيه ، وحملة دينه ووحيه ، وأمناء الله على أنفسكم وبلغاؤه إلى الأمم ، زعيم حقّ له فيكم ، وعهد قدمه إليكم ، وبقيّة استخلفها عليكم : كتاب الله الناطق ، والقرآن الصادق ، والنور الساطع ، والضياء اللامع ، بينة بصائره ، منكشفة سرائره ، منجليّة ظواهره ، مغتبطة به أشياعه ، قائد إلى الرضوان اتباعه ، مؤد إلى النجاة استماعه ، به تنال حجج الله المنورة ، وعزائمه المفسّرة ، ومحارمه المحذرة ، وبيّناته الجالية ، وبراهينه الكافية ، وفضائله المندوبة ، ورخصه الموهوبة ، وشرائعه المكتوبة.
فجعل الله الإيمان تطهيراً لكم من الشرك ، والصلاة تنزيهاً لكم عن الكبر ، والزكاة تزكيةً للنفس ونماء في الرزق ، والصيام تثبيتاً للإخلاص ، والحجّ تشييداً للدين ، والعدل تنسيقاً للقلوب ، وطاعتنا نظاماً للملّة ، وإمامتنا أماناً للفرقة ، والجهاد عزّاً للإسلام ، والصبر معونة على استيجاب الأجر ، والأمر بالمعروف مصلحة للعامّة ، وبر الوالدين وقاية من السخط ، وصلة الأرحام منسأةً في العمر ومنماةً للعدد ، والقصاص حقناً للدماء ، والوفاء بالنذر تعريضاً للمغفرة ، وتوفية المكائيل والموازين تغييراً للبخس ، والنهي عن شرب الخمر تنزيهاً عن الرجس ، واجتناب القذف حجاباً عن اللعنة ، ترك السرقة إيجاباً للعفّة ، وحرّم الله الشرك إخلاصاً له بالربوبيّة فاتّقوا الله حقّ تقاته ولا تموتنّ إلّا وأنتم مسلمون ، وأطيعوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه فإنّه إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ.
ثمّ قالت : أيّها الناس إعلموا أنّي فاطمة وأبي محمّداً ، أقول عوداً وبدواً ، ولا أقول ما أقول غلطاً ، ولا أفعل شططاً لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ، فإن تعزوه وتعرفوه تجدوه أبي دون نسائكم وأخا ابن عمّي دون رجالكم ، ولنعم المعزي إليه صلّى الله عليه وآله وسلّم فبلغ الرسالة صادعاً بالنذارة ، مائلاً عن مدرجة المشركين ، ضارباً ثبجهم ، آخذاً بأكظامهم ، داعياً إلى سبيل ربّه بالحكمة والموعظة الحسنة ، يجف الأصنام ، وينكث الهام ، حتّى انهزم الجمع وولوا الدبر ، حتّى تفرى الليل عن صبحه ، وأسفر الحقّ عن محضه ، ونطق زعيم الدين ، وخرست شقاشق الشياطين ، وطاح وشيظ النفاق ، وانحلت عقد الكفر والشقاق ، وفهتم بكلمة الإخلاص في نفر من البيض الخماصر ، وكنتم على شفا حفرة من النار ، مُذقةَ الشارب ، ونهزةَ الطامع ، وقبسةَ العجلان ، وموطئ الأقدام ، تشربون الطرَق ، وتقتاتون القِدّ ، أذلّة خاسئين ، تخافون أن يتخطّفكم الناس من حولكم ، فأنقذكم الله تبارك وتعالى بمحمّد بعد اللتيا والتي ، وبعد أن مُني ببُهم الرجال وذؤبان العرب ومردة أهل الكتاب ، كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ ، أو نجم قرن الشيطان أو فغرت فاغرة من المشركين ، قذف أخاه في لهواتها ، فلا ينكفئ حتّى يطأ صماخها بأخمصه ، ويخمد لهبها بسيفه ، مكدوداً في ذات الله ، مجتهداً في أمر الله ، قريباً من رسول الله ، سيّداً في أولياء الله ، مشمراً ناصحاً ، مجداً كادحاً ، لا تأخذه في الله لومة لائم ، وأنتم في رفاهيّة من العيش وادعون فاكهون آمنون ، تتربّصون بنا الدوائر ، وتتوكّفون الأخبار ، وتنكصون عند النزال ، وتفرّون من القتال !!
