القرائن المعيِّنة لمعنى الحديث الغدير متّصلة ومنفصلة
العلامة الأميني
منذ 3 سنواتالقرائن المعيِّنة لمعنى الحديث الغدير متّصلة ومنفصلة
إلىٰ هنا لم يبقَ للباحث ملتحد عن البخوغ لمجيء المولىٰ بمعنى الأَولىٰ بالشيء وإن تنازلنا إلىٰ أنَّه أحد معانيه ، وأنَّه من المشترك اللفظيِّ ، فإنّ للحديث قرائن متّصلة وأخرىٰ منفصلة تنفي إرادة غيره ، فإليك البيان :
القرينة الأولىٰ : مقدّمة الحديث ، وهي قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم : « ألستُ أولىٰ بكم من أنفسكم » ، أو ما يؤدّي مؤدّاه من ألفاظ متقاربة ، ثمّ فرّع علىٰ ذلك قوله : « فمن كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه » ، وقد رواها الكثيرون من علماء الفريقين ، فمن حفّاظ أهل السنّة وأئمّتهم :
1 ـ أحمد بن حنبل. 2 ـ ابن ماجة. 3 ـ النسائي. 4 ـ الشيباني. 5 ـ أبو يعلىٰ. 6 ـ الطبري. 7 ـ الترمذي. 8 ـ الطحاوي. 9 ـ ابن عقدة. 10 ـ العنبري. 11 ـ أبو حاتم. 12 ـ الطبراني. 13 ـ القطيعي. 14 ـ ابن بطّة. 15 ـ الدارقطني. 16 ـ الذهبي. 17 ـ الحاكم. 18 ـ الثعلبي. 19 ـ أبو نعيم. 20 ـ ابن السمان. 21 ـ البيهقي. 22 ـ الخطيب. 23 ـ السجستاني. 24 ـ ابن المغازلي. 25 ـ الحسَكاني. 26 ـ العاصمي. 27 ـ الخلعي. 28 ـ السمعاني. 29 ـ الخوارزمي. 30 ـ البيضاوي. 31 ـ الملّا. 32 ـ ابن عساكر. 33 ـ أبو موسىٰ. 34 ـ أبو الفرج. 35 ـ ابن الأثير. 36 ـ ضياء الدين. 37 ـ قزأوغلي. 38 ـ الكنجي. 39 ـ التفتازاني. 40 ـ محبّ الدين. 41 ـ الوصّابي. 42 ـ الحمّوئي. 43 ـ الإيجي. 44 ـ وليّ الدين. 45 ـ الزرندي. 46 ـ ابن كثير. 47 ـ الشريف. 48 ـ شهاب الدين. 49 ـ الجزري. 50 ـ المقريزي. 51 ـ ابن الصبّاغ. 52 ـ الهيثمي. 53 ـ الميبُذي. 54 ـ ابن حجر. 55 ـ أصيل الدين. 56 ـ السمهودي. 57 ـ كمال الدين. 58 ـ البَدَخشي. 59 ـ الشيخاني. 60 ـ السيوطي. 61 ـ الحلبي. 62 ـ ابن باكثير. 63 ـ السهارنپوري. 64 ـ ابن حجر المكّي.
وقد ألمعنا إلیٰ موارد ذكر المقدّمة بتعيين الجزء والصفحات من كتب هؤلاء الأعلام فيما أسلفناه عند بيان طرق الحديث عن الصحابة والتابعين ، وهناك جمعٌ آخرون من رواتها لا يُستهان بعدّتهم لا نطيل بذكرهم المقال ، أضف إلىٰ ذلك من رواها من علماء الشيعة الذين لا يُحصىٰ عددهم.
فهذه المقدّمة من الصحيح الثابت الذي لا محيد عن الاعتراف به ، كما صرّح بذلك غير واحد من الأعلام المذكورين (1) فلو كان صلّى الله عليه وآله وسلّم يريد في كلامه غير المعنى الذي صرّح به في المقدّمة لعاد لفظه ـ ونُجلّه عن كلِّ سقطة ـ محلول العُرىٰ ، مختزلاً بعضه عن بعض ، وكان في معزل عن البلاغة وهو أفصح البلغاء ، وأبلغ من نطق بالضاد ، فلا مساغ في الإذعان بارتباط أجزاء كلامه ، وهو الحقّ في كلِّ قول يلفظه عن وحي يوحىٰ ، إلّا أن نقول باتّحاد المعنىٰ في المقدّمة وذيها.
ويزيدك وضوحاً وبياناً ما في التذكرة لسبط ابن الجوزي الحنفي (2) ( ص 20 ) ، فإنّه بعد عدِّ معانٍ عشرة للمولىٰ وجعل عاشرها الأولىٰ ، قال :
والمراد من الحديث : الطاعة المخصوصة ، فتعيّن الوجه العاشر وهو الأَولى ، ومعناه : من كنت أَولىٰ به من نفسه فعليٌ أولىٰ به ، وقد صرّح بهذا المعنى الحافظ أبو الفرج يحيى بن سعيد الثقفي الأصبهاني في كتابه المسمّىٰ بمرج البحرين ، فإنّه روىٰ هذا الحديث بإسناده إلىٰ مشايخه ، وقال فيه : فأخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيد عليّ فقال : « من كنتُ وليّه وأَولىٰ به من نفسه فعليٌّ وليّه » ، فعُلِم أنَّ جميع المعاني راجعة إلى الوجه العاشر ، ودلّ عليه أيضاً قوله عليه السلام : « ألست أَولىٰ بالمؤمنين من أنفسهم » وهذا نصٌّ صريحٌ في إثبات إمامته وقبول طاعته.
ونصّ ابن طلحة الشافعي في مطالب السؤول ( ص 16 ) علىٰ ذهاب طائفة إلىٰ حمل اللفظ في الحديث على الأَولىٰ ، وسيوافيك نظير هذه الجمل في محلّه إن شاء الله تعالىٰ.
