قصة السقيفة
اسلام الموسوي
منذ سنتينقصة السقيفة
أعقب وفاة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أمور خطيرة ، جرَّت وراءها فتناً عديدة غيَّرت مسار الإسلام الذي أراده الله تعالىٰ وأراده رسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام. تمخَّضت هذه الأحداث عن تعيين الناس الخليفة ، وجثمان النبيِّ العظيم لم يوارَ في التراب بعد ، والإمام عليٌّ عليه السلام وبنو هاشم ـ وجمع من المهاجرين والأنصار ـ منهمكون بجثمان النبيِّ صلّى الله عليه وآله وسلّم حافِّين به يودِّعونه في آخر ساعات وجوده علىٰ أرض المعمورة. لقد انقطع الوحي ، ورحل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وينتظرُ أمته من بعده أمرٌ خطير ..
في هذه اللحظات المؤلمة الشديدة ، وبعد ساعة من انقطاع الوحي ، استغلَّ عمر بن الخطَّاب فرصة الخلاف بين الأوس والخزرج ونبأ اجتماعهم في سقيفة بني ساعدة ، يتداولون فيها أمر الخلافة بعد رسول الله ، خوفاً علىٰ مستقبل الأنصار ، فيما لو كانت الخلافة بيد قريش ! فأخذ عمر بن الخطَّاب بيد أبي بكر وانخرطا من بين الجموع الحاشدة بجثمان النبيِّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ، فيصحبهما أبو عبيدة إلىٰ سقيفة بني ساعدة ، ليتمَّ تنفيذ « البيعة الفلتة » ! لخليفة رسول الله علىٰ أُمَّته.
على أي حال انضم الثلاثة إلىٰ تجمُّع الأنصار ، وبعد أن دار جدل عنيف ، غلبهم المهاجرون ؛ لأنَّهم « أوَّل من عبد الله في الأرض ، وآمن بالله وبالرسول ، وهم أولياؤه وعشيرته ، وأحقُّ الناس بهذا الأمر بعده ، ولا ينازعهم ذلك إلَّا ظالم .. وأنتم يا معشر الأنصار لا يُنكر فضلكم في الدين ولا سابقتكم العظيمة في الإسلام ، رضيكم الله أنصاراً لدينه ورسوله .. فنحن الأمراء وأنتم الوزراء » ! علىٰ حدِّ تعبير أبي بكر (1).
ولمَّا عارض أحد الأنصار بذكر فضائلهم ونصرتهم للنبيِّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وعدم تسليم الأمر للمهاجرين ، ردَّ عليه عمر بقوله : « هيهات لا يجتمع سيفان في غمد ، والله لا ترضىٰ العرب أن تؤمِّركم والنبيُّ من غيركم ، ولا تمتنع العرب أن تولِّي أمرها من كانت النبوَّة فيهم ، ولنا بذلك الحجَّة الظاهرة ، من نازعنا سلطان محمَّد ونحن أولياؤه وعشيرته إلَّا مدلٍ بباطلٍ ، أو متجانفٍ لإثمٍ ، أو متورِّطٍ في هلكة » !!
هذه حجَّتهم الظاهرة : قوم محمَّد صلّى الله عليه وآله وسلّم ، أولياؤه وعشيرته لا ينازعهم علىٰ سلطان محمَّد صلّى الله عليه وآله وسلّم إلَّا ظالم ، متجاهلين عليَّ بن أبي طالب عليه السلام الذي بايعوه وبايعه مئة ألف أو يزيدون في غدير خمٍّ ، وبعد فهو أقرب الناس إلىٰ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في العلم والزهد وسائر الصفات المستلزمة للإمامة والولاية العامة وأخصُّهم به ، وهو ابن عمِّه الذي نشأ في بيته ، كما نشأ النبيُّ صلّى الله عليه وآله وسلّم في بيت أبيه أبي طالب !