فلمّا اختار الله لنبيّه دار أنبيائه ومأوى أصفيائه ، ظهرت فيكم حسيكة النفاق ، وسمل جلباب الدين ، ونطق كاظم الغاوين ، ونبغ خامل الأقلين ، وهدر فنيق المبطلين ، فخطر في عرصاتكم ، وأطلع الشيطان رأسه من مغرزه هاتفاً بكم ، فألفاكم لدعوته مستجيبين ، وللغرة فيه ملاحظين ، ثمّ استنهضكم فوجدكم خفافاً ، وأحمشكم فألفاكم غضاباً ، فوسمتم غير إبلكم ، ووردتم غير شربكم.
هذا ، والعهد قريب ، والكلم رحيب ، والجرح لما يندمل ، والرسول لما يُقبر ، ابتداراً زعمتم خوف الفتنة ! أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ. فهيهات منكم ، وكيف بكم ، وأنّى تؤفكون ! وكتاب الله بين أظهركم ، أموره ظاهرة ، وأحكامه زاهرة ، وأعلامه باهرة ، وزواجره لائحة ، وأوامره واضحة ، وقد خلفتموه وراء ظهوركم ، أرغبة عنه تريدون ، أم بغيره تحكمون ؟ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً ! وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ !
ثمّ لم تلبثوا إلّا ريث أن تسكن نفرتها ، ويسلس قيادها ، ثمّ أخذتم تورون وقدتها ، وتهيجون جمرتها ، وتستجيبون لهتاف الشيطان الغوي ، وإطفاء أنوار الدين الجليّ ، وإهمال سنن النبيّ الصفيّ ، تشربون حسواً في ارتغاء ، وتمشون لأهله وولده في الخمرة والضراء ، ويصبر منكم على مثل حز المدى ووخز السنان في الحشا. وأنتم الآن تزعمون أن لا إرث لنا ! أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ ـ تبغون ـ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ؟!
أفلا تعلمون ؟! بلى ، قد تجلّى لكم كالشمس الضاحية إنّي ابنته أيّها المسلمون ! أأغلب على إرثي يا ابن أبي قحافة ! أفي كتاب الله أن ترث أباك ولا أرث أبي ؟ لقد جئت شيئاً فريّاً ! أفعلى عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم إذ يقول : وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ ، وقال فيما اقتصّ من خبر يحيى بن زكريّا عليهما السلام إذ قال : فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ، وقال : وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ ، وقال : يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ ، وقال : إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حقاً عَلَى الْمُتَّقِينَ.
وزعمتم أن لا حظوة لي ولا إرث من أبي ولا رحم بيننا ، أفخصّكم الله بآية أخرج منها أبي ! أم تقولون أهل ملّتين لا يتوارثان ! أو لست أنا وأبي من أهل ملّة واحدة ؟! أم أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي وابن عمّي ؟!
فدونكها مخطومة مرحولة ، تلقاك يوم حشرك ! فنعم الحكم الله ، والزعيم محمّد ، والموعد القيامة ، وعند الساعة يخسر المبطلون ! ولاينفعكم إذ تندمون ، لِكُلِّ نَبَأٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ. فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ.
ثمّ رمت بطرفها نحو الأنصار فقالت : يا معشر الفتية ، وأعضاد الملّة ، وحضنة الإسلام ! ما هذه الغميزة في حقّي والسنّة عن ظلامتي ! أما كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أبي يقول : المرء يحفظ في ولده ؟! سرعان ما أحدثتم ! وعجلان ذا إهالة ! ولكم طاقة بما أحاول ، وقوّة على ما أطلب وأزاول ، أتقولون مات محمّد ؟ فخطبٌ جليل استوسع وهنه ، واستنهر فتقه ، وانفتق رتقه ، وأظلمت الأرض لغيبته ، واكتأبت خيرة الله لمصيبته ، وكسفت الشمس والقمر ، وانتثرت النجوم لمصيبته ، وأحدت الآمال ، وخشعت الجبال ، وأضيع الحريم ، وأزيلت الحرمة عند مماته ، فتلك والله النازلة الكبرى والمصيبة العظمى لا مثلها نازلة ، ولا بائقة عاجلة ، أعلن بها كتاب الله جلّ ثناؤه يهتف في أفنيتكم في ممساكم ومصبحكم ، هتافاً وصراخاً وتلاوة وألحاناً ! ولقبله ما حلّت بأنبياء الله ورسله ، حكم فصل وقضاء حتم ، وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شيئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ.