القرينة الثانية : ذيل الحديث ، وهو قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم : « أللّهمّ والِ من والاه ، وعادِ من عاداه » وفي جملة من طرقه بزيادة قوله : « وانصُر من نصره ، واخذُلْ من خذله » أو ما يؤدّي مؤدّاه ، وقد أسلفنا ذكر الجماهير الراوين له ، فلا موجب إلى التطويل بإعادة ذكرهم ، ومرّ عليك في ذكر الكلمات المأثورة حول سند الحديث ( ص 266 ـ 281 ) بأنّ تصحيح كثير من العلماء له مصبُّه الحديث مع ذيله ، وفي وسع الباحث أن يقرّب كونه قرينةً للمدّعىٰ بوجوه لا تلتئم إلّا مع معنى الأولويّة الملازمة للإمامة :
أحدها : أنَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم لمّا صدع بما خوّل الله سبحانه وصيّه من المقام الشامخ بالرئاسة العامّة على الأمّة جمعاء ، والإمامة المطلقة من بعده ، كان يعلم بطبع الحال أنَّ تمام هذا الأمر بتوفّر الجنود والأعوان وطاعة أصحاب الولايات والعمّال مع علمه بأنّ في الملأ من يحسده ، كما ورد في الكتاب العزيز (3) ، وفيهم من يحقد عليه ، وفي زُمَر المنافقين من يضمر له العداء لأوتار جاهليّة ، وستكون من بعده هنات تجلبها النهمة والشرَه من أرباب المطامع لطلب الولايات والتفضيل في العطاء ، ولا يدع الحقّ عليّاً عليه السلام أن يسعفهم بمبتغاهم ؛ لعدم الحنكة والجدارة فيهم فيقلبون عليه ظهر المجنّ ، وقد أخبر صلّى الله عليه وآله وسلم مجمل الحال بقوله : « إن تُؤمّروا عليّاً ـ ولا أراكم فاعلين ـ تجدوه هادياً مهديّاً » ، وفي لفظ : « إن تستخلفوا عليّاً ـ وما أراكم فاعلين ـ تجدوه هادياً مهديّاً » راجع ( ص 12 و 13 ) من هذا الكتاب.
فطفق صلّى الله عليه وآله وسلّم يدعو لمن والاه ونصره ، وعلىٰ من عاداه وخذله ؛ ليتمّ له أمر الخلافة ، ولِيعلم الناس أنَّ موالاته مَجلبة لموالاة الله سبحانه ، وأنَّ عداءه وخذلانه مدعاة لغضب الله وسخطه ، فيزدلف إلى الحقّ وأهله ، ومثل هذا الدعاء بلفظ العامّ لا يكون إلّا في من هذا شأنه ، ولذلك إنَّ أفراد المؤمنين الذين أوجب الله محبّة بعضهم لبعض لم يؤثّر فيهم هذا القول ، فإنّ منافرة بعضهم لبعض جزئيات لا تبلغ هذا المبلغ ، وإنَّما يحصل مثله فيما إذا كان المدعوّ له دعامة الدين ، وعلم الإسلام ، وإمام الأمّة ، وبالتثبيط عنه يكون فتٌّ في عضد الحقِّ وانحلالٌ لِعُرى الإسلام.
ثانيها : أنَّ هذا الدعاء ـ بعمومه الأفراديِّ بالموصول ، والأزمانيّ والأحواليّ بحذف المتعلّق ـ يدلُّ علىٰ عصمة الإمام عليه السلام لإفادته وجوب موالاته ونصرته والانحياز عن العداء له وخذلانه علىٰ كلّ أحد في كلِّ حين وعلىٰ كلّ حال ، وذلك يوجب أن يكون عليه السلام في كلّ تلك الأحوال علىٰ صفة لا تصدر منه معصية ، ولا يقول إلّا الحقّ ، ولا يعمل إلّا به ، ولا يكون إلّا معه ؛ لأنّه لو صدر منه شيء من المعصية لوجب الإنكار عليه ونصب العداء له ؛ لعمله المنكر والتخذيل عنه ، فحيث لم يستثنِ صلّى الله عليه وآله وسلّم من لفظه العام شيئاً من أطواره وأزمانه علمنا أنَّه لم يكن عليه السلام في كلِّ تلك المدد والأطوار إلّا على الصفة التي ذكرناها ، وصاحب هذه الصفة يجب أن يكون إماماً لقبح أن يؤمّه من هو دونه علىٰ ما هو المقرّر في محلّه ، وإذا كان إماماً فهو أولىٰ بالناس منهم بأنفسهم.
ثالثها : أنَّ الأنسب بهذا الدعاء الذي ذيّل صلّى الله عليه وآله وسلّم به كلامه ، ولا بدّ أنَّه مرتبط بما قبله أن يكون غرضه صلّى الله عليه وآله وسلّم بيان تكليف على الحاضرين من فرض الطاعة ووجوب الموالاة ، فيكون في الدعاء ترغيب لهم على الطاعة والخضوع له ، وتحذير عن التمرّد والجموح تجاه أمره ، وذلك لا يكون إلّا إذا نزّلنا المولىٰ بمعنى الأولىٰ ، بخلاف ما إذا كان المراد به المحبّ أو الناصر ؛ فإنّه ـ حينئذٍ ـ لم يُعلم إلّا أنَّ عليّاً عليه السلام محبّ من يحبّه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أو ينصر من ينصره ، فيناسب إذن أن يكون الدعاء له إن قام بالمحبّة أو النصرة ، لا للناس عامّة إن نهضوا بموالاته ، وعليهم إن تظاهروا بنصب العداء له ، إلّا أن يكون الغرض بذلك توكيد الصلات الودِّية بينه وبين الأمّة إذا علموا أنَّه يحبّ وينصر كلّ فرد منهم في كلِّ حال وفي كلِّ زمان ، كما أنَّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم كذلك ، فهو يخلفه عليهم ، وبذلك يكون لهم منجاة من كلّ هَلَكَة ، ومأوىً من كلِّ خوف ، وملجأ من كلِّ ضَعة ، شأن الملوك ورعاياهم ، والأمراء والسُّوقة ، فإنّهما في النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم علىٰ هذه الصفة ، فلا بدّ أن يكونا فيمن يحذو حذوه أيضاً كذلك ، وإلّا لاختلَّ سياق الكلام ، فالمعنىٰ علىٰ ما وصفناه بعد المماشاة مع القوم متّحد مع معنى الإمامة ، ومؤدٍّ مفاد الأَولىٰ.
