الشيعة الإمامية والقراءات القرآنية
صادق العلائي
منذ 4 سنواتالشيعة الإمامية ونسخ التلاوة
الوهابية مجددا !
مازلنا نتكبد معاناة تعليم هذه الجماعة ألف باء التفكير المنطقي ، فها قد بزغ الجاهل ( عثمان. خ ) برأسه ليدعي أن الشيعة كأهل السنة يقولون بنسخ التلاوة وكتبهم مشحونة بذكره إما في كتبهم الأُصولية وإما في تفاسيرهم حيث يقسمون النسخ إلی ثلاثة أقسام ، نسخ الحكم دون التلاوة ونسخ الحكم والتلاوة ونسخ التلاوة دونه ، وقام بسرد المصادر !
والنقطة الجوهرية التي تحكم بجهله وجهل من التفوا حوله أن شيعة أهل البيت عليهم السلام في كتبهم الأُصولية ذكروا نسخ التلاوة ضمن التقسيم الافتراضي لموارد النسخ ، أي ذكروا أنواع النسخ المتصورة التي من الممكن أن تقع في القرآن ، لا أنها قد وقعت حقا ! ، وقد درسنا في أوليات علم المنطق أن الجواز أعم من الوقوع ، فمن الجائز عقلا أن يطمس الله عقول الوهابية ولكنه لم يقع بعد أو لعله وقع فعلا (1).
وأما ذكر نسخ التلاوة في بعض تفاسير الشيعة ، فلأن الآية الكريمة ( مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ) (2) تدل علی جواز النسخ وسبب النزول واضح في أن النسخ متعلق بالأحكام والشرائع ، ولكن البعض منهم لم يقصر الآية علی الأحكام والشرائع بل استفاد من إطلاق الآية جواز وقوع النسخ في التلاوة أيضا ، وحينما يقع يأت الله بمثلها أو بخيرٍ منها ، وقوله تعالی ( أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّـهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) يدل علی أن المقام مقام التذكير بقدرته تعالی علی كل شيء.
وكذا مفاد الآية الكريمة ( وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللَّـهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ) (3) لا يتعدی ما سبق ، وكل مسلم ـ لا الشيعة وحدهم ـ يقول إن الله تعالی قادر علی كل شيء حتی أنه يقدر علی رفع القرآن بتمامه كما قال عز وجل ( وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا ) (4) ولكنه لم يقع ، ولكن الوهابي ( عثمان. خ ) الذي اعتدنا علی جهله خلط بين الوقوع والإمكان ، فساوی بين علماء الشيعة الذين يتكلمون عن إمكانه مع أهل السنة الذين يقولون بوقوعه !! فصار المسكين يلطم ذات اليمين ويركل ذات الشمال !
ولنذكر كلمات بعض علماء الشيعة الذين جوزوا وقوع نسخ التلاوة والتي ذكر بعضها الوهابي مستفيدا منها قولهم بوقوع النسخ ، والعجيب أن بعضها نص صريح في الجواز دون الوقوع !!
كلمات علماء الشيعة في جواز وقوع نسخ التلاوة :
( السيد علم الهدی المرتضی )
قال السيد المرتضی رضوان الله تعالی عليه في الذريعة في أُصول الشيعة : اعلم أن الحكم والتلاوة عبادتان يتبعان المصلحة ، فجائز دخول النسخ فيهما معا ، وفي كل واحدة دون الأخری ، بحسب ما تقتضيه المصلحة. ومثال نسخ الحكم دون التلاوة : نسخ الاعتداد بالحول ، وتقديم الصدقة أمام المناجاة. ومثال نسخ التلاوة دون الحكم غير مقطوع به ، لأنه من جهة خبر الآحاد ، وهو ما روي أن من جملة القرآن الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة فنسخت تلاوة ذلك. ومثال نسخ الحكم والتلاوة معا موجود أيضا في أخبار الآحاد وهو ما روي عن عائشة أنها قالت : كان فيما أنزل الله سبحانه ( عشر رضعات يحرمن ) فنسخ بخمس ، وأن ذلك كان يتلی. (5)
وكلام السيد المرتضی رضوان الله تعالی عليه واضح في أنه لا يقر بوقوع النسخ لأنه آحاد ، ولكن لننظر لما فعله المشعوذ ( عثمان. خ ) الذي بتر الكلام ولم ينقل إلا عنوان الفصل ، بقوله :
المرتضی الذي لم يقل بالتحريف ، الوحيد الذي لم يثبت عنه (6) ، قال : فصلٌ في جواز نسخ الحكم دون التلاوة ونسخ التلاوة دونه ، وهذا في الذريعة إلی أُصول الشيعة صفحة ثماني وعشرين وأربعمائة. (7)
فلم ينقل إلا عنوان الفصل ولم ينقل ما كتبه المرتضی داخله حتی لا يضطر لنقل قول السيد رضوان الله تعالی عليه : ومثال نسخ التلاوة دون الحكم غير مقطوع به ، لأنه من جهة خبر الآحاد ، فالوهابي نقل عنوان الفصل كدليل علی الوقوع !! فدلس وخادع بعدم نقل حقيقة رأي السيد المرتضی وتعامی عما كتبه تحت العنوان ، وحسب الجاهل أن الجواز هو نفس الوقوع !!
( الشيخ الطوسي )
ذكر الشيخ رضوان الله تعالی عليه في التبيان : فالنسخ في الشرع علی ثلاثة أقسام : نسخ الحكم دون اللفظ ، ونسخ اللفظ دون الحكم ، ونسخهما معا. فالأول ... والثاني كآية الرجم قيل إنها كانت منزلة فرفع لفظها وبقي حكمها. والثالث هو مجوز وإن لم يقطع بأنه كان. وقد روي عن أبي بكر أنه كان يقرأ لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر.
