إبادة بني قريظة
الشيخ جعفر السبحاني
منذ 4 سنواتإبادة بني قريظة
لقد أجلى النبيّ الأكرم قبيلتي بني قينقاع ، وبني النضير ، وجزاهم بأعمالهم الإجرامية ، وكانت فكرة تأليب العرب على النبي والمسلمين فكرة اختمرت في نفوس رؤساء بني النضير ، وقبلهم بني قينقاع ، نظراء حيي بن أخطب وسلّام بن أبي الحقيق و كنانة بن الربيع بن أبي حقيق ، الذين نزلوا حصن خيبر ، فأرادوا درك ثأرهم من المسلمين بتأليب الأحزاب عليهم ، فقدموا إلى قريش ، ودعوهم إلى حرب رسول الله وقالوا : إنّا سنكون معكم عليه ، حتّى نستأصله ، وقد سألتهم قريش وقالوا : يا معشر يهود : إنّكم أهل الكتاب الأوّل ، وأهل العلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد. أفديننا خير أم دينه ؟ قالوا : بل دينكم خير من دينه ، وأنتم أولى بالحقّ منه (1).
ولم يكتف زعماء بني النضير بتأليب قريش على النبي الأكرم بل خرجوا إلى غطفان وكلّ من له عند المسلمين ثأر ، حرّضوهم على الأخذ بثأرهم ، ويذكرون لهم متابعة قريش إيّاهم على حرب محمد ، فاتّفقوا على الخروج والحضور في المدينة في يوم واحد ، وأحاطوا المدينة رجالاً وركباناً وقد بلغ عددهم عشرة آلاف ، وكان قد بلغ النبي مؤامرتهم فضرب الخندق على المدينة حتّى يكون كالحصن لها حائلاً بينه وبينهم ، وقد طال الحصار على المدينة قرابة شهر ، ووقع هناك اشتباك بينهم وبين العدوّ على وجه سنذكره في مغازي النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ).
وقد أدركت الأحزاب المؤلّفة من قريش وغطفان ويهود خيبر وعلى رأسهم حيي بن أخطب أنّ الانتصار على محمد أمر غير ميسور ، مادام الخندق يحول بينه وبين العدوّ ، وقد وضع المسلمون الأحجار إلى جانب الخندق ، يرمون بها من أراد العبور ، فعند ذلك قام حيي بن أخطب بمؤامرة اُخرى وهو فتح الطريق لدخول يثرب من ناحية اُخرى ، وهو إقناع بني قريظة ( الطائفة الوحيدة المتبقّاة من اليهود في المدينة ) على رفض عهدها مع محمد ، وانضمامها إلى الأحزاب ، فاجتمع مع أكابر الأحزاب ، وقال : إنّه مقنع بني قريظة بنقض عهد موادعتهم محمداً والمسلمين ، حتّى يقطعوا بذلك المدد والمير عنه ، ويفتحوا الطريق لاجتياز الأحزاب من حصونهم إلى داخل المدينة ، ولمّا سمعت ذلك قريش وقبائل غطفان فرحوا بذلك وزعموا أنّ هذه الخطوة سوف تكون ناجحة ، وأنّها مفتاح الإنتصار ، فخرج حيي بن أخطب حتّى أتى كعب بن أسد القرظي صاحب عقد بني قريظة وعهدهم ، ولمّا سمع كعب بحيي بن أخطب ، أغلق دونه باب حصنه ، فاستأذن عليه ، فأبى أن يفتح له فناداه حينئذٍ : ويحك يا كعب ، إفتح لي. قال : ويحك يا حيي إنّك رجل مشؤوم ، وإنّي قد عاهدت محمداً ولست بناقض ما بيني وبينه ، ولم أر منه إلّا وفاءً وصدقاً. قال : ويحك إفتح لي اُكلّمك. قال : ما أنا بفاعل. قال : والله إن أغلقت دوني إلّا خوفاً عن جشيشتك أن آكل معك منها ، فعندئذٍ غضب كعب ففتح له فقال : ويحك يا كعب جئتك بعزّ الدهر وبحر طامّ (2) ، جئتك بقريش على قادتها وسادتها ، قد عاهدوني وعاقدوني على أن لايبرحوا حتّى يستأصلوا محمداً ومن معه. قال : فقال له كعب : جئتني والله بذلّ الدهر ، ويحك يا حيي ! فدعني وما أنا عليه ، فإنّي لم أر من محمّد إلّا صدقاً ووفاءً. فلم يزل حيي بكعب يفتله في الذروة والغارب حتّى سمع له ، على أن أعطاه عهداً ( من الله ) وميثاقاً : لئن رجعت قريش وغطفان ، ولم يصيبوا محمّداً أن يدخل معه في حصنه حتّى يصيبه ما أصابه ، فنقض كعب بن أسد عهده ، وبرئ ممّا كان بينه وبين رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ).
