الجبر والإختيار ـ هل أفعال العباد واقعة بقدرة الباري وحدها ؟
السيد علي الميلاني
منذ 9 سنواتالجبر والإختيار
هل أفعال العباد واقعة بقدرة الباري وحدها ؟
قد نسب هذه العقيدة إلى الأشاعرة علماء أهل السنّة وانتقدها بعضهم :
قال الشيخ كمال الدين السهالي ـ من كبار علماء الهند ـ في كتاب [ العروة الوثقى ] في مسألة الجبر والإختيار :
« فاعلم إنّ هاهنا مذاهب :
الأوّل : مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري من الشافعيّة : إنّ أفعال العباد واقعة بقدرته تعالى وحدها ، وليس لهم تأثير ، بل الله سبحانه أجرى عادته بأن يخلقها في العبد عندما كسبها ، والمعني بكسب العبد لفعله مقارنته لقدرته وإرادته ، وإنّما قدرته وإرادته منه تعالى كسائر مخلوقاته ، فرجع قولهم إلى وجود القدرة الوهميّة مع الفعل ، ولا مدخل للعبد في فعله إلّا كونه محلّاً له ; فالفعل مخلوق الله تعالى إبداعاً وإحداثاً مكسوب العبد فقط.
الثاني : مذهب أبي منصور الماتريدي من الحنفيّة ، وهو بعينه مذهب الأشعري إلّا أنّهم قالوا : الكسب صرف القدرة إلى العزم المصمّم للفعل ، فقالوا : إنّ للقدرة الكاسبة تأثيراً في العزم المذكور ، ويخلق الله تعالى الفعل عقيبه بالعادة.
فقال بعضهم : العزم من الأحوال وليس بموجود ، فإحداثه ليس بخلق والإحداث أهون من الخلق ، فحينئذ ، لا حاجة إلى تخصيص النصوص الدالّة على عموم الخلق منه تعالى ، نحو ( الله خالق كلّ شيء ) و ( خلقكم وما تعملون ).
وقال بعضهم : بل موجود ، فيجب التخصيص بالعقل ، لأنّه أدنى ما يتحقّق به فائدة خلق القدرة ، ويصحّ اتّجاه التكليف شرطاً.
الثالث : مذهب المعتزلة ، وهو أنّها واقعة بقدرة العبد وحدها على الاستقلال.
والرابع : ما قال جماعة أنّها بالقدرتين معاً.
والخامس : مذهب الحكماء وإمام الحرمين وأبي الحسين : أنّها واقعة على سبيل الوجوب ، بقدرة يخلقها الله تعالى في العبد إذا قارنت الشرائط وارتفع الموانع ، وليس ببعيد ، لكنّه راجع بالأخرة إلى مذهب المعتزلة كما يظهر بالتأمّل.
وهاهنا مذهب سادس ، وهو مذهب الجهميّة وهو : أنّه لا قدرة للعبد ولا دخل له أصلاً ، بل هو كالجماد ، فمع أنّه سفسطة يلزم عدم اتجاه التكاليف الشرعيّة ، فإنّ العقل يقطع بامتناع تعلّق العقاب بالفعل الواجب أو الممتنع من الفاعل ، بل يلزم نسبة الظلم إليه ، تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً و ( إنّ الله ليس بظلاّم للعبيد ) و ( لا يكلّف الله نفساً إلاّ وسعها ).
والمذهب الرابع يوجب توارد المؤثّرين المتلازمين على أثر واحد ، إن أرادوا أنّ القدرتين مستقلّتان في التأثير ، وإن أرادوا أنّ أحداهما مستقلّة بالفاعليّة والاُخرى من الشرائط ، فيرجع إلى مذهب المعتزلة أو أحد الأوّلين.
إحتجّت المعتزلة : تارة بالنصوص الدالّة على عموم نسبة الخلق إليه تعالى وقد مرّ ، وتارة : بأنّه لولا استقلال العبد في أفاعيله ، لبطل التكليف بالأمر والنهي ، ولم يصحّ الثواب والعقاب والمدح والذم ، بل ينتفي فائدة البعثة ، لأنّ العبد حينئذ إمّا لا دخل له أصلاً ، فيرجع إلى مذهب الجبريّة ، وإمّا له دخل ناقص باعتبار أنّه محلّ القدرة الغير المؤثّرة التي خلق الله تعالى الفعل فيه مقارناً إيّاها ، فمناط ذلك الفعل وموجده وخالقه ليس إلّا هو ، فإنّما عاقب على ما خلقه ، فذلك أيضاً يوجب تلك النسبة الباطلة.
والحلّ عنها على طريق الحنفيّة : إنّ العبد لمّا كان كاسباً لفعله كما عرفت وسيجيء تحقيقه كما هو ، وأجرى الله عادته أن يخلق الفعل عقيبه ولا يخلق عند عدم كسبه، فذلك مناط العقاب، ولا يلزم إذن فساد اتّجاه التكليف ، ومن هاهنا صحّ انتساب أفعال العباد إليهم ، وذلك هو المناط في اللغة والعرف ، لا يوجب أن يكون الفاعل خالقاً لفعله ، نعم ، يلزم الأشاعرة القائلين بالقدرة الوهميّة تلك النسبة الباطلة ، ولذلك قيل إنّها كفؤ للجبر ».
فقد صرّح بلزوم الظلم على مذهب الأشاعرة.
وقال أيضاً :
« ولابدّ هاهنا من تمهيد مقدّمات :
منها : إنّ حسن الأفعال وقبحها عقلي ، على المذهب المنصور ، وهو مذهب أبي منصور الماتريدي ، بناء على بطلان الترجيح بلا مرجّح ، فإن جعل بعض الأفعال مناطاً للثواب والمدح ، والبعض الآخر مناطاً للعقاب والذم بلا موجب مرجّح من ذاتها ، مستحيل قطعاً ، والصانع الحكيم لا يرجّح المرجوح بل المساوي. وبالجملة : حكمة الأمر قاضية بأنّ تخصيصات الأفعال بثمراتها لابدّ لها من مرجّح من ذواتها ، وقد بيّن في موضعه ، وما أحسن ما قال الشيخ الأكبر محي الدين بن علي العربي في بعض مصنّفاته : لولم يكن للأفعال خصوصيّة داعية إلى ثمراتها المخصوصة بها ، ويكون الأفعال التي على هوى النفس والتي على خلاف هواها سواسية في تعلّق ثمراتها بها ، يلزم نسبة الظلم إليه ، تعالى الله عن ذلك ، فإنّ الطّاعات الواجبة كلّها على خلاف هوى النفس ، ولذا قال عليه السّلام : أفضل العبادات أحمزها ، بل الفعل خلاف الهوى عين الطاعة ، والمعاصي كلّها على وفاق هواها ، بل وفاق الهوى نفس المعصية ، وإذا كانت الطاعات متساوية النسبة في الواقع ، بجعلها مناطاً للثواب والعقاب ، وكذا المعاصي بجعلها مناطاً لها ، فتحريم المعاصي بكفّ النفس عن الشهوات في الدنيا ، وإيجاب الطاعات بقهر النفس فيها بلا ضرورة باعثة ، ظلم ، لأنّه حبس النفس عن الشهوات وإقحامها في القهر في الدنيا بلا فائدة ، ولو عكس الله الأمر لفاز العبد بالراحتين في الاُولى والآخرة ».
وهكذا قال صاحب [ مسلّم الثبوت ] وشارحه ، وهما من أعاظم المحققين ، فقد جاء في [ فواتح الرحموت ] ما نصّه :
« وعند أهل الحق ، أصحاب العناية ، الذين هم أهل السنّة ، الباذلون أنفسهم في سبيل الله بالجهاد الأكبر ، له قدرة كاسبة فقط لا خالقة ، لكن عند الأشعريّة من الشافعيّة ليس معنى ذلك الكسب إلّا وجود قدرة متوهّمة يتخيّله الشخص قدرة مع الفعل بلا مدخليّة لها أصلاً في شيء ، فعندهم إذا أراد الله تعالى أن يخلق في العبد فعلاً ، يخلق أوّلاً صفة يتوهّم أوّل الأمر إنّها قدرة على شيء ، ثمّ يوجّه الله تعالى إلى الفعل ثمّ يوجد الفعل ، فنسبة الفعل إليه كنسبة الكتابة إلى القلم. قالوا : ذلك كاف في صحّة التكليف.
والحقّ : أنّه كفؤ للجبر ، وهو ظاهر ، فإنّه متى لم يكن في العبد قدرة حقيقة ، فأيّ فرق بينه وبين الجماد » (1).