إيهاً بني قَيْلة ! أأهضم تراث أبي وأنتم بمرأى منّي ومسمع ومنتدى ومجمع ، تلبسكم الدعوة وتشملكم الخبرة ، وأنتم ذووا العدد والعدّة والأداة والقوّة ، وعندكم السلاح والجنّة ، توافيكم الدعوة فلا تجيبون ، وتأتيكم الصرخة فلا تغيثون ، وأنتم موصوفون بالكفاح ، معروفون بالخير والصلاح ، والنخبة التي انتخبت ، والخيرة التي اختيرت لنا أهل البيت ! قاتلتم العرب ، وتحمّلتم الكد والتعب ، وناطحتم الأمم ، وكافحتم البهم ، لا نبرح أو تبرحون نأمركم فتأتمرون ، حتّى إذا دارت بنا رحى الإسلام ، ودر حلب الأيام ، وخضعت ثغرة الشرك ، وسكنت فورة الإفك ، وخمدت نيران الكفر ، وهدأت دعوة الهرج ، واستوسق نظام الدين ، فأنّى حزتم بعد البيان ، وأسررتم بعد الإعلان ، ونكصتم بعد الإقدام ، وأشركتم بعد الإيمان ؟!
بؤساً لقوم نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَأُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ !
ألا قد أرى أن قد أخلدتم إلى الخفض ، وأبعدتم من هو أحقّ بالبسط والقبض ، وخلوتم بالدعة ، ونجوتم بالضيق من السعة ، فمججتم ما وعيتم ، ودسعتم الذي تسوغتم ! فـ إن تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جميعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ ! وقد قلت ما قلت هذا على معرفة منّي بالجذلة التي خامرتكم ، والغدرة التي استشعرتها قلوبكم ، ولكنّها فيضة النفس ، ونفثة الغيظ ، وخور القناة ، وبثة الصدر ، وتقدمة الحجّة ، فدونكموها ! فاحتقبوها دبرة الظهر ، نقبة الخف ، باقية العار ، موسومة بغضب الله وشنار الأبد ، موصولة بنار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة ! فبعين الله ما تفعلون وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ !
أنا ابنة نذير لكم بين يدي عذاب شديد فاعملوا إِنَّا عَامِلُونَ ، وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ !
فأجابها أبو بكر وقال : يا ابنة رسول الله ! لقد كان أبوك بالمؤمنين عطوفاً كريماً رؤوفاً رحيماً ، وعلى الكافرين عذاباً أليماً وعقاباً عظيماً ، إن عزوناه وجدناه أباك دون النساء ، وأخاً إلفك دون الأخلاء ، آثره على كلّ حميم ، وساعده في كلّ أمر جسيم ، لا يحبّكم إلّا سعيد ولا يبغضكم إلّا شقي بعيد ، فأنتم عترة رسول الله الطيّبون الخيرة المنتجبون ، على الخير أدلّتنا وإلى الجنّة مسالكنا ، وأنت يا خيرة النساء وابنة خير الأنبياء صادقة في قولك ، سابقة في وفور عقلك ، غير مردودة عن حقّك ، ولا مصدودة عن صدقك ، والله ما عدوت رأي رسول الله ولا عملت إلّا بإذنه ، وإنّ الرائد لا يكذب أهله ، فإنّي أشهد الله وكفى به شهيداً أنّي سمعت رسول الله يقول : نحن معاشر الأنبياء لا نورث ذهباً ولا فضّة ولا داراً ولا عقاراً ، وإنّما نورث الكتاب والحكمة والعلم والنبوّة ، وما كان لنا من طعمة فلوليِّ الأمر بعدنا أن يحكم فيه بحكمه. وقد جعلنا ما حاولته في الكراع والسلاح يقاتل بها المسلمون ويجاهدون الكفّار ويجالدون المردة الفجّار ، وذلك بإجماع من المسلمين لم أنفرد به وحدي ، ولم أستبدّ بما كان الرأي فيه عندي ، وهذه حالي ومالي هي لك وبين يديك لا نزوي عنك ولا ندّخر دونك ، وإنّك وأنت سيّدة أمّة أبيك ، والشجرة الطيّبة لبنيك ، لا يُدفع مالك من فضلك ، ولا يُوضع في فرعك وأصلك ، وحكمك نافذ فيما ملكت يداي ، فهل ترين أن أخالف في ذلك أباك ؟!