وقد بلغ المسلمين نبأ انضمام قريظة إلى الأحزاب ، فاهتزّوا وخافوا مغبّته فبعث رسول الله سعد بن معاذ ، وهو سيد الأوس وسعد بن عبادة وهو سيد الخزرج ومعهما لفيف من المسلمين ، فقال : إنطلقوا حتّى تنظروا أحقٌّ ما بلغنا عن هؤلاء القوم أم لا ؟ فإن كان حقّاً فألحنوا لي لحناً (3) أعرفه ، ولاتفتّوا في أعضاد الناس ، وإن كانوا غير ناقضين فأجهروا به للناس ، قال : فخرجوا حتى أتوهم ، فوجدوهم على أخبث ما بلغهم عنهم فيما نالوا من رسول الله وقالوا : مَن رسول الله ؟ لاعهد بيننا وبين محمد ولاعقد ، فشاتمهم سعد بن معاذ وشاتموه ، وكان رجلاً فيه حدّه ، فقال له سعد بن عبادة : دع عنك مشاتمتهم فما بيننا وبينهم أعظم من المشاتمة ، فأقبلا إلى رسول الله فسلّموا عليه ، وقالوا : « عضل والقارة » أي غدروا كغدر عضل والقارة ، وأصحاب الرجيع ، فقال رسول الله : الله أكبر ! أبشروا يا معشر المسلمين. وعظم عند ذلك البلاء واشتدّ الخوف وذلك لأنّهم لو قطعوا المير والمدد وفتحوا الطريق للأحزاب ، لدخلوا المدينة واستأصلوا أهلها ، فما مضى وقت حتّى بدت بوادر النقض فقطعوا المدد والميرة عن المسلمين ، و خرجوا يطيفون في أزقّة المدينة ، يخوّفون النساء والصبيان. قالت صفيّة ـ وكانت في حصن « حسّان » ـ : مرّ بنا رجل من اليهود فجعل يطيف بالحصن ، فقلت : يا حسّان ! إنّ هذا اليهودي كما ترى يطيف بالحصن وإنّي والله ما آمنه أن يدلّ على عورتنا مَنْ وراءنا من يهود ، وقد شغل عنّا رسول الله وأصحابهم ، فانزل إليه فاقتله. قال : يغفر الله لك يا ابنة عبد المطلب ! والله لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا ! قالت : فلمّا قال لي ذلك ، ولم أر عنده شيئاً احتجزت (4) ثمّ أخذت عموداً ثمّ نزلت من الحصن إليه ، فضربته بالعمود ، حتّى قتلته. قالت : فلمّا فرغت منه ، رجعت إلى الحصن (5).