مذهب الأشعريّة عين مذهب الجهميّة
فهذا الكلام صريح في أنّ مذهب الأشعرية عين مذهب الجهميّة ، وهو الجبر ، وهذا عين السفسطة كما صرّح في [فواتح الرحموت ]:
« عند الجهميّة الذين هم الجبريّة حقّاً ، لا قدرة للعبد أصلاً على الكسب ولا على الإيجاد ، بل هو كالجماد الذي لا يقدر على شيء ، وهذا سفسطة ، فإنّ كلّ عاقل يعلم من وجدانه أنّ له نحواً من القدرة ، والذي شجّعهم على هذه السفسطة رواية نصوص خلق الأعمال ، ولم يتعمّقوا فيها » (2).
وقال نظام الدين في [ شرح مسلّم الثبوت ]:
« وعند أهل الحق ، له أي للعبد ، قدرة كاسبة ، لكن عند الأشعريّة ليس معنى ذلك ، أي وجود القدرة الكاسبة له ، إلّا وجود قدرة متوهّمة مع الفاعل بلا مدخليّة للعبد أصلاً ، وحاصله : أنّ العبد ليس له قدرة ولا لا قدرة ولا دخل ، بل بين الفعل والعبد ليس علاقة إلّا علاقة المحليّة والحاليّة ، كالسواد القائم بجسم غير مقتض له.
قالوا أي الأشعريّة : إنّ ذلك ، أي وجود قدرة متوهّمة ، كاف في التكليف.
والحقّ : إنّه كفؤ للجبر عند التحقيق ، فهم وإن احترزوا عن الجبر لفظاً ، لكن قلوبهم به مؤمنة ، إذ ليس نسبة الفعل إلى العبد نسبة الفاعليّة ولا نسبة الشرطيّة ، فلا علاقة بينهما ، فالعبد كالسكين لله تعالى ، وهذا هو الجبر حقيقة. ثمّ اكتفاؤهم بهذه القدرة التي اخترعوها في التكليف أيضاً غير معقول ، لكن يتأتى على أصلهم ، فإنّ تكليف العاجز جائز عندهم ، ثمّ إنّهم وإن قالوا بجواز تكليف الإنسان بما لا يطيقه لكن منعوا وقوعه ، ولم يدروا أنّ كلّ تكليف فإنّه تكليف بالمحال ، فإنّه لا فرق بين إيجاب الحركة على المرتعش وبين إيجابه على غيره ، وكذا النهي للأعمى عن البصر ونهي الكفّار عن الكفر ، ولا يعرّج عليه عاقل ، واعتذر عنه بما لا ينفع ».
كلمات ابن تيميّة في المسألة
ومن جملة من حطّ على مذهب الأشاعرة ، وردّ عليه بشدّة ، هو : ابن تيميّة الحرّاني ، إذ قال في جواب العلّامة الحلّي رحمه الله :
« جمهور أهل السنّة المثبتة للقدر من جميع الطوائف يقولون : إنّ العبد فاعل حقيقة ، وإنّ له قدرة حقيقة واستطاعة حقيقة ، وهم لا ينكرون تأثير الأسباب الطبيعيّة ، بل يقرّون بما دلّ عليه العقل ، من أنّ الله تعالى يخلق السحاب بالرياح وينزل الماء من السحاب ، وينبت النبات بالماء ، ولا يقولون أنّ قوى الطبائع الموجودة في المخلوقات لا تأثير لها ، بل يقرّون أنّ لها تأثيراً لفظاً ومعنى ، حتّى جاء لفظ الأثر في مثل قوله تعالى : ( ونكتب ما قدّموا وآثارهم ) ، وإن كان التأثير أعمّ منه في الآية ، لكن يقولون هذا التأثير هو تأثير الأسباب في مسبّباتها ، والله تعالى خالق السبب والمسبّب ، ومع أنّه خالق السبب فلابدّ له من سبب آخر يشاركه ، ولابدّ له من معارض يمانعه ، فلا يتمّ أثره إلّا مع خلق الله له لا به ، بأن يخلق الله تعالى السبب الآخر ويزيل الموانع.
ولكن هذا القول الذي حكاه هو قول بعض المثبتة للقدر ، كالأشعري ومن وافقه من الفقهاء ، من أصحاب مالك والشافعي وأحمد ، حيث لا يثبتون في المخلوقات قوى الطبائع ، ويقولون إنّ الله تعالى فعل عندها لا بها ، ويقولون إنّ قدرة العبد لا تأثير لها في الفعل ، وأبلغ من ذلك قول الأشعري : إنّ الله فاعل فعل العبد ، وإنّ عمل العبد ليس فعلاً للعبد بل كسباً له ، وإنّما هو فعل الله تعالى فقط ، وجمهور الناس من أهل السنّة من جميع الطوائف على خلاف ذلك ، وأنّ العبد فاعل لفعله حقيقة ، والله أعلم » (3).
« وأمّا قوله: وإنّ الله تعالى يريد المعاصي من الكافر ولا يريد منه الطاعة. فهذا قول طائفة منهم ، وهم الذين يوافقون القدريّة ، فيجعلون المشيّة والإرادة والمحبّة والرضا نوعاً واحداً ، ويجعلون المحبّة والرضا والغضب بمعنى الإرادة ، كما يقول ذلك الأشعري في المشهور عنه وأكثر أصحابه ، وطائفة ممّن يوافقهم من الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي وأحمد.
وأمّا جمهور أهل السنّة من جميع الطوائف وكثير من أصحاب الأشعري ، فيفرّقون بين الإرادة والمحبّة والرضا ، فيقولون إنّه وإن كان يريد المعاصي فهو سبحانه لا يحبّها ولا يرضاها بل يبغضها ويسخطها وينهى عنها ، وهؤلاء يفرّقون بين مشيّة الله تعالى وبين محبّته ، وهذا قول السلف قاطبة ، وقد ذكر أبوالمعالي الجويني أنّ هذا قول القدماء من أهل السنّة ، وأنّ الأشعري خالفهم ، فجعل الإرادة هي المحبّة فيقولون ، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ، فكلّما شاءه فقد خلقه » (4).
وإذا كان الله ـ والعياذ بالله ـ يرضى بأنواع المعاصي وأقسام الظلم والضلال ، فلا ريب في نسبة الظلم إليه سبحانه وتعالى ...
وفي [ منهاج السنّة] أيضاً :
« والقول الثاني : إنّ الظلم مقدور والله تعالى منزّه عنه ، وهذا قول الجمهور من المثبتين للقدر ونفاته ، وهو قول كثير من النظّار المثبتة للقدر ، كالكراميّة وغيرهم ، وكثير من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم ، وهو قول القاضي أبي حازم ابن القاضي أبي يعلى وغيره، وهذا كتعذيب الإنسان بذنب غيره ، كما قال الله تعالى ( فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلماً ولا هضماً ) ، وهؤلاء يقولون : الفرق بين تعذيب الإنسان على فعله الإختياري وغير فعله الإختياري مستقر في فطر العقول ، فإنّ الإنسان لو كان له في جسمه برص أو عيب خلق فيه ، لم يستحسن ذمّه ولا عقابه على ذلك، ولو ظلم ابنه أحد يحسن عقابه على ذلك ، ويقولون : الإحتجاج بالقدر على الذنوب ممّا يعلم بطلانه بضرورة العقل ، فإنّ الظالم لغيره لو احتج بالقدر لاحتجّ ظالمه أيضاً بالقدر ، فإن كان القدر حجّة لهذا فهو حجّة لهذا وإلّا فلا ، والأوّلون أيضاً يمنعون الإحتجاج بالقدر ، فإنّ الإحتجاج به باطل باتّفاق أهل الملل وذوي العقول ، وإنّما يحتجّ به على القبائح والمظالم من هو متناقض القول متّبع لهواه كما قال بعض العلماء : أنت عند الطاعة قدري وعند المعصية جبري ... مذهب وافق هؤلاء تمذهبت به ، ولو كان القدر حجّة لفاعل الفواحش والمظالم لم يحسن أن يلوم أحدٌ أحداً ، ولا يعاقب أحدٌ أحداً ، وكان للإنسان أن يفعل في دم غيره وماله وأهله ما يشتهيه من المظالم والقبائح ، ويحتجّ بأنّ ذلك مقدّرٌ عليه » (5).
وقال ابن تيمية :
« بقي الخلاف بين القدريّة الذين يقولون أنّ الداعي يحصل في قلب العبد بلا مشيّة من الله ولا قدرة ، وبين الجهميّة المجبّرة الذين يقولون : إنّ الداعي قدرة العبد ولا تأثير لها في فعله بوجه من الوجوه ، وإنّ العبد ليس فاعلاً لفعله ، كما يقول ذلك جهم بن صفوان إمام المجبّرة ومن اتّبعه ، وإن أثبت أحدهم كسباً لا يعقل كما أثبته الأشعري ومن وافقه ، وإذا كان هذا النزاع في هذا الأصل بين القدريّة النفاة لكون الله يعين المؤمنين على الطاعة، ويجعل فيهم داعياً إليها ويخصّهم بذلك دون الكافر، وبين المجبّرة الغلاة الذين يقولون إنّ العباد لا يفعلون شيئاً ولا قدرة لهم على شيء ، أو لهم قدرة لا يفعلون بها شيئاً ولا تأثير لها في شيء ، فكلا القولين باطل ».