وللحديث ألفاظ أثبتها حفّاظ الحديث متّصلة به في مختلف تخريجاتهم لا تلتئم إلّا مع المعنى الذي حاولنا من المولىٰ.
القرينة الثالثة : قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم : « يا أيُّها الناس بمَ تشهدون ؟ قالوا : نشهد أن لا إله إلّا الله. قال : ثمّ مَهْ ؟ قالوا : وأنَّ محمداً عبده ورسوله. قال : فمن وليُّكم ؟ قالوا : الله ورسوله مولانا.
ثمّ ضرب بيده إلىٰ عضد عليٍّ ، فأقامه ، فقال : من يكن الله ورسوله مولاه فإنّ هذا مولاه ... ».
هذا لفظ جرير ، وقريب منه لفظ أمير المؤمنين عليه السلام ولفظ زيد بن أرقم وعامر ابن ليلىٰ ، وفي لفظ حذيفة بن أُسيد بسند صحيح :
« ألستم تشهدون أن لا إله إلّا الله وأنَّ محمداً عبده ورسوله ؟ ... ـ إلىٰ أن قال ـ :
قالوا : بلىٰ نشهد بذلك.
قال : أللّهمّ اشهد ، ثمّ قال : يا أيّها الناس إنَّ الله مولاي وأنا مولى المؤمنين ، وأنا أَولىٰ بهم من أنفسهم ، فمن كنتُ مولاه فهذا مولاه ». يعني عليّاً (4).
فإنّ وقوع الولاية في سياق الشهادة بالتوحيد والرسالة وسردها عقيب المولويّة المطلقة لله سبحانه ولرسوله من بعده لا يمكن إلّا أن يُراد بها معنى الإمامة الملازمة للأولويّة على الناس منهم بأنفسهم.
القرينة الرابعة : قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم عقيب لفظ الحديث : « الله أكبر علىٰ إكمال الدين ، وإتمام النعمة ، ورضا الربِّ برسالتي ، والولاية لعليّ بن أبي طالب ».
وفي لفظ شيخ الإسلام الحمّوئي (5) : « الله أكبر ، تمام نبوّتي وتمام دين الله ولاية عليٍّ بعدي » (6).
فأيّ معنىً تراه يكمل به الدين ، ويُتمّ النعمة ، ويُرضي الربَّ في عداد الرسالة غير الإمامة التي بها تمام أمرها وكمال نشرها وتوطيد دعائمها ؟ إذن فالناهض بذلك العبء المقدّس أَولى الناس منهم بأنفسهم.
القرينة الخامسة : قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم قبل بيان الولاية : « كأنّي دُعيتُ فأَجبتُ » ، أو : « أنَّه يُوشِك أن أُدعىٰ فأُجيب » ، أو : « ألا وإنّي أُوشِك أن أُفارقَكم » ، أو : « يوشِك أن يأتي رسول ربّي فأُجيب » ، وقد تكرّر ذكره عند حفّاظ الحديث كما مرّ (7).
وهو يُعطينا علماً بأنّه صلّى الله عليه وآله وسلّم كان قد بقي من تبليغه مهمّة يُحاذر أن يدركه الأجل قبل الإشادة بها ، ولولا الهتاف بها بقي ما بلّغه مُخدَجاً ، ولم يذكر صلّى الله عليه وآله وسلّم بعد هذا الاهتمام إلّا ولاية أمير المؤمنين وولاية عترته الطاهرة الذين يَقْدِمهم هو ـ صلوات الله عليه ـ كما في نقل مسلم (8) ، فهل من الجائز أن تكون تلك المهمّة المنطبقة علىٰ هذه الولاية إلّا معنى الإمامة المصرّح بها في غير واحد من الصحاح ؟ وهل صاحبها إلّا أولى الناس بأنفسهم ؟
القرينة السادسة : قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم بعد بيان الولاية لعليٍّ عليه السلام :
« هنِّئوني هنِّئوني إنَّ الله تعالىٰ خصّني بالنبوّة ، وخصّ أهل بيتي بالإمامة » كما مرّ ( ص 274 ) ، فصريح العبارة هو الإمامة المخصوصة بأهل بيته الذين سيّدهم والمقدّم فيهم هو أمير المؤمنين عليه السلام ، وكان هو المراد في الوقت الحاضر.
ثمّ نفس التهنئة والبيعة والمصافقة والاحتفال بها واتِّصالها ثلاثة أيّام ، كما مرّت هذه كلّها ( ص 269 ـ 283 ) لا تلائم غير معنى الخلافة والأولويّة ، ولذلك ترى الشيخين أبا بكر وعمر لقيا أمير المؤمنين فهنّآهُ بالولاية. وفيها بيان لمعنى المولى الذي لهج به صلّى الله عليه وآله وسلّم ، فلا يكون المتحلّي به إلّا أَولى الناس منهم بأنفسهم.
القرينة السابعة : قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم بعد بيان الولاية : « فليبلّغ الشاهد الغائب » ، كما مرّ ( ص 33 ، 160 ، 198 ) ، أوَتحسب أنَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم يؤكّد هذا التأكيد في تبليغ الغائبين أمراً علِمه كلُّ فرد منهم بالكتاب والسنّة من الموالاة والمحبّة والنصرة بين أفراد المسلمين مشفوعاً بذلك الاهتمام والحرص علىٰ بيانه ؟ لا أحسب أنَّ ضُؤولة الرأي يُسفُّ بك إلىٰ هذه الخطّة ، لكنّك ولا شكّ تقول : إنَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يُرد إلّا مهمّة لم تُتَحِ الفرص لتبليغها ولا عرفته الجماهير ممّن لم يشهدوا ذلك المجتمع ، وما هي إلّا مهمّة الإمامة التي بها كمال الدين ، وتمام النعمة ، ورضا الربِّ ، وما فهم الملأ الحضور من لفظه صلّى الله عليه وآله وسلّم إلّا تلك ، ولم يؤثر له صلّى الله عليه وآله وسلّم لفظ آخر في ذلك المشهد يليق أن يكون أمره بالتبليغ له ، وتلك المهمّة لا تساوق إلّا معنى الأَولىٰ من معاني المولىٰ.