ثمّ إنّه سبحانه سلّط على الأحزاب البرد والريح الشديدة ، وفرّق كلمتهم على وجه سيوافيك تفصيله ، وتفرّقوا وجلوا عن جوانب المدينة ورجعوا إلى أوطانهم من دون أن ينالوا من المسلمين شيئاً. ولم يكن عود الأحزاب بعد فصل الشتاء أمراً غير بعيد في نظر النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وبنو قريظة هم الأعداء الغدرة ، ومن الممكن أن يتكرّر التاريخ ويقع المسلمون في مغبّته ، وبينما كان النبيّ يفكر في ذلك وقد صلّى الظهر ، جاء جبرئيل وقال : إنّ الله عزّ و جلّ يأمرك بالمسير إلى بني قريظة ، فأمر رسول الله مؤذناً فأذّن في الناس من كان سامعاً مطيعاً فلا يصلّين إلّا ببني قريظة (6) ولبس رسول الله السلاح والمغفر والدرع والبيضة وأخذ قناتاً بيده ، وتقلّد الترس ، وركب فرسه ، وحفّ به أصحابه ، وتلبّسوا السلاح وركبوا الخيل ، وكانت ستّة وثلاثين فرساً ، وكان رسول الله قد قاد فرسين وركب واحداً ، وانتهى رسول الله إلى بني قريظة ، فنزل على أسفل حرّة بني قريظة ، وكان عليّ ( عليه السلام ) قد سبق في نفر من المهاجرين والأنصار ، فيهم أبو قتادة ، وطلع رسول الله ، فلّما رأى رسول الله عليّاً أمره بأخذ اللواء وكره أن يسمع رسول الله أذاهم وشتمهم ، فتقدّمه أسيد بن حضير ، قال : فقال : يا أعداء الله لانبرح حصنكم حتّى تموتوا جوعاً. قال : يا بن الحضير نحن مواليكم دون الخزرج. قال : لا عهد بيني وبينكم ودنا رسول الله ، فقال ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : يا إخوة القردة والخنازير وعبدة الطواغيت أتشتموني ؟ قالوا : فجعلوا يحلفون بالتوراة التي اُنزلت على موسى ما فعلنا وقالوا : نكلّمك ، فقال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : نعم. فأنزلوا نباش بن قيس ، وقالوا : يا محمّد ننزل على ما نزلت عليه بنو النضير. لك الأموال والحلقة وتحقن دمائنا ونخرج من بلادكم بالنساء والذراري ولنا ما حملت الإبل إلّا الحلقة فأبى رسول الله وقال : لا إلّا أن تنزلوا على حكمي. فرجع نباش إلى أصحابه بمقالة رسول الله ولمّا وقف القوم على عزم رسول الله بنزولهم على حكمه ، عقدوا مجلساً للمشاورة إشترك فيها أكابر القوم ، فاقترح كعب بن أسد عليهم عدّة اقتراحات ، يعرب بعضها عن ضآلة تفكيره ويدلّ البعض الآخر على قسوته ، وإليك تلك الاقتراحات :
1 ـ الإيمان بما جاء به محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم
يا معشر بني قريظة إنّكم لتعلمون أنّ محمداً نبي الله وما منعنا من الدخول معه إلّا الحسد بالعرب ، ولقد كنت كارهاً لنقض العقد والعهد ، ولكنّ البلاء وشؤم هذا الجالس (7) علينا وعلى قومه ... فتعالوا نصدّقه ونؤمن به ، فنأمن على دمائنا وأبنائنا ونسائنا وأموالنا فنكون بمنزلة من معه ، قالوا : لانكون تبعاً لغيرنا ، نحن أهل الكتاب والنبوّة. فجعل كعب يردّ عليهم الكلام بالنصيحة لهم. قالوا : لانفارق التوراة ولاندع ما كنّا عليه من أمر موسى.
2 ـ قتل النساء والأولاد
إذا كنتم كارهين للإيمان بمحمّد ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فهلمّوا نقتل أبناءنا ونساءنا ثمّ نخرج وفي أيدينا السيوف إلى محمّد وأصحابه ، فإن قتلنا قتلنا ، وماوراءنا أمر نهتم به ، وإن ظهرنا لنتّخذنّ النساء والأبناء.