ثمّ قال بعد كلام له :
« وهذا حقيقة مذهب أهل السنّة الذين يقولون : إنّ الله خالق الأشياء بالأسباب والله خلق العبد وقدرة يكون بها فعله ، فإنّ العبد فاعل لفعله حقيقة ، فقولهم في خلق فعل العبد بإرادة وقدرة كقولهم في خلق سائر الحوادث بأسبابها ، ولكن ليس هذا قول من ينكر الأسباب والقوى التي في الأجسام وينكر تأثير القدرة التي بها يكون الفعل ويقول : إنّه لا أثر لقدرة العبد أصلاً في فعله ، كما يقول ذلك من يقول بقول جهم وأتباعه والأشعري ومن وافقه ، وليس قول هؤلاء قول أئمة السنّة ولا جمهورهم ، بل أصل هذا القول هو قول جهم بن صفوان ، فإنّه كان يثبت مشيّة الله تعالى وينكر أن يكون له حكمة أو رحمة ، وينكر أن يكون للعبد فعل أو قدرة مؤثّرة ، وحكي عنه أنّه كان يخرج إلى الجذماء ويقول : أرحم الراحمين يفعل هذا ؟ إنكاراً لأن تكون له رحمة يتّصف بها ، وزعماً منه أنّه ليس إلّا مشيّة محضة لا اختصاص لها بحكمة ، بل يرجّح أحد المتماثلين بلا مرجّح ، وهذا قول طائفة من المتأخّرين ، وهؤلاء يقولون أنّه لم يخلق لحكمة ولم يأمر لحكمة ، وأنّه ليس في القرآن لام كي لا في خلق الله ولا في أمره ، وهؤلاء الجهميّة المجبّرة هم والمعتزلة والقدريّة في طرفين متقابلين ، وقول سلف الاُمّة وأئمة السنّة وجمهورها ليس قول هؤلاء ، وإن كان كثير من المثبتين للقدر يقول بقول جهم » (6).
وقال :
« ومن وافق جهم بن صفوان من المثبتين للقدر على أنّ الله لا يفعل شيئاً لحكمة ولا لسبب، وأنّه لا فرق بالنسبة إلى الله بين المأمور والمحظور ، ولا يحب بعض الأفعال ولا يبغض بعضها ، فقوله فاسد ، مخالف للكتاب والسنّة واتّفاق السلف ، وهؤلاء قد يعجزون عن بيان امتناع كثير من النقائص عليه ، لاسيّما إذا قال من قال منهم أنّ تنزيهه عن النقص لم يعلم بالعقل بل بالسمع ، فإذا قيل لهم : لم قلتم إنّ الكذب ممتنع عليه ؟ قالوا : لأنّه نقص والنقص عليه محال ، فيقال لهم : عندكم أنّ تنزيهه عن النقص لم يعلم إلّا بالإجماع ، ومعلوم أنّ الإجماع منعقد على تنزيهه عن الكذب ، فإن صحّ الإحتجاج على هذا بالإجماع ، فلا حاجة إلى هذا التطويل.
وأيضاً : فالكلام إنّما هو في العبارة الدالّة على هذا المعنى ، وهذا كما قاله بعضهم : إنّه لا يجوز أن يتكلّم بكلام ولا يعني به شيئاً وقال خلافاً للحشويّة ، ومعلوم أنّ هذا القول لم يقله أحد من المسلمين ، وإنّما النزاع في أنّه هل يجوز أن ينزّل كلاماً لا يعلم العباد معناه ، لا أنّه هو في نفسه لا يعني به شيئاً ، ثمّ بتقدير أن يكون في هذا نزاع ، فإنّه احتجّ على ذلك بأنّه عيب والعيب على الله ممتنع ، وهذا المحتجّ يجوّز على الله فعل كلّ شيء ، لا ينزّهه عن فعل هذا. وأمثاله من تناقض الموافقين لقول الجهميّة الجبريّة في القدر كثير ، لكن ليس هذا قول أئمة السنّة ولا جمهورهم ».
وذكر ابن تيمية في الجواب عن لزوم عدم الرضا بقضاء الله ـ بناءً على قول أهل السنّة ـ ثلاثة وجوه ، ثمّ قال :
« وقد أجاب بعضهم بجواب آخر وهو : إنّا لا نرضى بالقضاء لا بالمقضي ، وقد أجاب بعضهم بجواب آخر : إنّا نرضى بها من جهة كونها خلقاً ، ونسخطها من جهة كونها كسباً ، وهذا يرجع إلى الجواب الثالث ، لكن في إثبات الكسب إذا لم يجعل العبد فاعلاً فيه كلام قد ذكر في غير هذا الموضع ، فالذين جعلوا العبد كاسباً غير فاعل ـ من أتباع جهم بن صفوان وحسين النجار كأبي الحسن وغيره ـ كلامهم متناقض ، ولهذا لم يمكنهم أن يذكروا في بيان هذا الكسب والفرق بينه وبين الفعل كلاماً معقولاً ، بل تارة يقولون : هو المقدور بالقدرة الحادثة ، وتارة يقولون : ما قام بمحلّ القدرة أو بمحلّ القدرة الحادثة ، وإذا قيل لهم : ما القدرة الحادثة ؟ قالوا : ما قامت بمحلّ الكسب ونحو ذلك من العبارات التي تستلزم الدور ، ثمّ يقولون : معلوم بالإضطرار الفرق بين حركة المختار وحركة المرتعش ، وهذا كلام صحيح ، لكنّه حجّة عليهم لا لهم » (7).
وقال بعد كلام له :
« والمقصود هنا التنبيه على أصل القدريّة ، فإنّ حقيقة قولهم أنّ أفعال الحيوان تحدث بلا فاعل ، كما أن أصل قول الدهريّة الفلاسفة أنّ حركة الفلك وجميع الحوادث تحدث بلا سبب محدث ، وكذلك قول من وافق القدريّة من أهل الإثبات على أنّ الربّ تعالى لا يقوم به الأفعال وقال : إنّ الفعل هو المفعول والخلق هو المخلوق كما يقول الأشعري ومن وافقه ، فإنّه يلزمه في فعل الذم ما لزم القدريّة ، ولهذا عامّة شناعات هذا القدري الرافضي على هؤلاء ، وهؤلاء طائفة من المثبتين لخلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، وقد وافقهم في ذلك كثير من الشيعة الزيديّة والإماميّة وغيرهم ، وقولهم ـ على كلّ حال ـ أقلّ من قول القدريّة ، بل أصل خطئهم موافقتهم للقدريّة في بعض خطئهم ، وأئمة السنّة لا يقولون بشيء من هذا الخطأ.
ولذلك ، جماهير أهل السنّة من أهل الحديث والفقه والتفسير والتصوّف لايقولون بهذه الأقوال المتضمّنة الخطأ » (8).
وقال في الجواب عن لزوم عدم الفرق بين الأفعال الإختيارية والإضطرارية بناءً على مذهبهم :
« والجواب : إنّ هذا إنّما يلزم من يقول أنّ العبد لا قدرة له على أفعاله الإختياريّة ، وليس هذا قول إمام معروف ولا طائفة معروفة من الطوائف من أهل السنّة ، بل ولا من طوائف المثبتين للقدر ، إلّا ما يحكى عن جهم بن صفوان وغلاة المثبتة أنّهم سلبوا العبد قدرته ، قال : إنّ حركته كحركة الأشجار بالرياح ، إن صحّ النقل عنهم.
وأشدّ الطوائف قرباً من هؤلاء هو الأشعري ومن وافقه من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم ، وهو مع هذا يثبت للعبد قدرة محدثة واختياراً ويقول : إنّ الفعل كسب للعبد لكنّه يقول : لا تأثير لقدرة العبد في إيجاد المقدور ، فلهذا قال من قال : إنّ هذا الكسب الذي أثبته الأشعري غير معقول.
وجمهور أهل الإثبات على أنّ العبد فاعل لفعله حقيقة ، وله قدرة واختيار ، وقدرته مؤثّرة في مقدورها ، كما تؤثّر القوى والطبائع وغير ذلك من الشروط والأسباب ، فما ذكره لا يلزم جمهور أهل السنّة.
وقد قلنا غير مرّة : نحن لا ننكر أن يكون في بعض أهل السنّة من يقول الخطأ ، لكن لا يتّفقون على خطأ » (9).