المعنی : واختلفوا في كيفية النسخ علی أربعة أوجه : قال قوم : يجوز نسخ الحكم والتلاوة من غير إفراد واحد منهما عن الآخر. وقال آخرون : يجوز نسخ الحكم دون التلاوة. وقال آخرون : يجوز نسخ القرآن من اللوح المحفوظ ، كما ينسخ الكتاب من كتاب قبله. وقالت فرقة رابعة : يجوز نسخ التلاوة وحدها والحكم وحده ، ونسخهما معا وهو الصحيح. وقد دللنا علی ذلك ، وأفسدنا سائر الأقسام في العدة في أُصول الفقه. (8)
وقال في موضع آخر : وقد أنكر قوم جواز نسخ القرآن ، وفيما ذكرناه دليل علی بطلان قولهم ، وقد جاءت أخبار متظافرة بأنه كانت أشياء في القرآن نسخت تلاوتها ، فمنها ما روي عن أبي موسی : إنهم كانوا يقرأون لو أن لابن آدم واديين من مال لابتغی إليهما ثالثاً ، لا يملا جوف ابن آدم إلا التراب. ويتوب الله علی من تاب. ثم رفع. وروي عن قتادة قال : حدثنا انس بن مالك أن السبعين من الأنصار الذين قتلوا ببئر معونة : قرأنا فيهم كتابا بلغوا عنا قومنا أنا لقينا ربنا ، فرضي عنا وأرضانا ، ثم إن ذلك رفع. ومنها الشيخ والشيخة وهي مشهورة. ومنها ما روي عن أبي بكر أنه قال : كنا نقرأ : لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر. ومنها ما حُكي : إن سورة الأحزاب كانت تعادل سورة البقرة في الطول وغير ذلك من الأخبار المشهورة بين أهل النقل. (9)
أقول : إلی هنا لا يوجد دليل علی أن الشيخ الطوسي رضوان الله تعالی عليه يقول بوقوع نسخ التلاوة ، نعم كلامه واضح في جوازه عقلا كغيره من علمائنا عليه وعليهم رضوان الله ، ووصفه لتلك الروايات بأنها متظافرة أو مشهورة بين أهل النقل لا يزيد عن كثرتها في كتب المحدّثين وهذا غير الاعتقاد بمضامينها من وقوع نسخ ورفع تلك الجمل ، فإن الروايات التي يستفاد منها تحريف القرآن متظافرة في كتب المحدّثين وتفوق هذه عددا وكثرة ومع ذلك ضربها شيخ الطائفة عرض الجدار.
وقد قلنا سابقا إن إيراد المحدث للرواية في مصنفه أعم من اعتقاده بمضمونها ، وعليه فكيف نثبت اعتقاده رضوان الله تعالی عليه بمضامين تلك الروايات ؟! ناهيك عن أن أغلبها لم يرد في مصنفه بل وردت في كتب أهل السنة وانتهت أسانيدها إلی من لا يثق ولا يعبأ به شيخ الطائفة نفسُه كابن الخطاب وعائشة وقتادة وأنس وأضرابهم ! ، وقد نقلها الشيخ بصيغة ( رُوي ) و ( حُكي ) و ( قيل ) الدالة علی التمريض وعدم الوثوق ، والتأمل بها يُشعر أن هذه الموارد كانت في مقام ذكر ما ورد وما حُكي علی نحو التقريب والتفهيم وإيصال الفكرة لا غير ، وعلی أقصی تقدير فقد ذكرها كشاهد علی بطلان امتناع النسخ عقلا بقرينة قوله قبل ذكرها : وفيما ذكرناه دليل علی بطلان قولهم ، وعلی أي حال فقد أحالنا رضوان الله تعالی عليه إلی كتابه عدة الأُصول الذي هو محل الكلام عن النسخ وأحكامه ، وهذا نص عبارته رضوان الله تعالی عليه فيه :
فصل في ذكر جواز نسخ الحكم دون التلاوة ونسخ التلاوة دون الحكم. جميع ما ذكرناه جائز دخول النسخ فيه لأن التلاوة إذا كانت عبادة والحكم عبادة أخری جاز وقوع النسخ في أحدهما مع بقاء الآخر كما يصح ذلك في كل عبادتين وإذا ثبت ذلك جاز نسخ التلاوة دون الحكم والحكم دون التلاوة.
وبعد أن استشهد تلك الروايات والموارد السابقة نفسها قال : وإنما ذكرنا هذه المواضع علی جهة المثال ، ولو لم يقع شيء منها لما أخل بجواز ما ذكرناه وصحته لأن الذي أجاز ذلك ما قدمناه من الدليل وذلك كاف في هذا الباب (10).
فقوله واضح في أن ذكره لتلك الموارد ليس للإحتجاج بوقوع نسخها علی جوازه عقلا من باب أن الوقوع أدل دليل علی الجواز بل جاء بها علی نحو المثال لا غير ، وكل مرامه هو إثبات الجواز العقلي لوقوع هذا النوع من النسخ ، بدليل أنه قال إن الدليل العقلي كاف لإثبات مطلوبه وبديهي أن الدليل العقلي هنا إنما يثبت الجواز لا الوقوع.
فمن يدعي أن شيخ الطائفة يقول بوقوع نسخ التلاوة عليه أن يأتينا بدليل من كتبه رضوان الله تعالی عليه ، ونلحظ أن شيخ الطائفة اعتمد علی روايات أهل السنة في الاستشهاد علی جواز وقوع نسخ التلاوة ، وهذا يشير إلی النقطة التي ذكرناها سابقا وهي أن علماءنا لاسيما القدماء منهم عليهم الرحمة صاغوا بعض المباحث بالطريقة التي صاغها علماء أهل السنة ، لذلك ذكرت هذه الأصناف الثلاثة للنسخ في مصنفاتهم وإن كان المتحقق علی أرض الواقع هو واحد منها وهو نسخ الحكم فقط وهذا ما عليه كل علماء الشيعة اليوم (11).