فقالت عليها السلام : سبحان الله ! ما كان أبي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عن كتاب الله صادفاً ، ولا لأحكامه مخالفاً ، بل كان يتّبع أثره ، ويقفو سوره ، أفتجمعون إلى الغدر اعتلالاً عليه بالزور ! وهذا بعد وفاته شبيهٌ بما بُغي له من الغوائل في حياته !! هذا كتاب الله حكماً عدلاً وناطقاً فصلاً يقول : يرثني ويرث من آل يعقوب ، ويقول : وورث سليمان داود ، فبيّن عزّ وجلّ فيما وزع من الأقساط ، وشرع من الفرائض والميراث ، وأباح من حظّ الذكران والإناث ، ما أزاح به علّة المبطلين ، وأزال التظني والشبهات في الغابرين !
كلّا ! بلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ !
فقال أبو بكر : صدق الله ورسوله وصدقت ابنته ! أنت معدن الحكمة وموطن الهدى والرحمة ، وركن الدين ، وعين الحجّة ، لا أبعد صوابك ، ولا أنكر خطابك ، هؤلاء المسلمون بيني وبينك قلّدوني ما تقلّدت ، وباتّفاق منهم أخذت ما أخذت ، غير مكابر ولا مستبد ولا مستأثر ، وهم بذلك شهود !
فالتفتت فاطمة عليها السلام إلى الناس وقالت : معاشر الناس المسرعة إلى قيل الباطل ، والمغضية على الفعل القبيح الخاسر ! أفلا يتدبّرون القرآن أم على قلوب أقفالها ؟ كلّا بل ران على قلوبكم ما أسأتم من أعمالكم ، فأخذ بسمعكم وأبصاركم ولبئس ما تأوّلتم ، وساء ما به أشرتم ، وشرّ ما منه اغتصبتم ، لتجدنّ والله محمله ثقيلاً وغبه وبيلاً ، إذا كشف لكم الغطاء وبان ما وراءه الضراء ، وبدا لكم من ربّكم ما لم تكونوا تحتسبون ، وخسر هنالك المبطلون. ثمّ عطفت على قبر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وقالت :
قد كان بعدك أنباءٌ وهنبثةٌ * لو كنت شاهدها لم تكثر الخطبُ
أبدت رجالٌ لنا نجوى صدورهم * لما مضيتَ وحالت دونك التربُ
تجهمتنا رجال واستخفّ بنا * لما فُقدتَ وكلّ الأرض مغتصبُ
وكنت بدراً ونوراً يستضاء به * عليك ينزل من ذي العزّة الكتبُ
وكان جبرئيل بالآيات يؤنسنا * فقد فُقدتَ وكلّ الخير محتجبُ
فليت قبلك كان الموتُ صادفنا * لما مضيت وحالت دونك الكثبُ
ثمّ انكفأت وأمير المؤمنين يتوقّع رجوعها إليه ويتطلع طلوعها عليه ، فلمّا استقرّت بها الدار قالت لأمير المؤمنين : يا ابن أبي طالب ! اشتملت شملة الجنين ، وقعدت حجرة الظنين ، نقضت قادمة الأجدل ، فخانك ريش الأعزل ، هذا ابن أبي قحافة يبتزّني نحلة أبي وبلغة ابني ، لقد أجهد في خصامي ، وألفيته ألدَّ في كلامي ، حتّى حبستني قيْلةُ نصرها ، والمهاجرة وصلها ، وغضت الجماعة دوني طرفها ، فلا دافع ولا مانع ، خرجْتُ كاظمة وعُدْتُ راغمة ! أضرعتَ خدّك يوم أضعت حدّك ، افترست الذئاب وافترشت التراب ، ما كففتَ قائلاً ولا أغنيتَ طائلاً ، ولا خيارَ لي ! ليتني متُّ قبل هنيئتي ودون ذلّتي ، عذيري الله منه عادياً ومنك حامياً ، ويلايّ في كل شارق ! ويلاي في كل غارب ! مات العمد ووهن العضد ، شكوايَ إلى أبي وعدوايَ إلى ربّي ! اللهم إنّك أشدّ منهم قوةً وحولاً ، وأشدّ بأساً وتنكيلاً.