وقال ابن تيميّة ـ بعد ذكر آيات عديدة في ثبوت القدرة والإرادة للعبد :
« وقد أخبر أنّ العباد يفعلون ويصنعون ويعملون ، ويؤمنون ويكفرون ، ويتّقون ويفسقون ، ويصدّقون ويكذبون ، ونحو ذلك في مواضع ، وأخبر أنّ لهم استطاعة وقوّة في غير موضع ، وأئمة أهل السنّة وجمهورهم يقولون : إنّ الله خالق هذا كلّه ، والخلق عندهم ليس هو المخلوق ، فيفرّقون بين كون أفعال العباد مخلوقة مفعولة للرب ، وبين أن يكون نفس فعله الذي هو مصدر فعل يفعل فعلاً فإنّها فعل للعباد بمعنى المصدر ، وليست فعلاً للربّ تعالى بهذا الاعتبار ، بل هي مفعولة له ، والرب تعالى لا يتّصف بمفعولاته.
ولكن هذه الشناعات لزمت من لا يفرّق بين فعل الربّ ومفعوله ويقول مع ذلك أنّ أفعال العباد فعل الله ، كما يقول ذلك جهم بن صفوان وموافقوه والأشعري وأتباعه ومن وافقهم من أتباع الأئمة ، ولهذا ضاق بهؤلاء البحث في هذا الموضع ، كما قد بسط في موضعه.
وكذلك أيضاً لزمت من لا يثبت في المخلوقات أسباباً وقوىً وطبائع ويقولون : إنّ الله يفعل عندها لا بها ، فيلزم أن لا يكون فرق بين القادر والعاجز.
وإن أثبت قدرة ويقول : إنّها مقترنة بالكسب. قيل له : لم تثبت فرقاً معقولاً بين ما تثبته من الكسب ونفيت من الفعل ، ولا بين القادر والعاجز إذا كان مجرّد الإقتران لا اختصاص له بالقدرة ، فإنّ فعل العبد يقارن جهله وعلمه وإرادته وغير ذلك من صفاته ، فإذا لم يكن للقدرة تأثير إلّا مجرّد الإقتران ، فلا فرق بين القدرة وغيرها.
وكذلك قول من قال : القدرة مؤثّرة في صفة الفعل لا في أصله ، كما يقول القاضي أبوبكر ومن وافقه ، فإنّه إذا ثبت تأثير بدون خلق الربّ ، لزم أن يكون بعض الحوادث لم يخلقه الله ، وإن جعل ذلك معلّقاً بخلق الربّ فلا فرق بين الأصل والصّفة.
وأمّا أئمة السنّة وجمهورهم فيقولون ما دلّ عليه الشرع والعقل... » (10).
كلمات ابن القيّم في المسألة
وقد تبع ابن القيّم شيخه في الردّ والتشنيع على مذهب الأشاعرة ، فقال بتفسير قوله تعالى : ( وطائفة قد أهمّتهم أنفسهم يظنّون بالله غير الحقّ ظنّ الجاهليّة ) ما نصّه :
« قد فسّر هذا الظنّ الذي لا يليق بالله عزّ وجلّ بأنّه سبحانه لا ينصر رسوله ، وأنّ أمره سيضمحلّ وأنّه يسلّمه للقتل. وفسّر بعضهم أنّ ما أصابهم لم يكن بقضاء الله وقدره ولا حكمة له فيه ، ففسّر بإنكار الحكمة وإنكار القدر ، وإنكار أن يتمّ أمر رسوله ويظهره على الدين كلّه ، وهذا هو ظنّ السوء الذي ظنّه المنافقون والمشركون به سبحانه في سورة الفتح حيث يقول : ( ويعذّب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانّين بالله ظنّ السَّوء عليهم دائرة السَّوء وغضب الله عليهم ولعنهم وأعدّ لهم جهنّم وساءت مصيراً ) ، وإنّما كان هذا ظنّ السوء وظنّ الجاهليّة ، وهو الظنّ المنسوب إلى أهل الجهل وظنّ غير الحقّ ، لأنّه ظنّ غير ما يليق بأسمائه الحسنى وصفاته العليا وذاته المبرّأة من كلّ عيب وسوء ، وخلاف ما يليق بحكمته وحمده وتفرّده بالربوبيّة والإلهيّة ، وما يليق بوعده الصادق الذي لا يخلفه ، وبكلمته التي سبقت لرسله أنّه ينصرهم ولا يخذلهم ، ولجنده بأنّهم هم الغالبون ، فمن ظنّ به أنّه لا ينصر رسوله ولا يتمّ أمره ولا يؤيّده ولا يؤيّد حزبه ويعليهم ويظفرهم بأعدائهم ويظهرهم عليهم ، وأنّه لا ينصر دينه وكتابه ، وأنّه يديل الشرك على التوحيد والباطل على الحقّ، إدالة مستقرّة يضمحلّ معها التوحيد والحقّ اضمحلالاً لا يقوم بعده أبداً ، فقد ظنّ السوء ، ونسبه إلى خلاف ما يليق بكماله وجلاله وصفاته ونعوته ، فإنّ حمده وعزّته وحكمته وإلهيّته تأبى ذلك ، وتأبى أن يذلّ حزبه وجنده ، وأن يكون النصرة المستقرّة والظفر الدائم لأعدائه المشركين به العادلين به ، فمن ظنّ به ذلك فما عرفه ولا عرف أسمائه وصفات وكماله.
وكذلك من أنكر أن يكون ذلك بقضائه وقدره ، فما عرفه ولا عرف ربوبيّته وملكه وعظمته ، وكذلك من أنكر أن يكون قدّر ما قدّره من ذلك وغيره ، لحكمة بالغة وغاية محمودة يستحقّ الحمد عليها ، وإنّ ذلك إنّما صدر عن مشيّة مجرّدة عن الحكمة وغاية مطلوبة هي أحبّ إليه من فوتها ، وإنّ تلك الأسباب المكروهة المفضية إليها لا يخرج تقديرها عن الحكمة لانضمامها إلى ما يحبّ وإن كانت مكروهة له ، فما قدّرها سدىً ولا شاءها عبثاً ولا خلقها باطلاً ( ذلك ظنّ الذين كفروا فويل للذين كفروا من النّار ) ، وأكثر النّاس يظنّون بالله غير الحقّ ظنّ السَوء فيما يختصّ بهم وفيما يفعله بغيرهم ، ولا يسلم من ذلك إلاّ من عرف الله وعرف أسمائه وصفاته وعرف موجب حمده وحكمته.
فمن قنط من رحمته وأيس من روحه ، فقد ظنّ به ظنّ السوء ، ومن جوّز عليه أن يعذّب أوليائه مع إحسانهم وإخلاصهم ويسوّي بينهم وبين أعدائه ، فقد ظنّ به ظنّ السَوء ، ومن ظنّ أنّه يترك خلقه سدىً معطّلين عن الأمر والنهي ، ولا يرسل إليهم رسله ولا ينزل عليهم كتبه بل يتركه هملاً كالأنعام ، فقد ظنّ به ظنّ السوء ، ومن ظنّ أنّه لا يجمعهم بعد موتهم للثواب والعقاب في دار يجازي المحسن فيها بإحسانه والمسيء بإساءته ، ويبيّن لخلقه حقيقة ما اختلفوا فيه ، ويظهر للعالمين كلّهم صدقه وصدق رسله ، وأنّ أعدائه كانوا هم الكاذبين ، فقد ظنّ به ظنّ السوء.
ومن ظنّ أنّه يضيع عليه عمله الصالح الذي عمله خالصاً لوجهه الكريم على امتثال أمره ويبطله عليه بلا سبب من العبد، أو أنّه يعاقبه بما لا صنع له فيه ولا اختيار له ولا قدرة له ولا إرادة في حصوله ، بل يعاقبه على فعله هو سبحانه به ، أو ظنّ به أنّه يجوز عليه أن يؤيّد أعدائه الكاذبين عليه بالمعجزات التي يؤيّد بها أنبيائه ورسله ويجريها على أيديهم يضلّون بها عباده ، وأنّه يحسن منه كلّ شيء حتّى تعذيب من أفنى عمره بطاعته فيخلده في الجحيم أسفل السافلين ، وينعم من استنفد عمره في عداوته وعداوة رسله ودينه فيرفع إلى أعلى عليّين ، وكلا الأمرين في الحسن سواء عنده ، ولا عرف امتناع أحدهما ووقوع الآخر إلّا بخبر صادق وإلّا فالعقل لا يقتضي قبح أحدهما وحسن الآخر ، فقد ظنّ به ظنّ السوء » (11).