( ابن زهرة الحلبي )
وقال ابن زهرة الحلبي رضوان الله تعالی عليه في الغنية : ويجوز نسخ الحكم دون التلاوة كنسخ الاعتداد بالحول وتقدم الصدقة وتقديم الصدقة أمام المناجاة ويجوز نسخ الحكم والتلاوة معا ومثال ذلك أيضا وارد من طريق الآحاد (12).
( المحقق الحلي )
قال المحقق الحلي رضوان الله تعالی عليه في معارج الأُصول : المسألة السادسة : نسخ الحكم دون التلاوة جائز ، وواقع ، كنسخ الاعتداد بالحول وكنسخ الإمساك في البيوت. كذلك نسخ التلاوة مع بقاء الحكم جائز ، وقيل : واقع ، كما يقال : إنه كان في القرآن زيادة نسخت ، وهذا وإن لم يكن معلوما فإنه يجوز (13).
وكلامه أعلی الله مقامه دليل واضح علی أن الكلام في نسخ التلاوة في مقامين مقام الجواز ومقام الوقوع ، فالوقوع شيء والجواز شيء آخر.
( العلامة الحلي )
قال العلامة الحلي رضوان الله تعالی عليه في مبادئ الأُصول : البحث الرابع : ( في ما يجوز نسخه ) : يجوز نسخ الشيء إلی غير بدل ، كالصدقة أمام المناجاة وإلی ما هو أثقل. ونسخ التلاوة دون الحكم ، وبالعكس. (14)
ومن أراد الزيادة فليراجع كلماتهم في مضانها.
( الفيض الكاشاني )
قال رضوان الله تعالی عليه في تفسير الصافي : ( مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ ) (15) بأن نرفع حكمها ، وقرأ بعضهم بضم النون وكسر السين ، ( أَوْ نُنسِهَا ) بأن نرفع رسمها ونبلي عن القلوب حفظها وعن قلبك (16).
والكلام هنا كالكلام فيما سبق لأنه يدل علی الوقوع ، فقد بينا فيما سبق أن أداة الشرط في الآية لا تفيد إلا تحقق المشروط عند تحقق الشرط لا أكثر من ذلك ، فكيف يدل تفسيره رضوان الله تعالی عليه للآية علی الوقوع ؟! ، ومع ذلك اعتمد علی هذا المقطع ذلك الوهابي لإثبات الوقوع !
( الشيخ محمد جواد مُغْنِيّة )
وكذا قال الشيخ مغنية رضوان الله تعالی عليه في تفسيره المختصر الموسوم بالمبين : ( مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ ) أي نزيلها ( أَوْ نُنسِهَا ) نمحو حفظها من القلوب.
وتفسيره كما تری لا تدل علی الوقوع البتة بل هي تبيان لمفردات الآية والآية في نفسها لا تدل علی الوقوع بل علی الجواز لو سلمنا جدلا بأنها تتكلم عن نسخ التلاوة ، ومع ذلك عد الوهابي الجاهل ( عثمان. خ ) الشيخ مغنية من القائلين بوقوع نسخ التلاوة من الشيعة !! ، وجهل المسكين أن للشيخ مغنية تفسير الكاشف ـ تفسير أوسع وأكبر من تفسيره المختصر السابق ـ وقد رفض فيه بكل صراحة ووضوح مزعومة نسخ التلاوة عند كلامه عن الآية السابقة ! وسيأتي نقل قوله من الكاشف بعد أسطر بإذنه تعالی.
ويجدر بنا الإشارة إلی كذبة كذبها جهرة المتعظ بآية الله عز وجل الذي جعل ميزانه الآية الكريمة ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّـهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ وَاتَّقُوا اللَّـهَ إِنَّ اللَّـهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) (17) ، وهي انكاره ضبط اسم الشيخ مُغْنِيَة وقلبه إلی ( مُغَنِّيَة ) للتهكم والسخرية ، مع أنه ضبط اسمه تمام الضبط وبكل سهولة وانطلاق في مقامين مختلفين من الشريط !! ، ولكن الوهابي الذي لا يجرمنه شنآن قوم علی آلا يعدل ! لم يستطع تمثيل دور البسيط الساذج فقال بأسلوب سمج مفضوح :
محمد جواد مُغَنِّيَة أو مُغَنِّيَة ( كررها !! ) ، مُغْنِيَة ، ما أضبط اسمه أنا يقول مُغْنِيَة ، وبعضهم يقول مُغَنِّيَة ، الله أعلم ، ما أدري ( آء آء ) ضبط الاسم ، المهم ، معروف هو ، ( آء آء ) ، معاصر. (18)
سبحان الله ! ضبط اسمه أكثر من مرة ، وقول هو معروف ومعاصر ، ثم يقول لا أضبط اسمه ! ، والمضحك ادعاؤه أن رجلا واحدا هو الذي ضبط الاسم علی النحو الصحيح ( يقول مُغْنِيَة ) !! ، أما الغلط فضبطه عدة رجال ( وبعضهم يقول مُغَنِّيَة ) !! ، فمن هم ؟! حتما هم بعض المتفكهين من الوهابية !
فأين كل هذا من هذه ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّـهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ وَاتَّقُوا اللَّـهَ إِنَّ اللَّـهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) (19) ؟!
ذكر بعض أقوال علمائنا الذين دونوا رفضهم لوقوع نسخ التلاوة :
بالإضافة لما مرّ سابقا من كلماتهم رضوان الله عليهم حال كلامنا عن مدلول الآية ( مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ) (20). نضيف هذه الأقوال أيضا.