فقال أمير المؤمنين عليه السلام : لا ويلَ لك ، بل الويلُ لشانئك ، ثمّ نهنهي عن وجدك يا ابنة الصفوة ، وبقيّة النبوّة ، فما ونيتُ عن ديني ، ولا أخطأتُ مقدوري ، فإن كنت تريدين البلغة فرزقك مضمون وكفيلك مأمون ، وما أعد لك أفضل ممّا قطع عنك ، فاحتسبي الله. فقالت : حسبي الله ، وأمسكت ». انتهى.
وقال في شرح النهج : 16 / 252 : « فما رأينا يوماً أكثر باكياً أو باكية من ذلك اليوم ».
ولهذه الخطبة وأجزائها مصادر عديدة نكتفي منها بما ذكرنا وبالإحتجاج : 1 / 131.
تأثير خطبة الزهراء عليها السلام على السلطة القرشية !
من الثابت أنّ وضع السلطة القرشيّة كان ضعيفاً في الأسابيع الأولى ، وقد اعترف عمر بأنّ عامّة الأنصار كانوا معارضين لهم ، فقال كما في البخاري : 8 / 26 : « إنّه قد كان من خبرنا حين توفّي الله نبيّه أنّ الأنصار خالفونا واجتمعوا بأسرهم في سقيفة بني ساعدة ، وخالف عنّا علي والزبير ومن معهما ». انتهى.
وعدَّ المؤرخون عشرات الصحابة من الأنصار والمهاجرين ، أدانوا السقيفة ، أو امتنعوا عن البيعة ، وإنّما كان المعتصمون في بيت علي وفاطمة عليهما السلام بعضهم !
وقد هزَّت هذه الخطبة الفاطميّة وضع السلطة القرشيّة الجديدة ، وذكر الرواة أن البكاء عمَّ الناس ذلك اليوم ، وأنّ بعض الأنصار هتفوا باسم علي عليه السلام للخلافة فخاف أبو بكر وعمر أن يتحرّك الأنصار لنصرة عترة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والإطاحة بهم ! ولذلك بادر أبو بكر وخطب فنال من علي عليه السلام بدون أن يسمّيه ، وهدّد الأنصار بطلقاء قريش المتكاثرين في المدينة ! ولا بدّ أنّهم قاموا بأعمال أخرى حتّى استطاعوا أن يهدئوا الوضع ، ويسكتوا أنصار فاطمة والعترة النبويّة !
قال الجوهري في السقيفة ص 104 : « فلمّا سمع أبو بكر خطبتها شقّ عليه مقالتها فصعد المنبر وقال : أيّها الناس ما هذه الرعة إلى كلّ قالة ، أين كانت هذه الأماني في عهد رسول الله ، ألا من سمع فليقلّ ، ومن شهد فليتكلّم ، إنّما هو ثعالة شهيده ذنبه ، مُرِبُّ لكلّ فتنة ، هو الذي يقول كرُّوها جذعة بعد ما هرمت ، يستعينون بالضعفه ، ويستنصرون بالنساء ، كأمّ طحال أحبّ أهلها إليها البغي ، ألا إنّي لو أشاء أن أقول لقلتُ ، ولو قلتُ لبُحْتُ ، إنّي ساكت ما تركت.
ثمّ التفت إلى الأنصار فقال : قد بلغني يا معشر الأنصار مقالة سفهائكم ، وأحقّ من لزم عهد رسول الله أنتم ، فقد جاءكم فآويتم ونصرتم ، ألا إنّي لست باسطاً يداً ولا لساناً على من لم يستحقّ ذلك منّا. ثمّ نزل ! ». انتهى.