القرينة الثامنة : قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم بعد بيان الولاية في لفظ أبي سعيد وجابر المذكور ( ص 43 ، 232 ، 233 ، 234 ، 237 ) : « الله أكبر علىٰ إكمال الدين ، وإتمام النعمة ، ورضا الربّ برسالتي ، والولاية لعليٍّ من بعدي » ، وفي لفظ وهب المذكور ( ص 60 ) : « إنَّه وليّكم بعدي ». وفي لفظ عليّ الذي أسلفناه ( ص 165 ) : « وليُّ كلِّ مؤمن بعدي ».
وكذلك ما أخرجه (9) الترمذي ، وأحمد ، والحاكم ، والنسائي ، وابن أبي شيبة والطبري ، وكثيرون آخرون من الحفّاظ بطرق صحيحة من قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم :
« إنَّ عليّاً منّي وأنا منه ، وهو وليُّ كلّ مؤمن بعدي » ، وفي آخر : « هو وليّكم بعدي ».
وما أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء ( 1 / 86 ) وآخرون (10) بإسناد صحيح من قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم :
« من سرّه أن يحيىٰ حياتي ، ويموت مماتي ، ويسكن جنّة عدن غرسها ربّي ، فلْيوالِ عليّاً من بعدي ، ولْيقتدِ بالأئمّة من بعدي ، فإنّهم عترتي خُلِقوا من طينتي ». الحديث.
وما أخرجه أبو نعيم في الحلية ( 1 / 86 ) بإسناد صحيح رجاله ثقات عن حذيفة وزيد وابن عبّاس عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم :
« من سرّه أن يحيىٰ حياتي ويموت ميتتي ، ويتمسّك بالقصبة الياقوتة التي خلقها الله بيده ثمّ قال لها : كوني ، فكانت ، فليتولَّ عليَّ بن أبي طالب من بعدي ».
فإنّ هذه التعابير تعطينا خُبراً بأنّ الولاية الثابتة لأمير المؤمنين عليه السلام مرتبة تساوق ما ثبت لصاحب الرسالة مع حفظ التفاوت بين المرتبتين بالأوّليّة والأولويّة ، سواءٌ أُريد من لفظ ( بعدي ) البعديّة الزمانيّة أو البعديّة في الرتبة ، فلا يمكن أن يراد إذن من المولى إلّا الأولويّة على الناس في جميع شؤونهم ، إذ في إرادة معنى النصرة والمحبّة من المولىٰ بهذا القيد ينقلب الحديث ويُعَدُّ منقصة دون مفخرة كما لا يخفىٰ.
القرينة التاسعة : قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم بعد إبلاغ الولاية :
« أللّهمّ أنت شهيد عليهم أنّي قد بلّغت ونصحت ». فالإشهاد على الأمّة بالبلاغ والنصح يستدعي أن يكون ما بلّغه صلّى الله عليه وآله وسلّم ذلك اليوم أمراً جديداً لم يكن قد بلّغه قبل. مضافاً إلىٰ أنَّ بقية معاني المولى العامّة بين أفراد المسلمين من الحبّ والنصرة لا تُتصوّر فيها أيُّ حاجة إلى الإشهاد على الأمّة في عليٍّ خاصّة ، إلّا أن تكون فيه على الحدِّ الذي بينّاه.
القرينة العاشرة : قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم قبل بيان الحديث وقد مرّ ( ص 165 و 196 ) :
« إنَّ الله أرسلني برسالة ضاق بها صدري ، وظننت أنَّ الناس مُكذِّبيَّ فأوعدني لَأُبلّغها أو لَيعذِّبني ».
ومرّ في ( ص 221 ) بلفظ : « إنَّ الله بعثني برسالة ، فضقت بها ذرعاً ، وعرفت أنَّ الناس مكذِّبيَّ ، فوعدني لَأُبلّغنَّ ، أو لَيعذِّبني ».
و ( ص 166 ) بلفظ : « إنّي راجعت ربّي خشية طعن أهل النفاق ومكذِّبيهم فأوعدني لأُبلّغها أو لَيعذِّبني».
ومرّ ( ص 51 ) : « لمّا أُمر النبيُّ أن يقوم بعليّ بن أبي طالب المقام الذي قام به فانطلق النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلىٰ مكّة ، فقال : رأيت الناس حديثي عهد بكفر بجاهليّة ، ومتىٰ أفعل هذا به يقولوا : صنع هذا بابن عمّه. ثمّ مضىٰ حتىٰ قضىٰ حجّة الوداع ». الحديث.
ومرّ ( ص 219 ) : إنَّ الله أمر محمداً أن ينصب عليّاً للناس ، فيخبرهم بولايته ، فتخوّف النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أن يقولوا : حابى ابن عمّه ، وأن يطعنوا في ذلك عليه. الحديث.
ومرّ ( ص 217 ) : لمّا أمر الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يقوم بعليّ ، فيقول له ما قال ، فقال : « يا ربّ إنَّ قومي حديثو عهد بجاهليّة » ـ كذا في النسخ ـ ثمّ مضىٰ بحجّه ، فلمّا أقبل راجعاً نزل بغدير خُمّ. الحديث.
ومرّ ( ص 217 ) : لمّا جاء جبرئيل بأمر الولاية ضاق النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بذلك ذرعاً ، وقال : « قومي حديثو عهدٍ بالجاهليّة » ، فنزلت : ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ ) الآية.
هذه كلّها تنمُّ عن نبأ عظيم كان يخشىٰ في بثِّه بوادر أهل النفاق وتكذيبهم ، فالذي كان يحاذره صلّى الله عليه وآله وسلّم ويتحقّق به القول بأنّه حابى ابن عمِّه يستدعي أن يكون أمراً يخصُّ أمير المؤمنين ، لا شيئاً يشاركه فيه المسلمون أجمع من النصرة والمحبّة ، وما هو إلّا الأولويّة بالأمر وما جرىٰ مجراها من المعاني.