قال العلامة النهاوندي رحمه الله : قد عدّ جمع من العامة من أقسام النسخ نسخ التلاوة ، وذكروا لذلك أمثلة من عبارات مرويّة من عمر وابنه عبد الله وعائشة وغيرهم من الصحابة. وهذا من الأغلاط المشهورة بينهم والعبارات المنقولة التي قالوا : إنها من الآيات المنسوخة التلاوة لا تشبه كلمات فصحاء العرب فضلا عن آيات القرآن المجيد. والمتأمل المنصف يقطع بأنها مما اختلقه المنافقون لتخريب أساس الدين وتوهين الكتاب المبين ، ويؤيد ذلك بل يشهد عليه أنّه لم ينقل عن أمير المؤمنين عليه السلام وابن عباس والمعتمدين من أصحاب الرسول رضوان الله عليهم أمثال هذه الروايات مع كونهم أعرف بآيات القرآن من غيرهم ، والعجب من بعض العامة حيث أنكروا هذا القسم من النسخ ، ونفوا كون هذه العبارات المنقولة من القرآن ، مستدلا بأن الأخبار الواردة أخبار آحاد ، ولا يجوز القطع علی إنزال القرآن ونسخه بأخبار آحاد لا حجة فيها ، مع أن العبارات الباردة المنقولة التي أكثرها رواية ما سموه آية الرجم من قولهم : ( الشيخ والشيخة إذا زنيا فاجلدوهما البتة بما قضيا من اللذة نكالا من الله والله عزيز حكيم ) ممّا ينادي عند كل ذي مسكة بأنه ليس من كلام الله المنزل للإعجاز ، بل يستفاد ممّا رواه بعضهم عن عمر أنه قال : لولا أن يقول الناس زاد عمر في كتاب الله لكتبتها ، يعني آية الرجم أنه لم يكن مطلعا علی هذه العبارة التي سمّوها آية ، مع أن مقتضی كثير من رواياتهم أنه كان يكتب آيات القرآن بشهادة شاهدين ، فلعل عدم اجترائه علی كتابتها في القرآن لعلم جميع الناس بأنّ مثل هذه العبارة ليس بكلام الله ولا من آيات القرآن وأنّه ليس إضافتها إلی الكتاب العزيز إلّا فرية وبهتاناً (21).
قال الشيخ المظفر رضوان الله تعالی عليه في أُصول الفقه : وعليه فلا يشمل النسخ الاصطلاحي المجعولات التكوينية التي بيده رفعها ووضعها بما هو خالق الكائنات. وبهذا التعبير يشمل النسخ نسخ تلاوة القرآن الكريم علی القول به باعتبار أن القرآن من المجعولات الشرعية التي ينشئها الشارع بما هو شارع.
وهذا المقطع يدل علی جواز نسخ التلاوة ، لأن التلاوة من القرآن ، وكما أنه قادر علی إيجاده فإنه قادر علی إذهابه كالأُمور التكوينية.
ثم يتابع رضوان الله عليه : وإن كان لنا كلام في دعوی نسخ التلاوة من القرآن ليس هذا موضع تفصيله ، ولكن بالاختصار نقول : إن نسخ التلاوة في الحقيقة يرجع إلی القول بالتحريف لعدم ثبوت نسخ التلاوة بالدليل القطعي سواء كان نسخا لأصل التلاوة أو نسخا لها ولما تضمنته من حكم معا ، وان كان في القرآن الكريم ما يشعر بوقوع نسخ التلاوة كقوله تعالی : ( وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللَّـهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ) (22) ، وقوله تعالی : ( مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ) (23). ولكن ليستا صريحتين بوقوع ذلك ، ولا ظاهرتين ، وإنما أكثر ما تدل الآيتان علی إمكان وقوعه (24).
وبهذا يتضح الفرق الشاسع بين الوقوع والإمكان ، واللوازم التي تتبع القول بالوقوع دون القول بالإمكان.
قال السيد الخوئي رضوان الله تعالی عليه في البيان : نسخ الحكم دون التلاوة : وقد مثلوا لذلك بآية الرجم ، فقالوا : إن هذه الآية كانت من القرآن ثم نسخت تلاوتها وبقي حكمها ، وقد قدمنا لك إن القول بنسخ التلاوة هو نفس القول بالتحريف ، وأوضحنا أن مستند هذا القول أخبار آحاد وإن أخبار الآحاد لا أثر لها في أمثال هذا المقام.
فقد أجمع المسلمون علی أن النسخ لا يثبت بخبر الواحد ، كما أن القرآن لا يثبت به ، والوجه في ذلك ـ مضافا إلی الإجماع ـ أن الأُمور المهمة التي جرت العادة بشيوعها بين الناس ، وانتشار الخبر عنها علی فرض وجودها لا تثبت بخبر الواحد ، فإن اختصاص نقلها ببعض دون بعض بنفسه دليل علی كذب الراوي أو خطئه ، وعلی هذا فكيف يثبت بخبر الواحد أن آية الرجم من القرآن ، وأنها قد نسخت تلاوتها وبقي حكمها ؟ نعم قد تقدم أن عمر أتی بآية الرجم وادعی أنها من القرآن فلم يقبل قوله المسلمون ، لأن نقل هذه الآية كان منحصرا به ، ولم يثبتوها في المصاحف ، فالتزم المتأخرون بأنها آية منسوخة التلاوة باقية الحكم. نسخ التلاوة والحكم : ومثلوا لنسخ التلاوة والحكم معا بما تقدم نقله عن عائشة في الرواية العاشرة من نسخ التلاوة في بحث التحريف ، والكلام في هذا القسم كالكلام علی القسم الأول بعينه (25).
قال السيد عبد الأعلی السبزواري رضوان الله تعالی عليه في مواهب الرحمان : وعن بعض المفسرين أن منه ـ أي الإزالة ـ قوله تعالی : ( فَيَنسَخُ اللَّـهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ) (26). أي يزيله فلا يتلی ولا يثبت في المصحف ، والظاهر بطلانه لتذييل الآية المباركة بقوله تعالی : ( ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّـهُ آيَاتِهِ وَاللَّـهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) (27). أي يزيل ما ألقاه الشيطان وهو الباطل ويثبت الحق ، وأما نسخ التلاوة فسيأتي بطلانه إن شاء الله تعالی (28).