وقال في شرح النهج : 16 / 214 ، بعد نقل كلام أبي بكر هذا برواية الجوهري :
« قلت : قرأت هذا الكلام على النقيب أبي يحيى جعفر بن يحيى بن أبي زيد البصري وقلت له : بمن يعرِّض ؟ فقال : بل يصرح. قلت : لو صرح لم أسألك ! فضحك وقال : بعلي بن أبي طالب. قلت : هذا الكلام كلّه لعلي يقوله ! قال : نعم ، إنّه الملك يا بنيَّ ، قلت : فما مقالة الأنصار ؟ قال : هتفوا بذكر عليٍّ فخاف من اضطراب الأمر عليهم ، فنهاهم.
فسألته عن غريبه ، فقال : أما الرِّعة بالتخفيف ، أيّ الإستماع والإصغاء ، والقالة : القول ، وثعالة : اسم الثعلب علم غير مصروف ، ومثل ذؤاله للذئب ، وشهيده ذنبه أيّ لا شاهد له على ما يدّعى إلّا بعضه وجزء منه ، وأصله مثلٌ ، قالوا : إنّ الثعلب أراد أن يغري الأسد بالذئب ، فقال : إنّه قد أكل الشاة التي كنت قد أعددتها لنفسك وكنتُ حاضراً ، قال : فمن يشهد لك بذلك ؟ فرفع ذنبه وعليه دم ، وكان الأسد قد افتقد الشاة. فقبل شهادته وقتل الذئب. ومُرب : ملازم ، أربَّ بالمكان.
وكرُّوها جذعة : أعيدوها إلى الحال الأولى ، يعني الفتنة والهرج. وأم طحال: امرأة بغيٌّ في الجاهليّة ويضرب بها المثل فيقال : أزنى من أمّ طحال ». انتهى.
9 ـ يوم اشتدّ مرضها فجاءت نساء الأنصار والمهاجرين لعيادته
في معاني الأخبار للصدوق ص 354 : عن فاطمة بنت الحسين عليه السلام قالت : « لما اشتدّت علّة فاطمة بنت رسول الله صلوات الله عليها ، اجمتع عندها نساء المهاجرين والأنصار فقلن لها : يا بنت رسول الله كيف أصبحت من علّتك ؟ فقالت :
أصبحت والله عائفة لدنياكم قالية لرجالكم ! لفظتهم قبل أن عجمتهم ، وشنأتهم بعد أن سبرتهم ، فقبحاً لفلول الحدّ وخور القناة ، وخطل الرأي ، وبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون !
لا جرم لقد قلَّدَتْهم ربقتها وشنَّنَت عليهم عارها ، فجدعاً وعَقراً وسُحقاً للقوم الظالمين ! ويحهم أنى زحزحوها عن رواسي الرسالة وقواعد النبوّة ومهبط الوحي الأمين ، والطبين بأمر الدنيا والدين ، ألا ذلك هو الخسران المبين ، وما نقموا من أبي حسن ؟! نقموا والله منه نكير سيفه ، وشدّة وطأته ، ونكال وقعته ، وتنمره في ذات الله عزّ وجلّ ! والله لو تكافُّوا عن زمام نبذه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لاعتلقه ، ولسار بهم سيراً سُجحاً ، لا يُكلم خشاشه ولا يُتعتع راكبه ، ولأوردهم منهلاً نميراً فضفاضاً تطفح ضفتاه ولأصدرهم بطاناً قد تخيَّر لهم الريَّ غير متحل منه بطائل إلّا بغمر الماء وردعة سورة الساغب ولفتحت عليهم بركات السماء والأرض ، وسيأخذهم الله بما كانوا يكسبون !
ألا هلمَّ فاسمع وما عشت أراك الدهر العجب وإن تعجّب وقد أعجبك الحادث ، إلى أيّ سناد استندوا ؟ وبأيّة عروة تمسّكوا ؟ استبدلوا الذنابى والله بالقوادم ، والعجز بالكاهل ، فرغماً لمعاطس قوم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً ! أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ .. أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لايَهِدِّي إِلا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ !
أما لعمري والله لقد لقحت ، فنظرةً ريثما تنتجوا ، ثمّ احتلبوا طلاع القعب دماً عبيطاً وزعافاً ممقراً ، هنالك يخسر المبطلون ويعرف التالون غِبَّ ما أسس الأوّلون ! ثمّ طيبوا عن أنفسكم نفساً ، واطمأنّوا للفتنة جأشاً ، وأبشروا بسيف صارم ، وهرج شامل واستبداد من الظالمين ، يدع فيئكم زهيداً ، وزرعكم حصيداً ! فيا حسرتي لكم ، وأنّى بكم وقد عُمِّيَت عليكم ، أنلزمكموها وأنتم لها كارهون » ! [ ورواه الطوسي في الأمالي ص 374 ، والجوهري في السقيفة ص 120 ].