فقال بشير بن سعد ـ أحد زعماء الأنصار ـ : « يا معشر الأنصار ، إنَّا والله وإن كنَّا أولي فضيلة وسابقة في الدين ، إلَّا أنَّ محمَّداً من قريش وقومه أولىٰ به ، وأيمُ الله لا يراني الله أُنازعهم هذا الأمر أبداً ».
فقال أبو بكر : هذا عمر ، وهذا أبو عبيدة ، فأيُّهما شئتم فبايعوا .. فأدار عمر ظهره لأبي بكر ، وقال لأبي عبيدة : ابسط يدك أُبايعك ، فأنت أمين هذه الأُمَّة !! ولمَّا امتنع أبو عبيدة ، أدار عمر إلىٰ أبي بكر ، فبسط يده وصفق عليها ليكون خليفة المسلمين بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، فبويع أبو بكر ، بايعه أبو عبيدة وبشير بن سعد الخزرجي ، ثُمَّ بايعه الأوس. وتمَّت مسرحية « السقيفة » وقد مثَّل دور البطولة فيها أبو بكر وعمر !
وما أن انتصف نهار اليوم حتىٰ تمَّت بيعة أبي بكر بهذا النحو ، الذي كان مفاجأة لأكثر الناس ، وأخذوا يزفُّون عبدالله بن عُثمان التيمي ـ أبو بكر بن أبي قحافة ـ إلىٰ مسجد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لتكون بيعته علىٰ نطاق أوسع !
تسرَّب نبأ السقيفة والبيعة في أرجاء المدينة المنوَّرة ، علىٰ ساكنها السلام ، كلُّهم علموا بخبر البيعة ، إلَّا عليٌّ وبنو هاشم ومن معهم ، حيث كانوا مع مصيبة وداع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم !
فانطلق البراء بن عازب وجاء يضرب باب بني هاشم قائلاً : يا معشر بني هاشم ، قد بويع أبو بكر !
سادت لحظة هدوء ، متسائلين : ما كان المسلمون يُحدثون حدثاً نغيب عنه ، ونحن أولىٰ بمحمَّد ، لكنَّ العبَّاس بن عبد المطَّلب لم يستغرب هذا الفعل منهم ، فقال : فعلوها وربِّ الكعبة !!
ولمَّا كان اليوم الثاني ، وبعد أن واروا جثمان النبي الطاهر ، انحاز مع عليِّ بن أبي طالب عليه السلام بنو هاشم جميعاً ، ومعهم طائفة من المهاجرين والأنصار ، اعتقاداً منهم بحقِّ عليٍّ في الخلافة (2).
فقال الأنصار : لا نبايع إلَّا عليَّاً ، وقال الزبير : لا أغمد سيفاً حتىٰ يُبايع علي ، وانظم وانحاز في بيت عليٍّ وفاطمة عليهما السلام : المقداد بن عمرو ، وخالد بن سعيد ، وسلمان الفارسي ، وأبو ذرٍّ الغفاري ، وعمَّار بن ياسر ، والبراء بن عازب ، وأُبي بن كعب ، وحذيفة بن اليمان ، وابن التيهان ، وعبادة بن الصامت (3) ، كلُّهم يرفضون البيعة لابن أبي قحافة ، للسبب الآنف ذكره ..
إضافةً إلىٰ ذلك فقد اعتصم جماعة من الأنصار في أحيائهم ، فجاء عبدالرحمن بن عوف يعاتبهم علىٰ تخلُّفهم عن بيعة الخليفة ، ويذكر لهم حقَّه بقرابته من رسول الله ، وما شابه ذلك من الحجج التي يتشبَّثون بها ، من أجل إثبات حق أبي بكر بالخلافة ، وأنَّه أولىٰ بها من غيره ، فردَّ عليه جماعة الأنصار : « إنَّ ممَّن سمَّيت من قريش ، مَنْ إذا طلب هذا الأمر لم ينازعه فيه أحد : عليُّ بن أبي طالب » !