وقال صاحب [ فواتح الرحموت ] :
« الشمعونيّة قالوا أوّلاً إن كان النسخ لحكمة ظهرت للنّاسخ الآن ولم تكن ظاهرة من قبل فبداء، أي فالنسخ بداء وجهل بعواقب الاُمور ، وإلّا يكن لحكمة ظهرت فعبث ، أي فهو عبث من غير فائدة. قلنا : المصلحة قد تتجدّد بتجدّد الأحوال ، والحاكم كان يعلم في الأزل أنّ المصلحة تتجدّد ، فإنّ الكلام فيما ليس بحسن ولا قبيح لذاته ، وأمّا ما هو حسن لذاته وقبيح كذلك ، فلا يقبل النسخ عندنا أيضاً ، فلا بداء ، فإن اُريد بالظهور الظهور للحاكم بعد الجهل به ، فنختار أنّه لم يظهر الآن بل كان ظاهراً له من الأزل ، ولا يلزم العبث ، فالملازمة الثانية ممنوعة ، وإن اُريد به الوجود في الفعل واتصافه به فلزوم البداء ممنوع ، كيف ؟ وإنّه كان يعلم من الأزل أنّه تتجدّد مصلحة فيه ، على أنّ الأشاعرة التابعين للشيخ أبي الحسن الأشعري يختارون الشق الثّاني ويلتزمون عبثاً ، فإنّهم لا يرون اشتمال أحكامه على المصالح ، لأنّ الله تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد » (12).
وقال أيضاً :
« مسألة : لا يجوز عند الحنفيّة والمعتزلة نسخ حكم فعل لا يقبل حسنه أو قبحه السقوط ، كوجوب الإيمان وحرمة الكفر وسائر العقائد الباطلة ، وقد مرّ من قبل.
إنْ قلت : الكلّ عند المعتزلة غير الجبّائية كذلك ، لأنّ حسن كلّ فعل وقبحه عندهم لذات الفعل ، وما بالذّات لا يتخلّف.
قلت : ما لغيره قد يغلب على ما بذاته فيتخلّف عنه ما لذاته ، كما في برودة الماء ، وقد مرّ في المبادي الأحكاميّة.
ويجوز نسخ وجوب الإيمان وحرمة الكفر عند الأشاعرة التابعين للشيخ أبي الحسن الأشعري ومنهم الشافعيّة ، إذ لا حسن ولا قبح عندهم إلّا شرعاً ، فالإيمان والكفر سيّان عندهم ، وما أوجب الشرع فهو حسن ، وما حرّم فهو حرام ، ومن ثمّة جوّزوا نسخ جميع التكاليف عقلاً ، إلّا الإمام حجّة الإسلام الغزالي قدّس الله سرّه قال : يجب معرفة النسخ والناسخ وهو تكليف. قيل في جوابه : سلّمنا أنّه لابدّ من تلك المعرفة ، ولا يجب على المكلّف تحصيل تلك المعرفة ، بل يجب على الله تعالى ـ عقلاً على اُصول أهل الاعتزال ، أو عادة على ما يقتضيه اُصول أهل السنّة القامعين للبدعة كثّرهم الله تعالى ـ تعريف الناسخ للعباد ، تفضّلاً منه تعالى على عباده ، وإذا لم يجب على المكلّف فلا تكليف به.
أقول : يجب على المكلّف اعتقاد أنّ الناسخ خطاب من الله تعالى ، وإلّا أي وإن لم يجب ، فهو يعمل بالمنسوخ ، ولو عمل به لأثم قطعاً ، فإنّ العمل بالمنسوخ حرام ، فهذا العقد مطلوب منه وهو تكليف ، فتدبّر.
واعترض عليه مطلع الأسرار الإلهيّة والدي قدّس سرّه : أمّا أوّلاً : فلأنّه لمّا فرض وجوب إعلام الله تعالى انتساخ الحكم فلا يقرب إلى العمل به فلا يأثم ، وإن عمل به مع هذا العلم فلا ينفع الوجوب عليه دفعاً لهذا الإثم ، وأمّا ثانياً : فلأنّ الغرض انتفاء التكاليف رأساً ، لا بالإيجاب ولا بالتحريم ، فلو فرض انتفاء هذه المعرفة والعمل بالمنسوخ لا يلزم الإثم ، كيف ؟ وصار حال هذه الأحوال حال انتفاء البعثة ، فالأفعال كلّها على الإباحة ، فالعمل بالمنسوخ والناسخ سيّان فلا إثم. نعم ، لو لم يكن هذه المعرفة وقع في تعب العمل بالأحكام المنسوخة من غير فائدة ، فيلزم العبث ، لكن لا يلزم منه وجوب هذه المعرفة ، إذ لا استحالة عند الأشعريّة في إيقاع الله تعالى عبيده في العبث. فافهم » (13).
قال الرازي : يجوز إدخال الله العبّاد في النار والكفّار في الجنّة
هذا ، وقد نصَّ الفخر الرازي على جواز إدخال الله الزهّاد والعبّاد في النار ، وهذه عبارته بتفسير قوله تعالى : ( إن تعذّبهم فإنّهم عبادك وإن تغفر لهم فإنّك أنت العزيز الحكيم ) :
« مذهبنا أنّه يجوز من الله تعالى أن يدخل الكفّار في الجنّة ، وأن يدخل الزهّاد والعبّاد في النّار ، لأنّ الملك ملكه ، والملك يفعل في ملكه ما شاء ، لا اعتراض لأحد عليه ، فذكر عيسى هذا الكلام ومقصوده منه تفويض الاُمور كلّها إلى الله وترك التعريض والإعتراض بالكليّة ، ولذلك ختم الكلام بقوله : ( فإنّك أنت العزيز الحكيم ) (14) يعني أنت قادر على ما تريد ، حكيم في كلّ ما تفعل ، لا اعتراض لأحد عليك ، فمن أنا والخوض في أحوال الربوبيّة » (15).
هل يجوز التكليف بما لا يطاق ؟
وأمّا عبدالعزيز البخاري فقد قال في [ كشف الأسرار ] :
« واعلم أنّ الأئمة قد اختلفوا في جواز التكليف بالممتنع ، وهو المسمّى بتكليف ما لا يطاق ; فقال أصحابنا رحمهم الله : لا يجوز ذلك عقلاً ، ولهذا لم يقع شرعاً. وقالت الأشعريّة : إنّه جائز عقلاً ، واختلفوا في وقوعه. والأصحّ عدم الوقوع ـ إلى أن قال ـ وتمسّك أصحابنا بأنّ تكليف العاجز عن الفعل بالفعل يعدّ سفهاً في الشاهد ، كتكليف الأعمى بالنظر ، فلا يجوز نسبته إلى الحكيم جلّ جلاله. تحقيقه أنّ حكمة التكليف هو الإبتلاء عندنا ، وإنّما يتحقّق ذلك فيما يفعله العبد باختياره فيثاب عليه ، أو يتركه باختياره فيعاقب عليه ، فإذا كان بحال لا يمكن وجود الفعل منه ، كان مجبوراً على ترك الفعل ، فيكون معذوراً في الإمتناع ، فلا يتحقّق معنى الإبتلاء. ويعرف باقي الكلام في علم الكلام » (16).
تصريح الرازي بعقيدة الجبر
ونصّ الفخر الرازي على عقيدة الجبر ، قال بصحّتها ودافع عنها ، بتفسير قوله تعالى : ( لهم قلوبٌ لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذانٌ لا يسمعون بها ) قال :
« احتجّ أصحابنا بهذه الآية على صحّة قولهم في خلق الأعمال فقالوا : لا شكّ أنّ أولئك الكفّار كانت لهم قلوب يفقهون بها مصالحهم المتعلّقة بالدنيا ، ولاشكّ أنّه كانت لهم أعين يبصرون بها المرئيّات ، وآذانٌ يسمعون بها الكلمات ، فوجب أن يكون المراد من هذه الآية تقييدها بما يرجع إلى الدين ، وهو أنّهم ما كانوا يفقهون بقلوبهم ما يرجع إلى مصالح الدين ، وما كانوا يبصرون ويسمعون ما يرجع إلى مصالح الدين ، وإذا ثبت هذا فنقول : ثبت أنّه تعالى كلّفهم بتحصيل الدين ، مع أنّ قلوبهم وأبصارهم وأسماعهم ما كانت صالحة لذلك ، وهو يجري مجرى المنع عن الشيء والصدّ عنه مع الأمر به ، وذلك هو المطلوب.
قالت المعتزلة : لو كانوا كذلك لقبح من الله تكليفهم ، لأنّ تكليف من لا قدرة له على الفعل قبيح غير لائق بالحكيم ، فوجب حمل الآية على أنّ المراد منه : أنّهم ـ لكثرة الإعراض عن الدلائل وعدم الإلتفات إليها ـ صاروا مشبّهين بمن لا يكون له قلب فاهم ولا عين باصرة ولا اُذن سامعة.