فصاح حيّي بن أخطب وقال : ما ذنب هؤلاء المساكين ؟ وقالت رؤساء اليهود : ما في العيش خير بعد هؤلاء.
3 ـ الخروج على أصحاب محمّد ليلة السبت
إنّ محمّداً وأصحابه آمنين لنا فيها أن نقاتله ، فنخرج فلعلّنا أن نصيب منه غرّة قالوا : نفسد سبتنا وقد عرفت ما أصابنا فيه. قال حيّي : قد دعوتك إلى هذا وقريش وغطفان حضور فأبيت أن تكسر السبت فإن أطاعتني اليهود فعلوا. فصاحت اليهود : لانكسر السبت. قال نبّاش بن قيس : وكيف نصيب منهم غرّة وأنت ترى أنّ أمرهم كل يوم يشتدّ كانوا أوّل ما يحاصروننا إنّما يقاتلون بالنّهار ويرجعون بالليل ، فهم الآن يبيتون الليل ويظلّون النهار ، فأي غرّة نصيب منهم ؟ هي ملحمة و بلاء كتب علينا ، فاختلفوا وسقط في أيديهم وندموا على ما صنعوا ورقّوا على النساء والصبيان وكنّ يبكين.
وعندئذٍ قال ثعلبة وأسيد ابنا سعيد وأسد بن عبيد عمّهم : يا معشر بني قريظة !
والله إنّكم لتعلمون أنّه رسول الله ، وأنّ صفته عندنا ، حدّثنا بها علماؤنا وعلماء بني النضير ، . هذا أوّلهم يعني حيّي بن أخطب مع جبير بن الهيّبان. أصدق الناس عندنا وهو خبّرنا بصفته عند موته. قالوا : لانفارق التوراة ، فلمّا رآى هؤلاء النفر إباءهم ، نزلوا في الليلة التي في صبحها نزلت قريظة ، فأمّنوا على أنفسهم وأهلهم وأموالهم.
اقتراح رابع
واقترح عمرو بن سعد وقال : يا معشر اليهود إنّكم حالفتم محمداً على ما حالفتموه عليه ، أن لاتنصروا عليه أحداً من عدوّه وأن تنصروه ممّن دهمه فنقضتم ذلك العهد الذي كان بينكم وبينه فلم أدخل فيه ولم أشرككم في عذركم ، فإن أبيتم أن تدخلوا معه ، فاثبتوا على اليهوديّة وأعطوا الجزية ، فو الله ما أدري يقبلها أم لا ؟ قالوا : نحن لانقرّ للعرب بخرج في رقابنا يأخذوننا به ، القتل خير من ذلك.
ولمّا طال الحصار وأذعنت بنو قريظة أنّ النبيّ الأكرم لايتركهم إلّا أن ينزلوا على حكمه ، بعثوا إلى رسول الله حتّى يبعث إليهم أبا لبابة بن عبد المنذر ، وكان حليف الأوس ليستشيروه في أمرهم ، فأرسله رسول الله فلّما رأوه قام إليه الرجال ، وبكت النساء والصبيان ، فرقّ لهم ، وقالوا : يا أبا لبابة أترى أن ننزل على حكم محمّد ؟ فأشار بيده إلى حلقه ، يعني أنّه الذبح.
ثمّ ندم أبو لبابة من إذاعة سرّ رسول الله ، قال : فو الله ما زالت قدماي من مكانهما حتّى عرفت أنّي قد خنت الله ورسوله ، ثمّ انطلق أبو لبابة على وجهه ولم يأت رسول الله حتّى ارتبط في المسجد إلى عمود من عمده وقال : لا أبرح مكاني هذا حتّى يتوب الله عليّ ممّا صنعت ، وعاهد الله : أن لاأطأ بني قريظة أبداً ولااُرى في بلد خنت الله ورسوله فيه أبداً ، وفي ذلك نزل قوله سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّـهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ) ( الأنفال / 27 ).