هذا أحد المواقف ضد الاتجاه الذي نال خلافة رسول الله بالغلبة ! وموقف آخر يمكن أن نقتبس منه بعض الأقوال ، كقول الفضل بن عبَّاس ، الذي قام خطيباً وأجاد حيث قال : « يا معشر قريش : إنَّه ما حقَّت لكم الخلافة بالتمويه ! ونحن أهلها دونكم وصاحبنا أولىٰ بها منكم » (4) ، ويقصد بصاحبنا عليَّ بن أبي طالب عليه السلام.
وأنشد عتبة بن أبي لهب ، معرباً عن أولوية علي عليه السلام برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وبأمر الخلافة ؛ إذ يقول :
ما كنتُ أحسبُ أنَّ الأمرَ منصرفٌ |
عن هاشمٍ ثُمَّ منها عن أبي الحسنِ |
|
عن أوَّل الناس إيماناً وسابقةً |
وأعلم الناس بالقرآن والسننِ (5) |
وكان المهاجرون والأنصار لا يشكُّون في عليٍّ عليه السلام (6).
وما كان من أبي بكر إلَّا أن ينتظر عليَّاً عليه السلام وأصحابه أن يبايعوه ! ولمَّا تأخَّرت بيعتهم أرسل عمر بن الخطَّاب إلىٰ بيت عليٍّ عليه السلام ، فنادىٰ عليَّاً وأصحابه وهم في الدار فأبوا أن يخرجوا ، فدعا بالحطب ليحرق البيت ومن فيه ، فقيل له : إنَّ فيه فاطمة !
قال : وإن (7) !!
لكنَّهم اقتحموا بيت عليٍّ عليه السلام .. وقد ثبت عن أبي بكر قوله ، حين حضرته الوفاة : « وددت أنِّي لم أكشف عن بيت فاطمة ، وتركته ولو أُغلق علىٰ حرب » (8).
أتىٰ قنفذ ـ رسول الخليفة الجديد ـ عليَّ بن أبي طالب عليه السلام فقال : يدعوك خليفة رسول الله. فقال عليه السلام : « لسريع ما كذَّبتم علىٰ رسول الله » !
فرجع فأبلغ أبا بكر قوله ، فبكىٰ أبو بكر طويلاً ! فبعثه مرَّةً أُخرىٰ بتحريض من عمر ، فقال : خليفة رسول الله يدعوك لتبايع ، فقال عليه السلام بصوت مرتفع : « سبحان الله ! لقد ادَّعىٰ ما ليس له ». فرجع قنفذ وأبلغه كلام عليٍّ فبكىٰ أبو بكر طويلاً ..
أمَّا عمر فتعجَّل الأمر ، وأتىٰ بيت عليٍّ مع جماعة وطرقه بشدَّة ، فلمَّا سمعت فاطمة أصواتهم نادت : « يا أبتِ يا رسول الله ، ماذا لقينا بعدك من ابن الخطَّاب وابن أبي قحافة » ؟!
فانصرف القوم باكين لبكائها ومناجاتها أباها ، إلَّا عمر لم يتصدَّع قلبه لبكاء ابنة رسول الله وبضعته ، فبقي معه جماعة ، حتىٰ أخرجوا عليَّاً عليه السلام فمضوا به إلىٰ أبي بكر ، وعرضوا عليه البيعة فأجابهم بكلِّ ثبات وعزيمة : « أنا أحقُّ بهذا الأمر منكم ، لا أُبايعكم وأنتم أولىٰ بالبيعة لي ».
فقالوا : نضرب عنقك !!
فقال عليه السلام : « إذن تقتلون عبد الله وأخا رسوله » !
فقال عمر : أمَّا عبد الله فنعم ، وأمَّا أخو رسوله فلا !
وأبو بكر ساكت ! ثُمَّ قال عمر لأبي بكر : ألا تأمر فيه بأمرك ؟!