والجواب : إنّ الإنسان إذا تأكّدت نفرته عن شيء ، صارت تلك النفرة المتأكّدة الراسخة مانعة له عن فهم الكلام الدالّ على صحّة الشيء ، ومانعة عن إبصار محاسنه ، ومانعة له عن سماع محاسنه وفضائله ، وهذه حالة وجدانيّة ضروريّة يجدها كلّ عاقل من نفسه ، ولهذا السبب قالوا في المثل المشهور : حبّك الشيء يعمي ويصمّ ، وإذا ثبت هذا فنقول : إنّ أقواماً من الكفّار بلغوا في عداوة الرسول صلّى الله عليه وسلّم ، وفي بغضه وفي شدّة النفرة عن قبول دينه والإعتراف برسالته ، هذا المبلغ وأقوى منه ، والعلم الضروري حاصل بأنّ حصول الحبّ والبغض في القلب ليس باختيار الإنسان ، بل هو حالة حاصلة في القلب ، شاءه الإنسان أم كرهه.
إذا ثبت هذا فنقول : ظهر أنّ حصول هذه العداوة والنفرة في القلب ليس باختيار العبد ، وثبت أنّه متى حصلت هذه النفرة والعداوة في القلب ، فإنّ الإنسان لايمكنه ـ مع تلك النفرة الراسخة الشديدة ـ تحصيل الفهم والعلم ، وإذا ثبت هذا ثبت القول بالجبر لزوماً لا محيص عنه. ونقل عن أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه خطبة في تقرير هذا المعنى ، وهو في غاية الحسن :
روى الشيخ أحمد البيهقي في كتاب مناقب الشافعي رحمة الله عليه ، عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه أنّه خطب الناس فقال : وأعجب ما في الإنسان قلبه ، فيه موادّ من الحكمة وأضدادها ، فإن سنح له الرجاء أولهه الطمع ، وإن هاج له الطمع أهلكه الحرص ، وإن ملكه اليأس قتله الأسف ، وإن عرض له الغضب اشتدّ به الغيظ ، وإن أسعد بالرضى نسي التحفّظ ، وإن ناله الخوف شغله الحزن ، وإن أصابته المصيبة قتله الجزع ، وإن وجد مالاً أطغاه الغنى ، وإن عضّته فاقة شغله البلاء ، وإن أجهده الجوع قعد به الضعف ، فكلّ تقصير به مضرّ ، وكلّ إفراط له مهلك.
وأقول : هذا الفصل في غاية الجلالة والشرف ، وهو كالمطلع على سرّ مسألة القضاء والقدر ، لأنّ أعمال الجوارح مربوطة بأعمال القلوب ، وكلّ حالة من أحوال القلب فإنّها مستندة إلى حالة اُخرى حصلت ، وإذا وقف الإنسان على هذه الحالة علم أنّه لا خلاص من الإعتراف بالجبر.
وذكر الشيخ الغزالي رحمه الله في كتاب الإحياء فصلاً في تقرير مذهب الجبر ... » (17).
قال ابن تيميّة : الرازي من الجبريّة
هذا ، وقد جاء في كلام ابن تيمية التصريح بكون الرازي والآمدي من الجبريّة ، حيث قال :
« ثمّ المثبتون للصّفات ، منهم من يثبت الصفات المعلومة بالسّمع ، كما يثبت الصفات المعلومة بالعقل ، وهذا قول أهل السنّة الخاصّة أهل الحديث ومن وافقهم ، وهو قول أئمّة الفقهاء وقول أئمّة الكلام من أهل الإثبات ، كأبي محمّد بن كلاب ، وأبي العبّاس القلانسي ، وأبي الحسن الأشعري ، وأبي عبدالله ابن مجاهد ، وأبي الحسن الطبري ، والقاضي أبي بكر ابن الباقلاني ، ولم يختلف في ذلك قول الأشعري وقدماء أصحابه ، لكن المتأخّرين من أتباعه ـ كأبي المعالي وغيره ـ لا يثبتون إلّا الصفات العقليّة ، وأمّا الجبريّة ، فمنهم من ينفيها ومنهم من يتوقّف فيها كالرازي والآمدي وغيرهما ... ».
حديث الطينة ومعناه
ولا يتوهّم دلالة حديث الطينة المروي في كتب أصحابنا على الجبر ، فيكون منافياً لما ذهبوا إليه من قواعد العدل ، لأنّ رواية الحديث الموهم لما تقرّر في المذهب خلافه ، لا تجوّز نسبة مؤدّاها إلى الطائفة ، وهذا القرآن الكريم ، والآيات الموهمة للتجسيم والتشبيه وغير ذلك كثيرة فيه ، فلو صحّ نسبة الإماميّة إلى الجبر لمجرّد خبر الطينة ، صحّ نسبة التجسيم وغيره من المذاهب الفاسدة إلى أهل الإسلام.
وعلى الجملة ، فإنّ مجرَّد رواية مثل هذا الحديث لا يصحّح نسبة الجبر إلى الأصحاب ، بخلاف الأشاعرة الذين هم أئمّة أهل السنّة ومشايخهم ، القائلين بنفي اختيار العباد وقدرتهم بكلّ صراحة كالإمام الرازي وأمثاله.
وإنّ حديث الطينة المتضمّن ردّ حسنات المخالفين إلى الشيعة ، وردّ سيئات الشيعة إلى المخالفين فيه جهتان : أمّا عدم ترتّب الأجر والثواب للمخالف على أعماله الصالحة ، فلأنّ قبول الأعمال منوط بالإيمان ، ولمّا كان مخالفاً فاقداً للإيمان فلا أجر له. وأمّا ردّ الثواب والحسنة إلى أهل الحقّ فذاك بفضل الله سبحانه وإحسانه ...
وأمّا ردّ معاصي الشيعة إلى المخالفين ، فلعلّه لأنّ المخالفين ـ لمنعهم من ظهور بركات أهل البيت عليهم السلام في الناس ، ومساعدتهم لأهل الظلم والجور والبغي ، للإستيلاء والسلطة ـ كانوا هم السبب الحقيقي لصدور المعاصي من الشيعة ، فالله سبحانه يجعل في يوم القيامة السيّئات الصادرة من الشيعة في صحائف المخالفين ويعذّبهم عليها ...
وليس في شيء من ذلك مخالفة لأيّ قاعدة من قواعد العدل :
قال مولانا المجلسي ـ بعد حديث أبي إسحاق الليثي عن الإمام الهمام أبي جعفر محمّد بن علي الباقر عليهما السلام ـ :
« إعلم أنّ هذا الخبر وأمثاله ممّا يصعب على القلوب فهمه وعلى العقول إدراكه ، ويمكن أن يكون كنايةً عمّا علم الله تعالى وقدّره من اختلاط المؤمن والكافر في الدنيا ، واستيلاء أئمّة الجور وأتباعهم على أئمّة الحقّ وأتباعهم ، وعلم أنّ المؤمنين إنّما يرتكبون الآثام لاستيلاء أهل الباطل عليهم ، وعدم تولّي أئمّة الحقّ لسياستهم ، فيعذرهم بذلك ويعفو عنهم ، ويعذّب أئمّة الجور وأتباعهم ، بتسبيبهم لجرائم من خالطهم ، مع ما يستحقّون من جرائم أنفسهم ، والله يعلم وحججه صلوات الله عليهم » (18).
وهذا وجه صحيح لحلّ هذه الرواية.
ولهذه الرواية في كتب القوم نظائر، فقد أخرج الحاكم في [ المستدرك ] :
« حدّثني علي بن جمشاد العدل ، ثنا محمّد بن بشر بن مطر ، ثنا عبيدالله ابن عمر القواريري ، ثنا حرمي بن عمارة بن أبي حفصة ، ثنا شداد بن سعيد أبو طلحة الراسبي ، عن غيلان بن جرير ، عن أبي بردة ، عن أبي موسى رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : ليجيئنّ أقوام من اُمّتي بمثل الجبال ذنوباً فيغفرها الله لهم ويضعها على اليهود والنصارى. هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
وقد روى الحجاج بن نصير عن أبي طلحة بزيادات في متنه ، حدّثنيه علي بن جمشاد ، ثنا أبو مسلم ومحمّد بن غالب قالا : ثنا حجاج بن نصير ، ثنا شدّاد بن سعيد عن غيلان بن جرير ، عن أبي بردة ، عن أبيه رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال : تحشر هذه الاُمّة على ثلاثة أصناف : صنف يدخلون الجنّة بغير حساب ، وصنف يحاسبون حساباً يسيراً ، وصنف يجرّون على ظهورهم أمثال الجبال الراسيات ، فيسأل الله عن ذنوبهم وهو أعلم بهم فيقول : ما هؤلاء ؟ فيقولون : هؤلاء عبيد من عبادك. فيقول : حطّوها عنهم واجعلوها على اليهود والنصارى ، وأدخلوهم برحمتي الجنّة » (19).