القرينة الحادية عشرة : جاء في أسانيد متكثِّرة : التعبير عن موقوف يوم الغدير بلفظ النصب ، فمرّ ( ص 57 ) عن عمر بن الخطّاب : نصب رسول الله عليّاً عَلَماً ، و (165) عن عليّ عليه السلام « أمر الله نبيّه أن ينصبني للناس ... » وفي قوله الآخر في رواية العاصمي كما تأتي : « نَصَبني عَلَماً » ، ومرّ ( ص 199 ) عن الإمام الحسن السبط : « أتعلمون أنَّ رسول الله نصبه يوم غدير خُمّ » و ( ص 200 ) عن عبدالله بن جعفر : ونبيّنا قد نصب لأُمّته أفضل الناس وأولاهم وخيرهم بغدير خُمّ ، و ( ص 208 ) عن قيس بن سعد : نصبه رسول الله بغدير خمّ ، و ( ص 219 ) عن ابن عبّاس وجابر : أمر الله محمداً أن ينصب عليّاً للناس ، فيخبرهم بولايته ، و ( ص 231 ) عن أبي سعيد الخدري : لمّا نصب رسول الله عليّاً يوم غدير خُمّ ، فنادىٰ له بالولاية.
فإنّ هذا اللفظ يعطينا خُبراً بإيجاد مرتبةٍ للإمام عليه السلام في ذلك اليوم لم تكن تُعَرف له من قبلُ غير المحبّة والنصرة ، المعلومتين لكلِّ أحد ، والثابتتين لأيّ فرد من أفراد المسلمين ، علىٰ ما ثبت من اطِّراد استعماله في جعل الحكومات وتقرير الولايات ، فيقال : نصب السلطان زيداً والياً على القارّة الفلانيّة ، ولا يقال : نصبه رعيّة له أو محبّاً أو ناصراً أو محبوباً أو منصوراً به علىٰ زنة ما يتساوىٰ به أفراد المجتمع الذين هم تحت سيطرة ذلك السلطان.
مضافاً إلىٰ مجيء هذا اللفظ في غير واحد من الطرق مقروناً بلفظ الولاية أو متلوّاً بكونه للناس أو للأُمّة.
وبذلك كلّه تعرف أنَّ المرتبة المثبتة له هي الحاكميّة المطلقة على الأمّة جمعاء ، وهي معنى الإمامة الملازمة للأولويّة المُدّعاة في معنى المولىٰ ، ويستفاد هذا المعنىٰ من لفظ ابن عبّاس الآخر الذي مرّ ( ص 51 و 217 ) ، قال :
لمّا أُمر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أن يقوم بعليّ المقام الذي قام به ... .
ويُصرِّح بالمعنىٰ المراد ما مرّ ( ص 165 ) من قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم :
« إنَّ الله أمر أن أنصب لكم إمامكم والقائم فيكم بعدي ووصيّي وخليفتي ، والذي فرض الله على المؤمنين في كتابه طاعته ، فقرن بطاعته طاعتي ، وأمركم بولايته ».
وقوله المذكور ( ص 215 ) : « فإنّ الله قد نصبه لكم وليّاً وإماماً ، وفرض طاعته علىٰ كلِّ أحد ، ماضٍ حكمه ، جائزٌ قوله ».
القرينة الثانية عشرة : ما مرّ ( ص 52 و 217 ) من قول ابن عبّاس بعد ذكره الحديث : فوجبت والله في رقاب القوم ، في لفظ. وفي أعناق القوم ، في آخر ، فهو يُعطي ثبوت معنىً جديد مستفاد من الحديث غير ما عرفه المسلمون قبل ذلك وثبت لكلِّ فرد منهم ، وأكّد ذلك باليمين وهو معنىً عظيم يلزم الرقاب ، ويأخذ بالأعناق لدة الإقرار بالرسالة ، لم يساوِ الإمام عليه السلام فيه غيره ، وليس هو إلّا الخلافة التي امتاز بها من بين المجتمع الإسلامي ، ولا يبارحه معنى الأولويّة.
القرينة الثالثة عشرة : ما أخرجه شيخ الإسلام الحمّوئي في فرائد السمطين عن أبي هريرة قال :
لمّا رجع رسول الله عن حجة الوداع نزلت آية : ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ ) ولمّا سمع قوله تعالىٰ : ( وَاللَّـهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) اطمأنّ قلبه ـ إلى أن قال بعد ذكر الحديث ـ : وهذه آخر فريضة أوجب الله علىٰ عباده ، فلمّا بلّغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نزل قوله : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) الآية.
يُعطينا هذا اللفظُ خُبراً بأنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم صدع في كلمته هذه بفريضة لم يسبقها التبليغ ، ولا يجوز أن يكون ذلك معنى المحبّة والنصرة لسبق التعريف بهما منذ دهر كتاباً وسنّة ، فلم يبقَ إلّا أن يكون معنى الإمامة الذي أخّر أمره حتىٰ تُكتسح عنه العراقيل ، وتُمرّن النفوس بالخضوع لكلِّ وحي يوحىٰ ، فلا تتمرّد عن مثلها من عظيمة تجفل عنها النفوس الجامحة ، وهي الملائمة لمعنى الأَولىٰ.
القرينة الرابعة عشرة : تقدّم ( ص 29 و 36 ) في حديث زيد بن أرقم بطرقه الكثيرة :
إنَّ ختَناً له سأله عن حديث غدير خمّ ، فقال له : أنتم أهل العراق فيكم ما فيكم.
فقلت له : ليس عليك منّي بأس.
فقال : نعم ، كنّا بالجُحفة فخرج رسول الله ....
ومرّ ( ص 24 ) عن عبدالله بن العلاء أنَّه قال للزهري لمّا حدّثه بحديث الغدير : لا تحدّث بهذا بالشام. وأسلفناك ( ص 273 ) عن سعيد بن المسيّب أنَّه قال : قلت لسعد بن أبي وقّاص : إنّي أريد أن أسألك عن شيء وإنّي أتّقيك. قال : سل عمّا بدا لك فإنّما أنا عمّك ....