فأجابه الخليفة : لا أُكرهه علىٰ شيء مادامت فاطمة إلىٰ جنبه !
فلحق عليٌّ عليه السلام بقبر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، يصيح ويبكي وينادي : « يا ابن أمِّ إنَّ القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني » (9).
وهكذا وقع سريعاً تأويل ما أخبر به رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عليّاً عليه السلام :
قال الإمام علي عليه السلام : « إنَّ ممَّا عهد إليَّ النبيُّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أنَّ الأُمَّة ستغدر بي بعده » (10).
وفي رواية أُخرىٰ قال عليه السلام : « بينما كنَّا نمشي أنا ورسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم آخذ بيدي .. فلمَّا خلا له الطريق اعتنقني ثُمَّ أجهش باكياً ، قلت : يا رسول الله ، ما يبكيك ؟
قال : ضغائن في صدور أقوام ، لا يبدونها لك إلَّا من بعدي » (11).
الهوامش
1. الإمامة والسياسة / ابن قتيبة ١ : ١٤ ـ ١٥ ، مكتبة ومطبعة مصطفىٰ بابي الحلبي ـ مصر ١٩٦٩ م.
2. صحيح مسلم ـ الجهاد والسير ٣ : ١٣٨٠ / ٥٢ ، صحيح البخاري ـ باب غزوة خيبر ٥ : ٢٨٨ / ٤٥٦ ، الكامل في التاريخ ٢ : ٢٣١.
3. تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٢٤ ، تاريخ أبي الفداء ٢ : ٦٣ ، ابن أبي الحديد ٢ : ٤٩ ، ٥٦ و ٦ : ١١ ، وزاد في ١ : ٢٢٠ حذيفة وابن التيهان وعبادة بن الصامت ، وتاريخ الطبري ٣ : ١٩٨ ، الكامل في التاريخ ٢ : ١٨٩ ، ١٩٤ ، تاريخ الخلفاء : ٥١ ولم يذكروا الأسماء.
4. تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٢٤.
5. تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٢٤.
6. تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٢٤ ، شرح نهج البلاغة ٦ : ٢١ وغيرها.
7. أنظر قصَّة هذا الحدث في : الإمامة والسياسة ١ : ١٢ ، شرح ابن أبي الحديد ٢ : ٥٦ ، ٦ : ٥٨ ، ٢٠ : ١٤٧ ، تاريخ أبي الفداء ٢ : ٦٤ ، العقد الفريد ٥ : ١٢.
8. الإمامة والسياسة ١ : ٢٤ ، تاريخ الطبري ٣ : ٤٣٠.
9. أنظر : شرح النهج ٢ : ٥٦ ، ٦ : ١١ ، الإمامة والسياسة : ١٢ ـ ١٣ ، تاريخ اليعقوبي ـ مختصراً ـ ٢ : ١٢٦ ، الفتوح ابن أعثم ١ : ١٣ ، دار الكتب العلمية ، ط ١ ـ ١٤٠٦ هـ.
10. المستدرك ٣ : ١٤٠ ، ابن عساكر ٣ : ١٤٨ / ١١٦٤ ـ ١١٦٨ ، تذكرة الحفَّاظ ٣ : ٩٩٥ ، ابن أبي الحديد ٦ : ٤٥ ، كنز العمَّال ١١ / ٣٢٩٩٧ ، الخصائص الكبرىٰ ٢ : ٢٣٥.
11. مستدرك الحاكم ٣ / ١٣٩ ، ابن أبي الحديد ٤ : ١٠٧ ، مجمع الزوائد ٩ : ١١٨ ، كنز العمَّال. ١٧٦١٣ / ٤٦٥٣٣.
مقتبس من كتاب : [ الإمام علي عليه السلام سيرة وتأريخ ] / الصفحة : 135 ـ 141
التعلیقات