وفي [ كنز العمال ] :
« اُمّتي ثلاثة أثلاث : فثلث يدخلون الجنّة بغير حساب ولا عقاب ، وثلث يحاسبون حساباً يسيراً ثمّ يدخلون الجنّة ، وثلث يمحّصون ثمّ تأتي الملائكة فيقولون : وجدناهم يقولون لا إله إلّا الله وحده ، ويقول الله : صدقوا لا إله إلّا أنا ، أدخلوهم الجنّة بقول لا إله إلّا الله ، واحملوا خطاياهم على أهل التكذيب ، فهي التي قال الله : ( وليحملنّ أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم ). ابن أبي حاتم ، طب ـ عن عوف بن مالك.
تحشر هذه الاُمّة يوم القيامة على ثلاثة أصناف : صنف يدخلون الجنّة بغير حساب ، وصنف يحاسبون حساباً يسيراً ويدخلون الجنّة ، وصنف يجيئون على حمائلهم بأمثال الجبال الراسيات ذنوباً ، فيقول الله عزّ وجلّ لملائكته وهو أعلم بهم : من هؤلاء ؟ فيقولون : ربّنا ، عبيد من عبيدك ، وكانوا يعبدونك ولا يشركون بك شيئاً. فيقول : حطّوها ، وضعوها على اليهود والنصارى ، وأدخلوهم الجنّة برحمتي. طب ، ك ـ عن أبي موسى » (20).
وفيه :
«ليجيئنّ أقوام من اُمّتي بمثل الجبال ذنوباً ، فيغفر الله لهم ويضعها على اليهود والنصارى. ك عن أبي موسى » (21 ).
وقد عقد السيوطي لهذه الأحاديث باباً في كتابه [ البدور السافرة ] :
« بابٌ : أخرج الطبراني والحاكم وصحّحه عن أبي موسى قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : تحشر هذه الاُمّة يوم القيامة على ثلاثة أصناف : فصنف يدخلون الجنّة بغير حساب ، وصنف يحاسبون حساباً يسيراً ، وصنف يجيئون على حمائلهم كأمثال الجبال الراسيات ، فيقول الله تبارك وتعالى للملائكة وهو أعلم بهم : من هؤلاء ؟ فيقولون : ربّنا ، عبيد من عبيدك ، كانوا يعبدونك ولا يشركون بك شيئاً وعلى ظهورهم الخطايا والذنوب. فيقول : حطّوها عنهم وضعوها على اليهود والنصارى ، وأدخلوهم الجنّة برحمتي.
وأخرج ابن ماجة والطبراني عن أبي موسى قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : إذا جمع الله الخلائق يوم القيامة ، أذن لاُمّة محمّد صلّى الله عليه وسلّم بالسجود ، فيسجدون له طويلاً ثمّ يقال لهم : إرفعوا رؤوسكم ، قد جعلنا عدّتكم فداء لكم من النار.
وأخرج ابن ماجة والبيهقي عن أنس قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : إنّ هذه اُمّة مرحومة ، عذابها بأيديها ، فإذا كان يوم القيامة دفع إلى كلّ رجل من المسلمين رجل من المشركين فيقال : هذا فداؤك من النّار.
وأخرج مسلم عن أبي موسى رفعه : يجيء يوم القيامة ناس من المسلمين بذنوب أمثال الجبال يغفرها الله لهم ويضعها على اليهود والنصارى.
وأخرج أيضاً من وجه آخر بلفظ : إذا كان يوم القيامة دفع الله إلى كلّ مسلم يهودياً أو نصرانياً فيقول: هذا فداؤك من النار.
قال القرطبي : قال علماؤنا رحمهم الله : هذه الأحاديث ليست على عمومها ، وإنّما هي في اُناس مذنبين ، يتفضّل الله تعالى عليهم برحمته ، فأعطى كلّ واحد منهم فكاكاً من النّار من الكفّار » (22).
وربّما حاول بعض علمائهم تأويل الحديث :
قال القرطبي بعد العبارة السابقة :
« وأمّا معنى قوله يضعها على اليهود والنصارى : أنّه يضاعف عليهم عذاب كفرهم وذنوبهم ، حتّى يكون عذابهم بقدر جرمهم وجرم مذنبي المسلمين لو اُخذوا بذلك ، لأنّه تعالى لا يؤاخذ أحداً بذنب أحد كما قال : ( ولا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ اُخرى ) ، وله أن يضاعف لمن يشاء العذاب ويخفّف عمَّن يشاء ، بحكم إرادته ومشيّته.
قال : وقوله في الرواية الاُخرى : لا يموت رجل منكم إلّا أدخل الله مكانه يهوديّاً أو نصرانيّاً ، معناه : أنّ المسلم المذنب لمّا كان يستحقّ مكاناً من النّار بسبب ذنوبه وعفا الله عنه وبقي مكانه خالياً منه ، أضاف الله تعالى ذلك المكان إلى يهودي أو نصراني ، ليعذّب فيه زيادة على تعذيب مكانه الذي يستحقّه بحسب كفره ، وقد جاءت أحاديث دالّة على أنّ لكلّ مسلم مذنب كان أوّلاً منزلين : منزلاً في الجنّة ومنزلاً في النّار ، وكذا الكافر ، وذلك معنى قوله : ( أولئكَ هم الوارثون ) أي يرث المؤمنون منازل الكفّار من الجنّة والكفّار منازل المؤمنين في النّار ، إلّا أنّ هذه الوراثة تختلف : فمنهم من يرث بلا حساب ، ومنهم من يرث بحساب ومناقشة وبعد الخروج من النّار.
وقال البيهقي : يحتمل أن يكون الفداء في قوم كانت ذنوبهم كفّرت عنهم في حياتهم ، أو في من اُخرج من النّار ، يقال لهم ذلك بعد الخروج.
وقال غيره : يحتمل أن يكون الفداء مجازاً ، من وراثة المنزل التي تقدّمت الإشارة إليها ، هذا ما رجّحه النووي وغيره.
وقيل : المراد بالذنوب التي توضع على الكفّار ذنوب كان الكفّار سبباً فيها بأن سنّوها ، فلمّا غفرت سيّئات المؤمنين ، بقيت سيّئات الذي سنّ تلك السنّة السيّئة باقية على أربابها الكفرة ; لأن الكفّار لا يغفر لهم ، فيكون الوضع كناية عن إبقاء الذنب الذي لحق الكافر بما سنّه من عمله السيّىء الذي عمل به المؤمن. قال ابن حجر : وهذا أقوى » (23).
وقال النووي في [ شرح صحيح مسلم ] :
« بابٌ في سعة رحمة الله المؤمنين وفداء كلّ مسلم بكافر من النّار : قوله صلّى الله عليه وسلّم : إذا كان يوم القيامة دفع الله تعالى إلى كلّ مسلم يهوديّاً أو نصرانيّاً فيقول : هذا فكاكك من النّار. وفي رواية : لا يموت رجل مسلم إلّا أدخل الله مكانه النّار يهوديّاً أو نصرانيّاً. وفي رواية : يجيء يوم القيامة ناسٌ من المسلمين بذنوب أمثال الجبال ، فيغفرها الله لهم ويضعها على اليهود والنصارى.
الفكاك ـ بفتح الفاء وكسرها ، الفتح أفصح وأشهر ـ وهو الخلاص والفداء ، ومعنى هذا الحديث ما جاء في حديث أبي هريرة : لكلّ أحد منزل في الجنّة ومنزل في النّار ، والمؤمن إذا دخل الجنّة خلفه الكافر في النّار ، لاستحقاقه ذلك بكفره ، ومعنى فكاكك من النّار كنت تتعرّض لدخول النّار وهذا فكاكك ، لأنّ الله قدّر لها عدداً يملؤها ، فإذا دخلها الكفّار بكفرهم وذنوبهم صاروا في معنى الفكاك للمسلمين.
وأمّا رواية يجيء يوم القيامة ناس من المسلمين بذنوب فمعناه : أنّ الله تعالى يغفر الذنوب للمسلمين ويسقطها عنهم ، ويضع على اليهود والنصارى مثلها بكفرهم وذنوبهم ، فيدخلهم النّار بأعمالهم لا بذنوب المسلمين ، ولابدّ من هذا التأويل لقوله تعالى : ( ولا تَزِرُ وازرةٌ وِزْرَ اُخرى ).
وقوله : ويضعها مجاز ، والمراد يضع عليهم مثلها بذنوبهم كما ذكرنا ، لكن لمّا أسقط سبحانه وتعالى عن المسلمين سيّئاتهم وأبقى على الكفّار سيّئاتهم ، صاروا في معنى من حمل إثم الفريقين ، لكونهم حملوا الإثم الباقي وهو إثمهم ، ويحتمل أن يكون المراد آثاماً كان للكفّار سبب فيها بأن سنّوها ، فتسقط عن المسلمين بعفو الله تعالى ويوضع على الكفّار مثلها ، لكونهم سنّوها ، ومن سنّ سنّة سيّئة كان عليه مثل وزر كلّ من عمل بها. والله أعلم » (24).