فإنّ الظاهر من هذه كلّها أنَّه كان بين الناس للحديث معنىً لا يأمن معه راويه من أن يصيبه سوءٌ أولدته العداوة للوصيِّ ـ صلوات الله عليه ـ في العراق وفي الشام ، ولذلك إنَّ زيداً اتّقىٰ خَتَنه العراقيّ ، وهو يعلم ما في العراقيِّين من النفاق والشقاق يوم ذاك ، فلم يُبدِ بسرِّه حتىٰ أمن من بوادره ، فحدّثه بالحديث ، وليس من الجائز أن يكون المعنىٰ ـ حينئذٍ ـ هو ذلك المبتذل لكلّ مسلم ، وإنَّما هو معنىً ينوء بعبئه الإمام عليه السلام بمفرده ، فيفضل بذلك علىٰ من سواه ، وهو معنى الخلافة المتّحدة مع الأولويّة المرادة.
القرينة الخامسة عشرة : احتجاج أمير المؤمنين عليه السلام بالحديث يوم الرحبة بعد أن آلت إليه الخلافة ردّاً علىٰ من نازعه فيها ـ كما مرّ ( ص 344 ) ـ وإفحام القوم به لمّا شهدوا ، فأيّ حجّة له في المنازعة بالخلافة في المعنى الذي لا يلازم الأولويّة على الناس من الحبِّ والنصرة ؟
القرينة السادسة عشرة : مرّ في حديث الركبان ( ص 187 ـ 191 ) : أنَّ قوماً منهم أبو أيّوب الأنصاري سلّموا علىٰ أمير المؤمنين عليه السلام بقولهم : السلام عليك يا مولانا. فقال عليه السلام : « كيف أكون مولاكم وأنتم رهطٌ من العرب ؟ »
فقالوا : إنَّا سمعنا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول : « من كنت مولاه فعليٌّ مولاه ».
فأنت جدّ عليمٍ بأنّ أمير المؤمنين لم يتعجّب أو لم يُرد كشف الحقيقة للملأ الحضور لمعنىً مبذول هو شرع سواء بين أفراد المسلمين ـ وهو أن يكون معنىٰ قولهم : السلامُ عليك يا محبّنا أو ناصرنا ـ لا سيّما بعد تعليل ذلك بقوله : « وأنتم رهط من العرب ». فما كانت النفوس العربيّة تستنكف من معنى المحبّة والنصرة بين أفراد جامعتها ، وإنَّما كانت تستكبر أن يخصَّ واحدٌ منهم بالمولويّة عليهم بالمعنى الذي نحاوله ، فلا ترضخ له إلّا بقوّة قاهرة عامّتهم ، أو نصٍّ إلهيّ يُلزم المسلمين منهم ، وما ذلك إلّا معنى الأولى المرادف للإمامة ، والولاية المطلقة التي استحفىٰ عليه السلام خبرها منهم ، فأجابوه باستنادهم في ذلك إلىٰ حديث الغدير.
القرينة السابعة عشرة : قد سلفت في ( ص 191 ) إصابة دعوة مولانا أمير المؤمنين عليه السلام أُناساً كتموا شهادتهم بحديث الغدير في يومي مناشدة الرحبة والركبان ، فأصابهم العمىٰ والبرص ، والتعرّب بعد الهجرة ، أو آفة أخرىٰ ، وكانوا من الملأ الحضور في مشهد يوم الغدير.
فهل يجد الباحث مساغاً لاحتمال وقوع هاتيك النقم على القوم ، وتشديد الإمام عليه السلام بالدعاء عليهم لمحض كتمانهم معنى النصرة والحبِّ العامّين بين أفراد المجتمع الدينيّ ، فكان من الواجب إذن أن تصيب كثيراً من المسلمين الذين تشاحنوا ، وتلاكموا ، وقاتلوا ، فقمّوا جذوم (11) تَينِك الصفتين ، وقلعوا جذورهما ، فضلاً عن كتمان ثبوتهما بينهم ، لكنّ المنقِّب لا يرىٰ إلّا أنَّهم وُسموا بِشِيَةِ العار ، وأصابتهم الدعوة بكتمانهم نبأً عظيماً يختصّ به هذا المولى العظيم ـ صلوات الله عليه ـ وما هو إلّا ما أصفقت عليه النصوص ، وتراكمت القرائن من إمامته وأولويّته على الناس منهم بأنفسهم.
ثمّ إنَّ نفس كتمانهم للشهادة لا تكون لأمر عاديّ هو شرع سواء بينه وبين غيره ، وإنَّما الواجب أن تكون فيه فضيلة يختصُّ بها ، فكأنّهم لم يرُقْهم أن يتبجّح الإمام بها ، فكتموها ، لكن الدعوة الصالحة فضحتهم بإظهار الحقِّ ، وأبقت عليهم مثلبة لائحة علىٰ جبهاتهم وجنوبهم وعيونهم ما داموا أحياء ، ثمّ تضمّنتها طيّات الكتب فعادت تلوكها الأشداق ، وتتناقلها الألسن حتىٰ يرث الله الأرض ومن عليها.
القرينة الثامنة عشرة : مرّ بإسناد صحيح ( ص 174 و 175 ) في حديث مناشدة الرحبة من طريق أحمد والنسائي والهيثمي ومحبّ الدين الطبري :
أنَّ أمير المؤمنين عليه السلام لمّا ناشد القوم بحديث الغدير في الرحبة شهد نفر من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأنّهم سمعوه منه.
قال أبو الطفيل : فخرجت وكأنّ في نفسي شيئاً (12) ، فلقيت زيد بن أرقم ، فقلت له : إنّي سمعت عليّاً رضي الله عنه يقول : كذا وكذا ، قال : فما تنكر ؟ قد سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول له ذلك.
فما الذي تراه يستكبره أو يستنكره أبو الطفيل من ذلك ؟ أهو صدور الحديث ؟ ولا يكون ذلك ؛ لأنّ الرجل شيعيٌّ متفانٍ في حبِّ أمير المؤمنين عليه السلام ومن ثقاته ، فلا يشكُّ في حديث رواه مولاه ، لا ، بل هو معناه الطافح بالعظمة ، فكان عجبه من نكوس القوم عنه وهم عرب أقحاح يعرفون اللفظ وحقيقته ، وهم أتباع الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه ، فاحتمل أنَّه لم يسمعه جلّهم ، أو حجزت العراقيل بينهم وبين ذلك ، فطمّنه زيد بن أرقم بالسماع ، فعلم أنَّ الشهوات حالت بينهم وبين البخوع له ، وما ذلك المعنى المستعظم إلّا الخلافة المساوقة للأولويّة دون غيرها من الحبِّ والنصرة ، وكلٌّ منهما منبسطٌ على أيِّ فرد من أفراد الجامعة الإسلاميّة.