فمكث سبعة أيّام لايذوق فيها طعاماً ولاشراباً حتّى خرّ مغشياً عليه ، ثمّ تاب الله عليه ، فقيل : له يا أبا لبابة قد تيب عليك ، فقال : لا والله لا أحلّ نفسي حتّى يكون رسول الله هو الذي يحلّني ، فجاءه فحلّه بيده ، ثمّ قال أبو لبابة : إنّ من تمام توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب وأن أنخلع من مالي ، فقال النبيّ : يجزيك السدس أن تصدّق به.
وقد نزل أيضاً في توبته قوله سبحانه : ( وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّـهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّـهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) ( التوبة / 102 ) (8).
فلمّا أصبحوا ، نزلوا على حكم رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فتواثبت الأوس ، فقالوا : يا رسول الله وقد فعلت في موالي إخواننا بالأمس ما قد علمت ( يريدون بني قينقاع ـ وكانوا حلفاء الخزرج ـ فسأله إيّاهم عبد الله بن اُبي ، فوهبهم له ) قال رسول الله : ألا ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيهم رجل منكم ؟ قالوا : نعم. قال رسول الله : فذلك إلى سعد بن معاذ ، فلمّا حكّمه رسول الله أتاه قومه إلى رسول الله ، فلمّا إنتهى سعد إلى رسول الله قال ـ يخاطب الأوسيين ـ : قوموا إلى سيّدكم ، قالت الأوس ـ الذين بقوا عند رسول الله ـ : يا أبا عمرو ! إنّ رسول الله قد ولّاك الحكم ، فأحسن فيهم واذكر بلاءهم عندك ، فقال سعد بن معاذ : أترضون بحكمي لبني قريظة ؟ قالوا : نعم ، قد رضينا بحكمك وأنت غائب عنّا ، قال سعد : عليكم عهد الله وميثاقه أنّ أحكم فيكم ما حكمت. قالوا : نعم ، قال سعد : فإنّي أحكم فيهم أن يقتل من جرت عليه الموسى ، وتسبى النساء والذريّة وتقسّم الأموال ، وفي نقل آخر : أحكم فيهم أن تقتل الرجال وتقسّم الأموال وتسبى الذراري والنساء ، ورضي رسول الله بحكم سعد (9).
وقال ابن هشام : إنّ بني قريظة طلبوا من النبيّ أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ ، قال : إنّ علي بن أبي طالب صاح وهم محاصرو بني قريظة : يا كتيبة الإيمان ! وتقدّم هو والزبير بن العوّام ، فقال : والله لأذوقنّ ما ذاق حمزة أو لأفتحنّ حصنهم ، فقالوا : يا محمّد ننزل على حكم سعد بن معاذ ، و اُجري الحكم حسبما رأى سعد.
إنّ المستشرقين قد استغلّوا هذه الواقعة ، فحاولوا أن يتّهموا قضاء سعد بن معاذ بالقسوة والخروج عن العدل ، ولكنّهم نظروا إلى الواقعة بعين واحدة ، فنظروا إلى ما حاق ببني قريظة من الذلّ والخزي ، وقد أحاطت بهم نساؤهم وأطفالهم بالبكاء عليهم ، فزعموا أنّ مقتضى العدل والرحمة هو الإغماض عنهم ، وعن جريمتهم ، ولأجل دعم أنّ العدل والحق كانا يقضيان بما قضى به سعد بن معاذ ، نشير إلى دلالته :
لاشك أنّ عواطف سعد وأحاسيسه ومشاعره ومناظر الصبيان ونساء بني قريظة ، وأوضاع رجالهم وملاحظة الرأي العام ( الأوسيين ) ، كان يثير الإشفاق لهم والإغماض عن جريمتهم. كلّ هذه الإعتبارات كانت تقتضي أن تجعل القاضي فريسة العاطفة ، ويبرّئ بني قريظة الجناة الخونة وأن يخفّف من عقوبتهم أكبر قدر ممكن ، لكنّ منطق العقل وحرّية القاضي واستقلاله ، وقبل كلّ شيء مراعاة المصالح العامّة ، قاده إلى الحكم بقتل رجالهم الخونة وسبي نسائهم وأطفالهم ، ولقد استند الحاكم في حكمه إلى الاُمور التالية :
1 ـ إنّ يهود بني قريظة كانوا قد تعهّدوا للنّبي ـ عند نزوله بالمدينة ـ بأنّهم لو تآمروا ضدّ الإسلام والمسلمين وناصروا أعداء التوحيد وألّبوهم على المسلمين ، كان للنبيّ أن يقوم بقتلهم وسبي نسائهم ، وإليك نقل هذه الإتفاقيّة : ... ألّا يعينوا على رسول الله ، ولا على أحد من أصحابه بلسان ولا يد ولا بسلاح ولا بكراع في السرّ والعلانية لا بليل ولا بنهار. الله عليهم بذلك شهيد ، فإن فعلوا فرسول الله في حلّ من سفك دماءهم ، وسبي ذراريهم ونسائهم ، وأخذ أموالهم (10).