10 ـ يوم أوصت عليّاً أن يدفنها ليلاً سرّاً ولا يأذن لهما بالصلاة عليه
في معاني الأخبار ص 356 ، عن علي عليه السلام قال : « لما حضرت فاطمة الوفاة دعتني فقالت : أمنفذٌ أنت وصيتّي وعهدي ؟ قال قلت : بلى أنفذها فأوصت إليَّ وقالت : إذا أنا متُّ فادفني ليلاً ، ولا تؤذننَّ رجلين ، ذكرتهما ».
وفي كتاب سليم بن قيس ص 392 : « قال ابن عبّاس : فقبضت فاطمة من يومها فارتجَّت المدينة بالبكاء من الرجال والنساء ، ودهش الناس كيوم قبض فيه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم. فأقبل أبو بكر وعمر يعزيان عليّاً ويقولان له : يا أبا الحسن لا تسبقنا بالصلاة على ابنة رسول الله ... فلمّا كان في الليل دعا علي العبّاس والفضل والمقداد وسلمان وأبا ذر وعمّاراً ، فقدم العبّاس فصلّى عليها ودفنوها. فلمّا أصبح الناس أقبل أبو بكر وعمر والناس يريدون الصلاة على فاطمة عليها السلام فقال المقداد : قد دفنا فاطمة البارحة. فالتفت عمر إلى أبي بكر فقال : ألم أقل لك إنّهم سيفعلون ؟! قال العبّاس : إنّها أوصت أن لا تصلّيا عليها ! فقال عمر : والله لا تتركون يا بني هاشم حسدكم القديم لنا أبداً ! إن هذه الضغائن التي في صدوركم لن تذهب والله لقد هممت أن أنبشها فأصلّي عليها ! فقال علي : والله لو رمت ذلك يابن صهاك لارجعتْ إليك يمينك ! والله لئن سللت سيفي لا أغمدته دون إزهاق نفسك ، فَرُمْ ذلك ! فانكسر عمر وسكت ، وعلم أن عليّاً إذا حلف صدق ». انتهى.
وفي أمالي المفيد ص 281 : عن الحسين عليه السلام قال : « فلمّا حضرتها الوفاة أوصت أمير المؤمنين عليه السلام أن يتولّى أمرها ويدفنها ليلاً ويعفي قبرها ! فتولّى ذلك أمير المؤمنين عليه السلام ودفنها وعفى موضع قبرها ، فلمّا نفض يده من تراب القبر هاج به الحزن ، فأرسل دموعه على خدّيه ، وحول وجهه إلى قبر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال :
السلام عليك يا رسول الله منّي ، والسلام عليك من ابنتك وحبيبتك وقرّة عينك وزائرتك ، والبائتة في الثرى ببقعتك ، والمختار لها الله سرعة اللحاق بك.
قلَّ يا رسول الله عن صفيّتك صبري ، وضعف عن سيّدة النساء تجلدي ، إلّا أن في التأسي لي بسنّتك والحزن الذي حلّ بي بفراقك ، موضع التعزي ، فلقد وسدتك في ملحود قبرك ، بعد أن فاضت نفسك على صدري ، وغمضتك بيدي ، وتولّيت أمرك بنفسي. نعم وفي كتاب الله أنعم القبول : إنّا لله وإنّا إليه راجعون. لقد استرجعت الوديعة ، وأخذت الرهينة ، واختلست الزهراء ، فما أقبح الخضراء والغبراء.
يا رسول الله ! أمّا حزني فسرمد ، وأمّا ليلي فمسهد ، لا يبرح الحزن من قلبي ، أو يختار الله لي دارك التي أنت فيها مقيم. كَمَدٌ مُقيح ، وهَمٌّ مُهيج ، سرعان ما فرق بيننا وإلى الله أشكو ! وستنبّئك ابنتك بتضافر أمّتك عليَّ ، وعلى هضمها حقّها ، فاستخبرها الحال ، فكم من غليل معتلج بصدرها لم تجد إلى بثه سبيلاً ! وستقولُ ويحكم الله ، وهو خير الحاكمين.