القرينة التاسعة عشرة : سبق أيضاً ( ص 239 ـ 246 ) حديث إنكار الحارث الفهري معنىٰ قول النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم في حديث الغدير ، وشرحنا ( ص 343 ) تأكّد عدم التئامه مع غير الأَولىٰ من معاني المولىٰ.
القرينة العشرون : أخرج الحافظ ابن السمّان كما في الرياض النضرة (13) ( 2 / 170 ) ، وذخائر العقبىٰ للمحبّ الطبري ( ص 68 ) ، ووسيلة المآل للشيخ أحمد بن باكثير المكّي (14) ، ومناقب الخٰوارزمي (15) ( ص 97 ) ، والصواعق (16) ( ص 107 ) عن الحافظ الدارقطني عن عمر وقد جاءه أعرابيّان يختصمان ، فقال لعليّ : اقض بينهما ، فقال أحدهما : هذا يقضي بيننا ؟ فوثب إليه عمر وأخذ بتلبيبه وقال : ويحك ما تدري من هذا ؟ هذا مولاي ومولىٰ كلّ مؤمن ، ومن لم يكن مولاه فليس بمؤمن.
وعنه وقد نازعه رجل في مسألة ، فقال : بيني وبينك هذا الجالس ، وأشار إلىٰ عليّ بن أبي طالب ، فقال الرجل : هذا الأبطن ؟ فنهض عمر عن مجلسه ، وأخذ بتلبيبه حتىٰ شاله من الأرض ، ثمّ قال : أتدري من صغّرت ؟ هذا مولاي ومولىٰ كلِّ مسلم.
وفي الفتوحات الإسلاميّة ( 3 / 307 ) : حكم عليّ مرّة علىٰ أعرابيّ بحكم ، فلم يرضَ بحكمه ، فتلبّبه عمر بن الخطّاب ، وقال له : ويلك إنَّه مولاك ومولىٰ كلّ مؤمن ومؤمنة.
وأخرج الطبراني : أنَّه قيل لعمر : إنَّك تصنع بعليّ ـ أي من التعظيم ـ شيئاً لا تصنع مع أحد من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال : إنَّه مولاي. وذكره الزرقاني المالكي في شرح المواهب (7 / 13 ) عن الدارقطني.
فإنّ المولويّة الثابتة لأمير المؤمنين التي اعترف بها عمر علىٰ نفسه وعلى كلِّ مؤمن زِنَة ما اعترف به يوم غدير خمّ ، وشفع ذلك بنفي الإيمان عمّن لا يكون الوصيّ مولاه ، أي لم يعترف له بالمولويّة ، أو لم يكن هو مولىً له أي محبّاً أو ناصراً ، ولكن على حدٍّ ينفي عنه الإيمان إن انتفىٰ عنه ذلك الحبّ والنصرة ، لا ترتبط (17) إلّا مع ثبوت الخلافة له ، فإنّ الحبّ والنصرة العاديّين المندوب إليهما بين عامّة المسلمين لا ينفي بانتفائه الإيمان ، ولا يمكن القول بذلك نظراً إلى ما شجر من الخلاف والتباغض بين الصحابة والتابعين حتىٰ آل في بعض الموارد إلى التشاتم ، والتلاكم ، وإلى المقاتلة ، والمناضلة ، وكان بعضها بمشهد من النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم فلم ينفِ عنهم الإيمان ، ولا غمز القائلون بعدالة الصحابة أجمع في أحد منهم بذلك ، فلم يبق إلّا أن تكون الولاية التي هذه صفتها معناها الإمامة الملازمة للأولوية المقصودة ، سواء أوعز عمر بكلمته هذه إلىٰ حديث الغدير كما تومي إليه رواية الحافظ محبّ الدين الطبري لها في ذيل أحاديث الغدير ، أو أنَّه أرسلها حقيقة راهنة ثابتة عنده من شتّى النواحي.
تذييل :
عزا ابن الأثير في النهاية (18) ( ٤ / ٢٤٦ ) ، والحلبي في السيرة (19) ( ٣ / ٣٠٤ ) وبعض آخر إلى القيل ، وذكروا أنَّ السبب في قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم : « من كنت مولاه » : أنَّ أُسامة بن زيد قال لعليّ : لست مولاي ، إنَّما مولاي رسول الله ، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم : « من كنت مولاه فعليّ مولاه ».
إنَّ من روىٰ هذه الرواية المجهولة أراد حطّاً من عظمة الحديث ، وتحطيماً لمنعته فصوّره بصورة مصغّرةٍ لا تعدو عن أن تكون قضيّة شخصيّة ، وحواراً بين اثنين من أفراد الأمّة ، أصلحه رسول الله بكلمته هذه ، وهو يجهل أو يتجاهل عن أنَّه تَخْصمه على تلك المزعمة الأحاديثُ المتضافرة في سبب الإشادة بذلك الذكر الحكيم من نزول آية التبليغ إلىٰ مقدّمات ومقارنات أخرىٰ لا يلتئم شيء منها مع هذه الأكذوبة ، ومثلها الآية الكريمة الناصّة بكمال الدين ، وتمام النعمة ، ورضا الربّ بذلك الهتاف المبين ، وليست هذه العظمة من قيمة الإصلاح بين رجلين تلاحيا ، لكن ذهب على الرجل أنَّه لم يزد إلّا تأكيداً في المعنىٰ وحجّة على الخصم علىٰ تقدير الصحّة.