هذا ، وقد انتقد القرطبي في كتاب [ التذكرة ] إنكار من أنكر هذه الأحاديث فقال ما نصّه :
« أنكر بعض المتغفّلة ، الذين اتّبعوا أهوائهم بغير هدى من الله ، إعجاباً برأيهم وتحكّماً على كتاب الله وسنّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، بعقول ضعيفة وأفهام سخيفة فقالوا : لا يجوز في حكم الله وعدله أن يضع سيّئات من اكتسبها على من لم يكتسبها ، ويؤخذ حسنات من عملها وتؤتى من لم يعملها ، وزعموا هذا جوراً ...
والجواب : أنّ الله سبحانه لم يبن اُمور الدنيا على عقول العباد ، ولم يعد ولم يوعد على ما تحتمله عقولهم ويدركونها بأفهامهم ، بل وعد وأوعد بمشيّته وإرادته ، وأمر ونهى بحكمته ، ولو كان كلّما لا تدركه العقول مردوداً ، كان أكثر الشرائع مستحيلاً على موضوع عقول العباد ، وذلك أنّ الله أوجب الغسل بخروج المني الذي هو طاهر عند بعض الصحابة وكثير من الاُمّة ، وأوجب غسل الأطراف من الغائط الذي لا خلاف بين الاُمّة وسائر من يقول بالعقل وغيرهما في نجاسته وقذارته ونتنه ، وأوجب بريح يخرج من موضع الحدث ما أوجب بخروج الغائط الكثير المتفاحش ، فبأيّ عقل يستقيم هذا ؟ أو بأيّ رأي يجب مساواة ريح ليس لها عين قائمة بما يقوم عينه ويزيد على الريح نتناً وقذراً ؟ وقد أوجب الله قطع يمين مؤمن لعشرة دراهم وعند بعض الفقهاء بثلاثة دراهم ودون ذلك ، ثمّ سوّى بين هذا القدر من المال وبين مائة ألف دينار فيكون القطع فيها سواء ، وأعطى الاُم من ولدها الثلث ، ثمّ إن كان للمتوفى إخوة جعل لها السدس من غيرأن يرث الإخوة من ذلك شيئاً ؟ فبأيّ عقل يدرك هذا ؟ إلّا تسليماً وانقياداً من صاحب الشرع ، إلى غير ذلك. وكذلك القصاص بالحسنات والسيّئات » (25).
وأخرج مسلم :
« حدّثنا أبوبكر ابن أبي شيبة ، ثنا أبو اُسامة ، عن طلحة بن يحيى ، عن أبي بردة عن أبي موسى قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : إذا كان يوم القيامة دفع الله إلى كلّ مسلم يهوديّاً أو نصرانيّاً فيقول : هذا فكاكك من النّار.
وحدّثنا أبوبكر ابن أبي شيبة ، ثنا عفان بن مسلم ، ثنا همام ، ثنا قتادة : أنّ عوناً وسعيد بن أبي بردة حدّثناه أنّهما شهدا أبابردة يحدّث عمر بن عبدالعزيز ، عن أبيه عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال : لا يموت رجل مسلم إلّا أدخل الله مكانه النّار يهوديّاً أو نصرانيّاً. قال: فاستحلفه عمر بن عبدالعزيز بالله الذي لا إله إلّا هو ـ ثلاث مرّات ـ أنّ أباه حدّثه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، قال : فحلف له. قال : فلم يحدّثني سعيد أنّه استحلفه ، ولم ينكر على عون قوله.
حدّثنا إسحاق بن إبراهيم ومحمّد بن مثنّى جميعاً ، عن عبدالصّمد بن عبدالوارث ، أخبرنا همام ، ثنا قتادة بهذا الإسناد نحو حديث عفّان وقال : عون ابن عتبة » (26).
وأخرج في [ مسند أحمد ] :
« حدّثنا عبدالله ، حدّثني أبي ، ثنا أبوالمغيرة ـ وهو النضر بن إسماعيل يعني القاضي ـ ، ثنا يزيد ، عن أبي بردة ، عن أبي موسى قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : إذا كان يوم القيامة لم يبق مؤمن إلّا اُتي بيهوديّ أو نصرانيّ ، حتّى يدفع إليه فيقال له : هذا فداؤك من النّار. قال أبو بردة : فاستحلفني عمر بن عبدالعزيز بالله الذي لا إله إلّا هو ، أسمعت أباموسى يذكره عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ؟ قال: قلت: نعم، فسُرَّ بذلك » (27).
وأخرج :
« حدّثنا عبدالله ، حدّثني أبي ، ثنا عبدالصمد ، ثنا همام ، ثنا قتادة ، عن سعيد بن أبي بردة ، عن أبيه ، عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : لا يموت مسلم إلّا أدخل الله مكانه النّار يهوديّاً أو نصرانيّاً.
حدّثنا عبدالله، حدّثني أبي ، ثنا عبدالصمد ، ثنا همام ، ثنا قتادة ، عن سعيد بن أبي بردة وعون بن عتبة حدّثاه : أنّهما شهدا أبابردة يحدّث عمر بن عبدالعزيز بهذا الحديث ، فاستحلفه بالله الذي لا إله إلّا هو ، أنّ أباه حدّثه أنّه سمع من النبي صلّى الله عليه وسلّم ، فلم ينكر ذلك سعيد على عون أنّه استحلفه » (28).
وأخرج ابن ماجة :
« حدّثنا جبارة بن المغلس ، حدّثنا عبد الأعلى بن أبي المساور ، عن أبي بردة عن أبيه قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : إذا جمع الله الخلائق يوم القيامة أذن لاُمّة محمّد في السجود ، فيسجدون له طويلاً ثمّ يقول : إرفعوا رؤوسكم قد جعلنا عدّتكم فداءكم من النّار.
حدّثنا جبارة بن المغلس ، حدّثنا كثير بن سليم ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : إنّ هذه الاُمّة مرحومة ، عذابها بأيديها ، فإذا كان يوم القيامة دفع إلى كلّ رجل من المسلمين رجلاً من المشركين فيقال : هذا فداؤك من النّار » (29).
وفي [ جامع الاُصول ] :
« إنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال : لا يموت مسلم إلّا أدخل الله مكانه النّار يهوديّاً أو نصرانيّاً. قال: فاستحلف عمر بن عبدالعزيز أبابردة بالله الذي لا إله إلاّ هو ـ ثلاث مرّات ـ أنّ أباه حدّثه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، قال : فحلف له » (30).
الهوامش
1. فواتح الرحموت ـ شرح مسلّم الثبوت 1 : 41.
2. فواتح الرحموت 1 : 40.
3. منهاج السنة 1 : 382 ـ 383.
4. منهاج السنة 1 : 383 ـ 384.
5. منهاج السنة 1 : 387.
6. منهاج السنة 1 : 391.
7. منهاج السنة 2 : 59 ـ 60.
8. منهاج السنة 2 : 31.
9. منهاج السنة 2 : 24.
10. منهاج السنة 2 : 25.
11. زاد المعاد في هدي خير العباد 3 : 228 ـ 230.
12. فواتح الرحموت 2 : 56.
13. فواتح الرحموت 2 : 67 ـ 68.
14. سورة المائدة 5:118.
15. تفسير الرازي 12 : 136.
16. كشف الأسرار 1 : 191 ـ 192.
17. تفسير الرازي 15 : 63 ـ 64.
18. بحارالأنوار 5 : 234 / الباب 10 ، الطينة والميثاق.
19. المستدرك على الصحيحين 5 : 359 / 7719 ـ 7720 كتاب التوبة والإنابة.
20. كنز العمّال 12 : 169 / 34522 الباب السابع ـ في فضائل هذه الأمّة المرحومة.
21. كنز العمّال 12 : 171 / 34529 الباب السابع ـ في فضائل هذه الأمّة المرحومة.
22. البدور السافرة عن اُمور الآخرة : 212 ـ 214.
23. البدور السافرة عن اُمور الآخرة : 214.
24. المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجّاج 17 : 85.
25. التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة : 310 ـ 311 / باب القصاص يوم القيامة ممّن استطال في حقوق الناس.
26. صحيح مسلم 4 : 2119 / 2767 كتاب التوبة ـ باب (8) قبول توبة القائل وإن كثر قتله.
27. مسند أحمد 5 : 549 / 19103.
28. مسند أحمد 5 : 531 / 18991 ـ 18992.
29. سنن ابن ماجة 2 : 1434 / 4291 ـ 4292 كتاب الزهد ـ الباب (34) باب صفة أمّة محمّد.
30. جامع الأصول 9 : 194 / 6758 الباب الخامس من كتاب الفضائل والمناقب في فضل هذه الأمّة الإسلاميّة ـ النوع السادس.
مقتبس من كتاب استخراج المرام من استقصاء الإفحام الجزء 1
التعلیقات