سلام عليك يا رسول الله سلام مودع ، لا سئم ولا قالٍ ، فإن أنصرف فلا عن ملالة وإن أقم فلا عن سوء ظنّ بما وعد الله الصابرين ، والصبر أيمن وأجمل ، ولولا غلبة المستولين علينا لجعلت المقام عند قبرك لزاماً ، واللبث عنده معكوفاً ، ولأعولت إعوال الثكلى على جليل الرزيّة ! فبعين الله تدفن ابنتك سرّاً ، وتهتضم حقّها قهراً ، وتمنع إرثها جهراً ، ولم يطل العهد ولم يخلّ منك الذكر ! فإلى الله يا رسول الله المشتكى ، وفيك أجمل العزاء. وصلوات الله عليك وعليها ، ورحمة الله وبركاته ».
وفي رواية روضة الواعظين للنيسابوري ص 151 : « فقالت : يا ابن عمّ إنّه قد نعيت إلى نفسي لأرى ما بي لا أشك ، إلّا أنني لاحقة بأبي ساعة بعد ساعة ، وأنا أوصيك بأشياء في قلبي. قال لها علي : أوصني بما أحببت يا بنت رسول الله ...
ثمّ قالت : جزاك الله عنّي خير الجزاء ، يا ابن عمّ أوصيك أوّلاً أن تتزوّج بعدي بابنة أختي أمامة ، فإنّها تكون لولدي مثلي ، فإنّ الرجال لابدّ لهم من النساء ...
ثمّ قالت : أوصيك أن لا يشهد أحد جنازتي من هؤلاء الذين ظلموني وأخذوا حقّي فإنّهم أعدائي وأعداء رسول الله ، وأن لا يصلّي عليَّ أحد منهم ولا من أتباعهم ، وادفني في الليل إذا هدأت العيون ونامت الأبصار. ثمّ توفّيت صلوات الله عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها ، فصاحت أهل المدينة صيحة واحدة واجتمعت نساء بني هاشم في دارها ، فصرخن صرخة واحدة كادت المدينة أن تزعزع من صراخهنّ وهنّ يقلن : يا سيّدتاه يا بنت رسول الله ! وأقبل الناس مثل عُرْف الفرس إلى علي وهو جالس والحسن والحسين بين يديه يبكيان ، فبكى الناس لبكائهما ، وخرجت أمّ كلثوم وعليها برقعة وتجرّ ذيلها متجلّلة برداء عليها تسحبه وهي تقول : يا أبتاه يا رسول الله ، الآن حقّاً فقدناك فقداً لا لقاء بعده ، واجتمع الناس فجلسوا وهم يرجون وينظرون أن تخرج الجنازة فيصلّون عليها.
وخرج أبو ذر فقال : انصرفوا فإنّ ابنة رسول الله قد أخر إخراجها في هذه العشية فقام الناس وانصرفوا ، فلمّا أن هدأت العيون ومضى من الليل أخرجها علي والحسن والحسين وعمّار والمقداد وعقيل والزبير وأبو ذر وسلمان وبريدة ، ونفر من بني هاشم وخواصّهم صلّوا عليها ودفنوها في جوف الليل ، وسوَّى عليٌّ حواليها قبوراً مزوّرة مقدار سبعة ، حتّى لا يعرف قبرها ». انتهى.
الهوامش
1. كما في السطر الأخير من ص 59 من المجلد الأول من شرح النهج الحميدي « منه قدس ».
2. الغدير للأميني : 6 / 146 ، شرح النهج الحديدي : 3 / 122 ، سيرة عمر لابن الجوزي ص 107 ، الطبقات الكبرى لابن سعد ، السيرة الحلبية ج 3 / 29 ، فتح الباري : 7 / 361 وقد صحّحه ، إرشاد الساري : 6 / 337 ، شرح المواهب للزرقاني : 2 / 207 ، الدر المنثور : 6 / 73 ، عمدة القاري : 8 / 284 وقال : إسناد صحيح .. إلى آخر ما ذكره من مصادر.
مقتبس من كتاب : [ جواهر التاريخ ] ، الجزء : 1 ، الصفحة : 112 ـ 160
التعلیقات
١