فهب أنَّ السبب لذلك البيان الواضح هو ما ذكر ، لكنّا نقول : إنَّ ما أنكره أُسامة علىٰ أمير المؤمنين عليه السلام من معنى المولىٰ ، وأثبته لرسول الله خاصّة دون أيّ أحد ، لا بدّ أن يكون شيئاً فيه تفضيل لا معنىً ينوء به كلُّ أحد حتىٰ أُسامة نفسه ، ولا تفاضل بين المسلمين من ناحيته في الجملة ، وذلك المعنى المستنكر المثبت لا يكون إلّا الأولويّة أو ما يجري مجراها من معاني المولىٰ.
ونقول : إنَّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم لمّا علم أنَّ في أُمّته من لا يلاحي ابن عمّه ويناوئه بالقول ، ويخشىٰ أن يكون له مغبّة وخيمة تؤول إلىٰ مضادّته ، ونصْب العراقيل أمام سيره الإصلاحيّ من بعده ، عقد ذلك المحتشد العظيم فنوّه بموقف وصيّه من الدين ، وزلفته منه ، ومكانته من الجلالة ، وأنَّه ليس لأحد من أفراد الأمّة أن يقابله بشيء من القول أو العمل ، وإنَّما عليهم الطاعة له ، والخضوع لأمره ، والرضوخ لمقامه ، وأنَّه يجري فيهم مجراه من بعده ، فاكتسح بذلك المعاثر عن خطّته ، وألحب السَّنَن إلىٰ طاعته ، وقطع المعاذير عن محادّته بخطبته التي ألقاها ، ونحن لم نألُ جُهداً في إفاضة القول في مفاده.
ويشبه هذا ما أخرجه أحمد بن حنبل في مسنده (20) ( ٥ / ٣٤٧ ) وآخرون عن بُريدة قال : غزوت مع عليٍّ اليمن ، فرأيت منه جَفوةً ، فلمّا قدمتُ علىٰ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذكرت عليّاً فتنقّصتُه ، فرأيت وجه رسول الله يتغيّر ، فقال : « يا بريدة ألستُ أولىٰ بالمؤمنين من أنفسهم ؟ قلت : بلىٰ يا رسول الله.
قال : من كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه ».
فكأنّ راوي هذه القصّة كراوي سابقتها أراد تصغيراً من صورة الأمر ، فصبّها في قالب قضيّة شخصيّة ، ونحن لا يهمّنا ثبوت ذلك بعد ما أثبتنا حديث الغدير بطرقه المُرْبية على التواتر ، فإنّ غاية ما هنالك تكريره صلّى الله عليه وآله وسلّم اللفظ بصورة نوعيّة تارة ، وفي صورة شخصيّة أخرىٰ ، لتفهيم بُريدة أنَّ ما حسبه جَفوة من أمير المؤمنين لا يسوغ له الوقيعة فيه علىٰ ما هو شأن الحكّام المفوّض إليهم أمر الرعيّة ، فإذا جاء الحاكم بحكم فيه الصالح العامّ ، ولم يرُقْ ذلك لفرد من السُّوقة ، ليس له أن يتنقّصه ؛ فإنّ الصالح العامّ لا يدحضه النظر الفرديُّ ، ومرتبة الولاية حاكمة على المبتغيات الشخصيّة ، فأراد صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يُلزم بُريدة حدّه ، فلا يتعدّىٰ طوره بما أثبته لأمير المؤمنين من الولاية العامّة نظير ما ثبت له صلّى الله عليه وآله وسلّم بقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم : « ألست أولىٰ بالمؤمنين من أنفسهم ؟ »
( هَـٰذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ ) (21)
الهوامش
1. راجع رواة الحديث من الصحابة والكلمات حول سند الحديث. ( المؤلف )
2. تذكرة الخواص : ص 32.
3. في قوله : ( أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَىٰ مَا آتَاهُمُ اللَّـهُ مِن فَضْلِهِ ) [ النساء : 54 ]. أخرج ابن المغازلي في المناقب [ ص 267 ح 314 ] ، وابن أبي الحديد في شرحه : 2 / 236 [ 7 / 220 خطبة 108 ] ، والحضرمي الشافعي في الرشفة : ص 27 : أنَّها نزلت في عليّ وما خُصّ به من العلم. ( المؤلف )
4. راجع ص 22 ، 26 ، 27 ، 33 ، 36 ، 47 ، 55. ( المؤلف )
5. فرائد السمطين : 1 / 315 باب 58 ح 250.
6. راجع ص 43 ، 165 ، 231 ، 232 ، 233 ، 235. ( المؤلف )
7. راجع ص 26 ، 27 ، 30 ، 32 ، 33 ، 34 ، 36 ، 47 ، 176. ( المؤلف )
8. صحيح مسلم : 5 / 25 ح 36 كتاب فضائل الصحابة.
9. سنن الترمذي : 5 / 590 ح 3712 ، مسند أحمد : 6 / 489 ح 22503 ، المستدرك على الصحيحين : 3 / 144 ح 4652 ، السنن الكبرىٰ : 5 / 45 ح 8146 كتاب المناقب ، وفي خصائص أمير المؤمنين عليه السلام : ص 109 ح 89 ، مصنّف ابن أبي شيبة : 12 / 79 ح 12170.
10. المستدرك على الصحيحين : 3 / 139 ح 4642.
11. جمع جذم ، وهو الأصل.
12. كذا في لفظ أحمد ، وفي لفظ النسائي : وفي نفسي منه شيء ، وفي لفظ محبّ الدين : وفي نفسي من ريبة شيء. ( المؤلف )
13. الرياض النضرة : 3 / 115.
14. وسيلة المآل : ص 119 باب 4.
15. المناقب : ص 160 ح 191.
16. الصواعق المحرقة : ص 179.
17. الجملة الفعلية خبر لـ ( إنَّ ) في قوله السابق أوّل الفقرة : فإنّ المولويّة ....
18. النهاية في غريب الحديث والأثر : ٥ / ٢٢٨.
19. السيرة الحلبية : ٣ / ٢٧٧.
20. مسند أحمد : ٦ / ٤٧٦ ح ٢٢٤٣٦.
21. آل عمران : ١٣٨.
مقتبس من كتاب : [ الغدير في الكتاب والسنّة والأدب ] / المجلّد : 1 / الصفحة : 651 ـ 667
التعلیقات