وقال العلامة الطباطبائي رضوان الله تعالی عليه في تفسير الميزان : وكيف كان فالنسخ لا يوجب زوال نفس الآية من الوجود وبطلان تحققها ، بل الحكم حيث علق بالوصف وهو الآية والعلامة مع ما يلحق بها من التعليل في الآية بقوله تعالی : ( أَلَمْ تَعْلَمْ ) الخ ، أفاد ذلك أن المراد بالنسخ هو إذهاب أثر الآية من حيث إنها آية ، أعني إذهاب كون الشيء آية وعلامة مع حفظ أصله فبالنسخ يزول آثره من تكليف أو غيره مع بقاء أصله وهذا هو المستفاد من اقتران قوله : ( نُنسِهَا ) بقوله : ( مَا نَنسَخْ ) (29)
وقال في مورد آخر : أو أن هذه الآيات ـ وقد دلت هذه الروايات علی بلوغها في الكثرة ـ كانت منسوخة التلاوة كما ذكره جمع من المفسرين من أهل السنة حفظاً لما ورد في بعض رواياتهم أن من القرآن ما أنساه الله ونسخ تلاوته. فما معنی إنساء الآية ونسخ تلاوتها ؟ أكان ذلك لنسخ العمل بها ؟! فما هي هذه الآيات المنسوخة الواقعة في القرآن ، كآية الصدقة وآية نكاح الزانية والزاني وآية العدة وغيرها ؟ وهم مع ذلك يقسمون منسوخ التلاوة إلی منسوخ التلاوة والعمل معاً ، ومنسوخ التلاوة دون العمل كآية الرجم.
أم كان ذلك لكونها غير واجدة لبعض صفات كلام الله حتی أبطلها الله بإمحاء ذكرها وإذهاب أثرها ، فلم يكن من الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ؟! ولا منزهاً من الاختلاف ؟! ولا قولاً فصلاً ولا هادياً إلی الحق وإلی طريق مستقيم ؟! ولا معجزاً يتحدی به ؟! ولا ؟! ولا ؟! فما معنی الآيات الكثيرة التي تصف القرآن بأنه في لوح محفوظ ، وأنه كتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وأنه قول فصل ، وأنه هدی ، وأنه نور ، وأنه فرقان بين الحق والباطل ، وأنه آية معجزة ، وأنه ، وأنه ؟! فهل يسعنا أن نقول : إن هذه الآيات علی كثرتها وإباء سياقها عن التقييد مقيدةٌ بالبعض ؟! فبعض الكتاب فقط وهو غير المنسي ومنسوخ التلاوة لا يأتيه الباطل وقول فصل وهدی ونور وفرقان ومعجزة خالدة ؟! ، وهل جعلُ الكلام منسوخ التلاوة ونسياً منسياً غير إبطاله وإماتته ؟ وهل صيرورة القول النافع بحيث لا ينفع للأبد ولا يصلح شأناً مما فسد غير إلغائه وطرحه وإهماله ؟ وكيف يجامع ذلك كون القرآن ذكراً ؟! ، فالحق أن روايات التحريف المروية من طرق الفريقين وكذا الروايات المروية في نسخ تلاوة بعض الآيات القرآنية مخالفة للكتاب مخالفة قطعية (30).
قال الشيخ محمد جواد مُغْنية رضوان الله تعالی عليه في التفسير الكاشف : وأما النسخ في القرآن فيمكن تقسيمه إلی أوجه ثلاثة : الأول : أن تنسخ الآية تلاوة وحكما بحيث يرتفع لفظها وحكمها. الثاني : أن تنسخ تلاوة لا حكما أي يرتفع لفظها ويبقی حكمها. الثالث : أن تنسخ حكما لا تلاوة أي تتلی ولكن لا يؤخذ بظاهرها بعد النسخ والعمل بعض الوقت.
والقسم الأول والثاني لا وجود لهما لأنهما يستلزمان النقصان وتحريف القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، والقسم الثالث هو الجائز والثابت أيضا وعليه أكثر المسلمين وجمهور المفسرين وفيه كتب خاصة (31).
ذكر الشيخ مغنية الضروب الثلاثة المتصورة للنسخ ومن ثم بين الضرب الواقع منها ، وهذا أُسلوب منطقي وعلمي فالكاتب يذكر الوجوه المفروضة للمسألة ومن ثم يستثني ما يشاء ، وقد فعلنا ذلك أيضا في أول بحث نسخ التلاوة ، وكلامه الأخير رد علی الوهابي ( عثمان. خ ) الذي نسب جهلا للشيخ مغنية القول بوقوع نسخ التلاوة ، ناهيك عن أن تلك النسبة نتجت من كلام للشيخ لا يدل علی أنه قاله في تفسير مختصر !
قال السيد مصطفی الخميني رضوان الله تعالی عليه في تحريرات في الأُصول : مع ذهاب جمهور العامة إلی نسخ التلاوة ، وهو في الحقيقة يرجع إلی التحريف بالنقيصة (32) ، والسيد رضوان الله تعالی عليه يرفض تحريف القرآن بالقطع.
وقال السيد محمدي زرندي حفظه الله في بحوث في تاريخ القرآن : أنه إذا ثبت نسخ التلاوة عن النبي صلی الله عليه وآله فنحن نقبله ، وإن لم يثبت فاللازم هو حمل هذه الروايات علی أن المراد هو أن هذه الكلمات مثل قوله ( عشر رضعات ) أو ( خمس رضعات ) هي من كلام النبي صلی الله عليه وآله لا من القرآن ، وقد اتفق مثل ذلك لبعض الصحابة كما قيل ، فقد نسب إلی أُبيّ بن كعب أنه كتب الدعاء وهو ( اللهم إنا نستعينك ونشهد ... الخ ) في مصحفه ، وسماه سورة الخلع والحفد ، لورود مادة هاتين الكلمتين فيه. وفي قبال هذا ما يذكرونه عن عبد الله بن مسعود من أنه قال : إن المعوذتين ليستا من القرآن ، لأن الرسول صلی الله عليه وآله كان يعوذ بهما الحسن والحسين فظن أنهما دعاء وليستا من القرآن.