إنّ النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) كتب لكل قبيلة منهم كتاباً على حدة وكان الذي تولّى أمر بني النضير : حيي بن أخطب وهو الذي رغّب رئيس بني قريظة على نقض العهد ورفضه ، كما أنّ الذي تولّى أمر بني قريظة هو كعب بن أسد ، الذي نقض عهد النبي وسبّه بمحضر من أصحابه من سعدين وغيرهما.
فلو حكم سعد بن معاذ على قتل رجالهم وسبي نسائهم فإنّما استند إلى هذه الاتفاقية التي تولّى أمرها رؤساؤهم وأكابرهم ، فلو كان سعد حاكماً بغير ما ورد فيها ، فقد بخس حق المسلمين وظلمهم ، فالعدل في القضاء كان يقتضي عدم الخضوع لحكم العاطفة.
2 ـ ارتكبت بنو قريظة جريمة عظيمة في ظروف حرجة عندما لم يبق بين المسلمين ، وإبادتهم واستئصالهم واستيلاء الأحزاب عليهم ونسفهم من رأس إلّا خطوة أو خطوتان لولا أنّ الله بدّد شمل الكفّار ، وسخّر عليهم الرياح والبرد ، وفرّق كلمتهم ، ونشر فيهم سوء الظن بحلفائهم.
هذا ما قد كان ، ولكنّ التاريخ يمكن أن يعيد نفسه ويرجع الأحزاب في العام القابل أو بعد برهة من الزمن مستمدّين في استيلائهم من هذا الطابور الخامس المتواجد بين المسلمين ، و لم يكن ذلك الاحتمال أمراً بعيداً في نظر القاضي بل أمراً قريباً جدّاً ، فلو كان حكم عليهم بالعفو لخان بمصالح المسلمين العامّة وجعلهم في دائرة الخطر.
إنّ بني قريظة قد جسّدوا العداوة بين اليهود والمسلمين وأثبتوا أنّ بني إسرائيل لا تطيب نفوسهم إلّا باستئصال المسلمين ، فلو عادت الأحزاب إلى المدينة من جديد لعادوا إلى مشاركة العرب وقريش في حربهم ضدّ النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، أفهل يمكن للقاضي العادل أن ينظر إلى هذا الاحتمال بعين التساهل ؟!
3 ـ من المحتمل جداً أنّ سعد ابن معاذ رئيس قبيلة الأوس الموالين ليهود بني قريظة كان واقفاً على قانون العقوبات لدى اليهود. فإنّ التوراة تنصّ على ما يلي :
« حين تقرب من مدينة لكي تحاربها إستدعها إلى الصلح. فإن أجابتك إلى الصلح وفتحت لك فكل الشعب الموجود فيها ، يكون لك للتسخير ويستعبد لك ، وإن لم تسالمك بل عملت معك حرباً فحاصرها ، وإذا دفعها الربّ إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحدّ السيف ، وأمّا النساء والأطفال والبهائم وكلّ ما في المدينة كلّ غنيمتها فتغتنمها لنفسك » (11).