وخلاصة القول : إن من الممكن أن يشتبه علی البعض بعض كلام النبي ( صلی الله عليه وآله ) بالقرآن أو بالعكس ، كما حصل في الأعصار السابقة لبعضهم ، وقد حكي عن ابن عباس أنه كان يشك في بعض كلمات النبي صلی الله عليه وآله أنها من القرآن ، وأنه قال مرة بعد نقله لحديث عنه صلی الله عليه وآله : فلا أدري أمن القرآن هو أم لا ؟ (33).
وقال السيد محمد باقر الحكيم حفظه الله تعالی في علوم القرآن : الأول : نسخ التلاوة دون الحكم : ويقصد بهذا النسخ أن تكون هناك آية قرآنية نزلت علی الرسول صلی الله عليه وآله ، ثم نسخت تلاوتها ونصها اللفظي مع الاحتفاظ بما تضمنه من أحكام. وقد مثّلوا لهذا القسم بآية الرجم التي رويت عن عمر بن الخطاب نصها : ( إذا زنا الشيخ والشيخة فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم ) حيث قيل إنها كانت آية في القرآن الكريم نسخت تلاوتها مع الاحتفاظ بحكمها. وهذا القسم وان كاد يعترف به أكثر الباحثين من علماء الجمهور في علوم القرآن ، إلا أنه لا يكاد يعترينا الشك ببطلانه وعدم ثبوته في القرآن الكريم عندما ندرسه بشكل موضوعي ، وذلك لأنه :
أولا : نجد أن الاعتراف بهذا اللون من النصوص والروايات التي أوردتها بعض الكتب الصحيحة السنية يؤدي بنا إلی الالتزام بالتحريف لان منطوق هذه الروايات يصر علی ثبوت هذه الآية وغيرها في القرآن الكريم حتی وفاة رسول الله صلی الله عليه وآله ، وأنها سقطت منه في المدة المتأخرة من حياته.
وثانيا : نجد أن هذه الروايات لم تصل إلينا إلا بطريق الآحاد ، ولا يجوز لنا أن نلتزم بالنسخ علی أساس رواية الآحاد لإجماع المسلمين علی ذلك ، مضافا إلی طبيعة الأشياء التي تحكم بضرورة شيوع الأُمور المهمة بين الناس ومن هذه الأُمور المهمة نسخ آية من القرآن الكريم ، فكيف يقتصر النقل فيه علی خبر الآحاد ؟
الثاني : نسخ التلاوة والحكم معا : ويقصد بهذا القسم أن تكون آية قرآنية ثابتة لفظا ومعنی في وقت من أيام الشريعة ، ثم تنسخ تلاوتها ومضمونها. وقد مثلوا لهذا القسم بآية الرضاعة المروية عن عائشة بهذا النص : ( وكان فيما انزل من القرآن : وعشر رضعات يحرمن. ثم نسخن : بخمس معلومات. فتوفي رسول الله صلی الله عليه وآله وهن فيما يقرأ من القرآن ). ويناقش هذا القسم بنفس المناقشتين اللتين ذكرناهما في القسم الأول من النسخ (34).
وقال موضع آخر من كتابه : ظاهرة ادعاء نسخ التلاوة : ولعل من أبرز مظاهر عدم الضبط وأبعدها أثرا في القرآن الكريم هو ما يقال عن نسخ التلاوة ، حيث لا يمكن تفسير بعض النصوص التی تتحدث عن هذا النسخ ـ إذا أردنا أن نحسن الظن في الصحابي الذي رواها ـ إلا علی أساس أنه كان يسمع من النبي صلّی الله عليه وآله الحديث أو الدعاء فيتصوره قرآنا أو يختلط عليه الأمر بعد ذلك ، وإلا فكيف نفسر ادعاء عمر بن الخطاب آية الرجم ، أو ادعاء عائشة آية الرضاع ، مع أنها تصرح أنها مما مات عنه الرسول وهو يقرأ من القرآن ؟!
وقال بعد ذكره لروايتي الرجم والرضاع : وهل معنی ذلك إلا القول بتحريف القرآن أو الالتزام بعدم ضبط هؤلاء الصحابة للنص القرآني بشكل كامل (35).
وقال الآخر في تفسيره من وحي القرآن بعدما ذهب إلی أن الآية الكريمة تختص بمخاطبة اليهود المرجفين وتحتج عليهم بأن النسخ جائز في شريعة السماء.
وربما تكون الآية واردة في نطاق الأجواء الإسلامية في نسخ آيات القرآن بإزالتها حكما وتلاوة ، كما يدعيه البعض. أو تلاوة لا حكما كما يدعيه بعض آخر في آيات الرجم ، أو حكما لا تلاوة كما ورد في بعض الآيات التي ادعي نسخها في القرآن ، وعلی هذا فتكون الآية واردة في تبرير ذلك ، وبين أن الله بيده رفع الآيات ووضعها ، وإن الذي أنزل الآية قادر علی أن ينزل مثلها وأفضل منها ، ونحن لا نوافق علی نسخ التلاوة مع نسخ الحكم أو بدونه لأن ذلك يؤدي إلی الالتزام بتحريف القرآن ونقصانه ، كما أنه لم يثبت إلا بخبر الواحد الذي لا يثبت النسخ به علی ما هو رأي جمهور المحققين مما هو مذكور في محله (36).
ناهيك عن أن كثيرا من العلماء فسروا الآية بلا تطرق لموضوع نسخ التلاوة ، وكأنهم آثروا الكلام عن المعنی الواقعي للآية لا عن الفرضيات وما أقحمه أهل السنة في تفسيرها ، وتفسير السيد الطباطبائي رضوان الله تعالی عليه السابق للآية كان من هذا النحو ، وهذا مثال عليه :
قال الشيخ محمد الكرمي : ومعنی الآية ما ننسخ من آية سماوية فيها حكم تشريعي شرع في وقته لمصلحة واقعية قامت بتشريعه ، أو نؤخر نسخها لأمدها الذي تنتهي عنده نأت بخير منها مما يعود لدنيا المكلف أو لآخرته ، أو بمثلها في الغاية وإن اختلفت عنها في الطريق ، فالناسخ قد يكون أثقل علی المكلف ولازمه أن يكون أكثر ثوابا ، فيكون أنفع في الآخرة ، وقد يكون أخف عليه أنفع في دنياه ، وقد يكون مثله في النتيجة ولكن يختلف عنه في الطريق المنتج وتكون في كل طريق مصلحة خاصة لمن كلف بسلوك الطريق ، والرابط بين هذه الآية وما سبقها من الآيات المتعرضة لليهود أن هؤلاء يعيبون الدين الحنيف بالنسخ الذي يبلغهم عنه فدفع الله شبهتهم بهذه الآية التي قرأت محصول تفسيرها (37).
جهل وكذب صريح !
ومع كل هذه الكلمات للمراجع والمحققين وأهل العلم من الشيعة يأتي بعض الجهلة من الوهابية كـ ( عثمان. خ ) ليقول بكل جرأة في شريطه :
جل علماء الشيعة الذين أنكروا التحريف والذين يتظاهرون أكثر الشيعة باتباعهم يقولون بنسخ التلاوة ، وهم المرتضی والطبرسي والطوسي كل هؤلاء قالوا بنسخ التلاوة كل هؤلاء قالوا بنسخ التلاوة ، فعلی القول بأن نسخ التلاوة تحريف فجميع الشيعة يقولون بالتحريف ، لأن كل من لم يقل بالتحريف من علماء الشيعة يقول بنسخ التلاوة.
هكذا ! رمي للكلام علی عواهنه ! ، في أول العبارة ( جل علماء الشيعة ) وفي نهايتها ( كل علماء الشيعة ) !! أي جهل هذا ؟
ثم أين ذهب اعترافه مسبقا بأن السيد الخوئي رضوان الله تعالی عليه أنكر تحريف القرآن ونسخ التلاوة ؟! ، والكلام عن السيد الخوئي رضوان الله تعالی عليه ليس إلا إلزام له بما اعترف به مع غض الطرف عن باقي العلماء والمحققين ومراجع الطائفة رضوان الله تعالی عليه ، وقد مرت كلمات بعضهم.
ثم من قال إن قول الطوسي والطبرسي والمرتضی رضوان الله تعالی عليهم ملزم للشيعة اليوم ؟! أم حسب المغفل أن الشيعة مثل الوهابية تلهج ليل نهار بـ ( قال شيخ الإسلام ابن تيمية ) ! ، هذا إن سلمنا له بأن هؤلاء الأعلام رضوان الله تعالی عليهم قالوا بوقوع نسخ التلاوة لا بجوازه.
وبعد كذبه علی الشيعة ـ بأن كل من لم يقل بالتحريف منهم قد قال بنسخ التلاوة ـ نكص علی عقبيه وكر راجعا يهدم ما بناه من استدلال وينقضه كاملا ، فيقول بعد بضع جمل :
الشيعة يوافقوننا علی جواز نسخ الحكم حتی الذين يقولون بالتحريف حتی الذين لا يقولون بالتحريف ، كل الشيعة يقولون نسخ الحكم نوافق عليه ولكن ينكرون نسخ التلاوة ، ويزعمون أن أهل السنة يقولون بالتحريف لأنهم يقولون بنسخ التلاوة.
فها هو يقول ( كل الشيعة يقولون نسخ الحكم نوافق عليه ولكن ينكرون نسخ التلاوة ) فأي كلام نأخذ وأي كلام نترك ؟! ، ألا يعلم هؤلاء أن الكذب حبله قصير ؟!
الخاتمة
وعلی أي حال فالشيعة اليوم من مشرق الأرض إلی مغربها تنزه الله عز وجل وكتابه من هذا النسخ المزعوم وهو المعتمد في بيان رأي الشيعة ، لأن باب الاجتهاد مفتوح عندهم ، أما جمهور علماء أهل السنة فيقولون بوقوع نسخ التلاوة ، وكما قلنا من قبل إن نسبة رأي لمذهب لا يعني إجماعهم عليه بل يكفي شهرته بينهم ، وقد ذكرنا من خالف هذا الرأي من أهل السنة.
الهوامش
1. ( عثمان. خ ) هذا قال في شريطه ( الشيعة والقرآن ) ما نصه : ( والنسخ لا يتناول العقائد ولا الأخبار وإنما يتناول النسخ الأحكام فقط ، النسخ لا يتناول إلا الأحكام ) ، وقام في مسرحية دارت بينه وبين أحد عوام الشيعة بإضفاء شيء من العلمية علی كلامه ! فأعاد نفس الكلام السابق من أن النسخ لا يتعلق إلا بالأحكام الشرعية. مع أنه كان بصدد الدفاع عما ورد في صحيحي البخاري ومسلم من الجمل التي نسبت للقرآن نحو هذه ( أن بلغوا قومنا أن قد لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا ) وأمثالها بأنها لا تمس التحريف بل هي من موارد النسخ !! ، ولا أدري أين كان عقل الوهابي لينظر هل هذه الجملة المنسوخة ـ بزعمه ـ حكم شرعي أم نسخ للتلاوة ؟!! سلمنا ، فهل يوجد فيها حكم شرعي ؟!! ثم كيف يزعم أن النسخ لا يكون في الأخبار وهذا نسخ في الأخبار ؟!! أي جهل هذا ؟ ، ولا أدري كيف غفل هذا المتحدث عن لسان الشيعة ـ وما هو من العلماء !! ـ عن كثير من التناقضات والمغالطات التي دارت حول رأس الوهابي ؟! والمضحك أن الوهابية يقومون بنشر هذه الأشرطة في الأسواق فرحين مستبشرين بهذا الفتح العظيم الذي حققه أحد مشايخ (!!) الوهابية علی أحد عوام الشيعة !
2. البقرة : 106.
3. النحل : 101.
4. الإسراء : 86.