4 ـ والذي نتصوّره أنّ أكبر أسباب هذا الحكم هو أنّ سعد بن معاذ رأى باُمّ عينيه أنّ رسول الله عفا عن بني قينقاع ونزل على طلب الخزرجيين منه العفو منهم ، واكتفى من عقابهم بإخراجهم من المدينة ، ولكنّ تلك الزمرة ما غادرت أراضي الإسلام حتّى بدأت بالمشاغبة والمؤامرة الدنيئة ضد الإسلام ، فذهب كعب بن الأشرف إلى مكّة وأخذ يتباكى دجلاً وخداعاً على قتلى بدر ولم يفتأ عن تأليب قريش ضد الرسول ، وكانت نتيجة تلك المؤامرة وقعة اُحد التي استشهد فيها أزيد من سبعين صحابيّاً من خيرة أبناء الإسلام.
هكذا عفا الرسول عن بني النضير المتآمرين واكتفى من عقابهم بمجرّد الإجلاء ، ولكنّهم قابلوا هذا الموقف الإنساني بتأليب القبائل العربية ضد الإسلام ، حتّى أنّهم عقدوا إتّحاداً عسكريّاً فيما بينهم ، وكانت من أخطر المعارك على الإسلام لولا منّه سبحانه وحنكة رسوله وتضحيات أصحابه.
وقد أعطت هاتان الواقعتان للقاضي دروساً كافية ، فوقف على أنّ الإفراج عن بني قريظة ـ هذه الشرذمة الباغية والطغمة الظالمة ـ سوف يثير على المسلمين ما كانوا يجتنبون عنه ، فسوف يقومون باتّحاد عسكري أوسع ويؤلّبون العرب على الإسلام.
والّذي يكشف عن إخلاص ونواياه الحسنة أنّ قومه الأوسيين كانوا مصرّين على العفو عن بني قريظة والحنان لهم ، وكان الرئيس أحوج ما يكون إلى تأييد قومه ، وكانت مخالفتهم توجّه إليه أكبر ضربة ، ولكنّ القاضي الحر أدرك أنّ جميع هذه الشفاعات تخالف مصالح الآلاف من المسلمين ، فانطلق من منطق العقل ورفض رضا قومه فأخذ برضا الله.
الهوامش
1. قد مرّ نقل هذا الخطأ الفاحش في مناظرات النبيّ مع اليهود ، فلاحظ.
2. يشير إلى الأحزاب المؤلّفة.
3. أي تكلّموا بالإشارة والتعريض ، ولاتوهنوا عزائم المسلمين.
4. شددت معجري.
5. السيرة النبويّة لابن هشام ، ج 2 ص 228.
6. قال الواقدي : صار إليهم النبيّ لسبع بقين من ذي القعدة ، فحاصرهم خمسة عشر يوماً ، ثمّ انصرف يوم الخميس لسبع خلون من ذي الحجة سنة خمس.
7. يعني حيّي بن أخطب وقد وفى بعهده ، بعد تفرّق الأحزاب ، فدخل حصن بني قريظة ليشترك معهم في المصير.
8. السيرة النويّة ، لابن هشام ، ج 2 ص 237 ، والمغازي للواقدي ج 2 ص 505 ومجمع البيان ج 4 ص 824.
9. المغازي للواقدي ج 2 ص 512.
10. بحار الأنوار ج 19 ص 111 ، ونقله الصدوق في كمال الدين ، وأخرجه علي بن إبراهيم القمي في تفسيره.
11. التوراة ، سفر التثنية الفصل العشرون / 10 ـ 14.
مقتبس من كتاب : [ مفاهيم القرآن ] / المجلّد : 7 / الصفحة : 300 ـ 309
التعلیقات