5. الذريعة في أُصول الشيعة 1 : 428 ـ 429 ، أقول : لاحظ أن علماء الشيعة إذا استشهدوا بأمثلة لبيان ما ادُّعي حصول النسخ فيه فإنهم لا يتجاوزون روايات أهل السنة ، مع أن روايات الشيعة التي تضيف للقرآن جملا ليست منه كثيرة العدد ناهيك عن وجود رواية في الكافي تذكر آية الرجم المزعومة وسيأتي الكلام عنها بإذنه تعالی ، وهذا أدل دليل علی أن نسخ التلاوة صناعة سنية من رأسها إلی أخمص قدميها ، وحتی لو فرضنا وجود قائل بوقوع نسخ التلاوة من علماء الشيعة فإننا نجده مستندا في ذلك إلی آية الرجم لعمر أو رضاع للكبير لعائشة وغيرها مما ترعرع في أحضان أهل السنة ، ونستخلص أن هذا القائل ـ إن وجد ـ قال به نتيجة لتأثره بما عند أهل السنة وركونه إليهم في هذا الرأي المائل ، وكثيرا ما يحصل هذا الأمر عند القدماء وذلك لإحسانهم الظن بعلوم الغير التي لا تمس ركائز المذهب الشيعي ، وهذا ليس بعزيز وخاصة في الفقه ، ومن اطلع علی كلمات القدماء من علمائنا عليهم الرحمة يعلم أن هناك نوع تأثر بالمدرسة السنية.
6. قوله عن السيد المرتضی بأنه ( الوحيد الذي لم يثبت عنه ) كذبة أخری زادها لرصيده في الكذب ، لأنه نقل قبل ذلك في مسرحيته أسماء علماء الشيعة الذين تبرؤوا من القول بتحريف القرآن ولم يقتصر علی السيد المرتضی رضوان الله تعالی عليه ، وهذا نص كلامه في الشريط ( نحن ننصف الشيعة أكثر من الشيعة أنفسهم ، قال الله تبارك وتعالی ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّـهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ وَاتَّقُوا اللَّـهَ إِنَّ اللَّـهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) ( المائدة : 8 ) هذه الآية هي ميزاننا (!!) ، هي الآية هي ( كذا ) التي تمنعنا من أن نتقول عليهم بغير ما قالوه ، إن هناك من علماء الشيعة من تبرأ من القول بالتحريف ، الأول : ابن بابويه الصدوق ، والثاني : المفيد ، والثالث : المرتضی والرابع : أبو جعفر الطوسي ، والخامس : أبو علي الطبرسي ... الخ ) ، هذا نص كلامه ، فكيف يأتي الآن في آخر مسرحيته ويكذب نفسه ويستهزئ بكلام الله عز وجل الذي جعله ميزانه ـ بزعمه ـ فيقول بكل جرأة إن السيد المرتضی رضوان الله تعالی عليه هو الوحيد الذي لم يثبت عنه التحريف ، فأين قوله السابق ؟!! وكما قيل حبل الكذب قصير ، ولا حافظة لكذوب.
7. من شريط الشيعة والقرآن ، للوهابي ( عثمان. خ ).
8. التبيان في تفسير القرآن 1 : 393 : 394.
9. التبيان في تفسير القرآن 1 : 394.
10. عدة الأُصول 3 : 36 ـ 37.
11. ولو تنزلنا وقلنا أن الشيخ رضوان الله تعالی عليه يقول بوقوع نسخ التلاوة لما ضرنا شيء لأن التشيع مذهب ينسخ المجتهد المعاصر كلام المجتهد السابق ، فكيف بكلام الشيخ الذي مضی عليه ألف سنة تقريبا ؟! ، لذلك حتی لو اتضح أن أحدا من الأُصوليين قال بتحريف القرآن صراحة ، فلا يسبب هذا أي مشكلة للتشيع ، لأن التشيع لا يقف عند فلان وفلان ولا يتأثر برأي فلان وفلان من العلماء.
12. الغنية : 535 ، وقوله عليه رضوان الله ( وارد من طريق الآحاد ) يفيد أنه غير ثابت الوقوع عنده ، ويؤكد ذلك قوله في أول الغنية : ( ونصه سبحانه لا يمكن العلم به إلا من جهة الرسول ، إما بالمشافهة إن كان حاضرا أو بالخبر إن كان غائبا ، والخبر الموجب للعلم إما أن يكون خبر معصوم وإن كان واحدا أو خبراً متواتراً ).
13. معارج الأُصول : 170.
14. مبادئ الأُصول : 181 ـ 182.
15. البقرة : 106.
16. التفسير الصافي 1 : 178.
17. المائدة : 8.
18. بداية الثلث الأخير من الوجه الثاني من شريط الشيعة والقرآن.
19. المائدة : 8.
20. البقرة : 106.
21. نفحات الرحمان 1 : 27 ـ 28. نقلا عن علوم القرآن عند المفسرين 2 : 603.
22. النحل : 101.
23. البقرة : 106.
24. أُصول الفقه 2 : 48 ـ 49.
25. البيان : 304 ، ط. انتشارات كعبة.
26. الحج : 52.
27. الحج : 52.
28. مواهب الرحمان 1 : 446.
29. الميزان في تفسير القرآن 1 : 250 ، ط. الأعلمي الثانية.
30. الميزان في تفسير القرآن 12 : 117 ، ط. الأعلمي الثانية.
31. التفسير الكاشف 1 : 169 ـ 170 ، ط. دار العلم للملايين.
32. تحريرات في الأُصول 6 : 326.
33. بحوث في تاريخ القرآن : 277.
34. علوم القرآن : 204 ـ 206.
35. علوم القرآن : 291 ـ 292.
36. من وحي القرآن 2 : 141.
37. التفسير لكتاب الله المنير 1 : 132 ، ط. قم.
مقتبس من كتاب : [ إعلام الخلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السلف ] / المجلّد : 2 / الصفحة : 255 ـ 279
التعلیقات